وفقًا للاستدلال- المقدم في المتن- بخصوص الجماليات الخالصة لفن المعمار الذي ينتمي إلى أدنى درجات التجسد الموضوعي للإرادة أو للطبيعة، والذي يسعى إلى جلب مُثُلَها إلى الإدراك الحسي الواضح- فإن موضوعه الأساسي الوحيد والدائم هو الدُعَامة والحِمْل، وقانونه الأساسي هو لا حِمْل يمكن أن يكون من دون دُعَامة كافية، ولا دُعَامة من دون حِمْل مناسب؛ وبالتالي فإن العلاقة بين هذين الإثنين ستكون علاقة مُلائِمة على نحو دقيق. إن النموذج الأكثر نقاءً في تنفيذ هذا الموضوع الأساسي هو العمود والسقف المُسطَّح؛ ومن ثم فإن نظام أو ترتيب الأعمدة يبدو كما لوكان بمثابة نغمات القرار الغليظة لمجمل المعمار. في العمود والسقف المُسطَّح، تكون الدُعَامة والحِمْل منفصلان تمامًا، وبذلك النحو يصبح ظاهرًا بوضوح التأثير التبادلي بينهما، وعلاقة أحدهما بالآخر. ومن المؤكد أنه حتى الجدار الصريح ينطوي على دُعَامة وحِمْل، ولكن هذين الإثنين يكونان مندمجين معًا. فالكل هنا يكون دُعَامة والكل يكون حِمْلًا؛ ومن ثم لا يكون هنا أي تأثير جمالي. فهذا التأثير الجمالي يظهر ابتداءً من خلال الانفصال، ويحدث بالتناسب مع درجته. ذلك أن هناك مراحلَ وسطى عديدة بين صف الأعمدة والجدار الصريح. وحتى من خلال شق الجدار الصريح لمنزل ما بواسطة النوافذ والأبواب، فإننا نسعى بذلك على الأقل إلى أن نشير إلى هذا الانفصال من خلال الأعمدة الجدارية الناتئة(antae) مع تيجان الأعمدة التي يتم إحلالها بدلًا من الحلْيَات المعمارية، بل يتم- عند الحاجة- التعويض عنها بالتلوين فحسب، لكي يتم الإشارة بطريقة ما إلى السقف ونظام الأعمدة. أما الأعمدة الحقيقية، وكذلك الحوامل والدعامات من الأنواع المختلفة، فهي تحقق بشكل أكبر ذلك الانفصال الخالص بين الدُعَامة والحِمْل، الذي يتوق إليه فن المعمار بوجه عام. وبهذا الخصوص، فإن العَقْد مع الدُعَامة هما الأقرب إلى العمود والسقف المُسطَّح، ولكن المعمار كبناء مميز لا يحاكيهما: فالحالة الأولى تكون بالتأكيد أكثر بعدًا عن بلوغ التأثير الذي تحدِثه الحالة الثانية؛ لأن في هذه الحالة الأولى تكون الدُعَامة والحِمل غير منفصلين بشكل خالص، وإنما يتداخلان ويمتزجان بعضهما مع بعض. وفي العَقد نفسه، يكون كل حجر حِملًا ودُعَامة في الوقت ذات، وحتى الدعامات- خاصةً في العَقد ذات الحِنيات المتقاطعة- يتم التأكيد عليها من خلال تقابلها، الظاهر على الأقل، بواسطة صغط الأقواس المقابلة؛ وبالضبط بسبب هذا الضغط الجانبي، فإنه لا ينبغي على العقود فحسب وإنما حتى مجرد الأقواس أن تتكئ على الأعمدة، وبخلاف ذلك فإنها تتطلب الدعامات المربعة الضخمة. وفقط في صف الأعمدة يكون الانفصال تامًا، حيث يتبدى السقف المسطَّح هنا باعتباره حِملًا خالصًا، ويتبدى العمود باعتباره دُعَامة خالصة. وعلى هذا، فإن علاقة صف أعمدة الرواق بالجدار الصريح تشبه العلاقة التي تُوجَد بين سلم موسيقى صاعد على مسافات نغمية منتظمة وبين نغمة صاعدة شيئًا فشيئًا من نفس العمق إلى نفس الارتفاع من دون تدريج نغمي. ذلك أن المادة التي توجد في أحدهما هي المادة نفسها التي توجد في الآخر، والاختلاف الهائل بينهما يَنتج فقط من الانفصال الخالص.
علاوة على ذلك، فإن الدُعَامة لا تكون ملائمة للحِمْل عندما تكون كافية فحسب لأن تحمله، وإنما عندما يمكنها أن تحمله بارتياح بالغ وبوفرة من القدرة، حتى إننا من النظرة الأولى نشعر بالاطمئنان لقدرتها. ومع ذلك، فإن هذه الوفرة في الدُعَامة يجب ألا تتجاوز درجة معينة؛ وإلا فإننا سوف ندرك حسيًّا الدُعَامة من دون حِمْل، وهو ما يتعارض مع الغاية الجمالية. وعمومًا فإنه لأجل تحديد تلك الدرجة ينصح القدماء بخط التوازن الذي يمكن الحصول عليه بتحقيق التناقص التدريجي في سمك العمود من القاعدة إلى القمة، إلى أن يصير زاوية حادة، وبذلك يصبح العمود مخروطي الشكل؛ وكل مقطع عرضي منه سوف يترك عندئذ الجزء الأسفل منه على حاله من القوة البالغة التي تجعله كافيًّا لأن يحمل الجزء العلوي المستقطع منه. ولكن على وجه العموم، فإن البناء يتم تشييده بمقدار عشرين ضعفًا من القوة [في معامل الأمان][1]، وهو ما يعني بعبارة أخرى أن نضع على كل دُعَامة ما يعادل فقط واحد على عشرين من الحد الأقصى للحمل الواقع عليها. والمِثال الساطع على الحِمْل من دون دُعَامة يتبدى للعين من خلال الشُرُفات في أركان العديد من المنازل المشيدة بطراز أنيق في يومنا الراهن. ونحن لا نرى ما يحملها؛ وهي تبدو معلقة في الهواء، وهو ما يُحدِث القلق في أنفسنا.
عندما نجد في إيطاليا أنه حتى أبسط المباني وأكثرها خلوًا من التزيين المعماري تُحدِث فينا انطباعًا جماليًّا، بينما في ألمانيا لا نجد الأمر على هذا النحو، فإن هذا يرجع أساسًا إلى أنه في إيطاليا تكون الأسقف مسطحة تمامًا. ذلك أن السقف المُدبَّب ليس بدُعَامة ولا بحِمْل؛ لأن شطريه يدعمان بعضهما بعضًا بالتبادل، ولكنه في مجمله لا يمثل ثقلًا مناظرًا لامتداده. ولذلك فإنه يقدم للناظر إليه كتلة ممتدة تعد برمتها دخيلة على الغاية الجمالية، فهي تخدم فقط غاية نافعة؛ ويالتالي فإنها تشوش على الغاية الجمالية التي يكون موضوعها الأساسي دائمًا هو الدُعَامة والحِمْل وحدهما.
شكل العمود يتخذ أساسه الوحيد في أنه يكفل الدُعَامة الأكثر بساطة وملائمةً. وفي العمود الحلزوني تظهر عدم الملائمة باعتبارها عصيانًا متعمدًا، ومن ثم تبجحًا: ولذلك فإن الذوق السليم يدينها من أول نظرة. والرَكِيزة ذات الأركان الأربعة يكون لها أبعاد من السماكة غير متكافئة، حيث إن الضلع القُطري يزيد على جوانبه[2]؛ فهذه الأبعاد ليست لها هدف أو غاية تعد دافعًا لها، وإنما تحدث مصادفةً بفعل قابليتها للتنفيذ بشكل أكبر؛ وبسبب ذلك تحديدًا فإنها تكون بالنسبة إلينا أقل امتاعًا إلى حد كبير للغاية من العمود. وحتى الدُعَامة سداسية الأضلاع أو مُثَمَّنة الأضلاع تكون أكثر امتاعًا؛ لأنها تصل إلى درجة أكبر من الاقتراب إلى العمود المستدير، ذلك أن شكل هذا العمود المستدير وحده هو على وجه الحصر ما يكون محددًا بالغاية منه. ومع ذلك، فإنه يكون محددًا للغاية في كل نِسَبَه الأخرى، وفي المقام الأول فيما يتعلق بعلاقة سماكته بارتفاعه، في إطار الحدود المسموح فيها بالاختلاف في الطرز الثلاث للأعمدة[3]. ولذلك فإن تضاؤلها بدءًا من الثلث الأول من ارتفاعها فصاعدًا، وكذلك الازدياد الطفيف في السماكة في هذا الموضع ذاته (entasis vitr) يقوم على أن ضغط الحِمْل يكون على أكبر قدر هناك. ولقد كان يُعتقَد حتى الآن أن هذا الازدياد في السماكة هو أمر خاص بالأعمدة الآيونية Ionischen والكورينثية Corinthischen وحدها، ولكن القياسات الحديثة قد أظهرت لنا أن هذا يُوجَد أيضًا في الأعمدة الدَوْرية Dorischen، وحتى في باستوم[4]Paestum . وهكذا فإن كل شيء في العمود : شكله المحدد تمامًا، وتناسب ارتفاعه مع سماكته، وتناسب الإثنين مع المسافات بين الأعمدة، وتناسب مجمل سلسلتها مع السقف والحمل الواقع عليها- كل هذا هو النتيجة المحسوبة بدقة للعلاقة بين الدُعَامة الضرورية والحِمْل المعطى. وحيث إن هذا الحِمْل يكون موزعًا على نسق واحد، كذلك يجب أن تكون أيضًا الدُعَامة؛ ولهذا السبب فإن تجمع الأعمدة يكون مفتقرًا إلى الذوق. وفي مقابل ذلك، فإنه في أفضل المعابد الدورية يبدو عمود الزاوية die Ecksäule (corner column) أكثر قربًا إلى حد ما من العمود التالي؛ لأن التقاء السقف المحمول بزاوية العمود يزيد الحمل الواقع عليه، وفي هذا يعبر فن المعمار عن نفسه بوضوح، ذلك أن العلاقات البنائية ، أي العلاقة بين الدُعَامة والحِمْل هي العلاقة الجوهرية التي ينبغي لعلاقات السيمترية- باعتبارها علاقات تابعة- أن تُخلي السبيل لها. ووفقًا لوزن مجمل الحِمْل بوجه عام سيتم اختيار المعمار الدَوري أو الطرازين المخففين للأعمدة؛ لأن طراز المعمار الدَوري يكون محسوبًا ليتحمل الأحمال الثقيلة، ليس فحسب من خلال السماكة الأكبر، وإنما أيضًا من خلال ترتيب العمدان على نحو أكثر قربًا، وهو الترتيب الذي يكون جوهريًّا بالنسبة إليه، ولأجل تحقيق هذه الغاية يتم أيضًا وضع تيجان أعمدة هذا الطراز غالبًا في أبسط صورها غير المنمقة. إن تيجان الأعمدة بوجه عام تكون مقصودة من أجل أن تُظهِر بوضوح مرئي أن الأعمدة تحمل السقف المُسطَّح، وأنها ليست مغروسة فيه كالمسامير؛ وهي في الوقت ذاته تزيد السطح الحامل بواسطة المحيط العلوي لتاج العمود[5]. وإذن، فحيث إن كل قوانين الترتيب العمودي- وبالتالي شكل العمود ونسبته في كل أجزائه وأبعاده حتى في أصغر التفاصيل- تنشأ من تصور الدُعَامة الملائمة بشكل كافٍ للحمل، وهو التصور الذي يكون مفهومًا تمامًا ويتم تنفيذه باتساق؛ ولذلك فإن هذه القوانين بهذا الاعتبار تكون محددة بطريقة قبلية؛ وعلى هذا فإنه يصبح من الواضح مدى ضلال الفكرة، التي تتكرر غالبًا، والتي تقول بأن جذوع الأشجار أو حتى الشكل الإنساني (كما ذكر للأسف ﭬيرتروﭬيوس Vitruvius, iv, I.) هو النموذج الأصلي للعمود. ذلك أنه إذا كان شكل العمود بالنسبة إلى فن المعمار مسألة عارضة بشكل خالص ، مُستمَدة من خارجه؛ لما أمكنه أن يروق لنا بشكل منسجم ومُشبِع للغاية متى نظرنا إليه بسيمتريته المضبوطة، ولما أمكن- من ناحية أخرى- أن نشعر على الفور بأي قدر طفيف من اللاتناسب فيه من خلال إحساسنا الرهيف والمصقول به باعتباره أمرًا غير ملائم ومزعج، مثلما تكون النغمة الخاطئة في الموسيقى. فهذا بخلاف ذلك يكون ممكنًا فقط لأن كل بقية الخصائص تكون محددة في جوهرها بطريقة قبلية، وفقًا لما هو معطى من الغاية والوسيلة، تمامًا مثلما يكون مجمل الهارموني في الموسيقى محددًا في جوهره بما يكون معطى من اللحن والمفتاح الموسيقي. والمعمار بوجه عام- مثل الموسيقى- ليس بفن يقوم على المحاكاة، رغم أن كليهما كان يُنظَر إليهما غالبًا بشكل خاطئ على هذا النحو.
الإشباع الجمالي- كما تبين لنا بشكل تام في المتن- يقوم دائمًا على إدراك المُثُل (الأفلاطونية). فبالنسبة للمعمار- منظورًا إليه فقط باعتباره فنًا من الفنون الجميلة– تكون المُثُل الخاصة بالدرجات الدنيا للطبيعة، مثل: الثقل والصلابة والتماسك، هي الموضوع الأساسي الخاص به؛ ولا يكون موضوعه الأساسي- كما كان يُفترَض حتى الآن- هو مجرد الشكل المنتظم، والتناسب والسيمترية، والتي تكون شيئًا ما هندسيًّا خالصًا، أي تكون خصائصَ للمكان، وليست مُثُلًا؛ ولذلك فإنها لا يمكن أن تكون موضوعًا أساسيًّا لفن جميل. وهكذا، فإن هذه الخصائص في فن المعمار تكون أيضًا ذات أصل ثانوي ولها دلالة قليلة الأهمية سوف أُظهِرها حالًا. لو كانت مهمة المعمار كفن جميل هي فحسب أن يُظهِر هذه الخصائص، لكان النموذج المجسم لبناء معماري يُحدِث الأثر نفسه الذي يُحدِثه البناء المُنجَز بالفعل. ولكن من الواضح أن الحال لا يكون على ذلك النحو؛ وعلى العكس من ذلك، فإن أعمال المعمار لكي تمارس تأثيرها جماليًّا، فإنها يجب بشكل تام أن يكون لها حجم معتبر؛ والواقع أنها لا يمكن أبدًا أن تكون ضخمة للغاية، ولكنها يمكن بسهولة أن تكون صغيرة للغاية. والحقيقة أن التأثير الجمالي- مع افتراض ثبات باقي العوامل الأخرى ceteris paribus– يكون متناسبًا تناسبًا دقيقًا مع حجم المبنى؛ لأن الكتل الكبيرة فقط تجعل فعل الجاذبية ظاهرًا ومؤثرًا بدرجة كبيرة. ولكن هذا يؤكد مجددًا وجهة نظري في أن النزوع والخصومة لدى تلك القوى الأساسية للطبيعة هو ما يشكل الوسيط المادي الجمالي المميز لفن المعمار، والذي- وفقًا لطبيعته- يتطلب كتلًا كبيرة كي يصبح مرئيًّا، ويمكن الشعور به في واقع الأمر. وكما بينا فيما سبق، فإنه في حالة العمود تكون الأشكال في فن المعمار محددة ابتداءً بالغاية البنائية في كل جزء منها. ولكن ما دامت هذه الأشكال تترك أي شيء بلا تحدد، فإن قانون القابلية للإدراك الحسي على النحو الأتم، ومن ثم القابلية للفهم على النحو الأكثر سهولة، يدخل هنا؛ لأن فن المعمار يتخذ وجوده ابتداءً في إدراكنا الحسي المكاني؛ وبالتالي يلتمس ملكتنا القبلية الخاصة بهذا الإدراك. ومع ذلك، فإن هذه القابلية للفهم تنشأ دائمًا من وجود أكبر قدر من الانتظام في الأشكال ومن معقولية نِسَبَها. ولذلك، فإن المعمار الجميل ينتقي فقط الأشكال المنتظمة االمؤلَّفة من خطوط مستقيمة أو منحنيات منتظمة، وكذلك من الأجسام التي تنشأ من هذه، مثل: الأجسام التكعيبية، ومتوازية الاضلاع، والأسطوانية، والكروية، والهرمية، والمخروطية؛ ومع ذلك فإنها قد تتخذ كفتحات في المبنى أشكال الدئرة أو القطع الناقص، إلا أنها بوجه عام تتخذ شكل التربيعات، وغالبًا المثلثات، فهذه الأخيرة تكون العلاقات بين جوانبها معقولة للغاية وقابلة للفهم بسهولة تامة (ليس على سبيل المثال بنسبة 6 إلى 7، وإنما بنسبة 1 إلى 2 و 2 إلى 3)؛ وكذلك في آخر الأمر تتخذ هذه الأجسام شكل التجويفات في الجدران والكُوَّات ذات النِسَب المنتظمة والمفهومة. ولهذا السبب نفسه، فإن هذه الأشكال سوف تَمنَح بسهولة المباني نفسها وأجزاءها الضخمة علاقة معقولة وسهلة الفهم بين الارتفاع والعرض؛ فهي- على سبيل المثال- سوف تجعل ارتفاع واجهة المبنى نصف عرضها، وسوف تضع الأعمدة بحيث إن كل ثلاثة أو أربعة منها تُوجَد على مسافات ينها بمقياس طول مساوٍ لارتفاعها، وهكذا فإنها سوف تتخذ شكلًا تربيعيًّا. وهذا المبدأ نفسه الخاص بالقابلية للإدراك الحسي والفهم السهل يتطلب أيضًا أن يكون المبنى قابلًا للمعاينة المبنى بسهولة. وهذا يقودنا إلى خاصية السيمترية die Symmetrie التي تعد كذلك ضرورية لمعاينة العمل المعماري ككل، ولتمييز شكله الجوهري عن تحدده العارض؛ وعلى سبيل المثال: فإننا أحيانًا بهدي فقط من السيمترية نستطيع أن نعرف إذا كان ما يتمثل أمام ناظرينا هو ثلاثة مبانٍ تقف جنبًا إلى جنب أم هو مبنى واحد. وهكذا فإنه فقط بواسطة السيمترية يمكن لعمل معماري ما أن يعلن عن نفسه على الفور باعتباره كلًا واحدًا فرديًّا، وتطورًا لفكرة رئيسة.
الراهن أنه على الرغم من أن فن المعمار- كما بينا من قبل بشكل عابر- لا يحاكي مطلقًا أشكال الطبيعة من قبيل: جذوع الأشجار أو حتى الشكل البشري، إلا أنه ينبغي أن يُبدِع بروح الطبيعة؛ لأنه يتخذ من القانون التالي قانونًا خاصًا به: إن الطبيعة لا تفعل شيئًا من دون جدوى، ولا شيئًا زائدًا عن الحاجة، وهي في كل عملياتها تتَّبع أكثر المسارات ملائمةً؛[6] وبالتالي فإن فن المعمار يجب أن يتجنب كل شيء يكون بلا هدف، حتى عندما يكون ذلك ظاهريًّا فحسب، وأن يبلغ دائمًا الغاية المنشودة في كل حالة، سواء كان معماريًّا خالصًا، أي بنائيًّا، أو كان غايةً مرتبطة بالنفعية التي هي دائمًا المسار الأقصر والأكثر طبيعيةً؛ وبذلك فإنه يكشف صراحةً عن الغاية من خلال العمل الفني نفسه. وبذلك النحو فإنه يبلغ درجة معينة من الرشاقة التي تكون مشابهة للرشاقة التي تكمن في المخلوقات البشرية في سهولة كل حركة ووضع جسماني وملائمتهما بالنسبة إلى غايتهما. بناءً على هذا، فإننا نرى في الطراز الأثري الرائع لفن المعمار أن كل جزء- سواء كان ركيزة pillar أو عمود أو عَقْد أو سقف مُسطَّح أو باب أو نافذة أو دَرَج سُلَّم أو شُرفَة- يبلغ غايته بأبسط أسلوب وأكثره مباشرة؛ وهو يَعرِضه في الوقت ذاته على نحو صريح وبريء، تمامًا مثلما تقعل الطبيعة العضوية في أعمالها. وفي مقابل ذلك، فإن الطراز المعماري الذي لا ذوق فيه، يسعى في كل شيء إلى أساليب مُلتفَّة لا نفع فيها، وإلى أن يثير المتعة من خلال نزوات عابرة، وبذلك يجد هدفه في الأسقف المائلة وغير المنتظمة التي بلا هدف، والأعمدة المتجمعة، والأفارِيز التي تعتلي الأبواب، والجَمَالونات، والعُقود التي بلا معنى، والحلْيَات الزخرفية اللولبية، وما شابه ذلك. إنه يلعب بوسائل الفن من دون فهم لأهدافها، مثل الأطفال الذين يلعبون بأدوات الناضجين، وقد وصفنا هذا فيما سبق باعتباره سمة العمل بلهوجة. ومن هذا النوع كل انقطاع لخط مستقيم، وكل تبدل في مسار خط منحني، من دون أن تكون هناك غاية ظاهرة. وفي مقابل ذلك، فإن تلك البساطة البريئة في تكشُّف الغاية وبلوغها- التي تناظر بالضبط تلك الروح التي تعمل بها الطبيعة وتشكِّل الموجودات- هي بالضبط ما يضفي جمال ورشاقة الشكل على الأواني الخزفية الأثرية التي تثير دهشتنا من جديد دومًا؛ لأنها بشكل لائق تمامًا للذوق الأصيل تكون على الضد من الأواني الحديثة لدينا، التي تحمل طابع الابتذال، سواء كانت مصنوعة من البورسلين أو كانت إناءً شائعًا من الفخار. وعند رؤيتنا لأواني وأدوات القدماء، نشعر أن الطبيعة لو أرادت أن تُنتِج مثل هذه الأشياء، لصنعت الشيء نفسه في هذه الأشكال. وإذن، فحيث إننا نرى هذا الجمال في المعمار ينشأ من إظهار بلا تحجب للغايات، ومن بلوغ هذه الغايات بأقصر مسار وأكثره طبيعية؛ فإن نظريتي هنا تبدو على تضاد مباشر مع نظرية كانط التي تضع طبيعة كل جمال في حالة من الملائمة الظاهرة من دون غاية Zwecknäβigkeit ohne Zweck.[7]
الموضوع الأساسي الوحيد لفن المعمار الذي بيَّناه هنا، أعني الدُعَامة والحِمْل- موضوع بسيط للغاية، وعلى هذا الأساس ذاته فإن فن المعمار، ما دام فنًا جميلًا (لا فنًا يخدم غايات نفعية)، يكون متقنًا ومكتملًا من حيث مسائله الجوهرية؛ إذ إن أعظم فترة يونانية لم تعد- على أي حال- قابلة لأي مزيد من الإثراء. وفي مقابل ذلك، فإن المعماري الحديث لا يمكن أن يحيد بشكل ملحوظ عن قواعد القدماء ونماذجهم من دون أن يكون قد سلك مسار التدهور. ولذلك فإنه لا يبقى هناك شيء لديه لكي يفعله سوى أن يطبق الفن الذي آل إليه بواسطة القدماء، وأن يُنفِّذ القواعد بقدر ما يكون ذلك ممكنًا، بحسب التحديدات المفروضة عليه حتمًا بفعل الحاجات والمناخ والعصر وموطنه. لأنه في هذا الفن، مثلما هو في فن النحت، يكون الجهد المبذول لبلوغ النموذج المثالي متماثلًا مع محاكاة القدماء.
ولا أكاد أن أكون بحاجة لأن أذَّكر القارئ بأنني في كل تأملاتي لفن المعمار كنت أضع في اعتباري المعمار الأثري وحده، وليس ما يُسمَّى بالطراز المعماري القوطي الذي له أصل عربي بدوي Saracenischen (Sarcen)[8] ، والذي دخل بقية أوروبا من خلال الطراز القوطي في إسبانيا. وربما كان هناك جمال قائم بذاته لا ينبغي إنكاره بكليته في هذا النوع من المعمار؛ إلا أنه إذا حاول أن يضع نفسه في مقابل النوع الأول كندٍ له، فإن هذا سيكون افتراضًا همجيًّا لا ينبغي السماح به بحال من الأحوال. وكم هو من المفيد- بعد تأملنا لهذه الفخامة القوطية- ذلك التأثير الذي يحدثه فينا النظر إلى مبنى ما تم تنفيذه بشكل صحيح وفقًا للطراز المعماري لدى القدماء! فنحن نشعر أن هذا هذا الطرارز وحده هو الصحيح والحقيقي. وإذا أمكن للمرء أن يجلب شخصًا يونانيًّا قديمًا أمام أكثر الكاتدرائيات القوطية شهرة، فماذا عساه أن يقول لها؟ـــ همجية Bapβαpoι! إن متعتنا بالأعمال المعمارية القوطية تقوم بالتأكيد في معظمها على تداعي الأفكار وذكريات الماضي، ومن ثم تقوم على شعور دخيل على الفن. وكل هذا الذي قلته عن الغاية الجمالية الحقيقية، عن معنى فن المعمار وموضوعه الأساسي، يفقد مشروعيته في حالة هذه الأعمال. ذلك أن السقف المُسطَّح الممتد بحرية يكون قد تلاشى في هذه الحالة، وتلاشى معه العمود: فالدُعَامة والحِمْل، اللذان يتم ترتيبهما وتوزيعها بشكل منتظم لأجل الإظهار الواضح للصراع بين الصلابة والثِّقْل، لم يَعُدا الموضوع الأساسي هنا. وفضلًا عن ذلك، فإن العقلانية التامة والخالصة التي بفضلها يخضع كل شيء لحساب دقيق، بل يقدمه من تلقاء ذاته للمشاهد الذي ينعم النظر باعتبار أن ذلك أمرًا طبيعيًّا، هو أمر لم يعد له وجود هنا؛ وسرعان ما نصبح هنا واعين، بدلًا من هذا، بأن هناك إرادة موجَّهة بتصورات أخرى قد أثرت في مشاعرنا؛ وبالتالي فإن هناك الكثير مما يبقى غير مفسر لدينا. ذلك أن الطراز الأثري القديم من المعمار هو وحده ما يكون متصورًا بروح موضوعية خالصة؛ بينما الطراز القوطي يكون متصورًا بقدر كبير من الروح الذاتية. ومع ذلك، فحيث إننا قد تعرفنا على الفكرة الأساسية الجمالية الخاصة في المعمار الأثري القديم باعتبارها تكمن في تكشف الصراع بين الصلابة والثِّقْل، فإننا إذا وددنا أن نكتشف في المعمار القوطي أيضًا فكرة أساسية مماثلة؛ فإنها ستتمثل في أن ما يفترض ظهوره هنا هو التغلب التام على الثِّقْل وقهره بفعل الصلابة. ذلك أنه وفقًا لهذا، فإن الخط الأفقي الذي هو خط الحِمْل يكون قد اختفى تمامًا، أما تأثير الثِّقْل فإنه يظهر فقط بطريقة غير مباشرة، ويكون مميزًا بالقناطر والعقود؛ بينما الخط الرأسي الذي هو خط الدُعَامة، فإنه وحده يُظهِر للحواس ويكشف لها بوضوح تام انتصار تأثير الصلابة من خلال الركائز المحلقة عاليًا بإفراط، والبروج والبريجات والأبراج العلوية، التي تكون بلا عدد، وترتفع عاليًا من دن أن تكون مُثْقَلة بحمل. وفي حين أنه في المعمار الأثري القديم يكون النزوع والضغط من أعلى إلى أسفل متمثلًا ومعروضًا بالقدر نفسه الذي يكون به متمثلًا ومعروضًا من أسفل إلى أعلى؛ فإنه في المعمار القوطي يكون هذا الحال الأخير هو السائد هنا؛ وهو الحال الذي يكون مشابهًا لما يكون ملحوظًا في الكريستال، الذي يحدث تبلوره أيضًا من خلال سيادة الجاذبية. وإذا كنا إذن ننسب هذه الروح والفكرة الأساسية إلى المعمار القوطي، وودنا بذلك أن نجعله بمثابة المقابل المشروع المكافئ للمعمار الأثري القديم؛ فإننا يجب أن نتذكر أن الصراع بين الصلابة والثَّقْل الذي يعبر عنه المعمار الأثري القديم بشكل صريح وبرئ للغاية، هو صراع فعلي وحقيقي قد أوجده المرء في الطبيعة؛ وعلى العكس من ذلك فإن القهر التام للثِّقْل بفعل الصلابة يبقى مجرد تصنع، مجرد اختلاق يشهد عليه الوهم. إن كل امرئ سيكون قادرًا بسهولة على أن يرى بوضوح- من خلال الفكرة الأساسية التي قدمناها هنا، وخصوصيات المعمار القوطي التي لاحظناه فيما سبق- كيف تنشأ الخاصية الغامضة والمتعدية لما هو طبيعي التي تُنسَب لهذا المعمار. إنها تنشأ أساسًا- كما ذكرنا من قبل- من أن ما هو تعسفي هنا قد حل بطريقة تعسفية محل ما يكون عقلانيًّا بشكل خالص، والذي يعلن عن نفسه بوصفه الملائمة التامة بين الوسيلة والغاية. إن الأشياء العديدة التي تكون حقًّا بلا هدف، وإن كانت متقنة بعناية، تثير لدينا افتراضًا بوجود غايات غير معروفة وغير قابلة للتفسير وخفية، أي لها مظهر اللغز. وفي مقابل ذلك، فإن الجانب المتألق في الكنائس القوطية هو الجانب الداخلي منها؛ لأنه هنا يكون تأثير العقود المنحنية الذي يحدث بفضل ركائز رشيقة متألقة محلقة، مرتفعة عاليًا؛ ومع اختفاء كل حمل، فإن هذه الركائز تتعهد بحالة من الأمان الأبدي، وبذلك يكون تأثيرها في النفس؛في حين أن معظم أخظاء هذا المعمار توجد في مظهره الخارجي. أما في المباني الأثرية القديمة يكون الجانب الخارجي هو الأكثر مِزية؛ لأننا في هذا الجانب نرى بشكل أفضل الدُعَامة والحِمْل؛ أما في الجانب الداخلي، في مقابل ذلك، فإن السقف المسطَّح يحتفظ دائمًا بشيء ما يكون ضاغطًا ومُملًا. كذلك غالبًا ما نجد في معابد القدماء أنه بينما تكون الأعمال الخارجية في المعبد عديدة وهائلة، فإن الجانب الداخلي يكون ضئيلًا. إن سمة من الجلال يتم بلوغها من خلال العَقْد نصف الدائري الخاص بالرابطة على نحو ما نجده في معبد البانثيون Pantheon، وهو الأسلوب الذي توسع في استخدامه الإيطاليون أيضًا في البناء. ما يحدد ذلك هو أن القدماء، باعتبارهم أممًا جنوبية، قد عاشوا في الفضاء المفتوح أكثر مما عاشت فيه الأمم الشمالية التي فضلت المعمار القوطي. وإذن، فإن مَنْ يُصِّر تمامًا على قبول المعمار القوطي باعتباره طرازًا جوهريًّا معتمَدًا؛ فيمكنه- إذا كان مغرمًا أيضًا بالتشبيهات- أن ينظر إليه باعتباره القطب السالب لفن المعمار أو باعتباره مفتاحه الموسيقي الصغير. ومن أجل مصلحة الذوق السليم، فإنني أود حتمًا أن تصبح الثروة الكبيرة مُكرَّسة لذلك الذي يكون بطريقة موضوعية، أي فعلية، جيدًا وصحيحًا؛ أي لذلك الذي يكون في ذاته جميلًا، وليس لذلك الذي تعتمد قيمته على تداعي الأفكار فحسب. وإذن، فإنني عندما أرى كيف أن هذا العصر غير المؤمِن يُنجِز بدأب بالغ الكنائس القوطية التي تركتها العصور الوسطى المؤمنة من دون أن تكملها؛ فإن الأمر يبدو لي كما لو أن هذه العصور قد أرادت تحنيط مسيحية ميتة.
[1] ما بين القوسين إضافة شارحة من جانبنا، وهي مستمدة من مصطلحات علم الهندسة الإنشائية، وهذا المصطلح هو: stability factor. (المترجم)
[2] الضلع القُطري هنا هو الخط الافتراضي المائل الممتد من زاوية في المربع إلى زاوية مقابلة لها. والمقصود هنا مجموع طول الخط القطري في أسطح المربع يفوق مجموع الخطوط العرضية لأسطحه. (المترجم)
[3] هي الطرز المعروفة أيضًا بطراز المعمار الدَوري Doric architecture في اليونان القديمة: في كريت وإيجه وصقلية؛ وكانت تقوم أنظمة الأعمدة المستديرة الثقيلة، ملساء السطح، لها تيجان من دون قاعدة. (المترجم)
[4] مدينة قديمة تقع جنوب إيطاليا على خليج ساليمو. تأسست كمستعمرة يونانية سنة 600 قبل الميلاد، واحتلها الرومان سنة 273. (المترجم)
[5] كلمة Abakus أو Abacus بالإنجليزية، قد عربها مجمع اللغة العربية بكلمة “ناصية العمود”، وهو تعريب خاطئ؛ لأن المصلح يشير إلى المحيط العلوي البارز من تاج العمود، والذي يعد أكبر جزء في محيط التاج. ويمكن ترجمة هذا المصطلح إلى اللغة العامية المتداولة عند أهل العمارة على المستوى التنفيذي، وهي كلمة “طبلية التاج”. (المترجم)
[6] هذه العبارة الواردة في الأصل باللغة اللاتينية، يتكرر ذكرها كثيرًا في سياقات مختلفة من الكتاب. (المترجم)
[7] وتُعرَف نظرية كانط في الجميل بعبارة أخرى بأنه “غائية من دون غاية”. (المترجم)
[8] تشير هذه الكلمة أيضًا إلى الشخص المسلم في فترة الحروب الصليبية، ومن ثم فإنها لا تخلو من نظرة عنصرية. (المترجم)
المصدر: العالم إرادة وتمثلًا Die Welt als Wille und Vorstellung – المجلد الثاني.