الفيلسوف الجديد

غاية الفن

نايجل واربرتون - ترجمة: ريوف خالد

هل للفن غاية؟ ما هي الغاية المشتركة بين إحدى رباعيّات بيتهوفن الأخيرة وصورة فوتوغرافية لسندي شيرمَن وقصيدة لإليوت و«نافورة» دوشَمب ورواية لجيمس بُلدوين؟ الإجابة البسيطة لهذا هي أن السؤال يفترض أن بوسعنا تعريف الفن، وتحديد ما يجعل كل هذه الأعمال على الأقل مرشّحة لتدعى أعمالًا فنية. لكننا لا نستطيع ذلك. إذن، لا يمكننا أن نعمّم شيئًا متعلقًا بالفن وهذا بمثابة قول إن الفن ليس له غاية. حللنا القضية؛ هـ. ط. ث[1].

هاكم نسخةً أطول للإثبات الذي ذكرته أعلاه: تاريخ فلسفة الفن هو تاريخ أشخاص يحاولون تعريف جوهر الفن، وكشف ماهيّته مرّةً واحدة وللأبد، ولكنهم يفشلون في ذلك. فقد قالوا: «الفن تمثيل الطبيعة»، و«الفن هو التعبير عن عاطفة ما»، و«يعدّ الفن فنًا بسببً انتباه معين يولى للشكل»؛ إلخ. لكن في كل مرة يعتقد فيها فيلسوف أنه ألمّ بماهية الفن عبر شبكة مفرداته، ينبثق فن جديد، بمثابة مثال مضاد لذلك التعريف. قل للفنانين إن تمثيل العالم هو المغزى من الفن؛ ليبزغ الفن التجريدي. أخبرهم بضرورة أن يكون الفن جميلًا؛ لينتجوا فنًا قبيحًا. أخبرهم أن الفن لا بد وأن يكون محسوسًا بوسيط تقليدي؛ سيبتكرون الفن المفاهيمي.

أكثر رد فلسفي معقول لكل هذا هو أن الفن بمثابة ما دعاه لودفيغ فيتغنشتاين «تشابه عائلي». أي لا وجود لسمة تعريفية واحدة في كل الأعمال الفنيّة؛ أي إنها لا تروم تحقيق غاية واحدة، على سبيل المثال. مع ذلك ثمة أنماط من التشابهات بين الأشياء التي ندعوها أعمالًا فنيّة، مثلما يكون للأقارب نمط من السمات الجسدية المتشابهة التي تجعل انتسابهم للعائلة نفسها أمرًا بيّنًا. فمثلًا، يتشارك بورتريه شخصي رسمه رمبرانت في سمات كثيرة مع عمل تجريدي من أعمال روثكو؛ إذ ينطويان على براعة فنية في استعمال اللون على قماش الرسم، ولوحة تجريدية لروثكو تمتلك تماثلات شكليّة (formal) مع مقطوعة موسيقية معينة، أو قصيدة، في تناغمها البنائي، أو في التناسق؛ لكن ليس ثمة خصيصة واحدة مُمَيِّزَة تتشاركها جميع هذه الأعمال الفنية. استخدم فيتغنشتاين  مثال الألعاب، وأخبرنا ألا نفترض ضرورة وجود شيء تشترك فيه جميع الألعاب، وإلا فلن نستطيع فهم المصطلح، لكن بدلًا من هذا علينا أن «ننظر ونرى» إنْ كانت تتشارك جوهرًا مُمَيِّزًا. انظر ورَ هل ثمة شيء مشترك بين لعبة الأقراص والكأس «Tiddlywinks» مع الكريكيت، أو لعبة تسديد الكرة إلى الحائط والامساك بها إذا ارتدت. يعتقد فيتغنشتاين بعدم وجود خصيصة مُمَيِّزَة، وأن السعي في مثل هذه الحالات لشروط ضرورية وكافية تحدد ماهيّة اللعبة سعي مضلِّل. قد ادّعى بعض فلاسفة الفن، متأثرين بمفهوم مصطلح التشابه العائلي أن ليس ثمة شيء تشترك فيه كافة الأعمال الفنية. وهذه أيضًا خلاصتي -التي لم تكن مبتكرة تمامًا- في كتابي المنشور في ٢٠٠٣ «سؤال الفن – The Art Question».

حتى وإن كان هذا صحيحًا، وليس للفن جوهر مُمَيِّز ولا تتشارك الأعمال الفنيّة أي سمة مهمّة، ما يزال ثمة غاية تتشاركها العديد من الأعمال الفنية المهمّة، ولا يشترط أن تتشاركها جميعها. إحدى الغايات المقبولة المرشّحة لهذا هي نقل المشاعر. قال الروائي الروسي العظيم ليو تولستوي في كتابه «ما هو الفن؟»، المنشور في ١٨٩٨ إنّ:

«الفن هو النشاط البشري الكامن في نقل المرء عمدًا للمشاعر التي قد أحسّ بها عبر إشارات خارجية معيّنة، فتعدي هذه المشاعر الآخرين ويحسّوا بها».

يقبض هذا على شيءٍ يشعر العديد منّا أنه قد يكون مهمًا في الفن. جذّابة هي فكرة أن الفن يبدأ بمشاعر يمرّرها المرء للآخرين (حتى لو كانت تزعجنا صورة «العدوى» هذه الأيام مع أزمة كوفيد). صحيح أن بعض أعمال الفن المفاهيمي غارقة في الفكر والتضمين، وقطعًا لا تكترث بالمشاعر على نحو مقصود. لكن هذا عيبها على الأرجح. هي ما تزال فنًا، لكنها ليست فنًا قد أتكبد عناء إنقاذه من مبنى اندلع فيه حريق.

للأسف، لتولستوي مأرب شخصي في «ما هو الفن؟» وقد واصل على نحو ليس بمعقول، رابطًا الفن برسائله الأخلاقية والدينية. لكن تشديده على نقل المشاعر من شخص لآخر، حتى عبر الأجيال، وجه مهم بسببه يقدّر العديدون منا الوقت الذي نقضيه في قراءة الفن أو الاستماع إليه أو مشاهدته أو النظر إليه.

شدّد فيلسوف أوكسفورد روبين جورج كَلينغوود -في كتابه «مبادئ الفن» المنشور عام ١٩٣٨- على المشاعر أيضًا. بالنسبة له، ما يجعل العمل عملًا فنيًا، عوضًا عن الصنعة الخالصة، أن يبدأ بما دعاه «عاطفة استهلاليّة»، أي شعور غير دقيق. في الأعمال الحرفية، يبدأ المرء بتخطيط مبدئي -دليل واضح- لصناعة شيء معين، وحين ينجزه، سيعرف أنه أتم عمله. بينما حين تبدع الفنانة عملًا فنيًا، فهي تحاول سبر أغوار هذا الشعور عبر وسيط، يتّضح هذا الشعور تدريجيًا، وتصمم العمل أثناء العمل عليه؛ بدلًا من الانطلاق من خطة مسبقة. الوضوح هو دافع الفنان:

«الفنان الحقيقي شخص يصارع مشكلة التعبير عن عاطفة معيّنة، فيقول “أريد أن أوضّح هذا”».

عند مرحلة معينة سيكون الفنان قد وضّح بدقّة العاطفة المشوّشة في السابق؛ إذْ سيكون قد جلبها إلى الوعي. ثم حين يُعرض العمل الناتج، يمر المشاهد أو المجرّب للعمل الفني بإجراء مشابه: يساعده العمل على فهم هذا النوع من العاطفة أو الشعور به على نحوٍ دقيق، تحديدًا هذا النوع من الحزن أو البهجة، أو الكآبة، أو الغيرة، أو أي شعور آخر. غاية الفن عند كَلينغوود هو توسيع الفهم البشري للشعور، وتوضيح وتمييز عواطف محدّدة.

اعتقد كَلينغوود، مثل تولستوي، أنه قد قبض على كل ما تتشاركه الأعمال الفنية المستحقة لهذه التسمية. إلا أن هذا غير مقبول؛ فثمة العديد من الأعمال جليّ كونها أعمالًا فنية لا تنقل مشاعرًا أو تفصح عن مشاعرٍ على النحو الذي يشير إليه تولستوي وكَلينغوود، كما أن العديد من الأعمال الفنيّة البصرية في القرنين العشرين والحادي والعشرين قد أدارت ظهرها للشعور، وهذه الأعمال أعمال فنيّة عصريّة وفكريّة، وترتبط بأعمال فنّية فنّية أخرى عن قصد، وثمة موسيقى أيضًا تحاشت العاطفة؛ فكل ذلك فن ذكي. لا بأس في هذا؛ إذْ يحبّه بعض الناس، وقد تكون معرفة المزيد عنه أمرًا مشوقًا، وقد يكون ممتازًا لهذا النوع من التجارب الفنية. لكن إذا ما قارنّاه بتجربة الفن، وقضاء الوقت مع الفن، الفن الذي يمس العواطف، والذي يفصح عنها؛ فمن الصعب تفوّقه على هذا الأخير. غاية مثل هذا الفن توضيح هذه العواطف، والافصاح عنها، وتغييرنا، وتوسعة مدى ما يمكننا تقديره والشعور به. تغيّرنا هذه التجربة، للأفضل.


[1] ه.ط.ث أو QED عادة ما تختم بها البراهين الرياضية، وقد باتت تستعمل في سياقات أخرى -كهذه- استعمالًا متساهلًا تعبيرًا عن إثبات أو حل ما يروم الباحث إثباته أو حلّه (المُراجع).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى