ابتعدت عن النقد التطبيقي منذ بداية تخصصي في النظرية النقدية قبل عشرين عامًا. فقد رأيت نقاد الأدب غارقين في تفاصيل جزئية في انفصال عن الخطاب الأدبي العام ودوره في توسيع فهمنا للعالم ولأنفسنا. وقلَّما جذبتي نصوص أدبية معاصرة ودفعتني إلى الكتابة عنها باستثناء أعمال معدودة. وفي الآونة الأخيرة، لفتت إحدى طالباتي انتباهي إلى رواية إبراهيم نصر الله «حرب الكلب الثانية» وصلتها بأدب الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة.
انتهيت من قراءة الرواية في يومين، وكانت انطباعاتي عنها متذبذبة. فالكاتب يمتلك مهارة إغواء القارىء بالاستمرار في القراءة حتى الصفحة الأخيرة، حتى وإن احتوت الرواية على حشو معلوماتي يُعطِّل حركة السرد ولا يفيد في رسم الشخصيات أو تطوير الأحداث.
تستند الديستوبيا في هذه الرواية إلى بعض التغيرات البيئية المتخيلة التي طرأت على الطبيعة وآلت إلى قِصَر النهار وغياب الشمس ونفوق الطيور وانتشار رائحة العفونة بسبب ارتفاع نسبة الرطوبة، علاوة على تطوُّرات تكنولوجية متخيلة، وبخاصةً استحداث جهاز استنساخ أجساد بشرية تفوق الأصل في الإثارة الجنسية للطرف الآخر، إضافة انتشار ظاهرة الأشباه والشبيهات بين البشر والحيوانات بسبب التغيرات البيئية. بيد أن الديستوبيا الحقيقية هي اندماج الشخصية الرئيسة الممانعة في المنظومة الفاسدة المهيمنة، وتحوله إلى صورة متوحشة عنهم مهما ادَّعى أنه لا يشبههم.
تتشكك الرواية في السرديات الكبرى، وترتاب في فكرة التقدم والأهمية الاجتماعية لكل من العلم والتكنولوجيا، وتعتمد في السرد على استراتيجيات المفارقة، والسخرية، وكشف التناقضات، والحس الفكاهي. كما يلجأ الكاتب إلى التناص بوصفه إحدى استراتيجيات السرد التي تلغي الخط الفاصل بين التاريخ والخيال، فيمزج إحالاته التاريخية بالمخيال الديستوبي في متن الرواية وهوامشها السُّفلية، ويصوِّر نهاية العالم باستشراف مُستقبل مظلم تهيمن فيه التكنولوجيا والآلات على مصير الإنسان، وتُدمر الطبيعة والحياة الإنسانية، وتجعل الإنسان يعيش حالة دائمة من اللايقين أو الخوف السائل بتعبير زيجمونت باومان.
يرسم الكاتب جوًا مُظلمًا يوحي بأن الطبيعة تنتقم من الإنسان على استغلاله لها على مدار الزمن، ويوازي العتمة في الطبيعة المحيطة جوٌ مظلم من علاقات بشرية يسودها انعدام الثقة والاستغلال وسطوة العقل الحسابي واتهام أصحاب النزعة الإنسانية بأنهم مرضى بمتلازمة الضمير.
يخفف من مآسي هذا الجو الكئيب الخارجي والداخلي حسٌ فكاهي وألعابٌ لغوية تتبدى فيها المآسي في قالب الطُّرفة أو الملهاة. فمع أن الرواية تتناول واقعًا مريرًا متخيلًا، فإن الكاتب يستخدم مخزونه الفكاهي في الكشف عن أهمية الطُّرفة في تجاوز المأساة أو على الأقل في تحمل المأساة حتى تستمر الحياة. وربما تكون الفكرة المحورية العبقرية في الرواية هي محاربة الاختلاف، ومحاربة التشابه أيضًا! ويمكننا استكشاف أهمية هذه الفكرة في المحاور التالية:
أولًا: العقلانية الأداتية وتسويق الذات
تتبدى ملامح الشخصية الرئيسة رويدًا رويدًا عن طريق الوصف والحوار، فنعلم أن راشد كان مناضلًا لا يتخلى عن مبادئه، لكنه تحول بعد التعرض للتعذيب على أيدي رجال القلعة، وصار يتمتع بالقدرة على الإقناع بالشيء وضده، ويتقلب بين غاندي وهتلر. والانطباع الذي يتكون لدى القارىء هو حالة الإبهام والغموض التي تُحيط بهذه الشخصية، بل وربما حالة الانفصام التي يتنقل فيها بأريحية تامة بين التوحش والحديث عن المبادىء! فمع أن هذا الرجل قد عانى من التعذيب على أيدي رجال القلعة، فإنه أصبح مثلهم رغم نفيه لذلك، كما أنه تزوج من شقيقة الضابط الذي ما زال يشك في حقيقة أمره.
ترتبط شخصية راشد بفكرة تسويق الذات أو تسليعها: «ما دُمتَ قد عرضتَ نفسك في السوق، فلتسع للحصول على أفضل ثمن يدفعونه لك مقابلها». فهذه الشخصية واعية بعقلانيتها الأداتية، حتى أنها تُحوْسِل نفسها، أي تُحوِّل نفسها إلى مجرد وسيلة لتحقيق أكبر مكسب مادي، ويتماشى هذا التوحش مع الجو الكئيب المظلم والروائح العفنة التي تسود الطبيعة الخارجية والنفوس الداخلية.
تتواتر في الرواية إشارات إلى رائحة العفونة الناجمة عن قِصَر النهار وغياب الشمس والغربان النافقة. وفي خضم هذه العفونة، يأتي راشد بفكرة بناء جسر جوي لنقل المرضى أو ما يُسميهم أسرى الأمل، وتقديم خدمات سيارات الإسعاف التي تنقل المصاب خلال خمس دقائق إلى المستشفى، حتى صار راشد ذائع الصيت في تقديم النصائح للنساء والرجال من الطبقات العليا في مختلف المجالات، كأنه أحمد زكي في فيلم البيضة والحَجَر. وتتبدى لنا شخصيته الانفصامية من خلال الرواي الذي يخبرنا أن راشد كان ينصح النساء بجمع أكبر كمية من مال الزوج تحسبًا للانفصال في المستقبل، لكنه كان يلتزم بمبادىء التعامل مع العميل أو الزبون، فيرفض أن يقدم النصح للزوج والزوجة معًا! ويظهر الناس في الرواية باعتبارهم أسرى أمل أبديين يغضون الطرف عن التكاليف، وتتبدى سطوة العقل الحسابي عند راشد في تعامله مع إسعاف الميتين أو محاولات إنقاذ المرضى أصحاب الحالات الخطيرة كأنها «حلبة مصارعة» تدور في العتمة وروائح العفونة.
ثانيًا: نموذج الجسم المثالي
في إطار الثورة التي حدثت في المستقبل المتخيل في عالم التجميل وتنشيط تكاثر بعض الخلايا، صار بإمكان البشر استنساخ صورة طبق الأصل عن الجسد والروح البشرية، بل وربما استنساخ صورة تفوق الأصل في الإثارة الجنسية. وهكذا يستطيع المرء اختيار النموذج الذي يريده وقتما يشاء لنفسه أو لغيره ما دام قادرًا على دفع التكاليف. فبعدما تطوَّرت علاقة راشد مع سكرتيرة مكتبه، أراد أن يُجري لها عملية تجميل غير جراحية لتكون نسخة عن زوجته الجميلة سَلَام، لكن عندما أُعجب الطبيب بصورة زوجته واستأذنه أن ينسخ منها عددًا من الشبيهات مقابل الإعفاء من تكاليف العملية التي سيُجريها للسكرتيرة، توقف العقل الحسابي المادي عند راشد، مع أن زواجه من سَلَام كان خاضعًا للعقل الحسي الحسابي عندما قرر اختيارها لا لشيء إلا أنها أطول من أختها!
تُسبب العملية السحرية التي لجأ إليها راشد في اختلال هويته الجنسية في لحظاته الحميمية مع زوجته والسكرتيرة، لكن الحس بالذنب يتلاشى، ويتمنى راشد من كل قلبه أن تكون لديه مئة امرأة مثل زوجته، واعتبر أن هذه فكرة استراتيجية (فكرة أداتية تحقق اللذة الحسية المطلوبة أينما يشاء ومتى يشاء).
ثالثًا: الغوص في العفونة
أمام المستشفى الذي يعمل فيه راشد، وقبل المواجهة وكشف حقيقة علاقة راشد بسكرتيرته وتحويلها إلى نسخة عن زوجته، باغتت سَلَام رائحةٌ مختلفة، «خليطٌ بين رائحة الموت والعفونة والجراح والمواد المطهرة النفاذة». وبعد المواجهة: «سارت في الشوارع المظلمة، سارت في الرائحة العفنة، في العفونة ذاتها، العفونة اللزجة ذات الملمس الخفي على الجبين، كانت تخشى أن ترفع يدها لتمسح وجهها فتعود إليها خضراء كالطحالب الداكنة في العتمة الأدكن». وزاد من هذا الغوص في العفونة المفاجأةُ التي حاكها لها جارها الرَّاصد الجوي (شبيه زوجها راشد) الذي تعاملت معه باعتباره زوجها وشعرت باللذة معه قبل أن تدرك أنه ليس زوجها. وتزداد العفونة الداخلية والخارجية عندما تقودها قدماها إلى سوق تجاري وتجلس في مقهى لتكتشف أن النادلةَ صورةٌ عنها، وتبدأ النادلة بالصراخ والبكاء، وتزعم أن سَلَام قاتلة تتبعها، وأنها أوقعتها في اتهام بجريمة قتل قد ارتكبتها سَلَام نفسها! ووسط هذا الضجيج، «راح الأشباه يتطايرون في باحات المبنى الضخم وممراته كالشرر».
رابعًا: انفصام الشخصية
تُعتبر البارانويا أو جنوب الارتياب استجابةً نفسية إلى مشكلات الحداثة، بينما تعتبر الإسكيزوفرنيا أو انفصام الشخصية استجابةً نفسية إلى مشكلات ما بعد الحداثة. لكن يبدو أن هذه الرواية تجمع بين الاستجابتين: جنون الارتياب وانفصام الشخصية، مع أن عبارة «على يقين» تتكرر دومًا في ثنايا الرواية. بل إن عدم القدرة على التمييز بين الواقع والخيال يُعدُّ علامة من علامات الإسكيزوفرنيا، وهي حالة تنتاب الشخصية الرئيسة في غير موضع من الرواية.
يُعزى ظهور حالات الشبه في الرواية إلى تبدل الأحوال الجوية وتداخل فصول السنة التي تكاد تجتمع في يوم واحد. وينذر تكاثر الأشباه والشبيهات بحرب جديدة (حرب الكلب الثانية). فقد تطوَّر في الماضي خلاف صغير على ثمن كلب لينتهي بإحراق بلد بأكمله، والآن تنذر ظاهرة الأشباه والشبيهات بإحراق العالم بأسره. وهنا يفكر راشد في قتل شبيهه الرَّاصد الجوي، ويستعين بشقيق زوجته الضابط للحصول على مسدس، لكن راشد لا يقتل الرَّاصد الجوي، ويبدي في بعض اللحظات الأسف والشعور بالذنب أنه فكَّر في هذا الشيء الفظيع، بل يستنكر عرض شقيق زوجته الضابط أن يعتقل الرّاصد الجوي ويعذبه، ويرفض أن يجعل من تعذيب الآخرين لُعبة، لكنه رفض إرجاع المسدس للضابط؛ لأنه ربما يفكر في قتله مرة أخرى! وهذا انفصام في الشخصية لأن راشد يريد أن يُبرهن للضابط أنه لا يشبهه وأنه مازال من أصحاب المبادىء على العكس من رجال القلعة.
ثمة صراع داخلي يتجاوز مجرد انفصام الشخصية أو يزيد من حدتها، وهو أن الرَّاصد الجوي يُشبه راشد في الملامح الجسدية والخصال الحميدة كالشجاعة التي كانت لراشد عندما كان تحت سياط رجال القلعة. وتخفف من التوتر ساعات اللقاء بين راشد وزوجته سَلَام وتقبيل خدود الأولاد، لكن يبدو أنها لا تتعارض مع نية القتل وغياب المبدأ.
تتبدى حالة الانفصام في استمرارية الأفكار الاستغلالية التي يُطورها راشد في غمرة هذه الكارثة، خاصةً مشروع أسرى الأمل الثاني، وهو عبارة عن سجن سري كبير يُشرف عليه جيشٌ كبير من المتقاعدين الأوفياء من الشرطة والسجّانين باستغلال سيارات الشرطة الرسمية، كما يُستغل سائقو سيارات الإسعاف والمسعفين الرسميين، وبذلك يمكنهم شراء المتهم بدلًا من المُضي به إلى سجن رسمي، وتحويله إلى أسير أمل يدفع ما عليه حسب طاقته ليخرج من السجن!
تتبدى المفارقة/حالة الانفصام في توقف العقل الحسابي عن العمل في مواقف كثيرة، فمع أن راشد هو صاحب هذه الفكرة الرائعة بمعايير العقل الحسابي، فإنه يرفض عرض المدير العام أن يُشرف على المشروع قائلًا: «مبادئي لا تتيح لي الانخراط، أكثر من هذا، في مشروع كهذا … لا أطيق القيام بما قمتم به ضدي. سيكون الأمر ثقيلا على ضميري..»! وهكذا يتبدى الانفصام في أن صاحب الفكرة الشيطانية يرفض أن يقوم بها، وتذكرني هذه الحالة بقول عبد الوهاب المسيري رحمه لله لإحدى زميلاته ساخرًا: «أنتِ ستدخلي الجنة، وأفكارك ستدخل النار!».
خامسًا: حرب الجميع ضد الجميع
ربما يكون أفضل وصف لأحوال الناس في هذه الرواية هو مقولات توماس هوبز، ومن أهمها: الإنسان ذئبٌ لأخيه الإنسان، وحرب الجميع ضد الجميع. وهذا هو حال الطبيعة التي تحتاج إلى قوة تروضها أو تُحيِّدها حتى يستمر الوجود بعيدًا عن التوحش، حتى وإن أدى ذلك إلى ظهور أنماط جديدة من التوحش أشد فتكًا وتنظيمًا. وهكذا تبدو الشوارع خالية تمامًا، وليس هناك سوى سيارات الإسعاف والشرطة. قال سائق سيارة راشد: «لقد لاحظتُ اليوم أن الناس لم تعد تتعارك وتختلف لتجرح، بل لتقتل … من مكان الشِّجار إلى المقبرة … دون المرور بالمستشفى» فلقد «نَبَتَ الشبيهون كالفِطْر بعد المطر»، وسادت نزعة التوحش، وحرب الجميع ضد الجميع لأتفه الأسباب، بعدما أحدثت ظاهرة التشابه فوضى عارمة، خاصةً في العلاقات بين المتزوجين، حتى أن زوجة السائق قالت لزوجها: «إذا كان لي أن أختار فسأختار واحدًا مثلك، لأنني أحب وسامتك، على أن يكون مديرًا لشركة ما، فنانًا، كاتبًا رقيقًا، أو رائد فضاء يأخذني والأولاد إلى كوكب آخر ويريحنا مما نحن فيه … هل تعرف أن حرب الكلب الثانية على وشك الوقوع؟».
مع أن السائق أصبح شبيهًا براشد، يقول راشد لنفسه: «راشد لا مثيل له»، وتتحول الطبيعة إلى «آلة ناسخة عملاقة»، ويظن البعض أن الشبه ينتقل بالعدوى، ويتحول راشد إلى مخترع للكوابيس، بعدما أمضى عمره مزرعة للأحلام، ويؤدي تكاثر الأشباه إلى تحول البلاد إلى أراض محروقة. فظاهرة التشابه المتفاقمة تخرج عن إطار القوة الطبيعية لقوانين الوراثة، وتنتشر جريمة قتل الأصول لأشباههم أو العكس، وتنتشر حمى الهجرة للكواكب البعيدة، وهجرات قسرية، ويعيش الأشباه والشبيهات حالة ذعر تتضمها خيالات وشائعات، حتى قِيل إن الطبيعة غاضبة، ويتبدى قُبح الوجود على لسان أستاذ علم الأحياء التطوري في برنامج تليفزيوني: «فإذا كانت الفصول قد اختلطت في فصل واحد، فما الذي يمنع أن يصبح البشر كلهم على صورة رجل واحد؟! أو يكونوا في النهاية على صورة حيواناتهم؟ … لقد أزعجنا الكوكب بما يكفي … لقد سبقتنا الكائنات الأخرى في كل هذا (التنظيم الحضاري) … ولا شيء يُفسِّر قُبح وجودنا مثل عملنا المتواصل على إبادتها بسبب تفوقنا عليها».
تتأزم الأحداث عندما يتبين أن السائق شبيهٌ براشد، وعندما يقوم الناس بقتله لأنه الشبيه، ويستغل راشد الأمر، فيتعامل مع زوجة السائق على أنه هو زوجها. ففي غمرة الدمار والتوحش تبقى المرأة موضوع الرغبة، كأن الجمال الجسدي هو المُلطِّف للتوحش، مع أنه في حد ذاته توحشٌ قائم على الخداع والاستغلال. وهنا تتحدث نشرة أخبار عن قيام كثير من الحيوانات والحشرات بتقليد البشر وعاداتهم وأخلاقهم السيئة باعتبارها ظاهرةً تشير إلى تخلي الطبيعة عن براءتها ونظامها.
وضع الضابط والمدير العام لعبة لإرغام راشد على لعب دور السجّان الذي قد يستخدم السوط أو المطرقة أو حتى التيار الكهربائي. فتم القبض عليه يوم عيد ميلاده والزج به في السجن ليرى ويلات السجن مرة أخرى وليجد شبيهًا له اعتقد أنه الرَّاصد الجوي، فتعامل معه بمنتهى الوحشية والقسوة ليكشف في نهاية المطاف أنه ليس الراصد الجوي، بل رجل آخر يرتدي قناعًا يشبه الراصد الجوي. هنا يكتشف راشد أن يُشبه الضابط والمدير العام في الوحشية والتوحش: «ما أثار دهشته فهو ذلك الوحش الذي كان كامنًا فيه، ولم يسبق له أن انتبه لوجوده: إنه قادر على لعب دور السجّان بالقوة نفسها التي استطاع فيها أن يلعب دور السجين!».
وتكمن المفارقة/حالة الانفصام في أن راشد يخون زوجته مع السكرتيرة ومع زوجة السائق التي لا تعرف أنه شبيه زوجها، لكنه يهيج دومًا عند رؤية جاره وشبيهه الرَّاصد الجوي، ويُبدي حرصًا على الاشتباك معه ويحاول قتله في العتمة. وهذا مظهر آخر من مظاهر الانفصام في الشخصية الرئيسة. ويتشكل هذا الانفصام وسط محاولات فض الاشتباك، وتعالي الصرخات وتناثر الدم في الأجواء، وانتشار سيارات الإسعاف وسيارات الشرطة، واشتداد المعارك ودوي أصوات بنادق آلية وانفجارات قنابل وأصوات انهيارات واستغاثات ليتحول الحي إلى ساحة للخراب. وهنا ترى القلعة أن إطلاق النار العشوائي شرٌ لابد منه لدرء الخطر الأكبر المتمثل في استمرار الحرب إلى ما لا نهاية، ويدور الحديث حول قرار القلعة بوقف الحرب بقتلها لجميع السكان من خلال الرماية العشوائية أو بوقف صهاريج الأبخرة الطبية التي تخفف من حدة العفونة ونوبات السعال.
تتفلت خيوط الرواية من الراوي، ولا يسعفه إلا الخيالات الجنسية لدى الشخصية الرئيسة. فنعلم أن راشد أراد أن يكرر ما فعل من قبل؛ أن يستنسخ صورة عن زوجة السائق. لسنا هنا إزاء أسطورة العشق الأبدي أو الحب المقدس القائم على مقولة «تعاهدنا ألا يفرقنا إلا الموت»، بل الحب السائل بتعبير زيجمونت باومان، وهو حب متمركز حول اللذة والتلذذ القائم على الخداع والتلذذ بالخداع. ويتلاشى الضمير ولا يبقى سوى انتقام الطبيعة، فتتساقط الناس موتى من نوبات السعال وهم يتخبطون كالطيور الذبيحة. فالضابط الذي كان يلعب بذيله مع شبيهة شقيقته سَلَام لعب أحد أشباهه بزوجته. وعندما صار لكل مواطن قناع يحدد هويته للخروج من هذا المأزق، وجرى ضبط راشد باعتباره السائق رغم نفيه لذلك، قال الضابط لراشد: «ثم إن زوجة السائق، أعني زوجتك، قد عرفتك، والأفضل أن أصدقها على أن أصدق أنك تخون سَلَام معها!» فتوالت الضربات، وكذلك التأرجح بين تصديق راشد أو تكذيبه، حتى مات راشد من الضرب. فلم يقتصر الانفصام على الشخصية الرئيسة، بل طال جميع الذكور، بمن فيهم الضابط الذي يتأفف من خيانة راشد وهو نفسه خائن لزوجته! وهكذا فإن الضابط الخائن لزوجته وللمبادىء يتحدث عن كراهيته للخيانة، ولا نعرف المرجعية التي تدفع بالجميع إلى الدفاع عن المبادىء وهم يفتقرون إليها إلا حالة الانفصام.
لقد انتابني شعورٌ طاغٍ بأن كاتب الرواية ينتمي إلى الجيل الضائع، والذي شهد سطوة الاعتقالات والتعذيب وانهيار المشروع اليوتوبي الأيديولوجي وسردياته الكبرى، وتحوله إلى ديستوبيا الجسد والجنس والسرديات الصغرى. وإن كان شعوري يقوم على خلط صريح وواضح بين المؤلف والراوي والشخصية الرئيسة: «لا أحد يستحق أن أخوض معركة من أجله»؛ فالرواية تكشف عن يأس عميق ضرب بجيل كامل راودته فكرة المجتمع المثالي، جيل عاصر حروب وويلات وانقلابات واعتقالات. هذا الجيل الضائع لا يجد أمامه الآن إلا الخيالات الجنسية التي قد تخفف آلام الحاضر وتناقضاته.
حجاج أبو جبر
أستاذ النظرية النقدية بأكاديمية الفنون (مصر)