الثقافة والفلسفة في منظور فلسفة الدّين – عبد الرزاق بلعقروز

أولًا- مفتتح تمهيدي:
من الجدير بالملاحظة أوَّلًا، تنوُّع المقاربات في دراسة الدّين وتداخلها، خاصة بين الفلسفة والعلوم الإنسانية – الاجتماعية، وامتد هذا الاهتمام، إلى المناهج البيولوجية، التي تناولت الدّين من حيث أدواره وتأثيره في الترَّكيبة البيولوجية للإنسان[1]، وكأن الدّين بات الموضوع الواصل بين العلوم، من حيث إنه الموضوع الذي يمكن لمناهج العلوم العديدة أن تفتح معه نقاشًا في شؤونه ومطالبه، وما الذي يريده من الإنسان، وهل ثمة قنوات في الإنسان تعي الدّين كما تعي الحواس عالمَ الموجودات الحسية، ويعي العقل عالمَ المجرّدات الفكرية. أم أنَّ للنزوع نحو عوالم المعنى والغيب دوافعَ نفسية وظروفًا اجتماعية وتركيبات بيولوجية. إنَّ كثرة التَّحليلات والتأمّلات حول الدّين، بمعزل عن قدرتها في فهمه وتناوله: بالنّقد والتَّحليل أو بالتبنيّ والتَّشغيل، لهي علامة لافتة على أنَّ الدين وميل الإنسان إلى التديّن وشعوره بالحاجة إلى قوة عليا، شيءٌ غريب ويستنفر القوى العقلية والنَّفسية لأجل إيجاد معنى له، أو رسم سبل في كيفية التّواصل معه؛ والآكد أن المُساكنة الإنسانية في الدّين ليست شيئًا يتخيّره الإنسان بالمعاندة أو بالموافقة، بل هو القوة السَّارية والعِماد الكلي لنظام الموجودات ولمعنى جريانها.
إنَّ وَجاهَة المسألة الدينية كما أشرنا من منظور فلسفي؛ توجب علينا إيضاح منزلة الدّين في التّواريخ الثقافية للإنسانية، وكذا مَوَاطِن التَّلاقي والمفارقة بين تعاليم الدّين أو أركانه وبين تأمّلات الفيلسوف ومقولاته. وسنبدأ بذكر ملازمة الدّين للثقافة؛ ثم نُتْبِعُهَا بذكر أثر التَّعاليم الدّينية أو المعالم الإلهية في الآراء الفلسفية.
ثانيًا- الدّين والثقافة:
ارتبط وجود الإنسان في العالم بانوجاد نزوعه إلى الاعتقاد في كائنات متعالية؛ وفي إيمانه بأنّه؛ بخلاف باقي الموجودات الأُخَر؛ في داخله عنصرٌ غير مادي، يتجلَّى في شوقه إلى الخُلود وفي تعبيره عن هذا الشُّعور البَاطني من خلال الفنون: (الرسم، النَّحت، الطقوس الفردية والجماعية….). كما أنّه أرسى عَلاقاته الاجتماعية بناءً على هذا الميثاق الدّيني الذي يعطي معنًى للحياة، تتعدَّى المعنى الحيواني والتَّعاوني إلى المعنى التّآلفي أو المؤاخاة؛ وإلى الوعي بقيمة الحرية أيضًا، وبرأي علماء الأناسة الفلسفية، أن الإنسان بالمقارنة مع الحيوان ضعيف الثقة بغرائزه “فعند الحيوان تُحرك الغرائزُ الجِبليّة دوافعَ الحياة فيه وعلاقته بالمحيط؛ لكن الإنسان بسبب ضعف غرائزه يتزايد نقص الثقة لديه؛ إلا أنَّ هذا النّقص هو في آن قوة. إنّه يمكّن الإنسان من العمل المتحرر من الغرائز، أي من العمل الحر أو بتلقاء النّفس spontanes Handeln. وبحسب نظرة شلر التي يتقاسمها مع فرويد وجيلن؛ فإنَّ ما ينقص الإنسان من دفع التَّحريك الغريزي هو الذي مثّل العلّة الأصلية Ursache لما عنده من فائض في النوازع يميّزه عن غيره من الحيوانات triebuberschuss. ولكي يستطيع الإنسان العيش في إطار علاقات الجماعة وبحسب البُنى الاجتماعية فلا بد له من أن يعدّل بالكبت والتَّصعيد ما تتميّز به نوازعه من فائض الفطرة”[2]. وارتكازًا على هذا، فإنّه يجدر بنا صرف القول إلى أنّ العامل الذي استطاع أن يتحكَّم بالغرائز ويُعدل في الطَّبائع ويجعل من الحياة الاجتماعية ممكنةً هو الدّين؛ لأنّه كان ينقل الحياة الإنسانية من صورتها الطَّبيعية الغريزية إلى صورتها الاجتماعية، وفي هذا السياق يقول الفريد وايتهد: “المقدّس المشترك أعطى الإحساس بالانتماء الكامل للجماعة القبلية، فمن خلال الديانات تنامى الإحساس بمعانٍ للحياة لا تقتصر على مجرّد العمل على البقاء، وقد جلبت الأديان أشكالًا دينية محدّدة، ومهما بلغت من هشاشتها؛ فإنّها أعطت مُسَوّغات لتلك الأحاسيس وحشدتها”[3]. إذن، فالدين حسب منظور الأناسة الفلسفية هو الذي أوجد هذا التَّآلُف بين الإنسان والإنسان، وشرَّع لقواعد المعاملة وعيّن أسلوب الحياة في المجتمع؛ ولأنّ هذا هكذا، فقد جاء في معنى كلمة الدين Religare في اللاَّتينية ومن بعدها الفرنسية أنّها “شدّة الجمع والتّوحيد، أو ما به يتقوّى الاجتماع والوحدة، أو ما يُتمسّك به تقيُّدًا وتبعيةً”[4].
إذا لم يكن الفعل الإنساني جماعيًّا فإن حركته محدودة؛ والفرد الباحث عن مطالبه وحدَه لا يقدر على تلبيتها، إنما لا بد له أن يجتمع مع غيره، وأن يشترك معهم، والدّين كما أُشير إليه؛ هو في طليعة المعاني التي تَخْلُقُ هذه الرَّوابط النَّفسية والاجتماعية، وتدفع بالفعل إلى أقصى حركته في مجال الحاجات المادية، وكذا الحاجات النَّفسية والاجتماعية والسّياسية والأدوار التَّاريخية الكبرى؛ ولأن الدّين يخلق القيم الاجتماعية؛ فإنَّ سِرَّ التماثل المرئي بين الأشخاص في المجتمعات فيما نسميه بالثقافة يرجع إلى نقطة غير متعالية؛ فَوِحدة أسلوب الحياة لدى أمة من الأمم أو شعب من الشُّعوب آتٍ من وحدة رؤيتها إلى العالم والإنسان والقيم، ومظاهر هذه الوحدة في الثقافة نلاحظها في: “نموذج الحياة وجميع الأعمال المادية والعقلية التي تدخل في هذا الصّنف من النّموذج، وأما بالنسبة إلى الثّمرات السلوكية فهي كثيرة منها: بيوت، أدوات، أعمال فنية… وأما الحقائق غير المرئية فهي: العادات الذّهنية الفاعلة، وجميع السِّمات المطبوعة في الفرد من البيئة الاجتماعية”[5]. وبهذا، يبدو لنا جليًّا، أنَّ التماثل الموجود بين الناس في التاريخ وفي الواقع، آتٍ من انتمائهم المشترك إلى عامل ثقافي، وقد يكون عِماد هذا العامل معتقدًا دينيًّا منزّلًا؛ أو ثقافة ذات تفسيرات دينية للكون وللإنسان، مثل الثقافة الكنفوشيوسية في الصّين أو الديانات الروحانية في الهند أو في إيران. إن هذا المعنى يدلُّ على تلازمية طبيعة الوعي الدّيني وشكل الثقافة المشتركة. وأمام هذا، فإنَّ الفلسفة تطرح أسئلة حول ماهية هذا الديني الذي يُلبس المعنى على الوجود، ولماذا يخلق الدّين نظام الثقافة خاصة في شبكة علاقاتها الاجتماعية؟ ما الأسئلة التي تطرحها الفلسفة على هذا الترابط بين الديني والثقافي؟ وهل الفلسفة نفسها وريثة للدّين أو الثقافة؟
ثالثًا- بين المقولات الدّينية والأفكار الفلسفية:
لا يتناول مبحثُ فلسفة الدين كجزء من أجزاء المعرفة الدينَ مُكْتفيًا بمحاولة الفهم لماهيته وعِلله وغاياته، وإنّما ثمة أثر كبير للدّين نفسه في عقول الفلاسفة وثمرات فكرهم نفسه؛ أو أنّ من تَسَمُّوا بقُدماء الحكماء في التراث الإنساني كانوا يقتبسون حكمتهم من تعاليم الدّين الإلهية، وإظهارًا لهذه الفكرة يقول أبو الحسن العامري عن حكماء اليونان في الفصل الثالث من كتاب (الأمد على الأبد) [قُدَماء الحُكماء وجَلاَلة الحكمة]: “أوّل من وُصف بالحكمة من البشريين على الإطلاق كان لقمان الحكيم. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَقَدْ آتيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ) [لقمان: 12] وكان في زمن داود النبي عليه السلام، وكان مقامهما جميعًا ببلاد الشام. وكان أنباذوقليس اليوناني يختلف إليه، على ما حُكي، ويأخذ من حكمته… وكان اليونانيون يصفونه بالحكمة لمصاحبته التي كانت للقمان الحكيم؛ بل هو أوَّل من وُصف بالحكمة… ثم أحد الموصوفين منهم بالحكمة فيثاغورس. وقد اختلف بمصر إلى أصحاب سليمان بن داود عليه السَّلام حين جُلبوا إليها من بلاد الشام، وكان تعلّم الهندسة قبلهم من المصريين، فتعلّم أيضًا العلوم الطَّبيعية والعلوم الإلهية من أصحاب سليمان… ثم أحد الموصوفين منهم بالحكمة بعده سقراط، وقد اقتبس الحكمة من فيثاغورس، واقتصر من أصنافها على المعالم الإلهية وأعرض عن ملاذ الدنيا بالكلية… ثم أحد الموصوفين بالحكمة بعد أفلاطون، وكان فيهم شريف النسب مِفضالًا، وقد وافق سقراط في اقتباس الحكمة من فيثاغورس إلا إنّه لم يقتصر على المعالم الإلهية… ثم أحد الموصوفين منهم بالحكمة بعده أرسطو طاليسُ وهو معلّم الإسكندر المعروف بذي القرنين. وكان ملازمًا لأفلاطون زُهاء عشرين سنة لاقتباس الحكمة، وكان يسمى في حداثته «روحانيًّا»[6] لفرط ذكائه. وكان أفلاطون «يسميه عقلًا»”[7]. ووجه تصنيف هؤلاء بالحكماء، هو رؤاهم الفلسفية المبنية على إقرار مضمر، دعائمه ثلاث هي: أن للعالم وُجودًا محدثًا وليس قديمًا، وأن المعاد حَقٌّ وليس باطلًا، وأن النَّفس جوهرٌ شريف وليست عرضًا، وكُلُّ من يعاند هذه المعالم في التفكير، يوصف بالزّراية ويجري الحطُّ من منزلته، وتوكيدًا لاكتساب صفة الحكمة من الارتكاز على المعالم الإلهية “أنّه من الحكايات المشهورة عن أفلاطون أنّه كان يقول لأصحابه: إنّكم إن عرفتم كل شيء فلا تحسبوا أنّكم قد عرفتم شيئًا ما لم تعرفوا الله عزّ وجلَّ، ثم من الحكايات المشهورة عن أرسطو طاليس أنّه كان يقول: “كنت قبل اليوم أشرب وأظمأ، حتّى إذا عرفت الله عزّ وجلَّ رويت بلا شرب”[8]. ونجد هذا المعنى قريبًا عند سقراط الذي كان قبلهما؛ فهو لم يكن فيلسوفًا نظريًّا؛ منحصرًا همه في تجريد المعقولات من المحسوسات، وإنّما كان صاحب رسالة تشبه رسالات الأنبياء في مسعاهم نحو الأخذ بيد الإنسان نحو توحيد الإيمان واستقامة الفضيلة، “ذلك أن سقراط كان يشير إلى اللّامنظور الذي كان يعاوده ويأنس إليه، فهو يشرّع لممارسته الفلسفية باعتبارها إلهيةً لأنه دخل يومًا معبد دلفي فسمع هاتفًا يخبره بأنّه أكثر الأثينيين حكمةً. إن رسالة سقراط ذات أساس إلهي؛ لذلك فهو لا يقبل التخلّي عنها، مثلما يتجلّى ذلك في مؤلف أفلاطون بعنوان “تمجيد سقراط”، نكتفي هنا بالإشارة في هذا الموضوع إلى أن سقراط يخاطب القضاة بقوله: “لو أنَّكم طلبتم مني أن أتخلّى عن التّفلسف مقابل تبرئة ساحتي وإطلاق سراحي فإني لن أقبل ذلك البتّة؛ لأنّه ليس أعسر عليّ من عدم طاعة الله الذي حمّلني رسالة هدايتكم وإرشادكم إلى ما به تكون النّفس فاضلة”[9]. وهنا نلاحظ طبيعة المضمون الذي يريد سقراط أن يهدي به المجتمع الأثيني، فهو مضمون ديني حقيقي في شكل فلسفي، مضمون مقدّس في شكل جديد هو الشَّكل الفلسفي البُرهاني، أي إن القيم الدّينية قد أحالها سقراط في تعاليمه من هذا الشَّكل إلى شكل جديد، قوامه العقلانية المجرّدة وتأسيس اليقين على أسس برهانية وليست أسسًا أسطورية؛ وبالتالي فنحن “أمام لحظة استجلاب للمقدّس في فضاء جديد هو فضاء القول الفلسفي من حيث هو رغبة جامعة في الحكمة وبحث عن الحقيقة في صورة جديدة… إن الميتافيزيقا التي افتتحها سقراط وواصلها فلاسفة آخرون ستكون أساس خطاب فلسفي أقرّ بإطلاقية الحقيقة إلى حدّ التّقديس”[10].
وإذْ بانت العلاقة الوثيقة بين المعالم الإلهية والأفكار الفلسفية، في مُركَّب هو الحكمة؛ فإنَّه يجدر بنا الإتيان بشواهد فلسفية تنتمي إلى التَّفكير الفلسفي الحديث، ولن نحرم أنفسنا من متعة الاستشهاد بفقرات من نصوص “فريدريش هيجل”، الذي خصَّص دروسًا عديدة عن الدين، حيث قدَّم بعضها سنة 1821 وأخرى سنة 1827، وآخرها سنة وفاته 1831. وكسُؤال إلى هيجل عن علاقة الدّين بأنظمة العالم يجيبنا ودور الفلسفة بينهما قائلًا: “إن مطلوبنا من الفلسفة ليس أن تجعل الدّين موضوع بحث لها؛ بل المطلوب منها هو بالأحرى أن تجعله أساسًا مفروضًا في كل شيء. فالدّين ينبغي أن يكون، بمقتضى جوهره، ما لا يمكن لأيّ أمر جديد في حياة الإنسان أن يحصل من دونه”[11]. إذن، فالفلسفة هنا باتت في اتجاه تحليلي وإلباسي، أي تُلْبِسْ العالم كله وظواهره اللّباس الدّيني؛ لكنه ليس أيّ لباس ديني، وإنّما الدّيني المسيحي بشكل خاص؛ لأنها الدّيانة التي نشأ عليها هيجل واعتنق مبادئها وحوَّلها إلى حركة فكرية وأداة منهجية عمادها الجدل. ونظرًا للأثر الكبير للدّين المسيحي في عقول الفلاسفة خاصة الفلسفة الحديثة، أضحى “من الصّعب ممارسة فلسفة الدّين دون افتراض أنّ الأمر يتعلّق بفلسفة معيّنة في الدين، والتي لن تتلاءم إلا مع شكل من أشكال الدّيني الكثيرة… بعبارة صريحة: أنّ المسيحية قد طبعت بميسمها، بدرجة كبيرة، الفلسفة والتفكير في الدّين، وما زالت تؤثر في أنماط التّفكير في الدّين، سواء تم الاعتراف بذلك أم لم يتم“[12]. يتضح مما سبق، أن الفلسفة ليست تفكيرًا على طريقة تفكير العلماء الطَّبيعيين في موضوعاتهم، وإنما هي تفكير انطلاقًا من أسس دينية مخصوصة، على الأقل كما رأينا في السياق الفلسفي الإسلامي والسياق الفلسفي الحديث، ومقتضى هذا الإقرار أن فلسفة الدين تبقى ذاتية ومنسوبة إلى الأنساق الفلسفية الموضوعة، وتبتعد كثيرًا عن الحيادية والانفصال الكلي عن التَّعاليم الدينية. وأما آلية الفيلسوف التي يستعملها، فهي صرف المعاني الدينية المباشرة واستبقاؤها في شكل مفاهيم عقلية، بمنهجية التحليل والتركيب والجدل مع حركة الواقع والتَّاريخ، مثال ذلك الكلمات الدّينية مثل: الرُّوح (روح القدس) والتثليث والتَّجسيد، “وقد تعلّق بهما هيجل كما لم يتعلّق بهما أحد من (الأنواريين)؛ فلما كان هذان المعتقدان يقرران بأن الإله يخرج عن طبيعته الإلهية إلى الطَّبيعة الإنسانية التي تضادها، متحملًا الموت، كي يتحقق بكمال الألوهية، فقد جعل هيجل حقيقة المفهوم الفلسفي هو كذلك. قائمة في تحوله، في ذاته، إلى ضدّه، كي تتقدّم مفهوميته وتكتمل، كما إذا تحوَّل مفهوم الوُجود إلى ضده، وهو مفهوم الصيرورة وهكذا”[13]. وكأن أثر الفيلسوف في العالم يكون من حالة العلاقة بالدين، فبقدر ما تقوى علاقته بالدّين فلسفيًّا، بقدر ما يكتسب وجودًا في الفكر؛ وبقدر ما تكون صلته بالدّين انقطاعية بقدر ما يكون أقل حضورًا وتأثيرًا في الفكر الفلسفي، وحتى من اكتسب القيمة الكبرى وكان معاندًا للدين، اكتسبها من نقده للدين نفسه وبناء فلسفته انطلاقًا من التفكير بالمقابل في الدين، ومثال ذلك فريدريك نيتشه، الذي هاجم الدّيانات بخاصة تلك التي كانت دوافع نشأتها الخوف والحاجة؛ وبَسَط في المقابل رؤيته التي تستعيد قيمة الأشياء التي حطّت من قيمتها الدّيانات؛ مثل قيمة الحياة والأرض والجسد والغرائز والفن والقوة. وكأن قدر التفلسف هو هذه العلاقة المتوترة مع الدين، انغراسًا أو نقدًا أو تأويلًا.
يتبيّن لنا إذن أن قيمة الدّين من الناحية الفلسفية ليست آتيةً فقط، من مواقف خاصة تجاه الدّين، وإنّما تتجاوز هذا المستوى إلى مستوى التحام المقدّس بالحياة الشَّخصية للفيلسوف أيضًا؛ لذلك “فإنّ أحد الفروق بين فلسفة الدين والأقسام الأخرى من الفلسفة، هو أن الأولى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمواقف الشَّخصية للفلاسفة أنفسهم… ومع ذلك فإن أحد أهم الدّوافع التي تقود الفلاسفة في الفلسفة الأخلاقية هي في الأغلب الأعم الرغبة في وضع الأسس المنطقية لمعتقداتهم الأخلاقية الشَّخصية”[14].
بعد أن تبيّنت لنا، تلك القوة النافذة للدّين في الثقافة وفي عقول الفلاسفة؛ فإننا نمضي إلى القول من منظور فلسفة الدين، إن النزوع الإنساني نحو الشوق إلى الروحاني والحنين إلى الخلود وعبادة ذات إلهية جديرة بالطّاعة، تعد علامات على فطرية الدافع الديني في الإنسان، وتجذُّره في الجهاز النَّفسي والمعرفي للإنسان، فالوجود الإلهي وتهذيب النوازع الطبيعية والتَّأمُّل في ملكوت السّماوات والأرض، والرَّغبة في إقرار العدل والتخلّص من العبودية وإقرار التشريعات الأخلاقية، هذه تُعَدُّ علامات على استغراز قوة التَّديُّن في الإنسان، وأنه بخلاف الحيوان يبحث عن أساس آخر لمعنى حياته يطمئن إليه ويرتكز عليه في فهم العالم وتقعيد السلوك؛ ولا يرتكز على الغريزة الواثقة من نفسها السارية في النوع الإنساني. إن الإنسان إذن، هو حيوان يرفض أن يكون كذلك كما قيل.
[1] انظر: إيكارت فولاند وآخرون، التطور البيولوجي للعقل والسُّلوك الدّينيين، القاهرة: المركز القومي للتَّرجمة، 2015.
[2] فولف، كريستوف، علم الأناسة. التاريخ والثقافة والفلسفة، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، تونس، أبو ظبي، الدار المتوسطية للنشر، كلمة، 2009، ص 66.
[3]ألفرد وايتهد، كيف يتكون الدين: العقيدة والإنسان والمجتمع، مجلة التفاهم، العدد 40، السنة الحادية عشرة، ربيع 2013، ص 269.
[4]النقاري حمو، مفاهيم التفلسف الغربي، معجم تحليلي عربي، إبداع: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، 2018، ص 276.
[5] Jacque Dumont et Philippe Vandooren, Dictionnaire Marabout université, la philosophie, tom 1
Paris: Centre d’ Etude et de Promotion de la lecture, p 90
[6] يقول جون غروندان Jean Grondin: “كان غادامير Gadamer على حق عندما قال إن أرسطو، الذي كان ينتقد دومًا عند أستاذه أفلاطون فصله بين عالم المثل وعالم المحسوسات، ربّما هو المفكّر الحقيقي في مسألة الفصل هذه عندما طرح فكرة التّعالي المطلق للمحرك الأوّل. إنّنا هنا أمام سؤال مهم بالنّسبة إلى فلسفة الدين: هل الإله محايث لعالمنا، أو متعالٍ عنه بصفة مطلقة؟ جواب أرسطو الصَّارم هو أن الإله لا يمكن أن يكون إلَّا متعاليًا”. انظر: كتاب جون غروندان، فلسفة الدين، ترجمة: أحمد المتوكّل، المغرب: مؤمنون بلا حدود، 2017، ص 79.
[7] العامري أبو الحسن، الأمد على الأبد، ضمن كتاب، أربع رسائل فلسفية، تحقيق: سعيد الغانمي، العراق: الكوفة، 2015، ص 167/169.
[8] نفسه، ص 172.
[9] محمد الجوة، الحقيقية المقدّسة، ضمن كتاب: محمد الجوة وآخرون، الإنسان والمقدّس، تونس: الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية، دار محمد علي الحامي، 1994، ص 10.
[10] المرجع نفسه، ص 12.
[11] هيجل، جدلية الدين والتنوير، “من دروس فلسفة الدين لهيجل”، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، أبو ظبي، كلمة، 2014، ص 29.
[12] غروندان، جون، فلسفة الدين، ترجمة وتعليق، مرجع سابق 2017، ص 32.
[13] عبد الرحمن طه، المفاهيم الأخلاقية، بين الائتمانية والعلمانية، ج 1 “المفاهيم الائتمانية“، الرباط، دار الأمان، 2021، ص 319.
أوليفر ليمان وآخرون، مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرون، الكويت: سلسة عالم المعرفة، 2004، ص 204.[14]