لم أُولَدْ لأعرفَ أَنني سأموتُ، بل لأُحبّ محتوياتِ ظلِّ اللهِ.
محمود درويش
كتبتُ هذا المقال وأنا في حيرة، ما بين خوفٍ من تأثيره السلبي على القراء، ونفعه لأصحاب الأفكار الانتحارية، حيث تقول بعض الدراسات أن الحديث عن الانتحار كثيرًا يكون محرضًّا عليه، مما دفع الأطباء إلى إضافة سؤال (هل قرأ المريض كتابًا أدبيًّا عن الانتحار؟) إلى قائمة الأسئلة المطروحة على المرضى في تقييم خطر الانتحار عليهم. أحاول التغلب على هذا الأثر السلبي بتخفيف “شاعرية الانتحار” التي تروّج لها كثيرٌ من الكتابات. فلا أريد التشويق للانتحار وإسباغ الجمالية عليه كما فعل بعض الشعراء، ومنهم وديع سعادة، إذ يقول “: “أجْمَلُنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم شيء. الذين خطوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه”.
إن مقالي وإن كان مقصورًا على سير المنتحرين الذين هم بالأغلب من الكتّاب والمثقفين الذين سطروا رحلاتهم، فلا يعني صحة قول المفكر البحريني محمد الأنصاري في كتابه انتحار المثقفين العرب: “الانتحار في الأغلب ما زال مقتصرًا على المثقفين الذين تعذّب الأوضاع القاسية ضمائرهم وتدمي نفوسهم”، وكأن في قوله إشارة إلى احتكار المثقفين للضمائر الحساسة والنفوس المعذبة، وهو ما تنفيه إحصائيات الانتحار وأخباره المتزايدة يومًا بعد يوم.
عبء السؤال
أهداني أستاذ الأدب جوزف لُبّس مجموعة أعماله، وكان منها “كتاب أخي”، الذي كتبه بعد انتحار أخيه ألفونس، وهو ابن الرابعة والعشرين؛ محاولًا استنطاق الحادثة لمعرفة أسباب الانتحار التي لم تكن أبدًا ظاهرة له قبل ذلك، فغالبًا ما يترك الانتحارُ الناجين محمّلين بعبء سؤال: لماذا؟ ما الذي كان يمكن القيام به لتفادي ذلك؟
“كتاب أخي” مقسّم إلى قسمين، الأول عنوانه: “كتبتُ”، وفيه دراسة وافية عن الانتحار ومبرراته وشيء من تاريخه وموقف المسيحية منه. والقسم الثاني عنوانه: “كتبتَ”، جمع فيه جوزف أوراق أخيه وخواطره المكتوبة على كتبه ومذكراته، بل حتى اقتباساته التي كان يحتفظ بها كرسائل حياة. الجمل التي نحددها في الكتب، ستُقرأ بعد رحيلنا كرسائلنا الأخيرة. كما رسم الشاعر الألماني باول تسيلان خطًّا تحت جملة من السيرة الذاتية لهولدرلين تقول: “أحيانًا تظلم هذه العبقرية وتغوص في مرارة رغبة القلب”، ثم أغرق نفسه في نهر السين.
من المثير للدهشة أنه لا يُعرَف الكثير عن تأثير الانتحار على غير الوالدين، كالأشقاء والأصدقاء، والأساتذة الذين نادرًا ما يدخلون في إطار البحث الطبي والاجتماعي الذي يقام بعد كل انتحار، لكننا نجد في هذا الكتاب مشاعر أخٍ فقد أخيه، وما واجهه من صعوبات وهواجس وملامات من نفسه قبل المجتمع.
الشعور بالذنب أمر معتاد ومؤذٍ بعد الانتحار. يتحسّر جوزف ويلوم نفسه على عدم فهمه لإشاراتٍ بات يرى أن أخاه كان يرسلها قبل انتحاره، “كان ينظر هذه النظرة المستطلعة باحثًا في عيوننا عن نظرة تقيم له حدودًا، فقد أطاحت متاهة المرايا بصورته الحقيقية. وأحيانًا، كان يغمض عينيه أو يحني رأسه… لم أفهم هذه الإشارات إلا بعد أن قرأتها في الكتب.. بعد فوات الأوان”. ومن أجل ألا يفوت الأوان على غيره نحتاج لقراءات في سير المنتحرين وكتب الانتحار وأكثر من ذلك.
وإن كان يشتم أخاه بين فترة وأخرى على ما خلّفه له من شعور بالغضب، غضبٌ تجاه الآخر وتجاه نفسه وتجاه من رحل، فقد كان يشتم المجتمع الذي لم يكتفِ برحيل أخيه من سوء معاملته له، فبات يلاحقه (أي المجتمع يلاحق جوزف) صباح مساء. فكان عليه هو وبقية أسرته أن يخضعوا لتحقيقات واستجوابات، في منزلهم وخارجه، يدورون ململِمِين جراحهم بين ثكنة ومحكمة، ومن ضابط إلى ضابط، يستجدون أغراض أخيهم ويبحثون عن دفاتره. الانتحار فعلٌ مُشينٌ مهين، أسوأ ما يمكن أن يحدث لإنسان، أسوأ من الإعدام، وأسوأ من السرطان! كما يرى جوزف. وإن رأى كاتب السير الذاتية الشهير ميشال ليريس في حرف (S) الذي تبدأ به لفظة انتحار (Suicide) شكلًا منحنيًا لجسد يلتوي وهو على وشك السقوط وشكلًا منحنيًا لِنَصْل، فقد كان جوزف يرى في حرف الحاء المتوسط كلمة انتحار، نحرًا مذبوحًا مفتوحًا يتدفق من ثقبه النجيع ويسمع فيه حشرجة محتضر.
لجأ إلى دراسة الكتب التي تتحدث عن الانتحار، باحثًا فيها عن مواساة وتصبّر، ومساعدة لإخراج كتابات أخيه، وفرّغت أمه أحزانها ودموعها على هيئة ألوان، فخرجت لوحاتها تُحفًا جمالية تُشبه أغاني لبنان الشعبية، فزينوا بها صالة منزلهم التي استقبلوني بها عندما زرته، ليؤكد كل واحد منهم على أن المعرفة قوة، وأن في الأدب والفن سلوان الأحزان.
القبح والانتحار
من أشهر مَن تعاطف معه القراءُ العرب من الأدباء المنتحرين هو محمد رجاء عليش الذي انتحر بعد حياةٍ عصيبة ختمها في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل على شارع بغداد بالقاهرة، بأربع طلقات لم تستقر سوى واحدة منها في رأسه حوَّلته أشلاءً مبعثرة داخل سيارته الحمراء، ليودّع الكتابة التي عاش لها، والحياة التي أحبها، بعدما تحولت حياته من الهدوء إلى الضجيج، ومن النور إلى العتمة، ومن السكينة إلى الضغينة، ومن النعيم إلى الجحيم، بعد أن صرخ بكتابين لم تزعج أحدًا، صرخته الأولى على هيئة مجموعات قصصية بعنوان “لا تولد قبيحًا”، والثانية بصوت أقوى وصفحات أكثر وعنوان أصرح “كلهم أعدائي”، كلاهما بمثابة السيرة الذاتية له. رحلة مليئة بالتجاهل والغمز واللمز والسخرية والكراهية، تتطلب التسلّح بالهدوء والصبر والقوة والتماسك لقراءتها.
في كتابه الأول يظهر رجاء عليش الصلب، المواجه لسلسلة من الانفجارات المتوالية في حياته، ويستغرب من نفسه أنه “لم أتحطم حتى الآن أو أتناثر على الأرض فأنا مخلوق من مادة قابلة للالتحام السريع، مصممة ضد أقصى أنواع الصدمات والانفجارات”. لكن روحه المرهفة ومشاعره الحساسة هي مأساته الحقيقية، مشكلته “التناقض الصارخ بين شكلي وحقیقتي ولو أنهم وزعوا الجمال ليتلاءم مع إحساس الإنسان الداخلي لكنت أستحق شكلًا أفضل بالتأكيد”. ذات التطوّر سجّله سيزار بافيز في مذكراته التي كتبها في آخر سنة من حياته الغارقة في ألم لا محدود، قائلًا: “ها هو إيقاع المعاناة قد بدأ، في كل غسق ينقبض قلبي حتى يحل الليل”، ثم لاحقًا، وليس قبل وقت طويل من قتل نفسه، كتب: “والآن، حتى الصباحات صارت ملأى بالألم”. إن الانتحار محطة بعد طريق طويل وليس حفرة مفاجئة.
كان عليش قد استقال من عمله باحثًا قانونيًّا في وزارة الخارجية عام 1958م، وصار روتين يومه رتيبًا يبدأ بالفطور في أحد مطاعم القاهرة ويتخلله مشاهدات في السينما، وإنهائه بالقراءة حتى وقت متأخر من الليل بالمنزل. استمرت حياته هكذا حتى بدأت تراوده فكرة الانتحار، واشترى سلاحًا وبدأ يتدرب على إطلاق النار في صحراء مدينة نصر، استعدادًا للنهاية التي اختارها لنفسه.
بدأ يرتّب أوضاعه وأفكاره وأحلامه التي كان يتمناها بعد موته، أرسل خطابًا للأديب توفيق الحكيم بصفته رئيس اتحاد الكتّاب، يعرض عليه ما يملكه من ثروة مع رغبة شديدة للمساهمة في تنشيط الحركة الثقافية ويرغب في تخصيص جزء من ثروته لجمعية الأدباء واتحاد الكتّاب مناصفة، والنصف الآخر لصفحة “أخبار الأدب” لأنهم الوحيدين الذين نشروا له وتفاعلوا مع أعماله، مع إهداء مكتبته التي تضم أكثر من 1200 كتابًا. واستمرارًا للإهمال الذي لاقاه في حياته، لم يردّ عليه أحد، فقرر أن يتجه إلى طريق آخر، وغيّر وجهته إلى كتابة وصية رسمية؛ فربما يسمعون صوته بعد موته، طالما رفضوا أن يسمعوه وهو حي. فذهب وسجّل وصيته وأودعها في محضر رسمي، ثم عاد ليكمل التخطيط والتدبير، ويهيئ نفسه للانتحار.
الشخص الأقرب له قبل انتحاره كان محرر الصفحة الثقافية مصطفى عبدالله، الذي قرأ أعماله ونشرها له، واستكتب النقّاد أن يتفاعلوا لنقد أعماله، مما أسعد عليش كثيرًا، لكنه جهدٌ لم يكن كافيًّا لمنعه عن الانتحار، رغم تأخيره له عدة أشهر. نقل خيري حسن في كتابه “أرواح على الهامش” أحاديثه مع مصطفى عبدالله عن لقاءاتهم التي سبقت الانتحار ومبررات عليش في ذلك، كتجاهل الوسط الثقافي له وكراهية المجتمع لشكله.
حياة الأديب لم تكن قاسية ماديًّا، بل كان في رفاهية ويملك سيارة فاخرة، حتى أنه استأجر شقة خاصة قبيل انتحاره فقط ليفجرها انتقامًا من المجتمع، لكنها الرفاهية الكئيبة التي لا تُلبي احتياجات الروح الباحثة عن الحب والتقدير والاحترام، حتى قال في إهداء روايته “كلهم أعدائي”: “وزعت شبابي على نساء لم يحببني، ومنحتُ صداقاتي لرجال خانوني، وخسرتُ على طول الخط”!
كان قد جاوز الأربعين عامًا، واصفًا نفسه بقوله: “أنا رجل بلا امرأة، بلا حقل للقمح، بلا زجاجة نبيذ، بلا كرة للعب، بلا ذكريات مضيئة، بلا طريق للمستقبل. على قبري ستُكتب العبارة الآتية: هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته. أنا رجل تتبعه الضحكات والكلاب؛ ضحكات الناس ودعوات الكلاب. أنا رجل تلعنه المرأة في الشارع، وتحبه في السرير. أنا ملك يرتدي ثياب صعلوك. مفكر يلعب بدمية طفل صغير. مهرج يحاول أن يخلع قناع الضحك من فوق وجهه دون جدوى، فالطبيعة قد وضعته هناك، وألصقته جيداً، ليبقى إلى الأبد”.
مشكلة الإنسان القبيح كما يتحدث عنها أكثر مَن عانى منها هي في ذلك التربص القائم به من جانب الآخرين، وتذكيره دائمًا بنقصه، عبر النظر إليه باستغراب إذا ما حاول أن يمارس الحياة كشخص عادي. هذا الإذلال المستمر الذي يفضي تضخيم المشكلة أمامه، وتراجع الإقبال على الحياة الاعتيادية، وانهيار الصمود.
لم يكن لرجاء عليش طلبٌ في حياته، عاش له وتمناه، سوى أن يبتسم الناس في وجهه، لعل الابتسامة تكون طوق نجاة. وعندما تأكد أن المجتمع أبخل من أن يلبي طلبه الصغير، اتخذ قراره الأخير لمفارقة الحياة، وانتحر. لم يكن عليش الوحيد من الأدباء الذين يعانون من عقدة القبح، شاركه في ذلك الأديب الدنماركي هانز كريستيان أندرسون، صاحبُ الشكل القبيح، الذي يكتب عندما يريد أن ينام عبارة “لستُ ميتاً ولكنني أبدو كذلك!” ويضعها بجوار السرير. كتب قصة خيالية بعنوان “فرخ البط القبيح” تدور حول فرخ مظهره قبيح، لكن سرعان ما يصبح في غاية الجمال عندما يكبر ليكون أجمل طير، وكأنه يؤمل أن يكون هو.
على صعيد آخر، قد يكون الانتحار سببٌ لانتشار أعمال المنتحرين، فتعاطف القراء والتراجيديا المستصحبة مع خبر انتحار الكاتب تدفعهم للتفاعل مع أعماله، بل ودافعة لدور النشر والنقاد في استثمار أعماله تجاريًّا ونقديًّا أكثر مما تستحق. وكعادة المجتمع الذي يُقدّر الأموات أكثر من الأحياء، تعالت أصوات النقّاد تقييمًا لأعماله ومدحًا لها بعد وفاته وأعادت دور النشر طبع أعماله، وفي تصريح مواساة وتعزية يقول نجيب محفوظ عنه: “نحن لا نرضى أن يبلغ سوء الحالة لأحد إلى درجة التفتت؛ لذا يجب على الإنسان أن يواجه صعاب زمنه بقوة وصبر يعيناه على الاستمرار بالحياة”.
رسم النهاية
فان غوخ القائل: “لا يمكن أن يكون العمل معتدلًا ذا قيم وملوّنًا في ذات الوقت، فلا يمكنك أن تكون في القطب الشمالي وخط الاستواء في ذات اللحظة. يجب عليك اختيار مسارك وأيضًا ألوانك”، فقد صوّر “حقل القمح والغربان” الذي انتحر في مكان مشابه له، وكأن لوحته الأخيرة خطابُ وداع: حقلٌ ملتهب تحت الشمس يموج بالحياة ويتوهّج بالخير في طرف، وفي طرفٍ آخر يباسٌ وموت. سنابل ذهبية نارية بأعناقها الملتوية تلتحم بسماء زرقاء مدلهمة تُنذر بسرّ ما، بعاصفة. أسراب من الغربان السود تغطي وجه الشمس وتنقضّ ناعقة في الحقل، كأنها رماد الفحم المتبقي من العدم، ورسلٌ للموت لا يستطيع الحقل ردّها. وفي منتصف اللوحة طريقٌ ترابيٌّ أحمر ممزوج بأخضر متعرّج يمتدّ حتى يتلاشى في العمق البعيد. دربٌ مفتوحٌ على اللانهاية. أطلق الفنان آخر سهم في جعبته فغار في لحمه. بعد يومين يموت غوخ!
وكانت آخر لوحة للفنان الروسيّ الأصل نيقولا دو ستايل والذي انتحر برمي نفسه من نافذة محترفه الفني، لوحة شاسعة تحتفل بالصمت لكنها حملت عنوان “حفلة موسيقية”. خلفية حمراء قرمزية كالدم، بيانو أسود ضخم يشبه القبر، كمانٌ أصفر معلّق وحده بالهواء. أما الموسيقيّ فكان قد غادر القاعة. فتح النافذة وارتمى في الفراغ.
الكتابة والانتحار
ذكر غوته في سيرته الذاتية “الشعر والحقيقة”، أنه مع يقينه بسرعة أثر البندقية إلا أنه لم يقوَ على استخدامها في محاولاته للانتحار، وقد عدَل عنه بعد تفريغ حزنه وآلامه على فراق حبيبته فرتر في روايته العظيمة “آلام فرتر”؛ فقد ظل لفترة بعد انهيار حبه يفكر بالانتحار، ويضع تحت وسادته خنجرًا، يحاول أن يستجمع إرادته ليغرسه في قلبه، فيفشل كل ليلة. وحين تأكد من عجزه عن الانتحار، قرر أن يكتب قصة الحب الفاشل في رواية، وأن يقتل بطلها الحزين. وإن منَعَ الكتابُ صاحبَهُ من الانتحار، فقد أصبح محركًا لفيضٍ من الانتحارات، حتى مُنِع من التداول في إيطاليا وألمانيا والدنمارك بعد أن وُجِد بالقرب من أشخاص منتحرين. تجربة غوته تؤكد أن الأدب يمكن أن يحلّ محل الانتحار، وأن الكتابة تفريغ للأفكار واختبار لها على الأوراق بدلًا من الواقع، فالأدب تمرّد تجاه الحياة، وثيقة احتجاج مفتوحة. وهذا ما حاول غوته أن يوصله من خلال الرواية إلا أن القراء فهموه بشكل خاطئ، مما دفعه للتأسف على هذا الفهم، وأنه كان عليهم أن يكتبوا لا أن ينتحروا. إذا كان الانتحار هروب إلى الموت، فإن الكتابة هروب من الموت. لكن هل الكتابة دومًا منقذة؟
الروائي الياباني یوکیو میشیما، الذي كتب أول أعماله وهو في السادسة عشرة من عمره، وكتب خلال حياته مئة عمل أدبي، لاقى بعضها نجاحًا كبيرًا، بدأ يكتب أكبر أعماله، وهي رواية “بحر الخصب” من أربعة أجزاء، فوضع فيها عصير عمره كله، وفكره، وتجاربه كإنسان وأديب، وكان يقول لأصدقائه وهو يكتب روايته هذه أنه حين ينتهي من كتابتها لن يكون لديه ما يقوله بعدها للناس، وفي هذه الحالة لن يبقى أمامه سوى الانتحار!
لم يأخذ أصدقاؤه حديثَه مأخذ الجد. واستغرق میشیما خمس سنوات في كتابة عمله الكبير، وما إن انتهى منه، حتى أعلن أنه سينتحر انتحارًا علنيًّا؛ احتجاجًا على تغلغل القيم الغربية الحديثة في حياة اليابانيين، وإهدار تراث اليابان التقليدي في الفكر والسلوك. وفي اليوم المحدد، لفّ بكل هدوء حزامًا قطنيًّا حول وسطه، ثم أمسك بسيفه التقليدي، وأغمده في بطنه بثبات؛ وسقط على الأرض ينزف دمه، ومن حوله المصورون ومراسلو وكالات الأنباء يسجلون لحظة الانتحار، دون أي تدخل أو محاولة لمنع هذا الأديب العظيم من إنهاء حياته، وعمره لا يتجاوز الخمس والأربعين عامًا!
وبعد أن مات، قال بعض النقاد: إنه كان صادقًا في حزنه على انصراف بعض اليابانيين عن تقاليدهم القديمة، وتأثرهم بالسلوكيات الغربية. وقال آخرون: إنه في الحقيقة كان يستجيب لهاجس ظل يراوده معظم سنوات حياته ويطالبه بالانتحار. وقال آخرون: إنه لو عاش مئة سنة بعد وفاته، لما كتب شيئا يفوق رباعيته التي بلغ فيها قمة عطائه الأدبي، ولابد أنه كان يحس بأنه لن يستطيع أن يكتب شيئًا أفضل منها، أو يقترب من مستواها، فعرف أن ساعة النهاية قد حانت، واختار نهایته قبل أن يتعذب بنضوب الموهبة، والعجز عن الاستمرار.
فرجينيا وولف التي عانت من نوبات هوس واكتئاب، كتبت في أولى رسالتي انتحارها لزوجها: “ينتابني إحساس أكيد أنني أُجن مرة أخرى، أشعر بأننا لا نستطيع أن نخرج مرة أخرى من هذه الأوقات الصعبة. لن أتعافى هذه المرة، بدأت بسماع الأصوات، ولا أستطيع التركيز. لذا سأفعل ما يبدو أنه أفضل ما يُفعل”. وبعد أيام يسيرة، كتبت مرةً أخرى محاولةً تخفيف تأنيب الضمير عنه بعد انتحارها: “أيها الأعز، أود إخبارك أنك منحتني سعادة تامة. لا أحد كان بإمكانه أن يقوم بأكثر مما قمت به، أرجوك كن واثقًا بذلك. لكنني أعلم أنني لن أتخطى هذا الأمر أبدًا، إنني أُبدد حياتك. إنه هذا الجنون”. فرجينيا نشأت في أسرة مريضة بالاكتئاب الهوسي، فكان الانتحار خيارها الأول دائمًا، و”السؤال المطروح دائمًا إذا ما كنت أرغب في تجنب هذه الكآبة… هذه الأسابيع التسعة تدفع المرء للوثب في المياه العميقة… للقفز في البئر من دون حماية من هجوم الحقيقة”. ختمت رسالتها الثانية لزوجها بعد أن تمنّت له الأفضل بدونها بطلبها “هلّا تخلصت من كل أوراقي؟” بعدها قامت بتعبئة جيوبها بالحجارة الثقيلة وخاضت في النهر. علاقتها بالماء ليست عابرة، بل هي ثيمة أصيلة في أعمالها التي كان من المفترض التنبّه لها قبل إنهاء حياتها، ففي روايتها الأولى تصرح إحدى الشخصيات: “سأعطي أي شيء مقابل ضباب البحر”، وفي رواية “بين الفصول” ينتهي المطاف بالبطلة إلى هذا الاعتراف النذير: “سأهبط الممر الذي يؤدي إلى شجرة اللوز.. ليت الماء يغمرني”. لم تكن حياة وولف سوى مناوشات مستمرة مع الخسائر، خيبات متتالية ثقافية وعاطفية تؤكد تحليل الأنصاري في دوافع انتحار المثقف.
أما سيلفيا بلاث فكانت تعيش حياة رتيبة وسعيدة بعض الشيء مع زوجها تيد، لكنها بدأت تشعر بالسأم من تبعيّتها له وعدم قدرتها على التفرّد بذاتها ونيل الحظوة الثقافية بعيدًا عنه، ثم اكتشفت خيانته لها فأدخلت رأسها الفرن وانتحرت. نتاج بلاث ليس كثيرًا لكنه عميق، فقد تركت رواية وحيدة أشبه بالسيرة الذاتية ويوميات ورسائل وعدة قصائد. وإن لم تكتب سيرتها الذاتية بشكل صريح، إلا أن اليوميات والرسائل جزء من أدب السيرة، كما أنها تُقدّم المراحل الهامة التي ساهمت في نحت مسار التكوين النفسيّ للشخصيّة، كما تُقدّم صورة لتطورات الشخصيّة، وتحولاتها من الحبّ إلى الكراهية، والقوة إلى الضعف، والإقبال على الحياة إلى الانسحاب منها، والمرح إلى الاكتئاب، فالرّسائل رحلة في التاريخ المخفي، أو المسكوت عنه، خاصة لما تحمله من طابع الخصوصيّة بين المُرسِل والمُرسَل إليه، فالأساس الأوّل لكتابتها هو الكتمان بعدم إذاعتها على الناس، ومن ثمّ تكتسي طابع الصّدق في البوح والجرأة في المصارحة والمكاشفة، أكثر من الكتابات التي تنتمي إلى السيرة الذاتيّة الخالصة، فالأخيرة تكتنفها إكراهات كثيرة تحول دون قول الصدق الخالص.
القارئ الفاحص لرسائلها سيجد الكثير من الاعترافات والتصريحات بالرغبة بالانتحار سابقة على الخيانة، وفي تأمل رسائلها من بداية علاقتها مع زوجها الشاعر التي أغرمت به من أول لقاء بينهما حتى نهاية حياتها سيجد عالمًا من الغرائبية عن حياة المثقف بعيدًا عن الصُّورة المثاليّة التي يتخيُّلها أو يصنعها القراء عنه. وعندما أقول إن روايتها الوحيدة “الناقوس الزجاجي” أشبه بسيرة الذاتية، فهي تبدو كانعكاس للتحولات في علاقتها بزوجها. بطلة رواية فتاة أمريكية تدعى “إيستر غرينوود” في ريعان شبابها على شفا انهيار عصبي، حياة البطل لم تكن تنبئ بهذا المصير، وهو نفس ما كانت تشعر به سيلفيا عندما التقت بالشاعر الذي سيكون زوجها، فوصفُها له في رسالتها لأمها، يؤكد المفارقة التي صارت عليها حياتها فيما بعد.
خيبة الرجاء
يُرجع محمد جابر الأنصاري أسباب الانتحار التي انتشرت بين المثقفين في كتابه “انتحار المثقفين العرب” إلى سببين مهملين في الوقت الذي ترتفع أسهم سبب الخيبة الثقافية التي يبرر لها دائمًا، وهي: الأول: انعدام انسجام الشخص مع الآخرين والعالم بل ونفسه أيضًا، والثاني يتمثل في الفشل العاطفي، قائلًا: “في أساس انتحار كل مبدع تترسب إشكاليتان لا يمكن غض النظر عنهما وهما استحالة انسجام المبدع مع الآخرين أو الواقع أو النفس، وعجزه عن تأسيس علاقة إنسانية عاطفية ثابتة يمكن أن تكون “خيطه السري” الذي يربطه بالحياة، عندما تنقطع خيوطه الأخرى”. وينادي في موضع آخر: “يا أيها المحبون كونوا حيث أنتم من أحبابكم، زمن تساقط الأحباب، كي لا يكثر في أمتنا الانتحار”.
لربما يكون الانتحار أملًا تغلّف باليأس؛ لاتساع الهوّة بين الواقع والمأمول، ارتفاع سقف الطموحات بعيدًا عن أرضية الحياة، لذا يمكن القول بمفارقة الأمل كسبب الانتحار، فالمنتحر مهما كانت دوافعه يؤمّل الكثير من التحسين، سواء كان يؤمله أثناء حياته فلم يجده فقرر اعتزال الحياة ويكثر هذا في الانتحارات العاطفية، أما في الانتحارات الثقافية فهي رسالة أمل لما بعد الحياة، فالمنتحر حينها يؤمل تأثير انتحاره بتغيير واقعه الذي يغادره، وإن كانت رسالته للتغيير مفارقة للخيار الأصوب.
شعرنة الانتحار
ترجمت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد في كتابها “سيجيء الموت وستكون له عيناك”، قصائد 150 شاعراً انتحروا في القرن العشرين، من 48 بلداً مختلفاً. فبعد أن أبصرت عيناها وهي ابنة الخمس سنوات جدتها مسجّاة على الأرض، حملت على عاتقها أن تجمع الشعراء الذين انتحروا في كتاب واحد، ليواسوا أنفسهم بعد أن فقدوا من يواسيهم، كل هذا بحثًا عن جواب سؤال كررته بحسرة وقهر مئة وخمسين مرة: “لماذا ينتحر من ينتحر؟”. وإن كانت معظم نصوص الكتاب تدعو للتشاؤم ومليئة بالسوداوية وتحتفل بالموت، فهو نموذج لشعر ألقي على حافة الحياة، فوجد فيه بعض الباحثين صفاتٍ قد يُستشفّ منها هوية الباحث عن الانتحار، فيُستعاد من الحافة.
تضفي حداد في الكتاب صورتين متناقضتين إلى حدّ ما. واحدة، هي الأكثر طغياناً، كأنما تمجّد فيها الموت الانتحاري، أو تنحاز غالباً إلى جعله خياراً شبه بطولي أو موقفاً ضدّ الحياة الفارغة نفسها، ويظهر هذا في الاقتباسات الشاعرية تجاه الموت في مداخل الفصول. أما الصورة الأخرى المناقضة لهذه الصورة السحرية الجذابة، فهي حين تسأل حدّاد: “هل الانتحار شعر؟”، وتجيب: “ظللت أرى الانتحار شعراً حتى رأيته. أعني حتى رأيته بأم العين. فعندما نشاهد الأجساد المشوّهة والممزقة، لا يظل هناك شاعرية الفعل، بل بشاعة النتيجة في ذاتها”، مستحضرةً مشهد جدتها المنتحرة، ومستعرضة أشكال الانتحار المختلفة والقاسية في معظمها.
ظلمة الاكتئاب
السبب الأبرز وراء الانتحار هو الاكتئاب، وهو الذي قضى معه مات هيج عشر سنوات قادته إلى عدد من محاولات الانتحار، جرّبَ خلالها العديد من استراتيجيات العلاج والأدوية والكتب، وسجّل رحلته في كتاب لطيف بعنوان “أسباب للبقاء حيًّا”، ورغم قناعته باختلاف التجارب البشرية واستحالة تطابقها، إلا إن القراءة عن تجارب الآخرين الذين عانوا، وتجاوزا اليأس جعلته يشعر بالاطمئنان، ومنحته الأمل، وهو ما يؤمل أن يفعله كتابُه للقارئ. وهو سبب تأليف كتابه، إذ يقول: “أؤمن بهذه الفكرة، لأن القراءة والكتابة هي التي أنجتني من الظلمة. ومنذ أن أدركت أن الاكتئاب كان يكذب عليّ بشأن المستقبل، أردت أن أكتب كتابًا عن تجربتي، لأقف أمام الاكتئاب والقلق وجهًا لوجه، لتحجيم وصمة العار، ولإقناع الناس أن قعر الوادي ليس أفضل الأماكن لفهم حقيقة الموقف، لقد كتبت هذا الكتاب لكي أقدم الكليشيهات التي كنت أصدقها، ولأن الوقت يُشفي الجروح، والضوء ينتظر العابرين في آخر النفق، حتى لو لم تتمكن من رؤيته الآن، إلا أن الكلمات، أحيانًا، بإمكانها أن تهبك الحرية”.
وقَف على حافة المنحدر لبعض الوقت، يستجمع عزيمته ليموت، ثم يستجمع عزيمته ليعيش، يكون أو لا يكون. هناك كان الموت قريبًا جدًّا، قدر ضئيل من الخوف كان يلزم ليتحرك الميزان، لكن القدر اليسير من الشجاعة التي يمتلكها غلبت كفة الحياة، “في النهاية يحتاج المرء إلى أن تغلب عزيمة الحياة لديه عزيمة قتل نفسه”، كما يقول ألبير كامو في “موت سعيد”.
ما يبحث عنه المكتئب وفق اعتراف مات هيج ليس السعادة، “فالمكتئب لا يملك الرفاهية الكافية للتفكير في السعادة، إنه يريد التخلص من الألم وحسب، يريد الهرب من عقل يحترق، تلتهب فيه الأفكار ويتصاعد فيه الدخان كمحرقة للممتلكات القديمة، يريد أن يكون عاديًّا، أو أقل من عادي”.
يعتقد مات هيج أن الحياة تهبنا دائما أسبابًا للاستمرار فيها، فقط إن أصغينا بما يكفي. قد تأتي تلك الأسباب من الماضي، من الأشخاص الذين قاموا بتربيتنا، أو ربما من الأصدقاء أو العشاق، أو ربما من المستقبل، الاحتمالات التي قد نقرع أبوابها. وكذلك يوصي بأن: “نتحدث. أن نستمع. أن نشجع من حولنا على التحدث والاستماع. علينا أن نساهم في خلق ونشر المحادثات المهمة حول الاكتئاب. علينا أن نرحب بكل من يريد الانضمام لنا. وأن نؤكد على أن الاكتئاب ليس عارًا بل تجربة إنسانية، لا ذنب لنا فيها، وبإمكاننا أن نخفف من وطأته إن تحدثنا”.
ختامًا:
الانتحار شهقة اليأس[1] وانعدام المعنى والمبرر للوجود، واجتياح للعقم في الأيام. كثيرة هي أسبابه ومبرراته إلى حد يصعب الإلمام بها، ويشترك في تسبيبه والمساهمة في حلّه أطراف المجتمع كافة، وسواء استمعنا لنصيحة المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في كتابه “انتحار المثقفين العرب” مستحضرًا فيها النصوص الدينية التي تنص على أن الله لا يكلف المرء إلا ما يسعه، وأننا مطالبون بالفعل لا بالأثر، وأن الإنسان مؤتمن على نفسه ومكلّف بالحفاظ عليها، أو أخذنا بقناعة المفكر اللبناني-الفرنسي أمين معلوف في “اختلال العالم” بأن القول بوجود تأخر ثقافي لا يعني القول بفوات الأوان الحتمي، لا يجوز التبشير باليأس، فما زال هناك أمل للتغيير ولحياة أفضل يستلزم التحلي بالصبر وبالجرأة والتخيل، بدلًا من التمني والتهيب والرضى أو السخط والهرب الذي لا يحل المشاكل بل يتخلى عنها.
وبالنسبة لموقفنا من الآخرين، لنضع في الاعتبار أن المنتحر يبني قراره على أساس اليأس والخيبات المتراكمة، أو ظروف شديدة الصعوبة مع قلة الحيلة، وهو لدى الأكثر نتيجة اجتماعهما معًا لتنهار قلاع الإنسان. تعبّر عن هذا الشاعرة آن سيكستون في ديوانها “عش أو مت” والذي كتبته قبل أن تنتحر: “الانتحارات لها لغة خاصة، مثل النجارين الذين يودون معرفة أي أداة، ولكنهم لا يتساءلون أبدًا لمَ يقومون بالبناء؟”، لذا لا بد من التنبه لظروفهم، و للغتهم، كالتهديد بإيذاء أو قتل النفس، أو محاولة الوصول إلى الأدوية أو الأسلحة أو أي وسائل أخرى، كذلك التحدث أو الكتابة عن الموت أو الانتحار، التذمر المستمر من انعدام معنى الحياة، وغيرها من العلامات التي تختلف باختلاف الأشخاص وطبائعهم. لذا جاءت توصية مهمة في “دليل المساعدة الأولية للصحة النفسية”[2] لمن يلاحظ مثل هذه العلامات في شخص ما، بأن عليه سؤاله بشكل صريح عن نواياه حول الانتحار، وعدم التخفي أو الخجل من فتح الموضوع بحجة عدم لفت انتباهه له، بل الأولى السؤال إن كان لديه أفكارًا انتحارية، أو تفكير بإيذاء نفسه، ثم يأتي بعد السؤال التأكيد على إعلام الآخر مدى قلقك بشأنه وأنك بالقرب منه وترغب بمساعدته، لأنه غالبًا ما تكون الأفكار الانتحارية -حسب الدليل- التماسًا للمساعدة ومحاولة يائسة للنجاة من المشكلات والمشاعر المؤلمة. فالواجب تشجيع الشخص الانتحاري على التحدث وترك المجال الأكبر من المحادثة له دون جدال أو تهديد. إن التمسك بالحياة يتطلب معرفة أن هناك من يريدنا التمسك بها. كذلك أوصت بألا تستخدم التهديد أو اللعب على وتر الشعور بالذنب، مثل: “ستدمر حياة أحبابك إذا ما انتحرت”، وأن لا تلقي عليه محاضرة عن أهمية الحياة وأن الانتحار فعل خاطئ. لا تحاول أن تصلح مشاكله فالأمر لا يتعلق بالمشاكل بقدر ما هو متعلق بمقدار ما تسببت له تلك المشاعر من ألم نفسي. لا تتركه وحيدًا واحرص على طلب الدعم المهني له ولو رفض ذلك.
لستُ في موضع يسمح لي بوضع مقترحات لوقف سيل الانتحارات الهادر في العالم، ولكنها مهمة يجب التصدّر لها من الأطباء والباحثين الاجتماعيين، وإن كان هدفي وضع سياج يحيط بهذا السيل وتقليل الغارقين فيه، ومقاومة التخوّف المجتمعي من الحديث عن المشكلة التي تتفاقم باستمرار والإفصاح عن أسرارها. وأختم بشطر شعري، من قصيدة “استياء” للشاعر دوغلاس دون: “انظر للأحياء، أحببهم، تماسك”.
[1] لياسر ثابت جهد كبير في جمع الدراسات والأخبار عن الانتحار في العالم العربي ومحاولة تحليلها في كتاب يستحق الاهتمام، بعنوان “شهقة اليائسين”.
[2] ترجمته وأصدرته اللجنة الوطنية للصحة النفسية بالسعودية.