في شعرية الاقتباس

«ما أرانا نقولُ إلا رَجِيعًا ومُعادًا من قولِنا مكْرُورا»
– زهير بن أبي سلمى
سألني صاحبي: «لماذا تقتصر في جلّ كتاباتك على إيراد الاقتباسات مكتفيًا بالإشارة إلى أسماء أصحابها، من غير إحالة إلى مصادر، وتعيين لصفحات، وضبط لتواريخ، خصوصًا وأن من شأن ذكر ذلك أن يدلّ القارئ على سياق التفكير، وأن يحيله على المصدر بأكمله؟» لم يكن من اليسير عليّ أن أردّ على هذا السؤال. لا يعني ذلك أن الأمر قد فاجأني، وأنني لم أكن على وعي به، إلا أن التّبرير النّظري للمسألة بدا لي أمرا غير متيسّر.
حاولت في البداية أن أنبّه صاحبي أن الاقتباس لا يأتي دومًا من أجل غاية تعليمية، وأن أذكّره ببعض الكتّاب المعاصرين الذين ينهجون النّهج ذاته، مؤكّدًا أن منهم من سلك المسلك عينه حتّى في أطروحته الأكاديمية. غير أن ذلك لم يكن بالأمر الكافي كي يقنع السائل، وربما كي يبرّر هذا النّهج حتى بالنسبة إليّ أنا كذلك. وسرعان ما تبيّنت جدّية السؤال وأهمية القضيّة، وأنّه لا يكفي لتبريرها الاقتداء بمن تقدّم، وأنّ الأمر قد يتطلّب إعادة النّظر في «شعرية الاقتباس» برمّتها.
نبّهت صاحبي بدايةً أن سؤاله يفترض أنّ الكتابة تتمّ بوعي وسبق إصرار، كما أنه يسلّم أن التّمييز بين ما للكاتب وما لغيره أمر يسير. والحال أنّ يد الكاتب هي دوما «يدٌ ثانية»، وأنّ الكاتب غالبًا ما يقتبس حتّى إن ظنّ أنه صاحب الفكرة، وأنه السّباق إليها. فتخصيص عبارات بعينها على أنّها مأخوذة من الصفحة كذا في المرجع كذا مع إغفال ما تبقّى، هو نوع من الادّعاء بأن كل هذا «الماتبقّى» من إبداع صاحبه، وأنه اختطّ لأوّل مرّة، وأنه لم يتقدّم ذكره على الإطلاق Inédit.
ثم إن الاقتباس لا يأتي دومًا من أجل غاية تعليمية، ولا حتّى دعامةً وتأكيدًا لما سبق قوله، وإنما يغدو في أغلب الأحيان «مادّة» فكرية. إنّه يصبح «شغّالًا» في النصّ، مكوّنًا من مكوّنات الكتابة، وعنصرَ تفكير عند مقتبسه. وهذا ليس لكونه يدلّ على الجهود التي يلزم للكاتب أن يبذلها لانتقاء ما يناسب، اعتبارًا بأن «اختيار الكلام أصعب من تأليفه» كما قال ابن عبد ربه، وإنما لأن الاقتباس يغدو جزءًا لا يتجزّأ من النصّ. فلا عجب إذاً أن يظهر في أكثر من موضع، وأن يتردّد في أكثر من مقال. فكأنّه يكفّ عن أن يكون منقولًا لكي يصبح مُتمَلَّكا وعنصرًا من صميم الكتابة. فكأنما يتخطى قواعد الضّيافة ليدخل في نسيج الكتابة، ويصبح من أهل الدّار.
الاقتباس هنا نوع من التملّك الفكري، فهو يكاد يحيل إلى المقتبِس أكثر مما يردّ إلى صاحب الاقتباس. بهذا المعنى، يقول كيليطو عن الجاحظ بأن «مزاجه يظهر في كل صفحة من كتبه رغم أن جلّ كلامه اقتباسٌ ورواية». ولعلّ ذلك ما دفع مؤلف «الكتابة والتناسخ» نفسه إلى أن يصرّح في إحدى المناسبات بأن أهمّ ما يعتزّ به في كتبه ليس هو محتواها، وإنما تلك الاقتباسات التي يضعها على عتبة الكتاب.
هذا الشّعور بتملّك الاقتباس ربّما هو الذي يجعل كثيرًا من الكتّاب «ينزعجون» حينما يرون أن اقتباساتهم اقتُبست بدورها، اقتناعًا منهم أنّهم، حتى إن لم يكونوا أصحاب القول، فهم أصحاب «الاكتشاف». لذلك فغالبًا ما يتوقّعون ممن يورد اقتباسهم أن يذكر أسماءهم إلى جانب صاحب الاقتباس، كأن يقول: «ذكَره صاحب العمدة وهو لعلي بن أبي طالب».
ربما كان هؤلاء على شيء من الصواب. إذ يبدو أنه لولا المقتبِس لمرّ الجميع على القول مرّ الكرام، فهو الذي «اكتشف» القول وتبيّن قيمته. ذلك، على أية حال، هو ما أستشْعرُه عندما اقتبس اقتباسًا سبق لأحدهم أن وظّفه، إذ سرعان ما يخامرني الإحساس بأنني اقترفت نوعا من «السرقات الأدبية»، وأنه لا يحقّ لي أن أسطو على قول لست أنا من اهتديت إليه.
غير أن هذا الإحساس سرعان ما يتبدّد عندما أتذكر أن كل اقتباس هو في النهاية اقتباس عن اقتباس، علمًا بأن ليس هناك قول «أصل» وأقوال فروع ما فتئت تأخذ عنه وتردده. فالكتابة ليست في النّهاية إلاّ استنساخات تنسى أنها كذلك.
وعلى رغم ذلك، فينبغي التّمييز هنا بين هذه الاقتباسات التي قلنا إنها تغدو «شغّالة» في النصّ، فتصير مادة تفكير، وجزءًا من الكتابة وليس مجرّد سند لها، وبين الاستشهادات بالحكَم والأمثال، أي بتلك العبارات التي تبدو ملكًا للجميع من غير أن تكون ملكًا لأحد بعينه، تلك العبارات التي تبدو وكأن لا مصادر لها، كما لو أنها قيلت منذ غابر الأزمان، لذا فهي حين تُوَظّف، فلقيمتها التراثية إن صحّ التعبير، كي تأتي دعامة لقول وتأكيدًا لموقف، وذلك من غير إحالة إلى مرجع بعينه، ومن غير تحديد صفحات، وضبط تواريخ.
لا شكّ أن استعمال هذا النوع من الاقتباسات يتوقف على سرعة الكتابة وكثافتها. ذلك أن هناك كتابات تتمنع عن الاستقرار والتباطؤ والانجذاب إلى ما يشدّها إلى ثوابت، وما يعرقل حركتها ويحدّ من تدفّقها. هذه الكتابات «اللايت» لا تسمح بالتوقّف لضبط المصادر، وتعيين المرجعيات، والانشداد إلى ضوابط، لذا تراها تعتمد شيئا من «القفز والوثب»، فتعفي نفسها من كل ما يوقف انسيابها، وتستأنف القول، وتواصل التفكير، همّها الأساس هو أن «تجعل الفكر يمتدّ…».