ساعة المنبّه أو عندما تقتحم تأويلية الاستيقاظ قلعة الوعي والشعور
مارتن ستيفان/ تييري فورمي - ترجمة: الحسين أخدوش

الجرم المشهود:
خطوط حمراء باهرة ترتسم على خلفية سوداء غامقة وسحيقة. بالتوهج نفسه تظهر نقطتان صغيرتان ثم تختفيان في الآن ذاته. فجأة يظهر صوت ينطق بعبارات من عالم غريب، عالم كنت غائبًا عنه، فإلى كم تشير الساعة الآن؟ يدوّي صوت يعلن بقوة لا تُطاق: «الساعة تشير إلى السادسة وثماني وعشرين دقيقة. شكرًا على وفائكم. فورًا عناوين الأخبار، إلخ». فعلًا إنّها الساعة السادسة وثماني وعشرون دقيقة كما تشير إلى ذلك لوحة إطار منبّه مذياعي.
يأخذنا الاستيقاظ إلى هذا الفعل الشنيع دائمًا: أي النهوض بشعر أشعث مع التعب والتخبّط، في لباس نوم طفولي، يصحب ذلك فقدان للشعور بالعالم من حولنا. يفاجئ الاستيقاظ تيهنا. يجعل اللحظة شاردة طويلة وممتدة. يوجد في ناقوس جرسه إنذار ما. إنّنا نفضّل أضغاث أحلام عن يقظة الوعي: إنّه الأحسن لنا! لذا، فكلّ واحدٍ منا سيكون مطالبًا بأن يستجيب لنظام العالم كلّ صباح. «شكرًا على وفائكم»: هكذا الأمور تعود إلى مسارها الصحيح. هكذا يجب أن تكون.
الواقع أنه لا شيء أكثر أهمية من الاستيقاظ؛ فلا أحد يريد حياة يقضيها كلّها في غيبوبة نوم، أو في تخدير دائم، ولا حتى حياة أحلام يقظة يكون فيها مقيّد الحركة. إنّ كلّ شيء يتوقّف على الاستيقاظ. فما لم يحصل تبجيل نعمته سوف يلزم الاعتراف بأنّ أيّ نشاط سيتلاشى من دونه بما في ذلك تلك الأنشطة الجليلة، فكلّ شيء سيقع في عدم اللاوعي. إنّ الحب والصداقة والسرور والفرح، أمور كلّها تتطلّب منّا على الأقل أن نكون مستيقظين؛ وما دون ذلك، يقال: الموت نوم أبدي.
«هيّا، يا شباب، استيقظوا!»: الشباب، وهذا ما يعني الكائن البشري في مهمته المشتركة؛ لأن امتياز تلقي وجود الأشياء يعود إلى الإنسان. فكما يشير بليز باسكال في نص شهير له ما معناه أنّ »الكون الذي يستوعب كلّ شيء لا يستوعب ذاته«؛ إذ فعلًا، مهما بلغت عظمة هذا الأخير وشساعته، فإنّه يعيش جهلًا خالصًا بذاته. يقظة وعينا هي التي تسمّيه وتجعله معروفًا لنا، فلأجل هذا الوعي وعبره يوجد هذا الكون: فلئن تركناه وشأنه دون رعب النظرة التي تستوعب ضخامته، فإنّه حينها سيصبح لا شيء. الإنسان غصن قصب هشّ يقول باسكال، إنّه جزئي وصغير وهشّ في هذا المجموع الكوني الذي يتهدّده بالنفي؛ لكنه، مع ذلك، قصب مفكّر: العين المفتوحة على العالم التي تمنحه الوجود؛ ولهذا السبب ينبغي لنا فتح هذه العين ومن ثمّ الاستيقاظ.
هل هي عودة إلى الحياة المحسوسة؟
إذًا، ما الذي يعنيه الاستيقاظ؟ الأمر ليس بديهيًّا؛ إذ من الذي ينهض في الواقع عندما يوجّه الإنسان ضربة يد رشيقة لمنبّهه الميكانيكي الخاص؟ الجواب الأولي والبديهي، بلا شك، والذي يتبادر إلى الذهن هو: إنّ ما يستيقظ هو الحساسية التي نفهم منها، بالمعنى الأولي، ملكة الإحساس. فما يعنيه الاستيقاظ هو السماع مجدّدًا للأصوات المعتادة نفسها: نداء طفل جائع، خطوات الجيران في الأعلى، تدفّق مياه الأمطار في الخارج، إلخ. إنه حسّاسية تجاه الصوت أكثر من رائحة القهوة المنبعثة من الوعاء. الاستيقاظ في الواقع هو احتفاء، عبر هذه المظاهر القاتمة كلها، برجوع الإنسان إلى حياة الحواس.
هكذا، عندما تتوقّف إشارة ساعة المنبّه، تتبعها حركة توقظنا من نومنا العميق والذي قد يتطلّب في بعض الأحيان هزات ارتجاجية (انهض بحقّ الجحيم، ستتأخر عن الموعد!)، أو بأخذ حمام بارد؛ غير أنّه لا حركة من دون تصرّف، وحيث إن مثل هذا الخروج قد لا يكون مصحوبًا بأيّ تصرّف؛ لعلّ ذلك ما يجعل الآباء يعرفون من خلال تجربتهم مع الصغار الذين يستيقظون في الليل: أنّه ليس هناك ما هو أسهل من إيهام الآخرين بضرورة الاستمرار في النوم من التظاهر بالنوم ذاته. أمّا في حالة الاستيقاظ فالأمر لا يتعلّق بعد بالفعل، ذلك أنّه ليس مجرّد نهوض، وإنّما مسألة إحساس فقط، فالإحساس هو ما يجعلنا نلج هذا العالم.
مع ذلك لا يتعلّق الاستيقاظ من النوم بحواسنا الخمس ولا يعنيها وحدها فقط؛ لذلك ليس سلبيًّا، أمّا وكوننا نحسّ قبل الاستيقاظ، فلأنّه من الضروري أن تكون ملكة سمعي يقظة بشكل فعلي حتى يتسنى لصوت مذياعنا الخاص التسلّل إلى حلمي كي يقطعه. فإذا لم يتوقف الإحساس في أثناء النوم؛ فذلك لأن اليقظة ليست إحساسًا في المقام الأوّل: إنها أقلّ عودة إلى الحياة المحسوسة من الحياة الواعية، ولأنّها كذلك، فليست مجموعة سلبية من الانطباعات الحساسة، وإنّما فاعلية تحديد ما تغطيه هذه الانطباعات، فمثلًا هذه الغرغرة التي أسمعها: هل هي وحش طفولتي؟ أم آلة إعداد قهوتي؟ أم ماذا؟ ما هذا التلاطم إذًا؟ هل هو كما أحلم لعبة خاطفة تلعبها كائنات غريبة؟ أم هي، كما أحسب ذلك، صوت المطر في الخارج؟ إنّ الإدراك أكثر من مجرد إحساس: إنّه تحديد للمشاعر واستعادة لمجموعة متنوعة من الأحاسيس (وهذه السلسلة من الأصوات غير محدّدة بعد) إلى ما نعرفه.
ليس الاستيقاظ مجرد فسح الطريق للعالم كي يدخل علينا، وإنّما هو الترتيب له، إنّ الغرفة التي سبق أن نمنا فيها عادة ما تكون طيّ نسياننا؛ ولذلك تبدأ الأشياء بأخذ مكانها من حولنا. فهل ننزوي في آخر ليلنا على الأريكة؟ وهل هذه هي غرفة نومنا التي اعتقدنا معرفتها بداية؟ ألم يحصل لنا خلط بين مصباح غرفة المعيشة ومصباح السرير، بين نعومة القطة وكتف من ينام بجانبنا؟ إن الخروج من حالة نوم، نتيجة صوت ضجيج حاد موقظ، هو سير للاعتراف بسؤال: أين أنا؟ ربما الاستيقاظ ممارسة مختلطة وفوضوية، فهو مضلل في شغفه بعض الأحيان رغم أنه نشاط وممارسة قبل كلّ شيء. أيضًا، ليست استثارة الاستيقاظ لحاستي الشّم والسمع هي ما يشير إلى يقظتنا التي نميّز بها رائحة القهوة ونعرف ضجيج سيارات الشارع؛ بل إنّ معرفة ما إذا كانت تلك الروائح لها معنى، أم أنّ هذه القهوة معدّة سلفًا، ويا له من أمر جميل! فذلك هو ما يجعلني أدرك تأخّري عن الاستيقاظ.
العودة إلى الحياة المعقولة:
يفيد الاستيقاظ إذًا تجاوز عتبة الإحساس المباشر والدخول إلى عالم الإنسان ذي المعاني والدلالات، لا تحصل اليقظة فقط عندما تكون الأشياء ماثلة لحواسنا؛ بل بصفة خاصّة عندما يكون فكري قادرًا على استحضارها وتمثّلها في صورة أو تجريد مفهومي أو مشروع معيّن؛ إنّها بذلك شيء يسمح بتحديده وتعريفه، وليس فقط ما يُعطى خلال التجربة الحسيّة. يعد الاستيقاظ صحوتنا التي لا تقتصر على ما يحضر مباشرة للحس، وإنّما لملكة تمثّلنا لهذا الحضور ذاته. يعني ذلك، ترك المسافة بيننا وبين هذا الشكل المباشر للحضور لتسميته وتمييزه وتفريقه عن هذا الرهان المباشر. إنّه من دون أخذ هذه المسافة من الحضور الحسي المباشر، ستكون أيّ يقظة لنا مجرّد حركة في فراغ؛ حيث في كلّ مرّة سيكون الجديد مملًّا، وإنّه لاغترابٌ صعبٌ ذلك الذي سيحدث عند كلّ استيقاظ. فخلال سنة واحدة من العمل صباحًا، لم يعد الأمر يتعلّق بثلاثمئة استيقاظ تقطع صمت صباحنا فقط، وإنّما بثلاثمئة مرّة رن جرس المنبّه الذي يتوقّف عليه دائمًا استيقاظي الصباحي، لا يتعلّق الأمر، إذن، بشيء معيش ثلاثمئة مرّة، وإنّما بثلاثمئة تجربة عيش ذلك الشيء نفسه؛ ولذلك فتعددية أشكال الحضور تلك قد وُحدِت وُحدِّدت هنا؛ إذ أصبحت معتمدة في مجرى الأشياء التي تقطع نومنا.
بهذا المعنى لا نكون مستيقظين أبدًا إلّا في حضرة غياب ما: إذ ليست صورة جرس منبّهي القديم الذي يرنّ هو ما ترسّخ لديّ؛ بل هذا المشروع الذي أخذت به علمًا هو ما ينتشلني من نومي العميق. إنّنا لا نستيقظ بفعل حواسنا المباشرة، ولكن بفعل المعنى الذي نضفيه على تلك الأشياء المحيطة بغرف نومنا، كما نستيقظ لفقدان انتظام هذا النوم. هذه المسألة يجّسدها سوء حظ “سامسا” (Samsa) وبطل رواية كافكا «التحوّل» (Métamorphose)؛ حيث تكون حالتا الاستلقاء الإنساني والاستيقاظ البهيمي هما ما يتهدّد كلّ نائم، ما دام أنّه يمكن في النوم فقط التخلّص من مجريات الأيام [النوم بهذا المعنى أحلى من العسل]؛ بالتالي، من سيضمن لي معانقته مجدّدًا؟
إنّنا ننام كي نستريح ممّا سبق، ونستيقظ على أمل استدراك ما فات، ثمّ لكي ننفلت من فراغ ليلنا الذي أفقدنا الوعي؛ لذلك كل استيقاظ هو تعديل وإعادة تكييف ووضع النقاط على الحروف. أمّا أولئك الذين لهم أدب الاستفسار عن أحوالنا كل صباح، فلسوف يقولون عنا: «نحن نعرف ما هي عليه هذه الحياة اليومية التي تتلاشى في هذا الشيء نفسه الذي يعيدها». إنّنا نستيقظ ونكون على أهبة الاستعداد للردّ: «نحن بخير وعلى خير» عندما يستفسر رجل الطريق الطيب ذاك الواقف على قارعة الطريق! وهكذا يمكننا دائمًا إعادة ربط عناصر اليوم السابق مجدّدًا، أي ربطها دلاليًّا لأجل تركيب جملة دالة عليها أو في عمل سردي لحياتنا الخاصّة.
نظرًا لأنّ الأمر يتعلق دائمًا بربط العناصر المحسوسة بالصور أو الأفكار لاستعادة معنى ما حول غياب الليل؛ فإن الاستيقاظ يخصّ قبل كلّ شيء تلك الملكة الإنسانية الخاصّة التي هي الذكاء. إنّ هذا المفهوم (أي الذكاء) الذي جاء من الأصل اللاتيني « inter-ligare» هو ما يفيد، والحالة هاته، إقامة الروابط. غير أنّه بحسب تأثيل لغوي آخر ممكن، نجد أنّ دلالة ملكة الذكاء تفيد معنى قراءة ما يوجد بين السطور « inter-legere»؛ لذلك، فأن نستيقظ يعني أن نعرف كيف نقرأ: إنّه اعتقاد جازم بحياة داخل نعومة جسم ممّدد كجسدنا. ففي طلوع الصباح وخلال محاولتنا النهوض، نتفهم صمت منبّهنا هذا اليوم، لأنّه ببساطة يوم الأحد.
ولأنّ المنبّه يقتضي ليس فقط الحساسية، وإنمّا فضلًا عن ذلك، وبشكل أساسي، الذكاء الذي يحلّل ويشفّر؛ فلن يكون الاستيقاظ سهلًا دائمًا. إنّ عملية الاستيقاظ من النوم تزداد صعوبتها لأنّها تتطلب بذل الجهد بذكاء لأجل استجماع تلك الصور والذكريات والمشاريع كلها؛ لذلك، نحن نقول عن الذي لم يستيقظ بكيفية جيّدة «ليست لديه أفكار واضحة»، أو قل بعبارة أخرى إنّ لديه «عينين بلا نور»: أي إنها كلّها نظرات بدون رؤية واضحة، حيث تشعر الحواس دون أن يدرك العقل، إنّ الإنسان الذي لم يستيقظ بكيفية جيّدة وتامّة، إنّما يكرّر تصرفات يقظته بكيفية آلية عشوائية، فيتخبّط خبط عشواء في سلوكياته.
إن الاستيقاظ بكيفية جيّدة معناه معرفة قراءة إشارات هذه الحياة التي اخترناها: فوراء تسريحة شعر جميلة، توجد امرأة محبوبة؛ وعبر صوت هذا الإذاعي تتجلى صورة هذا العالم، إلخ. تكمن وراء هذه الأشياء كلها حقيقة نداء الاستيقاظ.
المصدر:
-Pierre Dulau, Thierry Formet, Martin Steffens, Une journée de philosophie: les grandes notions vues à travers le quotidien; éditions ellipses, Paris, 2013, pp 13-17.