«نار المرخ»:الإنسان الشجرة وتوطين الحكاية – حاتم الزهراني
صحراء خالية من الاستشراق في «نار المرخ» لعواض شاهر العصيمي

هذه رواية تحكي، ببراعة لافتة، عن الحكاية نفسها. ابتداءً من “الممر” الصغير الذي يعنون به الكاتبُ المقدمةَ التأطيرية القصيرة في افتتاحية العمل، ندخل في متواليات استعارية يحيل بعضها إلى بعض، وكلها تقريباً تدور حول أمر واحد: الحكاية نفسها بوصفها ذلك المعطف الجديد الذي نصنعه، على مقاس ذاكرتنا وأحلامنا، ورغباتنا وانتصاراتنا وخيباتنا، لنستعيض به عن المعطف الأول (لا أقول الواقعي) الذي يتمثل في الحياة المعاشة “فعلياً” كما يحلو لنا أن نصفها أحياناً. من هذه الزاوية، يأخذنا العمل إلى موقع تنعدم فيه المسافة بين “الأصلي” والحكاية عنه.
أتحدث هنا عن رواية “نار المـرْخ” للكاتب السعودي عواض شاهر العصيمي، والتي صدرت قبل أيام عن دار مدارك. لقد تنوع الإنتاج الأدبي لعواض بين القصة (4 مجموعات قصصية)، والرواية (6 روايات)، والشعر الحديث المكتوب باللهجة المحكية، كما ترجمت أعماله الأدبية إلى الإنجليزية والفرنسية. وفي غمرة هذا التنوع، فلا يبعد المرء عن الصواب حين يقول بأن الصحراء تشكّل ثيمةً مفضّلة لدى عواض شاهر ومحوراً رئيسياً في أعماله حيث يربط بين مظاهرها المتنوعة بخيط دقيق، وتأتي هذه الرواية الأخيرة لتؤكد ذلك. وسؤال هذه المقالة هو: كيف تظهر الصحراء في (نار المرْخ)؟ وأين تكمن “البراعة اللافتة” التي أشرت إليها في المقدمة؟
يدور هذا العمل حول حكايةِ شخصيةٍ رئيسيةٍ لها اسمان: غربي/رحيّم، وأنا بوعي تام أقصدُ ألا أفصل بينهما بفاصلة أو بواو العطف. تجوب هذه الشخصية مجموعة متنوعة من العوالم الواقعية والثقافية، وتتنوع فيها أحوالها بالمقابل، ولكنها لا تدخل إلى العالم الروائي، أي إلى “الوطن”، إلا عبر حكاية شخصية أخرى هي “رعد” الذي يسرد الحكاية الرئيسية عبر أشرطة الكاسيت التي سجّلها لغربي/رحيّم. ومن حكاية فرعية إلى حكاية فرعية أخرى تنسل من الحكاية الرئيسية عن غربي/رحيّم وأحواله، التي بدورها تدخل إلى العالم الروائي عبر حكاية رعد وأشرطته، ننتهي إلى الفكرة المركزية للعمل: أن صاحب الحكاية ليس هو من يعيشها، بل من “يوطّنها”، كما يقول هذا الاختيار اللغوي الدقيق البارع، ولذلك ينجو رعد في آخر العمل بينما يكون مصير غربي الاختفاء التام.
وكما أن الحكاية وطن، فهي تتحول أحياناً إلى قبر؛ فتصبح في الصحراء وطنًا للحي ووطناً للميت أيضًا؛ ألم تصف الرواية أحد شخصياتها بأنه: “جالس في وسط حكايات كثيرة للغاية، حائر أمامها كما لو أنها قبور يتوجب عليه فتحها وإخراج ما فيها”؟
بعد الممر التأطيري الصغير، تبدأ الرواية بفصل أول كان مصيرياً للغاية في خلق السياق الثقافي والفني للعمل؛ فهو أشبه بجولة تعريفية في المرسم ومقدمة عن فلسفة الفنان في اختراع أعماله. ومنذ البدء، أحياناً تصريحاً وأحياناً تلميحاً، يكون للغة دور حاسم في تحديد هوية الفرد وأقداره. فههنا “غربي” الذي يسمّى “رحيّم” أيضاً تبعًا لتغير مكان إقامته؛ حيث يجري التفريق بين حال غربته في عالم الهجرة وحال استقراره وسكينته في الوطن، وهو تفريق يشير إلى العلاقة الوثيقة بين اللغة والمكان. وتتأكد هذه العلاقة وتأخذ صورتها الأدبية في تعريف “مشروع” رعد بأنه “توطين للحكاية”؛ فتصبح الكتابة عموماً وطنًا للحكايات المتناثرة كرمال الصحراء، أو تتحول إلى موقع ثقافي يوفر احتضانًا ورحمة لغوية/سردية بالغريب.
وهذا عملٌ، في أعماقه القصوى، عن الصحراء أولاً وأخيراً؛ وتكمن براعته في مجموعة من النقاط، ومنها:
1) أنه عمل تأملي من الداخل، أي أنه لا يقع تحت ضغط الثنائيات المتضادة حول الصحراء والمدينة بل، على العكس، يدمج بين عالميهما بانسيابية مثيرة للاهتمام تؤكد درجة عالية من الاستمرارية الثقافية بين إنسان هذين العالمين. يتجسد ذلك كتابياً، على سبيل المثال، مع رعد وهو يزور غربي في عالمه ثم يزور أصدقاءه في “عزبة المرح والتجارب” ويشاهد مقاطع اليوتيوب في دكان والده، دون إحساس بانفصام ثقافي أو روحي بين العالمين.
وانطلاقاً من تأسسه على التأمل الداخلي هذا، فهو عمل خالٍ من الأيديولوجيا تقريباً، عمل مخلص للفن فلا يستنجد بالمثير الآيديولوجي لتحقيق الأثر، ولذلك لا تظهر الإشارات التاريخية لذاتها؛ بل لتوفير سياق للفهم متى ما دعت الحاجة إلى ذلك. وحتى ألخص ما أقوله هنا، فسأقول بأن “نار المـرْخ” عملٌ تغلب على جدالات الاستشراق أو الاستشراق المضاد بنفيها تماماً من عالمه، فما يقال عن الصحراء خارج تأملات رعد وغربي وخارج عالم الرواية لا يعني الرواية في شيء. بعبارة أخرى، هذا عمل عن الصحراء دون مشاغل استشراقية – لا يوجد “آخر” في الصورة تكون الرواية رداً عليه. عمل مكتوب انطلاقًا من مشاغل الداخل فحسب.
2) أنه عمل إنساني؛ وأقصد بذلك أنه يؤنسن كل شيء تقع عليه عين صاحب الحكاية أو تلتقطه ذاكرته من مخزنها الهائل من الصور؛ من الصحراء والرمال والقبور والحصى والأشجار والحيّات وحتى حقائب السفر والمطارات. وقد بدا لي أن هذه كانت واحدة من أهم الوسائل التي اعتمد عليها العمل لتحقيق استمرارية بين الصحراء والمدينة؛ فكلها فضاءات قابلة للأنسنة “والتوطين” حين تصادفها عين قادرة على التقاط الحكايات.
يربط العمل بين عالمي الصحراء والمدينة عن طريق الأنسنة: أنسنة الطبيعة في الصحراء، وأنسنة الأشياء في المدينة. والإنسان (رعد هنا) هو أساس الاستمرارية، والجمال والهوية ينبعثان من الداخل الإنساني لا من الأشياء.
3) أنه عمل يقوم على تعدد هائل للأصوات؛ فلا ينفرد شخص ما بالحكاية، بل هو أشبه بأوركسترا سردية لكل صوت فيها دوره الأساسي في إحداث النغمة النهائية. ابتداءً من الفصل الأول، وبينما رعد يسجل ويشير إلى “اختلاط الأصوات”، نفهم أننا بصدد مشروع كتابي تتداخل فيه الأصوات والأزمنة والمستويات اللغوية، مشروع على قدر هائل من التعقيد الفني الذي يؤكد، مرة أخرى، تعقيد عالم الصحراء تماماً كما هو عالم المدينة.
4) أنه يجمع بين وصف عالي الدقة للشخصيات وللأشياء والأماكن وللعوالم النفسية لهذا كله (نعم؛ حتى الأشياء يتم وصف عوالمها النفسية!)، ولغة ذات طاقة شعرية هائلة (وعلى الجانب الشخصي، فقد سجّلتُ بعض المقاطع لديّ بوصفها نصوصاً شعرية في الحقيقة!). وغنيٌ عن القول بأن الجمع بين الأمرين مما يعسر على كثيرين.
في كثير من مقاطع الرواية (خاصة تلك الخاصة برعد) يجتمع الوصف الدقيق مع اللغة الفاتنة بتمكن كبير. وفي الفصول التي تلت “ملصق باتجاه الأسفل”، وتحديداً ابتداءً من الفصل 26 (رعد في أحواله، داخلاً في نفسه، مارقاً إلى قلبه)، تقصر الجملة اللغوية وتتسارع وتتكثف أكثر وكأنها تعادل نبضات القلب المتسارعة الناتجة من “مروق” رعد إلى قلبه أو كأنها تعادل المدينة في سرعتها. ابتداءً من هذا الفصل، يمكن القول بأن رعداً لم يترك شيئاً واحداً يمر هكذا عرضًا دون وصف دقيق، وأنسنة له، وتأمل شفيف في عوالمه النفسية.
5) أنه عمل ميتالغوي بامتياز؛ والذي أعطى لهذا الأمر قيمة فنية مضافة هو إشارة الراوي إلى وعيه الحاد بهذا بل وممارسته المقصودة له داخل العمل. كما حدث مع رعد وهو يتحدث عن “توطين اللهجة” في الفصحى، أو إشارته إلى “النحنحة” بوصفها أعشاب ضارة، والأهم ربما هو أن رعداً كان أحياناً يروي الحكاية كاملةً باللهجة أولاً، ثم بعد ذلك يصوغها بالفصحى؛ ليشير إلى أن الحدث وصياغته اللغوية أمران لا ينفصلان؛ فاللغة وطن الحكايات.
ويتجلّى ذلك البعد الميتالغوي، وارتباطه العميق ببعد آخر سأذكره لاحقاً هو البعد الميتاسردي، خارج التصريحات اللغوية المباشرة، وأعني في الاختيارات الفنية نفسها داخل العمل. فمثلاً، يأتي تخصيص اسمين اثنين لشخصية الصحراء الرئيسية (غربي/رحيّم)، واحد لغربته في الصحراء وواحد في أوطانه، لتأدية وظيفة المعادل الموضوعي لتصوّر الكاتب للعلاقة بين الأشكال السردية الشفهية والكتابية. وفي هذا التصور، تكتسب الصحراء حالتين لغويتين متتابعتين زمنياً، هما حالتا الحكاية والرواية، لتصبح الرواية هي الامتداد الكتابي الطبيعي للحكاية بعد توطينها في تقاليد السرد.
6) أنه في جوهره عمل ميتاسردي؛ وأعني هنا أن مساءلة معنى الحكاية ومعنى السرد تقع في صلب العمل. يتوازى التأمل الداخلي الهادئ في عالم الصحراء مع تأمل داخلي هادئ في عالم الحكاية. ويوفر الراوي، أو رعد، أو حتى غربي أحياناً، ملاحظات في غاية الأهمية حول طبيعة الحكاية، أحوالها، ظروف الأداء، وحتى لغتها، وفروق التأثير التي تنبع من الفروق بين المستويات اللغوية وعوامل الأداء الأخرى. إن هذا يخرج حكايات الصحراء من فـئة الفطري البدائي إلى فئة العمل الواعي العميق، أي إلى فئة الفن.
وفي بعض الأحيان، تحدث الحالات الميتاسردية داخل الحكايات الصغيرة؛ كما حدث مع حكاية “عشق”، حين قال له “هذال”:
– وصفك للغنم والظلال والراعي جعلني أسأل نفسي: هل رأيتُ في أي يوم من حياتي شجرة مثل هذه الشجرة وظلاً كهذا الظل وراعياً كالراعي هذا؟ ولم أجد جوابا.
– لماذا؟
– الكل يدخل بعضه في بعض. بصراحة الصورة غريبة علي.
فيقودنا هذا إلى السؤال عن رواية عواض شاهر وحكاياتها التي “يدخل بعضها في بعض”، عن غراباتها وفانتازياتها، بل ويمكن القول عن واقعيتها السحرية التي تدمج العالمين الواقعي والسحري بطريقة تتحدى التأطير؛ إذ تحقق انسيابية هائلة بينهما كما أشرت سابقاً.
وأحياناً نجد اللحظة الميتاسردية في تقريرات الراوي نفسه وهو يتأمل في معنى الحكاية وعلاقتها بالواقع:
“وسرعان ما تًنسى الرحلة في وفرة كبيرة من الحكايات التي ستؤلف حولها حتى تكاد تبدو الحكايات نفسها وكأنها هي الذي حدث بتفاصيله وتناقضاته وليس الرحلة الصعبة.”
وهذه المتياسردية تتحول إلى ميتا-أدبية (أو ميتا-كتابة) حينما تصل إلى ذروة يصبح فيها العالم كله كتابة لها شكل ومحتوى، كما جاء في هذا المقطع:
“هل يمكن القبول بمحتوى واحد لكي نتحدث في شكل جيد؟ ما هي قيمة هذا المحتوى إذا ما قورن بمحتويات كثيرة في أمكنة كثيرة من العالم؟ … شخصياً، لا أرفض المحتوى الذي نشأت فيه وعليه، لكن يتعين عليّ أن أدخل في محتويات كثيرة لأنصف نفسي. أن أشتبك مع محتويات مغايرة، ليس بقصد مواجهتها بمحتواي الخاص، وإنما لأنظر إليها كما تفعل النخلة تجاه الآفاق البعيدة، الفرق هو أنني أسعى إليها بأفقي الخاص، وعندما أقترب منها يتحتم على أن أكون أطول مني الآن لتحسين الرؤية.”
إننا أمام عمل أدبي يدمج الصحراء بالمدينة، ولكن الأهم أنه يدمج الصحراء بالإنسان؛ فإضافة إلى قدرة الراوي على أنسنة كل شيء في الصحراء، تتحول الصحراء كلها إلى شخص واحد هو رعد الذي يصبح شجرة مرخ تنبت شيئاً فشيئاً وتستعد للإفضاء بنيرانها:
“ثم نبت رعد كالمرخ التهامي في اللقاءات التي تكررت مع غربي في أكثر من مكان، واستمر أيضًا مثل شجر المرخ في كتمان النار في جوفه”.
لقد أصبح رعد (أو ربما عواض؟) هو “نار المرخ” لأنه يكتم الحكايات كما تكتم هي النار؛ فانعدم الخيط الفاصل بين الإنسان والطبيعة وأصبحا، بفضل الحكاية، كائنًا واحدًا.