ليست قيمة شلايرماخر Schleiermacher (1768-1834) الفلسفيّة في فلسفةٍ أسَّسَ لها أو نظرية أنشأها، بل إنّ قيمته الأكثر أهميّة هي في الانقلاب أو الانعطاف البراديغميّ (Détour paradigmatique) الذي أحدَثه في تاريخ الفكر عمومًا وفي تاريخ الفلسفة خصوصًا، أو ما نُسمّيه “إعادة توجيه الفكر”، تلك العبارة التي تُذكّرنا بكتاب ديكارت “قواعد لتوجيه الفكر” (Règles pour la direction de l’esprit). ومنه فنحن أمام انعطافٍ كبير للكوجيتو، في لحظة مُضاعَفة للتفكير أي في لحظة الفهم. لأنّه، مثلما يرى شلايرماخر، “اعتقدنا، جميعًا، أنّه يمكننا أن نثِق في المعنى الصحيح للمبادئ الكونيّة، لكن يمكننا أيضًا أن نعتمد على الحدوس الجيّدة للمبادئ الجزئيّة”[1]، وهذا يعني أنّ كونيّة الكوجيتو في مسارٍ يمتدّ من ديكارت إلى كانط كانت كونيّة تتضمن على “وهم” بالمعنى الأنطولوجيّ وليس بالمعنى الإبستمولوجيّ. هذا الوهم ناتجٌ عن فكرة أنّه بإمكاننا التفكير بشكل صحيح عندما نستند إلى قواعد وقوالب عقلانيّة، إذ تقول القاعدة الأولى من قواعد توجيه الفكر: “يجب أن يكون هدفُ الدراسات توجيه الفكر توجيهًا يمكّنه من بناء أحكام متينة حقيقيّة في كلّ ما يُعرَض له من مسائل”[2]. عندما يضع ديكارت هاته القاعدة في واجهة قواعده؛ فإنّه يريد أن يضعها قاعدةً نموذجيّة عُليا للعقل تقوم بعمل توجيه الفكر ضمن شموليّة المسائل التي تعني كُليّانية الفكر فيما يبني الحقيقة الصلبة.
غير أنّنا نجد ديكارت في القاعدة الثامنة يعرض لعجز معرفيّ دون أن يقدّم مبرّرًا كافيًا له، إذ يقول “إذا تبيّن لنا من بين الأمور التي نبحث عنها، أن شيئًا ما لم يستطع ذهننُا حدْسه حدسًا كافيًا، فينبغي أن نتوقّف عند ذلك الحدّ ولا نتجاوزه إلى فحْص ما بعدَه من الأمور، بل ينبغي أن نزهد في عملٍ لا طائلَ من ورائه”[3]، ففي نقطة العجز الإبستيمولوجيّ هذه، يولَد البراديغم التأويليّ في مشكلة الفهم، أي عندما يَعجز التفكير عن تجاوز الحدود المعرفيّة التي أنشأها من خلال القواعد والمناهج. عندما تختفي البداهة والوضوح في الشيء فإنّنا لا نكون أمام حالة العجز عن التفكير بل نكون أمام حالة عجزٍ عن الفهم، الفهم بوصفه اتجاهًا للتفكير، حيث إنّ “إمكانية الفهم تتأسّس داخل ماهيّة العقل”[4]، وهذا يعني أنّ الحدود الأنطولوجيّة للتفكير هي المدخل النظريّ لمشكلة الفهم، والحدود هنا بوصفها أوهامًا وليست نهايات إبستمولوجيّة للمعرفة.
في صلب مسألة الفهم يُوجّه شلايرماخر نقدًا جذريًّا للفيلسوف بقوله: “إنّ الفيلسوف في ذاته لا يَنزع إلى تأسيس هذه النظرية (الهرمينوطيقا) لأنّه نادرًا ما يريد أن يَفهم، لكنّه يعتقد، على العكس من ذلك، أنّه يجب أن يكون هو نفسه مفهومًا”[5]، ففي هذه اللحظة التي يَرتدّ فيها الفهمُ الفلسفيّ إلى ذاته يتأسّس البراديغم الهرمينوطيقيّ للعقل، حيث تكمن مهمّة الهرمينوطيقا في خلق التوازن بين النزوع إلى الكليّ والثبوت النهائيّ للذاتيّة”[6]. إنّ هذا يعني إعادة توجيه التفكير نحو الفهم كذاتٍ مخصوصة لها حياتُها الأوليّة وبناؤها السابق، فعندما يَردّ كانط القبليّ apriori إلى القوالب العقليّة لبناء المعرفة فإنّه يفعل ذلك ليجد حلًّا إبستيميًّا للمتناقضات والمتعارضات في التفكير، لكن عندما يَردّ شلايرماخر مشكلة المعرفة إلى مشكلة الفهم فإنّه يفعل ذلك ليجد حلًّا لمشكلة التفكير نفسه. هذه المشكلة هي حالة سوء الفهم، “فالهرمينوطيقا تُنشئ رابطةً مع فنّ التفكير، فهي إذًا فلسفيّة”[7]، وهذا يعني الانتقالَ من منظور الحقيقة المؤسّس على اليقين المنهجيّ الذي يتبلور داخل الذات المفكّرة في تصوّرها لموضوعها إلى فهم “المعنى” الذي تنقله اللغة عن الموضوع المفكّر فيه. اللغة بوصفها الحدودَ الأنطولوجيّة للتفكير التي يتأسّس داخلها وجود كُليّانيّ، وبهذا المعنى نفهم أنّ التأصيل الأنطولوجيّ لهيدغر مَبنيٌّ على الفهم الشلايرماخري.
إنّ اللغة هي التي تَضمن كونيّة الهرمينوطيقا بوصفها “فنّاً للفهم”[8]، إذ يعتبر شلايرماخر أنّ “كلّ فعلٍ للفهم يحتوي على لحظتين، فهم الخطاب كعنصر لغويّ، وفهم الخطاب كحقيقة مُنتَجة داخل الذات المفكّرة، ولا يوجد فعلٌ للفهم إلّا داخل مُركّب اللّحظتين معًا”[9]، وبهذا نرى أنّ الكوجيتو ينقلب على نفسه لتأسيس وجودٍ مختلف تُبنى عليه الحقيقة من خلال اتفاقٍ على فهمٍ ما، ذلك أنّه كما يرى ريكور “الفهمُ طريقةٌ في الوجود قبل أن يكون طريقة في المعرفة”[10]. فإذا كان ديكارت قد تغلّب على الشكّ من خلال بداهة الوعي، فإنّ بداهة الوعي تلك تصبح في مَحلّ تأويلٍ عندما يجدُ الوعيُ نفسه أمام حالة اللافهم ويفقد قاعدته الأنطولوجيّة التي يستند إليها لبناء الحقيقة.
إنّ طريق الفكر الجديد الموجَّه بواسطة فنّ التأويل هي طريق خطابيّة، بما أنّ اللغة سابقة حتميّة على الفلسفة. وعليه ينظر شلايرماخر إلى الخطاب بوصفه المجالَ الذي يجب أن نتتبّع فيه حركَة الفهم، “فالخطاب هو وسيطُ التفكير، وهو ما يفسّر بأنّ الخطابة والهرمينوطيقا تسيران معًا (..) وهذا يؤكد أنّ كلّ فعل للفهم هو قلْبٌ لفعل الخطاب”[11]، هكذا يُنبّهنا شلايرماخر بعبارة القلب L’inversion الرومانتيكيّة إلى أنّ الخطاب هو لحظة تأويليّة ضروريّة لاستعادة حالة الفكر الأولى. ذلك لأنّ “الخطاب هو وسيط الفكر بالنسبة إلى الفرد”[12]، ومن ثمّة فإنّ الفهم يتحرّك ضمن حدود الخطاب الذي يَقْلِبه إلى حالته الأُولى عبر فنّ التأويل بوصفه الحاملَ التقنيّ لفعل الفهم، أو كما يقول شلايرماخر “إنّ التأويل لا يتميّز عن الفهم إلاّ بكونه خطاباً عاليَ الصوت لخطابه الداخليّ”[13]، وإذا كان الخطاب منتجًا داخلَ ذاتٍ مفكّرة أيضًا، فإنّ حوارًا يَنشأ بين ذاتَين مفكّرتين عبر الوسيط اللغويّ بما هو القاعدة الأنطولوجيّة المشتركة للفهم.
إنّ الحاجة إلى التأويل تَنشأ من الحاجة إلى الفهم من خلال “حتميّة الخطاب”، “فعندما تجدُ الذاتُ المفكّرة أنّه من الضروريّ تثبيت الفكر لنفسها، فتلك لحظةٌ يُولد فيها فنُّ الخطاب، لحظةُ تحويلِ الحالة الأُولى للفكر، ومنه يصبح التأويلُ ضروريًّا أيضا”[14]. إنّ هذا يعني أنّ التأويل ضروريّ لأنّ حالة الفكر الأولى قد تحوّلت مع ظهور الخطاب، وهذا التحوّل هو ما يخلق حالة اللافهم، وكأنّنا نسير عكس اتجاه القاعدة الثانية من قواعد توجيه الفكر الديكارتية التي تقول: “ينبغي أن نقصر اهتمامَنا على الموضوعات التي يبدو فكرُنا قادرًا على اكتساب معرفتها اكتسابًا يقينيًّا لا يُداخله رَيب”[15]، لأنّه، حسب شلايرماخر، لم يَعُد هذا الفكر هو نفسه عندما انتقلَ عبر وَسَاطة الخطاب، إنّه الأثر فقط، وعليه فإنّ فنّ الفهم يقوم في إعادة صياغة الحياة الأوّلية للفكر وأبنيته السابقة. يقوم فنّ التأويل في إعادة إنتاج الشروط التي تُحيلنا على الخصوصيات الأصليّة للأثر المنقول عبر الخطاب. بهذا المعنى نفهم عبارة شلايرماخر “كلّ فعلٍ للفهم هو قلبٌ لفعل الخطاب”.”Tout acte de comprendre est l’inversion d’un acte de discours”.
إنّ كينونة الأثر هي جوهر الفهم بالمعنى الشلايرماخري أو ما ندعوه بـ”فهم الفهم”، وهو المشروع الذي سيجد تأصيله الأنطولوجيّ لدى هيدغر عندما يبحث في الشروط الأنطولوجيّة للفهم بما هو كينونة الفكر الجوهريّة من خلال التأويل بوصفه إصغاءً، أي من خلال الفهم الفاقد لكلّ وضعٍ إبستمولوجيّ بما يسمح بالمحافظة على الأثر في صورته الأولى، على الحقيقة، إذاً، في حياتها الأوّلية، حيث إنّنا لم نجد لحدّ الآن مدخلا إلى كينونة الفكر الخاصّة به بحيث نقيم فيها. بهذا المعنى فإنّنا لا نفكّر بَعْدُ على نحوٍ خاصّ، بل في هذا بالضبط سنقول بأنّنا نفكر”[16]، فالتفكير الحقيقيّ، إذاً، يَسكن أرضيّة الفهم الأصليّة والمستعادة من خلال فهمٍ مضاعف للأثر الذي يتركه في الخطاب. لتتبّع هذا الأثر، يعتمد شلايرماخر على تأويل ثنائيّ المقاربة: التأويل النحويّ، لفهم العبارات والصور اللغوية الثقافيّة التي يعيش فيها المؤلّفُ حيث تفكيره مشروط بها، والتأويل النفسيّ، لفهم ذهنيّة المؤلّف الخاصّة[17]، غير أنّ هذه المقاربة ليست مهمّة بقدر التأصيل الفلسفي لمشكلة الفهم الذي سيأخذ طريقه إلى العلوم الإنسانيّة ليُعيد توجيه الفكر داخلها.
لقد أراد شلايرماخر أن يمنح الهرمينوطيقا بعدًا كُليّانيًّا من خلال تحرير الفهم من خصوصيّات الخطابات، ولذلك يُدشّن رؤيته للهرمينوطيقا بمنظور منهجيّ تأسيسيّ بقوله: “إنّ الهرمينوطيقا كفنّ للفهم لم توجد بَعْدُ كشكل عامّ، توجد تأويلاتٌ متعدّدة وخاصّة فقط”[18]، إنّ هذا يعني أنّ هذه التأويلات كانت ترتبط بالخطابات التي تشتغل عليها، أي التأويل كأثر للخطاب وليس كأثر للفهم. وعليه يميّز شلايرماخر بين نوعين من الفهم: فن الفهم وبيان الفهم، حيث “إنّنا لا نتحدّث إلّا عن فنّ الفهم (l’art de comprendre) وليس بيانَ الفهم (l’exposition de la compréhension)، فبيان الفهم ليس إلّا جزءًا خاصًّا من فنّ الخطاب والكتابة”[19]، فالأوّل “فعلٌ” لقلْب الخطاب والثاني حالةٌ لامتداد الخطاب في التفكير.
إنّ هذا التمييز بين فنّ الفهم وبيان الفهم يؤسّس للوغوس التأويل المعاصر الذي سيكون مَرجعًا للعقل التاريخيّ لدى دلتايDilthey والعقل الهرمينوطيقيّ بصفة عامّة. بهذا المعنى للعقل الهرمينوطيقيّ يمكن أن نفهم معنى “إعادة توجيه الفكر” لدى شلايرماخر. لقد انقلب الكوجيتو رومنتيكيّاً خارج حدود نظريّة المعرفة ليُعيد توجيهَ الفكر نحو حياة الفهم الأصيلة وتجليّات هذه الحياة في خطاب اللغة.
الناصر عمارة، جامعة مستغانم، الجزائر
[1] Schleiermacher, Herméneutique, Trad. Christian Berner, Cerf-PUL, Paris, 1987, p. 114.
[2] Descartes, Règles pour la direction de l’esprit, trad. et notes J. Sirven, Librairie philosophique J. Vrin, Pris, 1996, p. 01.
[3] Ibid., p. 47.
[4] Christian Berner, Aimer comprendre, recherches sur les fondements éthiques de l’herméneutique de Schleiermacher, in: Revue de métaphasique et de morale, n°1, 2001, PUF, Paris, p. 43-61.
[5] Schleiermacher, Herméneutique , op.cit, p. 114.
[6] cf. Ch. Berner, op.cit.
يشير بارنر إلى أن شلايرماخر حاول إنشاء علاقة رابطة بين المعطيات الأنتروبولوجية الكونية وفرادة المسيحية.
[7] Schleiermacher, Herméneutique, p. 114.
[8] Schleiermacher, Herméneutique, p. 113.
[9] Schleiermacher, Herméneutique, p. 115.
[10] Ricœur, Lectures II, la contré des philosophes, Seuil, Paris, 1992, p. 453.
[11] Schleiermacher, Herméneutique, p. 114.
[12] Ibid. p. 114.
[13] cf. Gadamer, L’art de comprendre, écrits II, herméneutique et champ de l’expérience humaine, trad. Pierre Fruchon et autres, Aubier, Paris, 1991, p:31.
[14] Schleiermacher, Herméneutique, p. 114.
[15] Descartes, Règles pour la direction de l’esprit, p. 04.
[16] هيدغر، التقنية الحقيقة، الوجود، ترجمة: محمد سبيلا، عبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، د،ت، ص201.
[17] cf. Schleiermacher, Herméneutique, p. 116.
[18] Schleiermacher, Herméneutique, p. 113.
[19] Schleiermacher, Herméneutique, p. 113.