
لا .. لن أعلق على غياب الدقة في استخدام اللهجات وخصوصا البدوية منها، لكن ما من داع لأن أستبق نفسي، فلنبدأ من البداية، كما أنوه بأن المقالة تحوي كشفًا لأحداث المسلسل فهي تستهدف الفئة التي أتمت مشاهدة العمل.
حقبة جديدة
أود أن أبدأ بالتعليق على أول عتبة من عتبات العمل وهي شارة البداية أو الموسيقى الافتتاحية، قد تكون المرة الأولى التي نرى فيها شارة البداية لعمل سعودي يشبه ما نراه في المسلسلات الدرامية على منصات الوسائط المتدفقة كـ«نتفليكس»، هذا التشابه ليس عملية محاكاة وحسب، بل هي إشارة لدخول مرحلة جديدة، إذ نستطيع القول إننا دخلنا في هذه الحقبة من صناعة الدراما على هذا الشكل الفني الذي سنتناوله. تأتي هذه المرحلة بعد حقب مختلفة من الدراما منها حقبة «زمن الطيبين» مثل «درب الزلق» والأقدار القائمة على العفوية والارتجال والكوميديا ونرى شارات البداية فيها بسيطة جدًا، صورة ثابتة وموسيقى بسيطة، ثم تلاها مسلسلات طارق عثمان في ثمانينات القرن الماضي مثل «خالتي قماشة» و«خرج ولم يعد» و«على الدنيا السلام» التي تعتمد على دراما اليوميات بطابع نقدي كوميدي، يؤدي بعض هذه الشارات الممثلون أنفسهم، ثم بعد ذلك مرورًا بحقبة التسعينات بكل ما حملته من مسلسلات التراث مثل «البيت العود» و«ملفى الأجاويد» و«حزاوي الدار»، والتي تبدأ بشارات مطولة بطابع الأوبريت، أو الدراما البحرينية الأخرى مثل «سعدون ونيران» أو أعمال الراحل عبد الحسين عبد الرضا في «سوق المقاصيص» وغيرها، قبل أن ندخل في حقبة فجر السعيد والدراما المضخمة والمبتذلة التي تكون شاراتها هي الأخرى متخمة بالدراما سواء على مستوى الموسيقى وتصاعدها على السلم الموسيقي أو على مستوى اللقطات المختارة. نستطيع القول إننا أعلنّا دخول هذه الحقبة الجديدة والتخفف من مسلسلات الـ٣٠ حلقة الرمضانية، وخوض تجربة جديدة، وما شارة البداية إلا إشارة أولى واضحة على ذلك. تبدو مقدمة رشاش في أول ثانيتين كأنها اقتباس من مسلسل HBO ويستوورلد، وصور الوثائق وأخبار الجرائد تذكرنا بمسلسلات مثل «ناركوس» و«الأمريكيون»، ثم تقدم آلة التشيللو نفسها بذات النبرة الدافئة والتي لا تخلُ من ملحمية تذكرنا بملحمية صراع العروش لكن بإيقاع أبطأ. قد يبدو للوهلة الأولى أن التشيللو ليست الآلة التي نريد لمسلسل تشكل الصحراء ثيمته الرئيسة، ربما نرى الربابة أو العود آلات أكثر توافقًا، إلا أن الدفء التي تقترحه المعزوفة يناسب حرارة الصحراء وعزلتها، خاصة عندما تمتزج مع صفير المزمار لتقدم التوليفة الأمثل للثيمة الرئيسة للعمل. من السهل أن نتفق على أن المقدمة تفتقر إلى الأصالة، وأنها محاكاة لشارات المسلسلات الأخرى إلا أننا نستطيع القول بارتياح إن الموسيقار أمين بوحافة قدم لنا مقطوعة نستمتع بها قبل كل حلقة.
بعد عن أبعدنا شارة البداية عن طريقنا، نستطيع الآن الخوض في صلب العمل وتفاصيله الفنية المختلفة.
الميلودراما والانشطارية الأخلاقية
العنوان الرئيس للعمل هو «رشاش» وهناك عنوان ثانوي، «للشر اسم»، لربما أراد صنّاع العمل بشكل واعٍ أو غير واعٍ أن يوضحوا دون أن يتركوا مجالاً للشك أن رشاش شخصية شريرة خالصة، وقد تكون خطوة للتبرئة من تهمة الترويج على الرذائل، وهي تهمة لا ينبغي أن تُطرح في النقاشات النقدية والفنية. لكن ما يهمني هنا، هو الإشارة إلى مليودرامية العمل، وأقصد تحديدًا الانشطار الأخلاقي للشخصيات moral polarization، أي أن هناك انشطار طولي وحاد يفصل بين الشخصيات الطيبة والخيرة من الشخصيات السيئة والشريرة. أنا هنا لا أقوم بالتصنيف لغرض التصنيف فقط، ولكن في اعتقادي أن هذا الكشف يقود إلى نقاط جدلية كثيرة وفي اتجاهات مختلفة.
قد تكون النقطة الأولى التي تقودنا لها هذه القطبية الأخلاقية هي إمكانية وجود البطل المخالف للعُرف أو ما يُعرف بالـ Antihero، سأطلق عليه اختصارًا «اللابطل». من المرجح أن يقترح أحدهم أن شخصية رشاش هي أحد الأمثلة على شخصية اللابطل في الدراما التلفزيونية، وأود هنا أن أسجل اعتراضًا. هناك فرق بين اللابطل وبين العدو الشرير Villain، وأذكّر مجددًا بأنني لا أقوم هنا بتصنيف ترفي. لا يمكن للابطل أن تكون شخصية تجنح بالكامل باتجاه القطبية الأخلاقية الشريرة على عكس شخصية العدو، وخصوصًا في الأعمال الميلودرامية. لابد أن يكون اللابطل شخصية جاذبة إذ لا يمكن أن يرتكز العمل ويتمحور حول شخصية مملة لا يستطيع أن يرتبط بها المشاهد عاطفيًا، من هنا تأتي الحيلة التي ترتكز عليها فكرة اللابطل وهي أنها شخصية غير كاملة، شخصية تشبهنا كثيرًا بأخطائها ومراوغتها لنفسها بين ما تود وترغب فيه وبين ما تخاف وتعجز عنه، وبالتالي هي شخصية ذكية تستطيع أن تبرر لا أخلاقيتها بشكل متماسك وربما ضمن فلسفة متينة أيضًا، وما يربطنا بهذه الشخصية هو تفهّمنا بالإضافة إلى تعاطفنا مع ظروفها، إذ إن محاولة فهم شخص ما وتفهّم ظروفه هي شكل من أشكال التعاطف، والأمثلة على ذلك أكبر بكثير من أن تحصى مثل والتر وايت في «بريكنغ باد» وتوني سوبرانو في «آل سوبرانو»، بل يصعب أحيانًا معرفة إذا ما كانت الشخصية تمثل اللابطل أم لا مثل دون دريبر في «ماد مين»، أو قد يتطلب الأمر موقفًا فكريًا-سياسيًا لتحديد ذلك كما هو الحال مع الجينينغز في مسلسل «الأمريكيون». على كلٍّ، خلاصة القول هنا، يصعب خلق اللابطل في عمل ميلودرامي بمعيار أخلاقي انشطاري للشخصيات، لأن ذلك يقطع الرابطة الوثيقة بين المشاهد والشخصية الرئيسة وتمنع خلق حالة التعاطف ومن ثم التلبس من قبل المشاهد للشخصية.
عندما نأتي إلى شخصية رشاش نرى أنها شخصية شريرة وتمارس الكثير من الأعمال اللاأخلاقية كالقتل والسلب دون محاولة ولو مرة واحدة لتبرير هذا الفعل أو إبراز شيء من فلسفة -ولو بسيطة- تقوم عليها شخصية رشاش، على الرغم من إمكانية القيام بذلك عبر ربطها ببعض القيم البدوية مع خلفية درامية تتعلق بطفولة رشاش، كان بالإمكان خلق شخصية أكثر عمقًا وإقناعًا وأكثر متعة حتى للمشاهد، شخصية نرجسية متكبرة ولها فلسفتها ومبرراتها. لا أتجاهل وجود التلميحات البسيطة لمثل هكذا فلسفة، مثل حديثه في الحلقة الأولى مع بائع حبوب الكبتاغون عن الطموح، وحديث رشاش المتكرر عن عدم الخوف من طلب المزيد والطمع في «النجاح»، لكن لا يبدو هذه الفكرة تقود إلى أي شيء، أو لأقول لم يكن هناك استثمار درامي كاف لذلك.
أحببت أن أبدأ بميلودرامية العمل والانشطارية الأخلاقية لأنها في نظري قد تكون مظلة تجمع بقية الإشكالات الفنية للمسلسل أو ترتبط بها على أقل تقدير، غير أن هذا الإشكال يشير إلى منظومة فكرية أكبر نعيشها في مجتمعاتنا وهي المعيارية الأخلاقية، من المهم جدًا لصانع العمل الدرامي أن يكون مطلعًا وبشكل كاف على منظومات فلسفية أخرى أهمها اللاأخلاقياتية Amorality والتي لا تعني انعدام القيم الأخلاقية وإنما فهم وتفسير الأمور في سياقاتها الظرفية عوض إطلاق أحكام أخلاقية عليها، فهم هذه الفلسفة مهم جدًا في كتابة شخصيات اللابطل في الأعمال الدرامية، فهي تنقل بارادغم التفكير لدينا من إطلاق الأحكام إلى محاولة فهم وتحليل سلوك الأفراد وقراراتهم.
طالما أن الحديث لا يزال يدور حول الشخصيات، فالانشطارية الأخلاقية ليست عيبها الوحيد؛ وإن كنت أعتقد أنه العيب الرئيس. اختار صناع العمل التركيز على الأحداث الضخمة في مسيرة رشاش من سلب ونهب واغتصاب أموال الناس والسطو على المتاجر والاعتداء على رجال الأمن، لا أود الخوض فيما إذا كان ذلك قرارًا صائبًا أو لا، لكن هذا الاختيار جاء على حساب بناء الخلفية الدرامية للشخصيات جميعها بما فيها رشاش، بل أن الوتيرة ذاتها بدأت سريعة جدًا في الحلقة الأولى وكأنها تتعجل الوصول إلى الأحداث الرئيسة، ففي الحلقة الأولى رأينا رشاش قناصًا في حرس الحدود ومن ثم محاولًا أن يكون تاجر مخدرات، ثم تاجرًا. وبعدها تم القبض عليه متلبسًا ومن ثم طرده، كل ذلك في نصف الساعة الأولى! أما بقية الشخصيات مع رشاش، فأظن أن غالبية المتابعين لم يستطيعوا التفريق بينهم ولا معرفة أسمائهم لأنها متشابهة جدًا باستثناء -ربما- قحص (إبراهيم الحجاج) مع الإشارة إلى الأداء الممتاز من الممثلين، إلا أنها مشكلة نص وليست مشكلة أداء.
إضافة إلى ما ذُكر، يصعب كتابة ما يعرف بالـcharacter arc الذي يعبّر عن الرحلة الداخلية للشخصية وانتقالها من طرف إلى آخر وتبنيها لصفات وقيم مخالفة لما بدأت بها، إذ إن شخصيات العمل ساكنة وثابتة أخلاقيًا (هذا لا يعني استحالة تغيرها وتبنيها لصفات أخرى كتغير صرامة الأب إلى عطف وحنان مثلًا دون التأرجح على ميزان الأخلاق)، لكن قصر العمل لا يسمح بهذا الانتقال البطيء والمقنع للشخصيات. من هنا نستطيع التوجه نحو الحبكة والإخراج فهما آخر ما تبقى للعمل كي يقف على قدميه دراميًا.
ولكن قبل ذلك، نستطيع أن نلخص ما سبق في: عمل ميلودرامي يقوم على الانشطارية الأخلاقية حيث تلعب فيه الشخصيات أدوارًا على طرفي نقيض، وبشكل ثابت طوال حلقات المسلسل القصير، أضف إلى ذلك أن أحداث المسلسل ليست بمجهولة بل هي حقيقية ومعروفة. هذا كله يستحث سؤالًا: ما هو الخيالي الذي يستند عليه المسلسل في الانتقال من الوثائقية الحقيقية والواقعية إلى الدرامية الخيالية؟
خطان متوازيان
بما أن شخصيات العمل ستبقى ساكنة فليس هناك سوى شيء واحد ليربط بين حبكة العمل وأحداثه بهذه الشخصيات ألا وهو أهدافها وما ترغب في تحقيقه، وهذا ما سيحدد مسارَي الحبكة الأساسيين. تسير الحبكة الرئيسة في خطين متوازيين بين شخصية الضابط فهد وشخصية رشاش، حيث بدت الأولى متخمة بالحبكات الثانوية في حين كانت الثانية مختزلة في بُعد واحد وهو السطو والنهب والقتل والترويع، وتجدر الإشارة هنا أن هذين الخطين يُعبّران ويتماشيان مع ميلودرامية العمل نفسه حيث نجد أن مسار فهد يشكل الخير المطلق ومسار رشاش يمثل الشر. يعيش فهد وسط دوامة من الصراعات، فهو على خلاف مع أبيه الذي يريده أن يرث شركته ويدير أمواله من بعده، وهو أيضًا ينتظر مولوده، وهناك أيضًا العقيد الذي لا يرى في فهد سوى متحذلق عديم الفائدة (في البداية على الأقل)، وعلى قمة هذه الضغوطات يتربع رشاش الذي يحاول فهد القبض عليه. من غير المقنع القول إن هذه الحبكات كانت لمجرد التمطيط، أو مجرد عقبات لتصعب من مهمة فهد في القبض على رشاش. هذه الحبكات في اعتقادي ينبغي لها أن تبرز من هو فهد للمشاهد. الحبكة الأولى، هي أحد المبررات لحماس فهد الكبير في القبض على رشاش، تمثل العلاقة السيئة مع الأب وصمة للابن الذي يحاول دائمًا مسحها سواء بشكل واع أو غير واع، ويظهر ذلك في محاولاته للحصول على المقبولية من الأب، أو إبهاره للحصول على تلك الكلمة منه أو المديح، وهذا ما يقوم به فهد مع أبيه المتسلط، فهو أحد أسباب إصرار فهد على مطاردة رشاش إضافة إلى شغفه بهذه المهنة. أما الحبكة الثانية المتعلقة بزوجته الحبلى، فهي تشكل إحدى نقاط الضعف التي قد يستغلها رشاش في مصلحته، فالأبوة المرتقبة هي لحظة عاطفية تأتي بمسؤولية كبيرة من ضمنها اهتمام الأب بنفسه، كي لا يخسره ابنه في عمر مبكر، ومشهد حلم فهد برشاش وهو يطلق النار على بطن زوجته تعبر بشكل واضح عن ذلك. أما الحبكة الأخيرة، فهي لغرض رفع مستوى الدراما داخل قسم الشرطة، فليس من الممتع أن يقوم المتحري بفك شفرات الجريمة بشكل مباشر دون مضايقات أو عقبات. من هنا نستنتج أن القبض على رشاش بالنسبة لفهد هو الذي سيحل جميع مشاكله، القبض على رشاش يعني رضا والده عنه وحماية زوجته وإثبات نفسه في وظيفته والحصول على استحسان رؤسائه. هل قامت هذه الحبكات بدورها الفني في العمل؟ في اعتقادي بعضها لم يكن مقنعًا كصدامه مع رئيسه في مركز الشرطة، أو أنها لم تستثمر بشكل بارز كالأولى والثانية.
في الخط الموازي نرى رشاش بعد النصف ساعة الأولى يسير في حبكته في خط واحد ومتشابه: اعتراض المركبات، ترويع ركابها، سرقتهم وأحيانا قتلهم، ومن ثم العودة للاختباء في الصحراء، قد يصح القول إن الاختلاف بين مساري الحبكتين يعود إلى أن حبكة فهد خيالية بالكامل يقابلها حبكة رشاش المبنية على أحداث واقعية، وتقل واقعية هذه الحبكة في لقاءاته مع فهد سواء في تلك القرية أو أمام البنك بعد تبادل إطلاق النار. ظهر ذلك واضحًا عقب انتهاء أحداث القتل والسلب وموت جميع أصحاب رشاش إذ اتخذت الأحداث منحى خياليًا ودراميًا بعيدًا عن الواقع، على سبيل المثال عندما دفع رشاش حساب العشاء لعائلة فهد وإهدائه الصورة مع الرصاصة، ومن ثم اقتحام منزله وذبح الشاة وكتابة اسمه بالدم، كذلك مشهد مقابلة فهد مع الشيخ اليمني وما تلاه من تقاتل بين رشاش وفهد.
الصورة .. الركن الوحيد
أخيرًا نأتي إلى الإخراج وهو في اعتقادي الحلقة الأقوى في العمل (وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال دائمًا)، ولأكون أكثر وضوحًا ما أقصده بالإخراج هو عملية نقل النص المكتوب على الشاشة بما في ذلك من استخدام لكل تقنيات الصورة من زاوية العرض ونوع الالتقاطة والتبئير، فكما نعرف أن المزج بين هذه العناصر هو ما يستخدمه المخرج في إيصال ما في المشهد من مشاعر أو حتى أفكار بدورها يجب أن تتسق مع حبكة العمل والشخصيات والعناصر الفنية الأخرى، أي يجب على الصورة وتوابعها من موسيقى تصويرية وتفاصيل أخرى أن تسرد هي الأخرى القصة ذاتها (أو ربما قصة أخرى) تتوازى أو تتصادم مع ما يراه المشاهد من أحداث، وهذا ما يعطي العمل الفني عمقًا وطبقات مختلفة من المعنى وتجربة ثرية للمتلقي. من الملحّ جدا أن أتناول بعض الأمثلة لتوضيح الصورة من جانب ولإعطاء المجهودات المبذولة حقها من جانب آخر.
المثال الأول: تجربة روحية
لا يزال رشاش قناصًا في حرس الحدود، وقبل أن ينهي يومه الطويل يتنبه لوجود ضابطين يتمان صفقة، يصادر رشاش حبوب الكبتاغون التي يتعرف عليها لأول مرة ويأمرهم بالانصراف. هنا مشهد تأثير الحبوب على رشاش متقن للغاية، أراد المخرج أن يمرر للمشاهد شعور التحليق الناتج عن استخدام الحبوب المخدرة والتجربة الروحية التي يعيشها المتعاطي والتي تكون متعلقة بحياة المستخدم نفسه. ما قام به مخرج المسلسل، تيغ، هو استخدام التقاطة «فوق الرأس» Overhead shot أو ما تعرف أيضا بـ«عين الرب» حيث يستلقي رشاش على سريره، بصره للأعلى ناحية الكاميرا، تقترب الكاميرا لوجه رشاش لالتقاط صورة مقربة close up لوجه رشاش، وهذه التقنية يفترض أن تبرز تعابير الوجه والمشاعر إلا أن وجه رشاش يظل ثابتًا تمامًا بلا أي مشاعر، ثم تبتعد مرة أخرى لتعطي ذلك الإيحاء بالتحليق، ولأن وجه رشاش بارد وبلا ملامح كما رأينا في الالتقاطة المقربة؛ فإن ما يحلق الآن هو شيء آخر، روحه، تفكيره، وما يؤكد ذلك هو التقطيع المستمر بين صورة رشاش وبين الخيل التي تعدو في الصحراء، ولذلك علاقة بعشق رشاش لهذا المشهد كما ذكر أصدقاءه كيف كان «يجرّهم» خلفه في الصحاري بحثًا عن خيول، وتكرر هذا المشهد كثيرًا في المسلسل كموتيفة وحيدة تربطنا بحياة رشاش السابقة. هذا المشهد ليس الوحيد الذي يظهر لنا فيه إمكانيات تيغ الكبيرة في عملية الـBlocking ومزج أنواع مختلفة من الالتقاطات لإيصال شعور محدد. هذا المشهد القصير يحمل تجربة مرضية وممتعة للمشاهد بشكل كبير!
المثال الثاني: مبارزة كلامية على طريقة رعاة البقر
في الحلقة الخامسة، هناك مشهد لا أعتقد أن أحدًا لم ينتبه لفنيته، وهو المشهد الذي يقابل فيه الضابط فهد رشاش وجماعته للمرة الأولى. في الواقع وليس في الحلم. قبيل اللقاء والمخرج يهيئنا لمشهد يشبه ما نراه في أفلام رعاة البقر الأمريكية إذ نرى لقطات متكررة من نوع cowboy shot قبل أن يتقابل الاثنان وتجمع بينهما مسافة تمامًا مثلما يتقابل اثنان من رعاة البقر في مبارزة أو ما تعرف بالـ «Duel»، يداور تيغ بين لقطتين متناظرتين يكون فيها رشاش ضخمًا لقربه من الكاميرا وفهد صغيرًا في عمق الصورة والعكس، إلا أن ما نراه ليس مبارزة بالسلاح وإنما مبارزة خطابية نفسية، فجاء المشهد مزاوجًا بين لقطات الـCowboy والـClose up ليظهر وقع كل جملة من أحدهم على مشاعر ونفسية الآخر، يستخدم رشاش الاستفزاز للدخول في رأس فهد والسيطرة عليه مرة باستخدام معلومات خاصة عن فهد، كإخباره بشكل غير مباشر أن زوجته حامل ومرة أخرى بتذكيره كيف قتل صديقه غالب، وفي المقابل يستخدم فهد زيارته لوالدته ليخبره كم هي محرجة من تصرفاته مرة، ومرة أخرى يحاول أن يذكره بربه والضحايا التي قد تموت بسببهم، تظهر الغلبة في هذا «النزال» لرشاش وبشكل منطقي يتناسب مع انتصاره في تلك اللحظة على فهد وأجهزة الحكومة، لكن ما أود الإشارة إليه هو الإتقان التام لهذا المشهد الذي صوّر طرفين متقابلين ومتناقضين بشكل يتماشى مع ميلودرامية العمل، بين الخير (فهد) والشر (رشاش) وليس ذلك فقط، بل أبرز الخلفيات القيمية لكل منهما، فهد وأسلوبه الوعظي ورشاش وقيم البداوة والقوة، من أجمل ما قاله رشاش الذي تثبت قيمه ومبادئه عندما أخبره فهد أن غالب الذي قتله رشاش «أرجل منه»، فرد رشاش «أرجل مني في قبره!» وانفجر ضاحكًا، ففي عالم الأقوياء وعالم القتال والمبارزة، القوي والباقي على قيد الحياة هو الأصلح والأفضل والأبقى، بمعنى آخر .. هو الذي على صواب.
وتكررت كثيرًا الالتقاطات الجمالية لإبراز هوية المكان كالتقاطات الصحراء والتقاطات الدرون التي أبرزت ضآلة الانسان أمام هذه البقعة المترامية وصعوبة وصول الشرطة لهم وأيضًا معرفة رشاش لها معرفة تامة، وأحيانًا ساهمت الالتقاطات الواسعة في القبض على هوية المكان عبر إظهار شكل العمارات وطراز السيارات لإيصال البيئة التي تدور فيها أحداث المسلسل.
تعليق أخير فيما يتعلق بالإخراج، بعض المشاهد وتحديدًا مشهد القتال في الحلقة الأولى بين رشاش والضابط بائع الكبتاغون لم يكن مقنعًا أبدًا ولم يكن متوافقًا مع بيئة العمل، بل ظهر أثر المخرج الغربي فيه، فالطريقة التي تشاجرا بها كانت هوليوودية بامتياز ولا تشبه أبدًا شجارات أبناء تلك البيئة. الشجار كان مثل سجينين في أحد سجون أمريكا، والطريقة التي كان يشجع بها بقية الضباط كانت مضحكة، المشهد بكامله كان نشازًا لا يتماشى مع بقية مشاهد العمل. وقد تكرر الشيء ذاته عندما تقاتل رشاش مع فهد في خيمة الضيوف لدى القبيلة اليمنية.
قد تكون المرة الأولى التي نرى فيها عملًا سعوديًا تكون للصورة فيه بناءً سرديًا، فنحن لا ننتقل من حدث إلى حدث إلى حدث بشكل مجهد للمشاهد، هناك حبكة وأحداث تسير بشكل متوالي وهناك سرد آخر للصورة يتخلل سرد الحبكة ويكون مثل الاستراحات الذهنية له وفرصة ليُعمل حواسه الأخرى، ففي الوقت الذي تسير فيه الحبكة في مسارها، هناك سرد صوري آخر متمثل في الخيل كموتيفة متكررة وسردية توازي الحبكة، ظهورها المتكرر مع الموسيقى التصويرية هو استراحة للعين والأذن ولكن في نفس الوقت هي تحكي الحكاية نفسها بشكل مختلف، فالخيل تجري في الصحراء فيما يمثل ثيمة الحرية طالما لا يزال رشاش حر طليق، ومزجها مع الالتقاطات القريبة لوجهه يظهر لنا توتره وقلقه، إلى أن رأينا موت الخيل في النهاية تزامنًا مع إعدامه.
مشكلة نص
لست من مرددي هذه المقولة أبدًا، ودائمًا ما أبدي موقفي الواضح منها في كل مناسبة، فلا أعتقد أننا نعاني من مشكلة نص وإنما مشكلة في صناعة السينما والدراما بالكامل، وذلك لسبب طبيعي جدًا وهو تأخرنا في الدخول في هذه الصنعة، هناك مشاكل في الإنتاج والإخراج والتمثيل والتسويق والنقد وكل شيء آخر، النصوص ليست من بين هذه المشاكل فالروايات فقط دون النظر حتى إلى القصص القصيرة متوفرة، وكثير منها على جودة عالية وذات مقبولية للتحول إلى سيناريوهات. إلا أنني هنا أقف بجانب من يقولون هذه المقولة فيما يتعلق بـ«رشاش». العمل جاء ممتازًا من حيث أداء الممثلين والإخراج وأصغر التفاصيل الفنية وذلك ما جعل النص والحوار يبرز بشكل ضعيف جدًا، كثيرة هي الحوارات التي جاءت باهتة تمامًا، حوارات ليس مكانها الدراما، باستثناء القليل جدًا منها، كذلك كتابة الحبكة ارتكزت بشكل كبير على الصورة ومهارات المخرج في الإبهار أكثر من أن تكون هي ذاتها متقنة سواء على مستوى الحبك الدرامي وما فيه من تصاعد لوتيرة الأحداث -مثلًا- أو على مستوى الجانب النفسي لإثراء حضور الشخصيات في العمل.
كما أن الأحداث في نهاية العمل لم تكن مقنعة إلا لو أبقينا فكرة ميلودرامية العمل في أذهاننا فإن ذلك يخفف من لا معقوليتها، تراكم الصدف أمر مزعج للمتلقي، كما أن المراهنة على عنصر المفاجأة والتشويق في الحلقة الأخيرة ليس مناسبًا، وأقصد عندما تلقى الضابط فهد طلقة في بطنه، نحن نعرف كيف أن مثل هذه الأعمال لا يمكن أن تنتهي بنهاية غير سعيدة، هذا من جانب، غير أننا نعرف القصة الحقيقية وكيف سينتهي الأمر برشاش، أما رؤية رشاش موت الخيل في حلمه في أول مشهد في الحلقة الأخيرة جاء موفقًا لخلق بناء سردي دائري يربط نهاية الحلقة ببدايتها خاصة وأننا نعرف أن رشاش سيُعدم، وليس هناك فضح لهذا الحدث في المسلسل.
أعتقد أن الأعمال السعودية في المجمل بما فيها الدراما، قد تركت مرحلة «عمل جيد جدًا، بل ربما ممتاز؛ نظرًا للإمكانيات المحدودة». نحن الآن نعيش مرحلة «النجاح في ألا نفشل تمامًا»، وهي مرحلة ليست سيئة على الإطلاق، كثير من الأعمال السعودية المنتَجة مؤخرًا أبرزت الجدية الواضحة في صناعة العمل بما في ذلك مسلسل رشاش، وكما أسلفت جاء العمل على قدر جيد جدًا من الإتقان، قد يبدو ما ذكرت في هذه المقالة قاسيًا بعض الشيء إلا أن المسلسل في الحقيقة جميع مشاكله تصب بشكل رئيس في النص فقط، هناك جدية وإتقان من الممثلين والمخرج وبقية طاقم الفريق، ولذلك المشكلة يمكن حلها في قادم الأعمال. ولذلك أرى من المهم جدًا أن نتجاوز النقد المبني على إطلاق أحكام القيمة ومحاولة الغوص عميقًا في هذه الأعمال، فهذا العمل وغيره من الأعمال المنتجة حديثًا بها الكثير مما يمكن الحديث والنقاش حوله عوض إلقاء الأحكام بشكل مقتضب، غير أن تحليل مثل هذه الأعمال يشكل حافزًا لصناع العمل لتقديم أعمال أكثر تطورًا وعمقًا، أعمال تحمل أبعاد تتجاوز النص الظاهر وغزيرة تخبئ وراءها ما يعرف بالـsubtext.
فيما يتعلق بالممثلين أخص بالذكر الفنان يعقوب الفرحان، وهنا أود أن أسجل توجسًّا من أن يتم اختزال هذه الموهبة في مثل هذه الأدوار، فقد رأيناه قبل ذلك في «العاصوف» بدور جهيمان، لكن سبق لي أن رأيته في فيلم قصير بعنوان «لا أستطيع تقبيل وجهي» وكان دوره مختلفًا تمامًا، ولكن على ذات الدرجة من الإتقان والإبداع. أتمنى أن توظف موهبته في أدوار أخرى.
أستطيع القول بأريحية أن مسلسل «رشاش» حاليًا يرفع السقف عاليًا جدًا في مستوى الدراما السعودية، وخصوصًا الإخراج منه، إذ أبرز لنا كيف يظهر العمل السعودي عندما تقوم عين إخراجية متمرسة على التقاط التفاصيل والتنويع بين مختلف الالتقاطات والتبئير، على خلاف الأعمال الدرامية الخليجية في الحقب السابقة والتي ذكرت بعضًا منها في بداية المقالة والتي كانت تقوم بشكل كامل على النص المكتوب والحوارات وأداء الممثلين وغياب كامل لمكملات العمل كالـblocking والموسيقى التصويرية … وغيرها مما يندرج تحت السيناماتوغرافيا، فيظهر العمل بلا سرد صوري أو سينمائي بل أن التقاطاته مليئة بالعناصر الاعتباطية، والتي لا تلعب دورًا في سرد أي شيء لا على مستوى الحبكة ولا على مستوى الصورة. أما «رشاش» فقد أبرز أن المخرج هو الرجل رقم واحد في إنجاح العمل وأن نجاح الدراما والسينما مرهون بالصورة وليس النص فقط. هذا العمل يستحق الالفتات والنقد والدردشة حوله للتعلم منه في قادم الأعمال.