
إن حركة العصر الجديد [1] والنزعة الأصولية والنزعة الإنجيلية، ليست في مجموعها إلا واجهاتٍ لحقبة دينية جديدة؛ لذلك ستكون بِرُمَّتها تعبيرًا عن إنسانية، وقد صارت مأخوذة بين تمجيد الفرد من جهة وإرادة الانفتاح على عالم تَحَقَّقَ بين أجزائه اتصالٌ لم يسبق له نظير في التاريخ من جهة أخرى.
تؤكد أطروحة العلمانية الواسعة الانتشار على أن تقدُّمَ العقلانية يرادفُ تراجع الدين وتقهقره؛ كما لو كان هناك بصورة مبدئية ضربٌ من غياب التوافق بين الإيمان والمعرفة. ونظرة هذا شأنها في التبسيط تبقى وثيقة الصِّلة بتعريف مُمعن في الاختزالية للدين، أي ذلك التعريف الذي يجعله مرادفًا للوهم بالمعنى الذي يعطيه فرويد لهذا المفهوم (أي أخذ الفرد لغرائزه على أنها وقائع) أو يرادفه مع الأيديولوجيا وفقًا لما يعطيه ماركس لهذا المفهوم من معنى (تقنيع علاقات الهيمنة وإخفاؤها). لكن لئن كان من شيء يشهد عليه ذلك، فهو أن الدين يضرب عميقًا في مخيلتنا، وأنه يخدم بكامل السهولةِ الهيمنةَ الاجتماعيةَ، ما يؤكد، بما لا مزيد معه إلى برهان، ما يحظى به من أهمية.
ليس الدين نتاجًا للخيال
ما هي إذن خصيصة أو ميزة هذا البعد الذي يتأبَّى على كل اختزال أو إرجاع إلى الوجود؟ إن ما أدافع عنه هو أن الإنسان إلى جانب الرغبة في البقاء (التي تقود على سبيل المثال إلى البحث عن الغذاء)، والرغبة في العيش التي لها ارتباط بالرغبة في أن يعيش المرء بكيفية أفضل (والتي تقود على سبيل المثال إلى استعمال الدراجة النارية أو السيارة لأجل البحث عن الغذاء، وهو ما أسميه أيضًا بالرفاهية الموضوعية)، إلى جانب ذلك يرغب الإنسان في أن يكون [يرغب في الكينونة]، بحيث يرغب المرء في أن يكون شخصًا مهمًّا وذا مكانة اعتبارية في المجتمع؛ كأن يكون على سبيل المثال، طيارًا أو عميلًا سريًّا أو طبيبًا[ مهنة]، أو بطلًا أو مغامرًا [أن يكون نوعًا بعينه من الأفراد] أو أن يكون، في الأخير، قويًّا، ذكيًّا، متسامحًا، جِديًّا (أي نوع من الميزة أو الصفة)؛ لهذا السبب تجدنا نتحرق لأن نتماهى مع بعض الوجوه أو الشخصيات التي تمثل رموزًا، بوصفها شخصيات داخل سرديات (من الحكايات الملحمية الكبرى إلى الروايات مرورًا بالسلاسل التلفزيونية). بهذا الشكل نبني “كائنًا سوِيًّا”، وشخصية غير فيزيائية لا تُختزل إطلاقًا في مجرد مجموع أعضائنا. إلى حد أنَّ الملحد يطالب بأن يعيش في توافق مع مثل هذه الصورة للذات.
وإِنَّه لَمِن الطبيعي أن تمتد الرغبة في الوجود ويتسع نطاقها بالرغبة في “الوجود أكثر”، التي تؤدي بدورها إلى “الرغبة في الوجود دائمًا”. من هناك العلاقة الإنسانية الخاصة جدًّا بكلٍّ من الموت وفكرة خلود النفس. والأداة الوحيدة التي يمتلكها الإنسان لتعبيره وإفصاحه عن هذه الرغبة الأساسية هي أن يسْرُد ويحكي بنفسه؛ بمعنى أن يحكي حياته الخاصة عندما يكون في لُجَّة عيشه لها، كي يمنحها معنًى، عاملًا من خلال ذلك على دمج أفعاله داخل متوالية أو اتصالية سردية continuité narrative. إنه الحوار الداخلي الشهير بين الذات وعَيْنِ ذاتها (الذي نسميه بـ”الوعي”)، إنه الاستخدام المحتمل لضمير المتكلم المفرد (“من الواجب عليك فعل هذا، ومن الواجب عليك القيام بذاك كي تكون في أسمى الدرجات”). إن الإنسان من الناحية التكوينية يظل كائنًا مهووسًا بالأسطورة mythomane، فهو يحكي لنفسه بشكل فردي، ولكن بصورة جماعية أيضًا عبر المتاحف أو من خلال الكتب.
وبهذا المعنى ليست الأساطير الكبرى إلا الحكايات أو السرود التأسيسية؛ إذ يمكن لكل إنسان ولكل جماعة إنسانية أن يسرد أو تسرد وجوده (ها) الخاص، وأن يتَّخذ له(ها) موقعًا داخل حكاية بعينها؛ لهذا السبب بالذات نجد أن الخصيصة المُميزة للأساطير المؤسِّسة (أساطير نشأة الكون وكذلك سفر التكوين) هو أن تحكي أولًا بداية كل شيء وصولًا إلى حدث ظهور الكائنات الإنسانية، مع سردها في الوقت نفسه لنهاية الكل، في أفق يوجد ما وراء حياتنا الأرضية؛ لذلك ليست الأساطير مجرد نظريات، بل هي تُعيِّنُ لنا دورًا؛ بحيث يصير بإمكاننا التماهي مع شخصيات محددة والولوج إلى الحكاية أو التاريخ، لنصير جزءًا من السرد؛ لذلك تحدَّدَتِ المؤسسةُ الدينية في عرفي، بوصفها تنظيمًا متخصصًا في الإدارة الأسطورية للجماعات الإنسانية.
غير أن ذلك لا ينبغي له أن يدفعنا إلى وضع الأسطورة في فئة ما هو مخطئ. فهي، من دون أن تكون صحيحة أو مخطئة، شبكة قراءة أخلاقية، نسيجُها الصُّورُ والسُّرود التي تُمكِّنُ كل إنسان من أن يضفي المعنى على وجوده ويلْبِسَهُ إياه، وأن يحدد نفسه ويعيّنها داخل السديم الظاهري للعالم، وبكلمة موجزة نقول إنها (الأسطورة) تمكِّنُه من أن يتحمل “رغبته في الوجود” ويضطلع بها خير اضطلاع؛ لكن لا بد مع ذلك من تفادي الخلط بين الأسطورة والحكاية الخيالية fiction؛ لأن الحكاية الخيالية، إنما يصِحُّ الحديث عنها عندما نعمَدُ إلى الاعتقاد عبر اللعب، تمامًا كحال الأطفال في لَعبِهم بساحة المدرسة، حين يستعملون هذه الصيغة الشرطية: “لنقل بأنك أنت هو رجل المطافئ بينما سأكون أنا محبوسًا وسط النيران”؛ فَهُمْ يعلمون علم اليقين أن ذلك لا يعدو أن يكون لعبة. وعندما لا يتحقق الإيمان بأسطورة من الأساطير بشكل فعلي، عندها يمكن أن تَنْحلَّ إلى قصة خيالية وتصير أقرب إلى لغة ميتة وإلى مخلفات أو بقايا عالم زائل، حتى وإن كنا قادرين على الاستمرار في دعمها باسم انشغالٍ أو همٍّ ثقافي كما هو حال اللغة اللاتينية؛ لذلك أرى أن العديد من الأساطير ما هي إلا حكايات خيالية، على غرار الأساطير الإغريقية التي تحكي نشأة الكون cosmogonies Grecques أو نظيرتها البابلية التي ما عاد أحد يؤمن بها تقريبًا.
مشهد أسطوري كوني جديد
إذن من اللازم أن تظل الأسطورة معقولة، وأن تكون قابلة لأن تقارَن مع ما نعتقد أننا نعرفه خلال حقبة تاريخية بعينها، وإن شئت قلت: يلزم أن تكون قابلة لأن تقارن مع حالة العلم في تلك الحقبة، عندها لن يكون الديني هو ما انمحى خلال القرن العشرين؛ بل ما تحقق فيه الامحاء هي الميثولوجيا اليهودية المسيحية، من بين ميثولوجيات أخرى، والتي انحلت جزئيًّا إلى حكاية خيالية لأنها لم تعد تتمتع بما يكفي من معقولية. كما أن الكرونولوجيا الثوراثية بالمعنى الحرفي ما عادت تتوافق مع معارفنا التاريخية ونظيرتها ذات العلاقة بعلم حفريات الكائنات البشرية ـ [الباليوأنتربولوجيا] paléoanthropologie. لذلك ستكون هناك عمليات تحديث وعمليات تحيين كما هو الحال بالنسبة للفاتيكان الثانية VATICAN II والكنيسة الكاثوليكية من أجل أن تتكيف؛ لكن الرغبة في الوجود ستُعاد تكوينها، مع مرور الوقت، تدريجيًّا داخل سرود، مُنْفلتةً عن طريق جسور كاملة من التقاليد الدينية الكبرى.
لا نشهد امحاءً بل تحولٌ دينيٌّ، ولأول مرة في التاريخ يحدث هذا التحول على المستوى العالمي وليس على المستوى المحلي فحسب. ويمكن أن يتحقق التحول الديني بكيفيتين؛ أن يحافظ الدين الجديد على آلهة الدين القديم، لكنه يُنزلها في هذه الحالة إلى مرتبة قوى الشر. وهو ما قام به الآريون عندما استولوا على وادي السند la vallée del’indus، حيث صارت الآلهة القديمة، أي الأسورا[2] asuras، شياطين. وهو ما قام به اليهود أيضًا مع الإله القديم بعل Baal[3]، الذي صار منذئذ يجسد في التوارة تعبيرًا عن الشر. أما الكيفية الثانية فهي المتمثلة في تقديم الدين الجديد بوصفه الوحي الأقصى للدين القديم، وهو ما قامت به الديانة البوذية مع الديانة الهندوسية: فقد أخذ بوذا على سبيل المثال المفهوم الكلاسيكي لـ” كارما”[4] الذي يبرر الخضوع للطوائف، وبزعمه كشف معناه الأصلي، حوّلَهُ إلى مبدأ للفعل غير متوافق حتى مع وجود الطوائف. وبالكيفية ذاتها قامت المسيحية بتثوير المفاهيم والتصورات اليهودية كما هو الحال بالنسبة لمفهوم الخطيئة زاعمةً مَنْحَهُ معناه الأصيل. بل حتى يسوع قدم نفسه بوصفه موسى المعلن عنه من طرف التوراة من أجل قلب الأسس التاريخية لليهودية الكلاسيكية، وقد اضطلعت هذه المناهج بوظيفتها داخل وضعيات محلية، سواء أكانت الهند أم الشرق الأوسط؛ لكن يظل السياق مختلفًا؛ ولأن التحول الديني هو تحول يشمل الكرة الأرضية برمتها، بحكم عيشنا في ظل حقبة الترابط الأسطوري المتبادل؛ بمعنى أن الصور والسرود تسري على المستوى الكوكبي عبر شبكة الإنترنيت. وعلى هذا المستوى غير المسبوق نجد أن الطريقتين [المشار إليهما] تنطبقان عليه معًا في الوقت نفسه.
في ظل هذه الوضعية الكثيفة للتفاعل الثقافي، يتمثل العائق الأساس أمام معقولية الحقائق الدينية في تعدديتها نفسها؛ لهذا السبب سيتطور تدريجيًّا الاعتقاد في “تقليد يتَمَتَّع بالأسبقية أو الأولوية” tradition primordiale”، والتقاليد القائمة واقعيًّا لن تمثل منه إلا آثارًا جزئية. وهذه الطريقة تتيح في الوقت نفسه استبعادَ جزء من “المعتقدات” عندما لا يكون هناك توافق (كأن يغيب التوافق على سبيل المثال حول طبيعة الله)؛ لكن يتم الاحتفاظ عليها مع ذلك، بوصفها حوامل ناقصة للحقيقة المفقودة التي لا يمكن العثور على معناها التام إلا داخل ذواتنا نفسها. وما دامت الحقيقة ضائعة فلا يمكن أن يحْدث اصطدام وجهًا لوجه بين عقائد متعارضة. ومع ذلك تظل التقاليد مناسبة للبحث عنها (الحقيقة)، واقتفاء آثارها، وإضفاء القيمة على الذاتية الفردية، ما دام المعنى الأقصى والأتمُّ يتعذَّر انكشافه إلا داخل الذات عينها. فعلى سبيل المثال داخل العالم التوراتي نفسه، نُظِر إلى جملة من الخصائص كما هو الشأن بالنسبة للهيمنة الذكورية والإله المنتقم، على أنها “غير أصيلة” وعُدَّت انحرافات بسيطة سياسية واجتماعية، ستُمحى لصالح حقيقة أكثر أصْلِيَّةً وأكثر نسوية وأكثر دنيوية وزمنية تتولى إحقاقها وإبرازها القبلانية بالنسبة للديانة اليهودية ورسالة المسيح التي تنبذ العنف والتي ستصير بسبب ذلك مكافئة لرسالة بودا Buddha أو لاو تسو Lao Tzeu.
بهذا الشكل نشأ اليوم الموقف المعروف للباحث الروحي الذي ينطلق في البحث عن الحقيقة عبرَ التقاليد كلها أيًّا كانت؛ لتصير جميع الديانات بالنسبة له بمثابة حوامل وسبل شبه متكافئة، فما يُعتد به هو عيش تجارب تقود في نهاية المطاف إلى الذات عينها. هذا ما نجده على سبيل المثال في رواية “الخيميائي”، الرواية الأكثر مبيعًا للروائي “باولو كويلو” الصادرة سنة 1988؛ أي البحث عن الذات عبر السفر إلى الأبعد.
هكذا صار المشهد الأسطوري الجديد يأخذ هيئته شيئًا فشيئًا من خلال ثلاثة أنواع من الديكور هي: تقاليد متعددة لكنها متكافئة في العمق؛ لأنها سترجع في النهاية إلى تقليد فائق (تقليد هو أكثر من كونه تقليديًّا لأنه صار مفقودًا). ومن هذا المنظور تكون الحضارة المصرية على سبيل المثال نقلت لنا عبر اليهودية والمسيحية الصوفية حقائق ترجع إلى أطلنتس ATLANTIDE، وهي حضارة بائدة تعود إلى الحقبة السابقة على عهد الطوفان؛ بل يمكن أن توجد روابط وصلات حتى بين الديانة الهندوسية الأصلية وتقاليد أخرى للشرق الأقصى. وهذا النوع من التأمل نجده منذ القرن التاسع عشر، بحيث ستصير هذه التقاليد، من بين أخرى، في قلب حركة ثيولوجية فلسفية، وفضلًا عن ذلك تبقى هذه التقاليد في خصائصها الأصيلة متوافقة مع العلم الأصيل، والعلم الفائق (علم يكون أكثر من كونه علميًّا، بمعنى أنَّه علم يتولى إعادة اكتشاف حقائق التقليد المفقود؛ وهنا يذهب بنا التفكير جهة نوع آخر من الكتب الأكثر مبيعًا هو كتاب الفيزيائي فيرتيوف كابرا Fritjof Capra ” طاو الفيزياء” Le tao de la physique الصادر سنة 1975، باعتباره مميزًا لهذا العلم المافوق حداثي الذي يعيد اكتشاف الحقائق الروحية). بوصفه العلم الأكثر تقدمًا؛ لأنه يفصح عن معنى الطبيعة. والطبيعة الفائقة هي التي تمثل الديكور الثالث، أي تلك الطبيعة التي هي أكثر من مجرد طبيعة؛ لأن هذه الحقائق كلها التي لها علاقة بالتقاليد والحقائق العلمية ليست بالأصيلة سوى لأنها على ارتباط واتصال بالطبيعة. وهذا التبجيل ذو النزعة الطبيعية نجده عند جون جاك روسو في القرن الثامن عشر مثلما نجده أيضًا في الإنتاج الهوليدي الضخم المتمثل في فيلم أفاتار (20009) Avatar.
إن هذه الديكورات الثلاثة تبقى كلية الحضور بدرجات متفاوتة في الروحانيات الجديدة كلها les nouvelles spiritualités، فبعض الحركات كما الحال بالنسبة للرائليين، تجدها تركز بدرجة أكبر على العلم الفائق، وبالتالي على بيولوجيا مُخلِّصَة؛ بينما تركز حركات أخرى على الطبيعة الفائقة، مثلما هو حاصل مع الشامانية الجديدة، أما الحركات الأخيرة فينصب تركيزها على التقليد الفائق (يتعلق الأمر بجميع الصور الصوفية الجديدة للديانات التقليدية، كحال نزعة التصوف الجديدة في الإسلام، والقبلانية[5] الجديدة la néokabbale في الديانة اليهودية)، فتحت مظاهر حركية دينية سديمية، انتقلنا من الدين الجاهز لنصير بالأحرى أمام دين قائم على الحركية؛ ولأنه في الإمكان المرور من حركة إلى أخرى دون تغيير حقيقي للمعتقد. حتى صار السفر وعيش تجارب متعددة إلزامًا أخلاقيًّا لهذا التدين الجديد، الذي يعمل على ضمان إخراج مشهدي للمثال الذي يتم البحث عنه من طرف الشخص [الباحث الروحي]؛ لذلك كان لزامًا عيش تجربة الأبعد والاستئناس بثقافة الغير؛ لأجل العودة إلى ما هو أكثر قربًا من الذات وإلى ذاتيتها الخاصة.
ذلك ما أسميه بـ”النزعة الفردية الكونيةl’individuo-globalisme ” باعتبارها السطح الأسطوري الجديد الذي نفْصِح عبره عن رغبتنا في الوجود.
أدوار مختلفة داخل المشهد نفسه
تكون هذا السطح الأسطوري تدريجيًّا انطلاقًا من القرن السادس عشر، في مرحلة اكتشاف العالم الجديد واكتشاف الثقافات المختلفة جذريًّا عن الثقافة الغربية، مع صاحب ذلك أيضًا من وعي بأن كوكبنا ما هو إلا غبار داخل اللاتناهي الذي تتخلله النجوم. وشيئًا فشيئًا صار اللاتناهي مبدأ إيجابيًّا، وموضوع تأملات ثيولوجية وفلسفية. فالذاتية المنفصلة، إن شئت قلت بلغة كانط؛ الذاتية المتعالية، صارت منذ القرن الثامن عشر الميلادي وثيقة الصلة والارتباط بضدها، الذي هو الكون اللامتناهي كما لو كان ذلك عبر عقد ضمني بينهما؛ ليتحول هذا الرابط الفلسفي خلال القرن التاسع عشر إلى شعور رومانسي، قبل أن يصير نمط حياة “طبيعيًّا”، اختارته في البداية نخبة من الكتاب والفنانين؛ ليتخذ هذا النمط طابعه الشعبي في أوساط الهيبيز hippies وعند البوذيين الجدد والهندوس الجدد وأنصار العصر الجديد new age ابتداءً من السبعينيات من القرن العشرين.
واليوم تتخذ هذه الثقافة لدى العديد من معاصرينا شكْلَ معيار يجمع بين الإلزام الأخلاقي للتنمية المستدامة (الكوني) والإلزام الأخلاقي للنمو الشخصي (الفردي). كما شهدت وحدَةُ مقدسة جديدة ظُهورها، هي تلك الطاقة التي اتخذت أسماء، منها المغناطسية الحيوانية magnétisme animal في القرن التاسع عشر (حتى أن الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل أخذها بجدية كبيرة)، والمبدأ الحيوي principe vital، والسائل الفيزيائي النفسي fluide physico-psychique، إلخ. وهي الطاقة التي تتمثل خصيصتها الأساسية في وصلها على نحو خفي الفردي بالكوني، الذاتية بالكون، وأنها في ذات الوقت متوافقة مع العلم مع تعبيرها عن دينامية التقدم (بما في ذلك التقدم الاقتصادي)، وهي مبدأ للحركة؛ مما يجعلها بذلك موضوع عبادة حقيقية. على هذا النحو يتم الحديث عن الطاقات الخيِّرة التي تعبر عن خيرٍ كامل الجلاء (القادرة على تعبئتنا أو إعادة شَحْننا كما لو كنا بطارية)، وطاقات أخرى سيئة تُفْصح عن الشر. كما أن كل ما يعمل على إبطاء سريانها هو بمثابة عملية عرقلة. ومعلوم أن الشر بامتياز سواء من زاوية صحتنا، أو داخل أداء الاقتصاد، ليس شيئًا آخر سوى العرقلة؛ لذلك كان من اللازم العمل على خلق سيولة الطاقة والشحن بها وتكثيف الاتصال. ومن هنا أتت عملية تعميم مفهوم شاكرا chakra ومفهوم شي chi، وعمليات التهيجين الروحية كما هو الحال بالنسبة لليوغا الكاباليستية [القبلانية]le yoga kabbalistique. وبكيفية أقل اتصافًا بالطابع الكاريكاتوري، نجد المنتجات الخاصة بالصحة أو حتى المنتجات الاستهلاكية تُضخَّم قيمتها لأجل خصيصتها التقليدية الفائقة hypertraditionnelle (مرهم الجمال الذي يعود إلى تقليد آسيوي)، وميزتها العلمية الفائقة (لأنه أيضًا مرهم جمال بخواص علمية معترف بها) وخصيصتها الطبيعية الفائقة (لأنه مرهم لا يعمل في العمق سوى على تقديم فائدة طبيعية؛ وبالتالي فهو يضعنا في اتصال مع الطبيعة ومبدئها الحيوي الذي هو الطاقة).
لقد صارت هذه الأرضية الأسطورية اليوم شبه مُعَمَّمَة تقريبًا، إلى حد فرضت معه نفسها داخل مجموع الحقل الديني بأشكال كثافة متغيرة، متخلِّلة نسيج الثقافة برمته. صحيح أن عيشها لا يتم على المنوال نفسه من قبل الجميع؛ بحيث تبدو داخل البلدان الأكثر غنًى كما لو كانت إضافة وزائدة تمنح الوجود نبرة روحية. فهي نوع لحياة ذات نزعة روحية تتخذ قاعدة لها الرفاهية والعيش الكريم والإبداعية والمعرفة بالذات. وهي تتطور على الخصوص عبر فترات تدريبية، بحيث صار الديني بمثابة كفاية تُكتَسبُ عبر تجارب وضعية. حتى صرنا اليوم نتحدث عن “تداريب للمسيحية stages de christianisme” في إطار روح آباء الصحراء أو وفقًا لمبادئ حياة القديس فرنسوا الأسيزي Francois d’Assise.
أما داخل السياقات التي تتسم بالكثير من الهشاشة الاقتصادية، فإن النزعة الفردية الكونية l’individuo-globalisme تُعاش بكامل العفوية والتلقائية داخل الفورة الجماعية، وبصورة تضامنية أكثر مما هي انعزالية، وهي النزعة التي تتسع من خلال نظرة إلى النجاح يمنحها الإيمان بصورة فورية، وهو ما أسميه بالنزعة الكاريزماتية le charismatisme. وفي الأخير يمكن أن تكون النزعة الفردية الكونية موضوع مقاومات داخل سياق الهشاشة الهوياتية؛ الأمر الذي يؤدي، على سبيل المثال، إلى أشكال من الأصولية، وردود فعل ذات نزعة وطنية. إن ظواهر مثل النزعة الإسلامية المتطرفة (الأصولية)، وle pentecôtisme الطائفة الخمسينية (المسيحية) والعصر الجديد (النزعة الروحية) تبقى مترابطة فيما بينها كونيًّا؛ لأنها تشكل نسقًا، على الرغم من ارتباطها بسياقات سياسية مختلفة، وما كان لها مثل هذا التأثير الكوكبي إلا لأنها تشكل نسقًا.
الأسْلَمة بوصفها كابوسًا أوروبيًّا [6]
تشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلبية الأوروبيين يرون في الإسلام تهديدًا، وهي التخوفات التي تكشف بكل وضوح عما يعتمل في أوروبا من مخاوف.
يحتل الإسلام مكانة مهمة باعتباره شاهدًا على التطورات الدينية الحالية؛ لكن القوالب النمطية التي تتمحور حول هذا الدين تجعل القيام بتحليل رزين وهادئ للظواهر التي لا تزال فاعلة [وتعتمل] أمرًا في غاية العسر والصعوبة. وهو ما ينطبق على فكرة الأسْلَمة l’islamisation التي طبعت المجال العمومي الأوروبي منذ منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، وهي الفكرة التي تستند إلى تخوفين: سنكون أمام تسونامي إسلامي، بسبب ارتفاع معدل الولادات، والهجرة المهولة وعمليات اعتناق واسعة للدين الإسلامي؛ كما ستكون هناك نية إسلامية لأن يفرض الدين الإسلامي نفسه على الثقافات الأوربية.
والحال أن ما تكشفه المؤشرات المتوافرة هو أن المسلمين في العالم عمومًا، ولا سيما في أوروبا، من المفترض ألا يعرف عددهم زيادة دالة. فمعدل خصوبة النساء تعرف تراجعًا كبيرًا في دول المغرب العربي على سبيل المثال، وفضلًا عن ذلك نجد أن نسبة الهجرة من البلدان التي بها غالبية مسلمة تزداد تدنيًّا. كما أن حالات التحول إلى اعتناق الدين الاسلامي صارت أقلَّ عددًا مقارنةً بنظيرتها التي تهمّ اعتناق البروتستانتية الإنجيلية. كما أن الدراسات الأكثر اتصافًا بالجدية أبرزت أن الإسلام لا وجود له، بل ما يوجد هو تعددية من الهويات الإسلامية. حتى إننا نعاين دينامية مدهشة مع حركات إسلامية نسوية مثل أمازونيات الجمهورية les Amazones de la république أو نظيرتها الخاصة بالمثليين الجنسيين (المثليين الجنسيين المسلمين الفرنسيين (HM2F)).
على الرغم من هذه المعطيات، نجد نسبة 76% من الفرنسيين المستجوبين في استطلاع الرأي الذي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام Ifop سنة 2011، يرون أن الإسلام يتقدم في أوروبا بوتيرة كبيرة. ومعدل رفض الإسلام إنما هو ناتج عن الخلط بين تطرف بعض المسلمين وتجدد الحماسة الروحية الشائع في أوساط الساكنة المسلمة (يجد ترجمته على سبيل المثال في النجاح الذي تحققه الأغذية الحلال). والحال أن هذا التجدد حتى في وجوهه الأكثر وضوحًا وبروزًا أحيانًا، ليست له الدلالة الثابتة التي نسندها إليه. وهناك استطلاع آخر للرأي أُجري سنة 2012 قدّر أن نسبة 60% من الأوروبيين تعد أن المسلمين سيئوا الاندماج عن قصد وسبق إصرار في المجتمعات المستقبلة لهم، كما لو كانت هناك نية جماعية للخداع.
إن الأمر لا يتعلق بنفي وجود التنظيمات المتطرفة، بقدر ما هو مرتبط بإبراز كيف تستفيد في واقع الأمر هذه التنظيمات مثل هذا الاستحواذ الجماعي، ومن نمو ساكنة أوروبية جديدة تركز اهتمامها بالكامل على النضال ضد الإسلام؛ مما يجعل أسطورة الأسلمة تقيم، بالنتيجة، مسرحًا تراجيديًّا عليه يمكن أن يعثَرَ على دور يتعين لعبه؛ هو دور البطل المدافع عن الغرب، باعتباره شعبًا مخدوعًا، أما الخائن (وبصفة عامة صاحب نزعة التعددية الثقافية)، فهو في نهاية المطاف الجهادي – الشهيد (الذي نسميه اليوم بالسلفي كذلك).
ويمكن أن يُضطلَع بهذه الأدوار ولعبها بدرجات كثافة متغيرة؛ لكن يبقى من اللازم أن نفهم جيدًا أن موقف صاحب النزعة السلفية، المطرود والمستبعد من قبل الغالبية، يمكن أن يصير جاذبًا بالنسبة لشاب تحت الحجر ويعاني الإحباط الاجتماعي والهشاشة النفسية. هكذا يكون الإسلام قد صار لباسًا اعتباطيًّا، غالبًا ما يلبسه من اعتنقوا الإسلام حديثًا، لأجل تبرير عبورهم إلى الأفعال العنيفة. وما يتمتع بالصلاحية بالنسبة لموقف الجهادي يظل كذلك بالنسبة لموقف البطل المدافع عن الغرب، الذي يمكنه العبور إلى الفعل أيضًا. بذلك يكون كل من جمال مراح واندرياس بريفيك Andreas Breivik قد لعب كل واحد منهما دوره داخل المشهد نفسه.
وإذا كانت أسطورة الأسْلمة تتمتع بمثل هذه القوة، فلأنها عملت على إخراج مشهد امحاء الهويات الأوروبية، بوصفه كابوسًا لأعظم أمم أوروبا القديمة التي لم تقبل إطلاقًا بغير وجودها هي في مركز العالم.
[1] حركة العصر الجديد أو العهد الجديد: هي حركة روحانية شبه دينية غربية نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين…. تطورت الحركة أكثر في الستينيات من القرن العشرين، مُستمِدةً أفكارها مما وراء الطبيعة، وعلم النفس المساعد للذات، والمعلمين الهنود المختلفين الذين زاروا الغرب خلال ذلك العقد. [المترجم]
[2] أسورا asuras (باللغة السنسكريتية asura): هي أحد آلهة الحماية البوذية الثمانية (عن الموسوعة الحرة). [المترجم]
[3] من أهم الآلهة عند الكنعانيين وهو الإله المحارب بالنسبة لهم، لهذا صوروه مسلحًا. وكان الفينيقيون يعدونه إله الشمس. [المترجم]
[4] تعني العمل أو الفعل. هي مفهوم أخلاقي في المعتقدات الهندوسية والبوذية واليانية والسيخية والطاوية. ويشير إلى مبدأ السببية حيث النوايا والأفعال الفردية تؤثر في مستقبل الفرد. [المترجم]
[5] القبلانية (بالعبرية كابالا קַבָּלָה) هي معتقدات وشروحات روحانية فلسفية تفسر الحياة والكون والربانيات (عن الموسوعة الحرة، ويكيبيديا).
[6] Raphael Laugier, Le Mythe de l’islamisation.essai sur une obsession collective,Seuil,2012.
(رفائيل لوجييه، أسطورة الأسلمة. محاولة حول استحواذ جماعي، دار النشر سوي، 2012)
[7] Raphael Laugier, Le Mythe de l’islamisation.essai sur une obsession collective,Seuil,2012.
(رفائيل لوجييه، أسطورة الأسلمة. محاولة حول استحواذ جماعي، دار النشر سوي، 2012)
المصدر:
Raphaël Liogier, La nouvelle religion du monde, Sciences humaines, Grands Dossiers N° 29 – Déc 2012 / jan-fév 2013.
وقد فضلنا استعمال كلمة “ديانة” بدلًا “دين” حتى لا يلتبس الفهم على القارئ، فلا يعرف ما عليه تعود صفة “الجديد”؛ هل هو الدين أو العالم؟ [المترجم].