مقالات

بقايا أثرية للمتاحف العالميّة – ستيفن غامبارديلا

ترجمة: منار الصلتية

الأزمة المتصاعدة لاسترداد الممتلكات الثقافية هي فرصة للمتاحف لخدمة المجتمعات العالمية على نحو أفضل.

في فبراير من عام 1897، شنَّ البريطانيون هجومًا عقابيًا على مدينة بنين، عاصمة إمبراطورية غرب أفريقيا التي تحمل الاسم نفسه (بنين). وشارك 1400 جندي في هذا الهجوم مُجهَّزين بأحدث التقنيات المطورة التي تمكنهم من القتال داخل الأدغال؛ إذ تضمنت هذه الترسانة صواريخ ومدفعية بقذائف حارقة تم اختيارها عن قصد لحرق أسقف بيوت الأفريقيين المُغطّاة بالقش، وقنابل إنارة تساعدهم في القتال الليلي، وثمانية وثلاثون رشاش مكسيم بذخيرة تبلغ حوالي مليوني طلقة.

يطلق رشاش المكسيم 10 رصاصات في الثانية، وبحسب إحدى الروايات، فإن أجساد الضحايا «انفطرتْ إلى قسمين» بفعل وابل النيران التي أمطرت -بلا تمييز- على الأدغال قريبًا من العاصمة، وطلقات البندقية قد شُحِذَتْ وسُنّت تقويةً لتأثيرها على الجلد البشري.

يصح وصف تلك الحرب، بتعبيرٍ مُعاصِر، على أنها «حربٌ غير متكافئة»؛ إذ مُنعتْ الأسلحة الحديثة التي استخدمها البريطانيون من البيع للسكان الأفارقة المحليين، الذين دافعوا عن أنفسهم ببنادق عتيقة ومدافع غير مُجهَّزة وبأسلحة بدائية كالرماح والأقواس. وفي العصر الفيكتوري، كان رشاش المكسيم مماثًلا للطائرة بدون طيار (الدرون)، المصممة للإبادة من مسافات آمنة.

طافت أعمدة من الطائرات الحربية على طول القنوات الشعيرية لنهر دلتا النيجر، وقصفت المساكن القريبة من ضفاف النهر بالمدافع الرشاشة. ووقع القصف على مدى ثلاثة أيام قبل أن تقوم القوات العسكرية بانتهاك المدينة ونهبها، ثم نزح المدنيون من منازلهم وأضرمت النيران في مبانيهم.

استولى مئات الجنود والإداريين على المساكن الملكية لإثراء أنفسهم بفتات ما تبقى من ثروة النظام المخلوع. ومن بين المسروقات التي نُهبتْ، كان هناك الآلاف من الأعمال الفنية المصنوعة من البرونز والعاج، ومعظمها مُقدَّسة. وهذه الممتلكات الفاخرة موجودة الآن في مجموعات فنية من 160 متحف -أو نحو ذاك- في أنحاء العالم، وتوجد الغالبية العظمى في متاحف العالم الغربي.

وتعد الأعمال الفنية من مدينة بنين ضمن الأعمال الأفريقية الأكثر شهرة بفضل طبيعتها المرموقة والأناقة البصرية الراقية. وتجدر الإشارة أنه أُنتجتْ الكثير من الأعمال الفنية لأغراض احتفالية لبلاط أوباس؛ الملوك الإلهيون الذين حكموا الإمبراطورية الأفريقية في مسار حكم غير منقطع امتد من قرابة عام 1440م حتى طردهم البريطانيون.

يصح وصف هذه القطع الأثرية على أنها أدوات مساعدة في الشعائر، وأدوات لسرد الحكايات التي سجلت تاريخ مملكة بنين. وتشمل هذه القطع الأثرية قطعًا عملية وشعائرية؛ أدوات مثل أقبية الملح، والأقنعة، وصور تمثال نصفي لبلاط أوباس، وأنياب مزخرفة، ومئات من اللوحات النحاسية الشهيرة (المعروفة باسم «بنين برونز» أو «كنوز بنين») التي زينت الأعمدة الخشبية للقصر.

نزع الاستعمار من المتاحف

بعد قرن من الضغط السياسي، وبعد الصيف العاصف لعام 2020 الذي هيمنت فيه حركة «حياة السود مهمة» وتصدرت الأخبار الرئيسية في العالم؛ أُعيدت بعض آلاف من القطع الأثرية المقدسة إلى موطنها الأصلي؛ نيجيريا. وقد التزمت ألمانيا برد مئات من التحف الأثرية العديدة التي ستكون موجودة في المتحف المبني حديثًا؛ متحف إيدو لفنون غرب أفريقيا الموجود في مدينة بنين.

وفي حين أن هناك الآلاف من القطع الفنية في عشرات المتاحف والمجموعات الفنية الخاصة، فإن فن بنين المنهوب ليس سوى مثال واحد من العديد من الأمثلة على القطع الأثرية الثقافية المسروقة التي تُباع في السوق المفتوحة أو تُحتَضن في المتاحف. وتشن الحكومات والجماعات في جميع أنحاء العالم، من إثيوبيا إلى اليونان، حملات لإعادة الممتلكات المسروقة من أسلافهم.

تستمر الجهود التي تسعى لاسترداد المسروقات و «نزع الاستعمار» (decolonization) في إثارة البلبلة في المتاحف لتصبح هذه الجهود جزءًا من حملة مستمرة من أجل تحقيق العدالة التصالحية للشعوب التي خضعت للإمبريالية. وهذه ليست حملة من الراديكاليين المتطرفين؛ ففي عام 2018، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قائلًا: «أريد أن أرى في غضون خمس سنوات أن الشروط قد تم استيفاؤها للاسترداد المؤقت أو الدائم للتراث الأفريقي إلى أفريقيا». ويجدر القول إن حوالي 90٪ من الأثريات الأفريقية محتجزة خارج القارة حسب تقرير صدر بتكليف من الرئيس ماكرون.

لقد أوضح المنسق والأكاديمي والمؤلف، دان هيكس، الحاجة الملحة لعملية إعادة الأثريات، وكان قد ذكر هذه القضية في كتابه «المتاحف الوحشية» أن العديد من المتاحف الأنثروبولوجية تدعم -في الواقع- الظلم الغاشم للحقبة الاستعمارية وتُديمه. فكل يوم يُفتتح متحفٌ يحتوي على هذه المقتنيات المنهوبة، هو يوم آخر لممارسة هذا الجبروت على أصحاب الممتلكات الأثرية.

تتزايد قضايا الاسترداد، وتشمل الخلافات البارزة مقتنيات أخرى مثل رخام البارثينون اليوناني والتماثيل المقدسة التابعة لسكان رابا نوي في جزيرة إيستر. وتكشف الخلافات حول هذه القضية عن مشكلة أكثر جوهرية للمتاحف وهي أزمة الغاية؛ غاية المتاحف.

مع ارتفاع مناشدات الاسترداد، نشر 18 متحفًا غنيًا بالموارد «الإعلان حول قيمة المتاحف العالمية وأهميتها» في عام 2002م.

كان أكثر من نصف المتاحف العالمية الموقعة على عهد الاسترداد تقع في دول ناطقة بالإنجليزية (anglophone)، وكانت جميعها موجودة في الغرب باستثناء متحف واحد. ويصح وصف الإعلان ذاته بأنه      كتب بلغة متغطرسة، وكان دفاعًا ضد الهجوم الساعي إلى الاسترداد ونزع الاستعمار. إذ يجمع بين إدانة الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية التاريخية ودعم فكرة أن «المتاحف لا تخدم مواطني أمة واحدة فقط، بل شعوب كل الأمم». ويدّعي مؤلفو الإعلان أن إعادة القطع الأثرية إلى موطنها الأصلي ستكون بمثابة «حصر نطاق» هذه المتاحف.

تمثال لنمر مُرَقَّط، بنين، 1550-1680م، برونز بنين متحف المتروبوليتان للفنون (مدينة نيويورك) الملكية العامة بواسطة CC0

أجندة لاواعية

منذ عام 2004م، أُلغيتْ كلمة «عالمية» من قاموس وصف المتاحف ليحل محلها «الموسوعية» أو «ثقافة العالم». أما في سياق مقالنا الحالي، سنتمسك بالمصطلح الأصلي «المتاحف العالمية» بما أنه مُعبّر جدًا عن خبايا متبنّية للمدافعين عنها.

إنّ للمتاحف العالمية وظيفتين متوازيتين، هما وظيفة واعية (ودقيقة) وأخرى لاواعية. وتتمثل الوظيفة الواعية في إنتاج رؤية ظاهرية شاملة للعالم تتكون من تمثيل منتقى للثقافات التاريخية والمعاصرة. فعندما تنظر إلى إحدى الخرائط لمثل هذه المتاحف، سترى أنها مقسمة إلى مواقع جغرافية وعصور تاريخية قسّمت بدقة.

غالبًا ما تفتخر المتاحف العالمية بأنها «شاملة ومتكاملة». على سبيل المثال، إن مهمة متحف المتروبوليتان للفنون، حسب موقعه الإلكتروني، تتضمن «جمع الأعمال الفنية المهمة لكافة العصور والثقافات ودراستها والاحتفاظ بها وعرضها من أجل ربط الناس بالإبداع والمعرفة والأفكار».

أما موقع المتحف البريطاني فيزعم -زعمًا معقولًا- أن: «لا يوجد متحف آخر مسؤول عن عرض المجموعات الفنية التي تحمل نفس العمق والسِّعة والقيمة والجمال». وأهم كلمة في هذه العبارة هي «مسؤول»؛ إذ إن المتاحف العالمية تظن نفسها وصيّة ومسؤولة عن الممتلكات الثمينة التي بحوزتها وتعمل بجد للحفاظ عليها.

تحرص العديد من المتاحف العالمية على إقناع الناس بفكرة أن ثقافات العالم لديها روابط وأوجه تشابه أكثر مما تبدو عليه. ويزعم المتحف البريطاني أن مجموعته الفنية ستسمح للزوار «بإدراك» (أي بمعرفة) كيف أن الثقافات «مترابطة ارتباطًا وثيقًا» خلف قناع التنوع.

ويتباهى متحف اللوفر أبوظبي بأن «تصميم معرضه الفريد يستكشف روابط الصلة بين الحضارات والثقافات التي قد تبدو في البداية متباعدة زمنيًا وجغرافيًا».

ما سبب هذا الشغل الشاغل المشترك بين المتاحف بكشف أوجه التشابه وراء الاختلافات الثقافية؟ ما المانع من استكشاف الاختلافات الثقافية والاحتفال بها وتقبل اختلافها كما هو؟ نجد الإجابة في وظيفة المتاحف العالمية اللاواعية.

إنّ هذا المزج العالمي من القطع الأثرية الثقافية، وهذه الشركات «المسؤولة» التي ترى نفسها وصيّة على التراث العالمي، لها تأثير في جعل الثقافات متساوية مع بعضها البعض بإلغاء سماتها المتفردة.

يتجلى ضرب من ضروب الأيديولوجية الثقافية في الإغفالات والافتراضات الضمنية للمتاحف العالمية. وهذه الأيديولوجيا ليست في مظهرها الشائع كاعتقادٍ مُعلَن، أو «مذهب فكري معيّن» مثل الليبرالية، بل أن الأيديولوجيا في هذا السياق هي بالأحرى نظرة للعالم مبنية على التحيزات والتصورات المسبقة. وهذا النوع من الأيديولوجيا غير واع على نحو كامل من حيث أنه تلقائي؛ فلا يرى صاحبها إلا جانبًا منها.

لذا ما هي الإغفالات والافتراضات الضمنية التي تقع في المتاحف؟ من الجلي أن الممتلكات قد جُرِّدتْ من طاقتها الروحية الأصلية، وأهميتها الشعائرية، وفائدتها الاجتماعية أو السياسية بغرض أن تكون مرئية للعين الأنثروبولوجية الغربية (أي أنها قد وُطدتْ لتناسب ميول الجمهور الغربي دون غيره). وهذا ما يُميّز بين الثقافة المُفترض أنها «رجعية»، والثقافة التقدمية التي تولت الوصاية على القطع الفنية لأهميتها الجمالية والعلمية.

من المفارقات أنك تجد الشؤون الإنسانية عامّةً حاضرة في محتوى المتحف «العالمي» باستثناء الشأن الأساسي الذي يقع على رأسها (الشأن الذي أتى بهذا المحتوى [=الاستعمار]). وإغفال هذا الشأن -أو بالأحرى، استثناؤه المبني على الامتياز- هو الخيط الذي يكشف السِّر. ويعدُّ خضوع الثقافات والشعوب الأخرى للانقسام والتصنيف الغربي، بحد ذاته عملًا مُثيرًا للجدل. ويدّعي دان هيكس أنه «وكما أن الحدود مهمة لفصل الدول، كذلك المتاحف بالنسبة للإمبراطورية، عبارة عن وسيلتين لتصنيف البشر إلى أنواع».

تُنسّق العروض الفنية الحديثة بحساسية شديدة لتخدم أغراض التعليم العام، إلا أنها تفترض وجود متفرج مثالي. ويشترط أن يكون هذا المتفرج غربيًا أو «مُغرَّبنًا» بما يكفي؛ ليغض الطرف عن الاختلافات الهائلة بين الثقافات. ولكنها تقدِّر أوجه التشابه بين هذه الثقافات التي تتماثل مع ما يفضّله الغرب في المجالات السياسية والروحية والأخلاقية والجمالية.

لذا فإنه يصح وصف هذه المتاحف بأنها -في آن واحد- واعية من حيث عالميتها وشموليتها، ولاواعية من حيث ضيق الأفق ومحدودية الفِكر. إذ إنها تُساوي جميع الثقافات وتصنفها إلى حكاية تبرز الرؤية الغربية للعالم، هذه الأفكار التي تميز نفسها عن الأعمال البدائية المعروضة.

إنها نظرة للعالم ترى الممتلكات المُجمَّعة المنهوبة حقًّا شرعيًا جماليًا عالميًا. وعلى هذا النحو، من الواجب إنقاذ هذه المقتنيات من المقاصد العملية لثقافات البلد المُضيف بقدر ما يتم إنقاذها من ويلات الزمن.

لا ننكر أن الموظفين الذين يعملون في متاحف عالمية يحترمون القطع الأثرية التي يرعونها، والثقافات التابعة لها. أما المتاحف، فمن المفترض أن تكون أكثر من مجرد تحصيل لأجزاء هذه القطع، وهي بالتأكيد أكثر من مجرد أشخاص متفانين وذوي نيّات حسنة يعملون بها. فمن الممكن لأي مؤسسة تحترم -بل حتى تحب القطع الأثرية الثقافية- أن تتعامل -في المقابل-  مع أي ثقافة بازدراء؛ تمامًا كما يمكن لكاره النساء أن يحب امرأة حسناء.

الاضطهاد الثقافي واستغلال خيرات الأرض وتصديرها

تدعو حملة الاسترداد ونزع الاستعمار إلى التشكيك في شرعية المتاحف العالمية وتشير إلى دورها في الهيمنة على ممتلكات الغير، سواء تفعل ذلك بوعي أو بدون وعي. وقد تكون خطوة استعادة فن بنين من عدة مجموعات فنية بمثابة نقطة التحوّل وهي اللحظة التي سيتم فيها استرجاع طرفًا من العدالة، وستواجه فيها المتاحف التي تحتوي على القطع الأثرية المسروقة أزمة تحوّلية.

وطالما تحدثنا عن العدالة، فإنّ رد الحقوق ونزع الاستعمار وحدهما ليسا كافيين للتعويض. فمع أن استرداد الحقوق جدير بالثناء، إلا أنه يوجد خطر من أن تنصرف سياسات الاسترداد عن مسار القضية الأوسع المتمثلة في «استغلال خيرات الأرض وتصديرها (Extractivism) «الذي يستمر حدوثه في دول الجنوب العالمي.

يعدُّ عرض القطع الأثرية الثقافية المنهوبة على مرأى الجميع، جزءًا لا يتجزأ من شبكة من الاستغلال المستمر. ويصح وصف المتاحف العالمية الغربية (والمُغرّبنة) ببساطة على أنها جزء من البنية الأساسية للهيمنة والنهب. ويُعرَّف «استغلال خيرات الأرض وتصديرها» بأنّه سلب جميع أنواع السلع، من النفط والمواد الغذائية إلى الألماس و «معادن الدم» مثل الكولتان (خام الكولمبايت-تانتاليات). وعلى حد تعبير الباحثة النظرية، أرييلا عائشة أزولاي: «يستحيل نزع استعمار من المتاحف دون نزع الاستعمار من العالم».

وتوجد أيضًا قيود أساسية لهذا الجانب بالتحديد من العدالة. ففي الواقع، لم يكن ثمة هيئة محايدة وتداولية لمراقبة إجراء استرداد القطع الأثرية المسروقة خلال الحقبة الاستعمارية وتنظيمه، ولن توجد في المستقبل أبدًا، مثل المحكمة الدولية لحقوق الإنسان الموجودة في الحاضر. إذ تُنفَّذ عملية الاسترداد على أساس كل حالة على حدة بالنسبة للمطالبين بذلك، وليس على أساس أي تدقيق عام وموضوعي للممتلكات.

يمكن لشعوب الصين واليونان ونيجيريا المطالبة باسترداد القطع الأثرية المنهوبة؛ ذلك بالاستفادة من النفوذ الاقتصادي الوطني. بينما لا ينطبق الأمر ذاته لشعب الكونغو أو إقليم دارفور في السودان، ولا الشعوب الأصلية في دول مثل البرازيل وأستراليا والولايات المتحدة، فهذه الشعوب ليس لها دولة تمثلها بسبب الانهيار المجتمعي نتيجة الحرب أو الإهمال نتيجة القهر.

ولا يقدر النشطاء ذوو النيّات الحسنة الانغماس في حرب خيالية بين الخير والشر -كالخيال الموجود في سلسلة أفلام حرب النجوم (Star Wars) – عندما يتعلق الأمر بإعادة تقييم وإعادة سرد تاريخ المواد المنهوبة. ففي الحقيقة، كل الإمبراطوريات بشعة ومُشوَّهة بطريقتها الخاصة، وإمبراطورية بنين -على سبيل المثال- لم تختلف عنها. فقد أخضعت بنين شعوبًا عديدة تحت الحكم الاستبدادي لعائلة أوباس؛ ذلك بوسائل تشمل الإكراه الوحشي، بالإضافة إلى القوة الأيديولوجية الناعمة لصنائعها اليدوية.

وبينما كانت الإمبراطورية البريطانية تمتلك مدافع للرشاشات وصواريخ، كان -في المقابل- لقبائل أوباس طريقتها الخاصة في ترهيب أولئك الذين حكمتهم. وقد شهد الجنود البريطانيون الذين ساروا إلى عاصمة بنين المشهد المروع للقرابين البشرية من العبيد أو الأسرى، وهي إحدى أدوات الإرهاب التي حكم بها أوباس.

لدى فن بنين وظائف أيديولوجية مماثلة لأي فن آخر صُنع لخدمة أي قوة إمبريالية. وعلى ما يبدو، تخدم الأعمال الفنية خصيصّا لتمجيد سيادة أوباس. وتكشف لوحات القصر عن القليل جدًا من حياة سكان بنين العاديين؛ فلا شيء يخص النساء أو الأطفال، وبالتأكيد لا شيء يتعلق بأولئك الذين تم غزوهم وإخضاعهم لإمبراطورية أوباس العظيمة. بالإضافة إلى حكام أوباس، فإن فن بنين لم يبرز سوى أولئك الذين دعموا القوة الإمبريالية؛ مثل الجنود، وفناني الأداء، والخدم، والأوروبيين الذين جلبوا المانيلاس (شكل من أشكال النقود السلعية) والبنادق مقابل شراء العبيد والعاج وزيت النخيل.

لم ينتمِ أبدًا فن بنين لـ «شعب بنين»، كما أن انتماء المجموعة الملكية البريطانية لم تنتمِ إلى الرعايا البريطانيين. إن السماح لفن بنين بالفرار من ذات الفحص الدقيق الذي فرّ منه الفن البريطاني في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، ينتج عنه الإغفالات والافتراضات ذاتها التي تؤدي إلى ممارسة الظلم الغاشم ضد الثقافات المقهورة. وهذا الأمر يحرم شعوب تلك الثقافات من القوة التي يُفترض أن يمتلكها رعايا النقد الأخلاقي.

كان الاستعمار الأوروبي إضافةً مروعة وتصعيدًا لتاريخ طويل من القبائل والدول والإمبراطوريات المتحاربة وممارسة القهر والسرقة التي أقرتها الدولة. ولم تكن الغاية في تجريد غير الأوروبيين من إنسانيتهم في حد ذاتها، إنما كانت وسيلة لتحقيق غايات القهر. وفي حين أن العالم الغربي كان (وما يزال) يمتلك وسائلًا مُبتكرة لتجريد ضحاياه من إنسانيتهم، فإن هذه الممارسة ليست ابتكارًا أوروبيًا حديثًا.

إنّ كافة هذه الأمور لا تُصوِّر النهب على أنه حقّ، لكنها تُظهر بالفعل أنه لا توجد حكاية أخلاقية مبسطة يكون فيها الاسترداد خاتمة الحكاية، بل أن الاسترداد ونزع الاستعمار ما هو إلا بداية لإعادة بناء غاية المتاحف؛ باعتبارها ليست فقط أماكن لإيقاظ «الوعي أو الضمير» (كما يقول هيكس)، ولكنها أيضًا مُنشآت بالغة الأهمية تُساهم في بناء كوكب أكثر عدلًا وإنصافًا.

المتاحف المستقبلية

ما الذي قد يحل محل الفكرة الميتة لـ «المتاحف العالمية»؟ وكيف تبدو أفضل المتاحف في المستقبل؟ أولًا، من الأجدر للمتاحف الثقافية أن تصوِّر التاريخ ليس على أنه عصور سابقة مميزة ولكن بمثابة سلسلة متصلة تبدأ من الماضي وتتدفق حتى الحاضر.

سيكون لدى أفضل المتاحف روايات تسترشد بالمنتمين للمجتمعات التي تخدمها، بدلًا من أوصياء النخبة. وستكون أماكن محايدة وآمنة للنقاش وستؤدي دورًا نشطًا في تشكيل الثقافة المحلية والوطنية والدولية. بالإضافة أنها ستكون متعددة التخصصات ومتاحة لاستقبال فرص جديدة لتفسير التاريخ وتخمينه.

ويجدر القول إن هذه الرؤية ليست خيالًا محضًا، بل إن هذه المتاحف آخذة في الظهور بالفعل. وفي الواقع، تقود المتاحف الحديثة في منطقة الجنوب العالمي المسارَ في توسيع اختصاصات دور المتاحف ونطاقه في المجتمع.

على سبيل المثال، قصر لومي (Palais de Lomé) في توغو هو قصر الحاكم الاستعماري المُسترَد. ويضم اليوم المبنى، الذي كان في يوم من الأيام رمزًا للهيمنة، منظمة تعمل في «إعادة اختراع التراث الطبيعي والتاريخي لتعزيز المواهب الإبداعية في إفريقيا». ويدرج المتحف والمنتزه الترفيهي ضمن أولوياته الالتزامات الملهمة للإبداع والتنوع البيولوجي. وكما تشمل اختصاصاته المتعددة علم النبات والأداء الموسيقي وفن الطبخ.

وفي الختام، إنّ من سخرية القدر أن تساهم العولمة في انقراض المتاحف العالمية. ويصح القول إن استرداد الممتلكات المنهوبة ونزع الاستعمار لا يعني نهاية المتاحف، ومن المؤكد أنه لن يُنهي الثقافة البارزة لأفضل متاحف العالم، ولن «يحصر نطاقها» مثلما حذّر إعلان عام 2002. وكما يشير النشطاء، فإن مثل هذه الإجراءات ستأتي بموجة جديدة من الابتكارات في المتاحف وتوسّع نطاق كتب التاريخ؛ مما سيجلب نسيجًا أكثر ثراءً وتنوعًا لتواريخ تخدم المجتمعات بشكل متساوٍ في جميع أنحاء العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى