مقالات

عمّار الشريعي في ميزان التأليف الكلاسيكي – كريم الصياد

في لحظة بعينها، في ثمانينات القرن العشرين، وعلى مستوى قطري، وإقليمي عربي، لم يعد عمار الشريعي (1948-2012) مجرد ملحن أغانٍ لمطربين شباب صاعدين، أو واضع موسيقى تصويرية للأفلام والمسلسلات العربية. في لحظة ما صار الشريعي رمزًا من الرموز الوطنية بالنسبة للمصرين، بل وللعرب عمومًا، هي لحظة وضعه لموسيقى أشهر مسلسلين مصريين للجاسوسية: “دموع في عيون وقحة”-1980، و”رأفت الهجان”-1988. ولذلك سببان: الأول: هو مضمون الدراما المقدمة في العملين؛ أي العمليات الناجحة، التي قام بها كل من العميلين المصريين أحمد الهوان (1939-2011)، ورفعت الجمال (1927-1982) على الترتيب إبان الحرب الباردة، والساخنة، مع إسرائيل. فقد سجلت روايتا صالح مرسي (ت 1996 م)، التي أُخذت منها –بعد معالجة أدبية- قصة كل من المسلسلين، بطولةً حقيقية من واقع ملفات المخابرات العامة المصرية في وقت اندحار القومية العربية، وشعور المواطن العربي بلزوجة الواقع السياسي والاجتماعي، وافتقاره إلى رموز وطنية، وخاصة في الحالة المصرية بدءًا من أواخر سبعينات القرن العشرين. وقد اشتهر إلى حد أوسع في الجغرافيا، وأطول عمرًا في الذاكرة، مسلسلُ “رأفت الهجان”؛ إذ هو يحكي قصةً أكثر تفصيلاً، وأطول زمنًا مقارنة بمسلسلِ “دموع في عيون وقحة” المختصَرِ المُفيد، حتى وصل عدد أجزاء الأول إلى ثلاثة، بينما اقتصر الثاني على جزء واحد.

أما السبب الثاني: فهو موسيقى الشريعي نفسها لمقدمة كل من العملين. وقد خصصت القول على موسيقى المقدمة في المسلسلين؛ لأن موسيقى الختام أقل في التفاصيل، وأقرب فعلاً إلى ختام سريع، ولأن الموسيقى التصويرية داخل المسلسل مجرد تنويعات على موسيقى المقدمة. لقد وصل الشريعي بهذا التقديم إلى قمة ما وضع فيه فعلاً موضوعًا، وتأليفًا، بلا منافسة تقريبًا؛ فلا نكاد نجد في هذه الساحة من ينافسه في الحس الدرامي، والتركيب الموسيقي، وتوظيف الآلات الإيقاعية، وإنماء الألحان –كما سنرى بالتفصيل لاحقًا- فحتى عمر خيرت أو ياسر عبد الرحمن لم يصلا إلى هذه الطاقة الدرامية المشعَّة، ولا جمال الألحان، وأصالتها. واللحن موهبة لا يمكن تَعلمها، كما قال سيد موسيقيي القرن الشعرين إيجور سترافنسكي (ت 1971 م) في “بلاغة الموسيقى”.[1] للدراما حضور قوي في أعمال عمر خيرت، لكنها مبتورة، وسرعان ما تتقمص الثوب الراقص، فيبرز دور الإيقاع حثيثًا، لتصير المقطوعة أقرب إلى رقصة ذات افتتاح درامي، تعتمد على التكرار أكثر من الإنماء بوضوح، بخلاف موسيقى الشريعي. هذا رغم أن الأقرب إلى العدل قولنا إن ألحان خيرت هي التي عاشت وانتشرت بدرجة أكبر بالمقارنة بألحان الشريعي. وهذا يرجع إلى سهولة تلقي العمل التكراري كالساعة، كما يقدم خيرت، مقارنةً بالعمل الإنمائي الطولي، كما يؤلفه الشريعي. وهذه الملاحظة الأخيرة هي النقطة المركزية للطرح الحالي: فالإنماء أهم ملمح للموسيقى الكلاسيكية، وسبب صعوبة تلقيها بالنسبة لمستمع الموسيقى العربية. وقد وضع الشريعي نماذج من الموسيقى على الصيغ الكلاسيكية مثل “كونشرتو لآلة العود والأوركسترا”، و”متتالية على ألحان عربية” (عزفهما أوركسترا عُمان السيمفوني 2005)، لكنها ليست الأعمال المعبّرة عن جل إنتاج الشريعي الموسيقي الموزع بين تلحين الأغاني، وتأليف الموسيقى التصويرية. كما أن التجديد، والتجريب، في صيغة نخبوية كالكونشرتو، الذي لن يهتم به سوى مستمع الموسيقى الكلاسيكية النادر بين العرب، لن يكون له تأثير عميق ومستمر، بخلاف التجريب والتجديد في موسيقى المسلسل، التي تدخل كل بيت، وفي عمل ذي شعبية كبيرة مثل العملين سابقَي الذكر.

وفي مقالات سابقة تحدثنا عمّا هو “كلاسيكي” في الموسيقى الكلاسيكية.[2] وقلنا إن الفارق الجوهري، الذي يغلب شتى الفروق العديدة، بين الموسيقى العربية، والموسيقى الكلاسيكية، هو الاشتقاق اللحني. ويعني ذلك أن الموسيقى، كي تكون “كلاسيكية” نوعًا، لا تحقيبًا زمنيًا، عليها أن تتعمَّد البناء من وحدة لحنية واحدة أوّلية، ثم تشييد العمل على أساسها بالتنويع، والفك، وإعادة التركيب، ومختَلَف تقنيات الإنماء المعروفة. وبخلاف ذلك تعتمد الموسيقى العربية على مجموعة من الألحان للأغنية، أو المقطوعة التقديمية، أو الفاصلة الموسيقية،.. إلخ، يجمع بينها وحدة الكلمات في الأغنية، والطابع العام، والتوزيع الأوركسترالي، والإيقاع، لكنها ليست مشتقة من أصل واحد، ولا ترتكز على الإنماء. الفارق الثاني غير الجوهري، ولكن المهم مع ذلك، هو الصيغة. فالأعمال الكلاسيكية تتمتع بصيغة واضحة، ولا نعني بهذا صيغ الأشكال المعروفة كالسيمفونية والكونشرتو والفوجه.. إلخ، بل البنية الخاصة بالموسيقار داخل الشكل. إن الأشكال الكلاسيكية كبحور الشعر؛ ذات قواعد صارمة، ولكنها تسمح بقدر من حرية الحركة. وهذا الهامش من الحرية هو الأهم في مطالعة بنية العمل الفني؛ فالقواعد الشكلية لشكلٍ ما معروفة، ولكن كيف يتحرر منها الفنان هو ما نراه ونسمعه في الفن. ومع هذا التمييز السابق نتساءل: إلى أي حد يمكن اعتبار موسيقى الشريعي “كلاسيكية”؟

رغم أن موسيقى “دموع في عيونٍ وقحة” كانت أسبق بسنوات من موسيقى “رأفت الهجان”، فإنها الأجمل في الألحان، والأكثر اتزانًا في التوزيع، وهي التي يتبدى فيها عنصر الإنماء، أي الاشتقاق، بدرجة أكبر. تبدأ مقدمة مسلسل “دموع في عيونٍ وقحة” بضربة على الطبل، ثم تبدأ الوتريات الغليظة في عزف مارش مضطرب سريع، يعلوه تنويع على اللحن الأساسي بالكمان. بعدها يدخل الكورنو ليضفي الطابع العسكري على المقطوعة، ويضطرب الإيقاع أكثر، ليوحي بجو من الترقّب، ثم يظهر اللحن الأساسي مكتملاً بالكمان. وعندما يظهر اللحن الأساسي يستقر الإيقاع، ويظل كامنًا، متحركًا، في الخلفية، حتى يظهر اللحن الثاني المختلف في الطابع؛ فاللحن الأول مقبِض، يوحي بجو التآمر، وخطورة العمل السري، لكن الثاني يعبر عن الحب، الذي يلقاه البطل في مغامرته المصيرية. وقرب انتصاف المقطوعة يظهر لحن ثالث بالناي، لينقل المستمع إلى الجو المصري بخاصة. وفي النهاية يعود اللحن الأساسي، بإيقاعه القوي الواضح، ليختتم العمل. العمل يعبر إذن عن ثلاثة عناصر شعورية: الخطر، الحب، الوطن. وهي العناصر المقابلة للألحان الثلاثة الأساسية فيه كما رأينا. العمل “دموع”، ولكنها في عيون العدوّ، وهو ما يعبر عن الجانب الهشّ في البطولة؛ فهي ألم، ومعاناة، قبل أن تكون فرحًا، ونصرًا. عنوان العمل يطرح سؤالاً مباطِنًا: هل من الغريب أن نرى الدموع في العيون الوقحة؟ وهو ما يتساوق مع فكرتنا عن الشر؛ كونه بلا مشاعر. ولكننا إذ نرى الدموع في أعين الآخَر، فهو إعلان تلقائي عن انتصار الأنا.

وإذا قمنا بتحليل بنيوي للعمل لقلنا إنه يتكون من أربعة أجزاء أساسية: 1- المقدمة، ومنها ينشأ اللحن الأساسي، 2- واللحن الأساسي أو الأول، وهو الذي يلفّ المقطوعة ككل، 3- واللحن الثاني، وهو لحن الحب، 4- وأخيرًا اللحن الثالث وهو لحن الوطن. وفي الصيغ الكلاسيكية فإن ما يناظر هذا التركيب بالدرجة الأكبر من الدقة هو صيغة الرونْدُو، التي تعتمد على لحن أساسي يظهر في البداية، يليه لحن ثان، ثم اللحن الأساسي، يليه لحن ثالث، ثم اللحن الأساسي، وهكذا. ويمكن القول في عمل الشريعي المذكور إنه استعمل في الحقيقة لحنًا واحدًا، ومنه اشتق لحنين مختلفين في الطابع. وهذا ليس غريبًا على التأليف الكلاسيكي؛ فأقرب مثال يتبادر إلى أذهاننا بصدد النقطة الأخيرة هي الحركة الأولى من سيمفونية بيتهوفن الخامسة، التي لا تتضمن سوى لحن واحد مع تنويعات واشتقاقات. ولكن وجه الشبه الثاني المهم مع خامسة بيتهوفن هو الإيقاع المصاحب للحن الأساسي لدى الشريعي؛ فقد استعمل بيتهوفن ضربات القدر الرباعية (صول صول صول مي بيمول) في الخلفية وراء اللحن الثاني، بحيث لا تصمت طيلة الحركة تقريبًا. وقد استعمل الشريعي ست نغمات في الخلفية بصورة مشابهة. وكل من الضربات، الأربع، أو الست، ليس لحنًا، بل (تيمة) theme، تصوِّر سيطرة اللحن الأساسي على العمل. وهي البنية الرباعية ذاتها تقريبًا التي سنجدها في مقدمة “رأفت الهجان”؛ البداية بضربة أوركسترالية، ثم اللحن التقديمي المشتق من اللحن الأساسي، يليه لحن ثان مشتق بدوره، ثم لحن ثالث، ثم يعود اللحن التقديمي ليختم العمل. وحين تتكرر البنية، كما رأينا في عملين؛ بحيث يمكن رسم خط مستقيم اعتمادًا على نقطتين، فهو دليل في ذاته على وجود هذه البنية في عقل المؤلف.

إذن فقد طبّق الشريعي تقنية التنويعات بدرجة ملحوظة، وهي جانب مهم من الاشتقاق، هذا رغم جمال ألحانه، الذي قد يعوق الموسيقار في عمليات الفك والتركيب اللحنية. كما أن اللحن الأساسي لا يظهر فجأة وكأنه معد مسبقًا، وهي خصيصة في الموسيقى الغنائية، ومنها الموسيقى العربية. يظهر اللحن الأساسي لدى الشريعي، كما هو واضح في التحليل البنيوي السابق، بعد التقديم. ونظرًا لأن التقديم هو في الأصل تنويع على اللحن الأساسي، فإن اللحن الأساسي يبدو نتيجةً تلقائية للتقديم. ومن المؤكد أن موسيقى الشريعي موسيقى غنائية بامتياز، أي تشتمل في كل مقطوعة على لحن كامل التبلور، يبدو هدفًا للعمل ككل. ومن الواضح كذلك أن هذا العمل محل التحليل الحالي ليس اشتقاقيًا بصورة كاملة، ومع ذلك فالعمل يعتمد بقوة على التنويعات وهي من أسس الاشتقاق، ويقتصد في التوزيع، ويتمتع بفصاحة ميلودية قوية. وقد يكون الأقرب مثالاً للشريعي من بيتهوفن هو رحمانينوف؛ فالموسيقى الروسية كالعربية في جانب مركزية اللحن، وقد تمتع رحمانينوف، كالشريعي، بموهبة ميلودية هائلة، ولكنه تغلب على غواية اللحن بجعله الهدف الأسمى للعمل عبر مراحل من الفك، والتركيب، والإنماء. ونجد في النموذجين: رحمانينوف، والشريعي، درجة جيدة من التوازن بين اللحن، وبين التركيب، دون خسارة أي منهما.

وفي الختام: إلى أي حدٍ كان الشريعي “كلاسيكيًا” في التأليف بشكل ما؟ إذا قلنا –كما قلنا في صدارة المقال- إن خاصّة الموسيقى الكلاسيكية هي الاشتقاق، ثم الصيغة، فإن الشريعي قد حقق قدرًا مهمًا من الإنماء في الانتقال من التقديم إلى اللحن الأساسي، ثم في اشتقاق ألحان المقطوعة كلها من ذلك اللحن. أما الصيغة فهي تتطلب تحليل أكثر من عمل للمؤلف نفسه، وقد رأينا كيف هي حاضرة في عملين مختلفين له فيما سبق. ومن ناحية البوليفونية –تعدد الأصوات المميز للموسيقى الغربية- فقد أدرك الشريعي كذلك نصيبًا منه في الضربات الست، ذلك المارش المقبِض القوي، الذي يصاحب اللحن الأساسي كلما تكرر. لا يمكن أن نقول عن تلكم الضربات الست إنها لحن، وبالتالي قد لا يجوز أن نحدد مواضع بعينها للكونترابنط –سماع أكثر من لحن في وقت واحد- في هذه المقطوعة، ولكنها من نماذج البوليفونية في الموسيقى العربية على كل حال، وهي نادرة. وربما كان الأهم من كل ذلك أمران: الأول أن هذه المقطوعة نموذج من نماذج الموسيقى الخالصة عند العرب؛ فهي غير مصحوبة بمشهد أو كلمات. صحيح أنها مؤلَّفة كتقديم لعمل درامي، ولكن التعبير عن الموضوع ببلاغة الموسيقى وحدها أقرب إلى الموسيقى الخالصة من الموسيقى ذات البرنامج أو الأغنية. الأمر الثاني: هو السياق الثقافي للمؤلف؛ فمثل هذه المقطوعة لو وضعها موسيقار غربي في الثمانينات لما كانت لها الأهمية ذاتها؛ فالموسيقى الغربية تعرف جيدًا الموسيقى الخالصة، والإنماء، إلخ، ولكن حين يقوم موسيقار عربي بوضع موسيقى خالصة، أو أقرب إلى الخلاص، في وسيط إعلامي شائع، هو التليفزيون، بحيث تسمعها، وتألفها، الأسرة المصرية والعربية، فهو لَتحدٍّ في حد ذاته، وجانب مهم من جوانب التجديد.

 

 


 

[1] – Igor Stravinsky, Poetics of Music- In the Form of Six Lessons, translated by Arthur Knodel and Ingolf Dahl Harvard University Press – Cambridge – 1947, p. 39.

[2] – الصياد، كريم: “ما الذي منع الموسيقى العربية أن تكون “كلاسيكية؟ وما الذي جعل الغربية كلاسيكية؟” منصة معنى، 8-1-2020.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى