
يقدّم الفيلسوف الأمريكي المعاصر رودريك تشيزوم (1916 – 1999)، في مقال «مسألة المعيار» (The Problem of the Criterion)، المسألة التي يعتبرها الأهمّ في الفلسفة، وليس فقط في نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا. إنها مسألة نقطة البداية في بناء المعرفة. لكي يعرف الإنسان الظواهر، عليه أن يبدأ بمعرفة ظواهرٍ معيّنةٍ أو بالأحرى عليه أن يثق أنّ معتقداته عن ظواهرٍ خاصّةٍ هي معتقداتٌ صحيحةٌ. لكن كيف له أن يعرف بأنّ هذه المعتقدات صحيحة إذا لم يملك معيارًا لفَصلِ المعتقدات الصحيحة عن المعتقدات الخاطئة؟ تبدو المسألة كأننا بحاجةٍ لمعيارٍ أو معاييرٍ للمعرفة قبل أن نعرف أيّة ظاهرةٍ على الإطلاق. من جهة أخرى، إذا كان لدينا معيارًا للمعرفة، كيف لنا أن نضمن بأنّ هذا المعيار صحيحٌ ونفضّله على معاييرٍ أخرى؟ لذلك يبدو أننا بحاجةٍ لمعتقداتٍ صحيحةٍ سابقةٍ للمعيار لكي نختبره ونتأكّد من صحّته. فإذاً، المسألة تكمن في بداية المعرفة ما إذا كانت تبدأ من معاييرٍ معيّنةٍ أو من معتقداتٍ صحيحةٍ عن ظواهرٍ معينةٍ. يقترح تشيزوم أن هناك ثلاثة مواقفٍ من هذه المسألة. الموقف المشكّك (skeptic) بالمعرفة ومفاده أنّ بناء المعرفة أمرٌ مستحيلٌ بما أنّ الاعتقاد بحقيقةِ ظاهرةٍ معيّنةٍ يتطلّب معاييرًا والمعايير تتطلّب معرفةً مسبقةً لظواهرٍ معيّنةٍ، ممّا يجعلنا ندور في حلقةٍ مفرغةٍ. والموقف المعياريّ أو المنهجيّ (methodist) يقول إننا لسنا في حلقةٍ مفرغةٍ بما أنه يمكن أن يكون لدينا معيارٌ لا يعتمد على اعتقاداتٍ سابقةٍ، بل أنّ الاعتقادات تأتي بناءً على المعيار. أمّا الموقف الخصوصيّ (particularist) فهو الذي يعتبر أنّ نقطة البداية تكون في اعتقاداتٍ خاصّةٍ أو معيّنةٍ تُبنى على أساسها معايير المعرفة. يدعم تشيزوم الموقف الخصوصيّ لأنه مُقنعٌ أكثر من الموقف المعياريّ ويجعل تخطّي الموقف المشكّك ممكنًا، وذلك من دون أن يقدّم حجّةً محبكةً وكافيةً لدعم هذا الموقف.
في هذا المقال سوف أجادل بأنّ موقف تشيزوم بحقيقته يرتكز على الموقف المعياريّ وأنّ المعيار الذي يكمن وراء موقفه غير كافٍ لمعالجة المسألة. وسوف أُشير إلى حلٍّ رابعٍ لمسألة المعيار لم يطرحها تشيزوم، وهو تأويلٌ لفلسفة ايمانويل كانط (1724 – 1804) بأنّ المعرفة تبدأ بالمعيار وبمعتقداتنا عن الظواهر في ذات الوقت، وليس على أيٍّ منهما أن يسبق الآخر. وثم سأدافع عن الموقف المشكّك انطلاقًا من السؤال التالي: ماذا لو كانت جميع الظواهر أوهامًا، أي أنّ عالمنا الخارجي هو مجرّد وهمٌ؟ هناك نسخةٌ حديثةٌ في الفلسفة المعاصرة لهذا السؤال الكلاسيكي يطرحه الفيلسوف الأمِريكي المُعاصر هيلاري بوتنام (1926 – 2016) في مقال «أدمغةٌ في وعاءٍ» (Brains in a Vat)، سائلًا ماذا لو كانت أدمغتنا موضوعة في وعاءٍ كبيرٍ وموصولة على جهاز حاسوب خارق الذكاء يعطي حواسنا الأصوات والصور ونعيش في عالم الأوهام كما في فيلم «ذا ماتريكس» (1999)؟ يستعمل المشكّكون عادةً هذا السؤال لكي يؤكّدوا أنه لا يمكننا معرفة ما إذا كنّا نعيش في وهمٍ أو حقيقةٍ، لكن بوتنام يقدّم حجّةً يعتقد أنه من خلالها يتخطّى الشكّ بأننا نعيش في وهمٍ، لكنني سوف أجادل بأن حجّته غير كافيةٍ لتخطّي هذا الشكّ. وما لم نتخطَّ الشكّ بأنّ إدراكنا الحِسّي يمكن أن يجعلنا نعيش في الوهم من دون علمنا أو وعينا، لا يمكننا تخطّي الموقف المشكّك في نظرية بناء المعرفة؛ لأنّ الشكّ بأننا نبني معرفةً مؤسّسةً على الأوهام يبقى قائمًا. لذلك، أعتقد أنّ السؤال الأهم في الفلسفة هو إن كنّا قادرين على معرفة ما إذا كنّا أدمغةً في وعاءٍ أو لا، وليس ما إذا كان الاعتقاد أو المعيار يمثّل الخطوة الأولى في المعرفة.
مسألة المعيار
بحسب تشيزوم، مسألة المعرفة تبدأ عندما يسأل الإنسان ماذا يمكنه أن يعرف حقًّا عن العالم. فهناك من يعتبر نفسه بأنه يعرف عن العالم أكثر مما يعرف بالفعل، وهناك من يعتبر أنه لا يعرف شيئًا عن العالم رغم معرفته بكثيرٍ من الأمور. يقول تشيزوم إنه لا بدّ من أن تكون حقيقة معرفة الإنسان للعالَم بين هذين الحدّين، فلا يمكننا القول إننا لا نعرف شيئًا عن عالمنا ولا أننا نعرف الكثير. إنّ الإنسان الدوغمائي (dogmatist) بالنسبة لتشيزوم هو الذي يعتبر أنه يمتلك نظرةً داخليةً تمكّنه من معرفة العالم من حوله بسهولةٍ، ويقابله الإنسان المشكِّك الذي يدّعي أنه لا يعرف الأشياء التي نعتبرها عادةً أشياءً بديهيةً. لكن في الحقيقة، يؤكّد تشيزوم، يمكننا معرفة أكثر ممّا يدّعي الإنسان المشكّك وأقلّ ممّا يعرف الإنسان الدوغمائي (Chisholm 591). ويبقى السؤال الأهم ماذا يمكننا أن نعرف عن العالم وما الذي لا يمكننا معرفته؟ علينا أن نجد المعيار المناسب لمعرفة متى نثق في إدراكنا للأشياء ومتى لا نثق به.
يستشهد تشيزوم لعرض أهمية المعيار بالمثل الذي أعطاه رينيه ديكارت (1596 – 1650)، في جواباته على اعتراضات بعض الفلاسفة المعاصرين له بما يخصّ عمله «تأملات في الفلسفة الأولى» (Meditations on First Philosophy) عام 1641، حيث يدافع ديكارت عن ضرورة رفض جميع الاعتقادات كبدايةٍ للمعرفة الصحيحة. المثل يعتمد على تشبيه اعتقاداتنا بسلّةٍ من التفاح، بعضها فاسدٌ أو عفنٌ والبعض الآخر بحالةٍ جيدةٍ. ويعتبر ديكارت أن التفاح الفاسد، في حال استمرّ وجوده مع التفاح الجيد في ذات السلة، فسادهُ سينتقل إلى التفاح الجيد. لذلك، علينا أن نقوم بتفريغ السلة تمامًا وتفحُّص كلّ تفاحةٍ على حِدة لكي نُعيد وضع التفاح الجيد وحدهُ في السلة (Descartes 123). يعلّق تشيزوم على هذا التشبيه بين الاعتقادات والتفاح بأنّه فيما يخصّ التفاح، الفساد ظاهرٌ للعيان، وهذا هو المعيار لمعرفة التفاحة الفاسدة من الجيدة، لكن فيما يخصّ الاعتقادات، نحن بحاجةٍ لمعيارٍ يمكّنُنا من فصل الجيد عن السيء (Chisholm 592).
لشرح مسألة المعيار، يقوم تشيزوم بالتمييز بين الأسئلة التالية (Chisholm 593):
أ) ماذا نعرف؟ ما مدى معرفتنا؟
ب) كيف لنا أن نقرّر ما إذا كنا نعرف؟ ما هي معايير المعرفة؟
السؤال الأول أ يطرح الجزء الأول من المسألة، أي الاعتقادات التي لدينا عن العالم وعن مدى معرفتنا للظواهر، أما السؤال الثاني ب يطرح مسألة المعيار الذي يفصل المعرفة الصحيحة عن المعرفة الخاطئة. إذا كانت لدينا إجابةٌ عن السؤال أ ربما يمكننا أن نجد الإجابة عن السؤال ب، وإذا كانت لدينا إجابةٌ عن السؤال ب أولاً، ربما يمكننا أن نجاوب على السؤال أ فيما بعد. في حال لم يكن لدينا إجابةٌ عن السؤال الأول، أي أننا لا نعرف أيّة اعتقاداتٍ صحيحةٍ وأيّة اعتقاداتٍ خاطئةٍ وكأننا لا نرى الفساد المخفي في التفاح، لا يمكننا أن نجاوب على السؤال الثاني ونقدّم معيارًا. هذا لأننا بحاجةٍ للثقة في بعض الاعتقادات الصحيحة لكي نرى ما يميّزها عن بعض الاعتقادات الخاطئة ونستنتج منها المعيار الذي يتم هذا التمييز على أساسه. وفي حال لم يكن لدينا إجابةٌ عن السؤال الثاني، أي أنه لم يكن لدينا الثقة بمعيارٍ لفصل الاعتقادات الجيدة عن السيئة، فلا يمكننا أن نجاوب على السؤال الأول بتحديد الاعتقادات الصحيحة والخاطئة. وهذا لأنّ المعيار هو الذي يحدّد أيّ اعتقادات تكون صحيحة وأيّ اعتقادات تكون خاطئة.
المواقف الثلاثة من مسألة المعيار
الموقف المشكّك يحلِّل بأننا لا نستطيع الإجابة على السؤال أ ما لم نجاوب على السؤال ب أولاً، كما أنه لا يمكننا أن نجاوب على السؤال ب طالما لم نجاوب على السؤال أ مسبقًا، ثم يستنتج انطلاقًا من هنا أنه لا يمكننا الإجابة على كلا السؤالين. فإذا أخذنا على سبيل المثال معايير العلم والمنطق والفطرة لفصل الاعتقادات السيئة عن الجيدة، كيف نتأكد بأنّ هذه المعايير ناجحةٌ لهذه المهمة؟ فمن الممكن أن يكون هناك معاييرٌ أفضل منها. للتأكّد من نجاحها ومن أنها الأفضل، علينا أن نؤكّد أنها نجحت بفصل الاعتقادات السيئة عن الجيدة. ولكن كيف لنا أن نعرف إذا كانت النتيجة التي تعطيها هذه المعايير صحيحةً؟ الحالة الوحيدة التي نكون على يقين من النتيجة هي معرفتنا للاعتقادات الجيدة والسيئة لنتمكّن من القول «هذه المعايير جيدة لأنها فعلاً فصلت بنجاحٍ الاعتقادات السيئة عن الجيدة». ولكن، إذا كنا نعرف سلفًا أن نميّز الاعتقادات السيئة عن الجيدة، فلم نحن بحاجةٍ للمعايير من الأساس؟ علمًا أنّ المسألة تبدأ من أننا غير واثقين بأنّ معرفتنا التي تتمثّل باعتقاداتنا عن الظواهر صحيحة. إذاً، نحن في حلقة مفرغة: إذا انطلقنا من المعايير لا يمكننا التأكّد من صحّتها إلّا إذا كنا نعرف حقائق معينةً، وإذا بدأنا من بعض الاعتقادات علينا استعمال معاييرًا معينةً لكي نتأكّد من حقيقتها. لذلك، الإجابة على السؤال أ تتطلّب إجابةً على السؤال ب والإجابة على السؤال ب تتطلّب إجابةً على السؤال أ، ممّا يجعل السؤالين يعتمدان على بعضهما بطريقةٍ تُقفِل على معالجة المسألة في دائرةٍ مفرغةٍ. ويستنتج المشكّك بأنّ بناء المعرفة الحقّة أمرٌ مستحيلٌ.
الموقف المعياريّ يصرّح بأنه يمكننا أن نجاوب على السؤال ب قبل أن نجاوب على السؤال أ، أي أنه يمكننا تحديد المعيار أو المعايير من دون أن يكون لدينا اعتقاداتٍ صحيحةٍ سابقةٍ. يقوم تشيزوم بتأويل مواقف جون لوك (1632 – 1704)، وديفيد هيوم (1711 – 1776)، من مسألة بناء المعرفة على أنهما يتبعان الموقف المعياريّ. إنّ جون لوك وديفيد هيوم من مؤسّسي الفلسفة التجريبية التي تعتمد في بناء المعرفة على التجربة الحسّيّة. إنّ الموقف المعياريّ الذي يقرؤه تشيزوم عند لوك هو أنّ المعرفة الحقّة للأشياء تتضمّن علاقة مع الحواس، لكن لم يوضح لوك بحسب تشيزوم ما هي هذه العلاقة ولا كيف أتى بهذا المعيار. هيوم تابعًا للوك، يأخذ المعيار الحسّي إلى أقصى الحدود ليؤكّد بأنّ كلّ معرفةٍ لا تتعلق بالتجربة الحسّيّة علينا رفضها. إذن، الفلسفة التجريبية تبدأ في بناء المعرفة عبر معيار العلاقة مع التجربة الحسية لفصل المعرفة الصحيحة عن المعرفة الخاطئة، ومن ثم يتم تحديد الاعتقادات عن الظواهر على هذا الأساس. ينتقد تشيزوم هذا الموقف بأنه فضفاض لعدم تمكيننا من التمييز بين الظواهر الحقيقية والهلوسة. أكثر من ذلك، إنّ هيوم يقرّ بأنه لا يمكننا معرفة الظواهر، أي أنه لا يمكننا معرفة ما إذا كانت الأشياء التي نراها ونسمعها موجودةً فعلاً، فكل ما يمكننا معرفته هو إحساسنا بها. وهذا يجعل المعرفة محدودةً بالحواس، غير قادرةٍ أن تطال العالم الخارجي. لذلك، السؤال الأساسي في مسألة المعيار الذي علينا أن نوجّهه إلى الموقف المعياريّ هو التالي: كيف يمكننا أن نثق بأن المعرفة الحقّة تبدأ بالحواس؟
الموقف الخصوصيّ يتمثّل بالنسبة لتشيزوم بالفيلسوف الإسكتلندي توماس ريد (1710 – 1796)، والفيلسوف الإنجليزي جورج إدوارد مور (1873 – 1958). هذا الموقف من بناء المعرفة يبدأ بالإجابة على السؤال أ ومن ثم على السؤال ب، أي أنّ بداية المعرفة تكون مع اعتقاداتٍ معينة، ولاحقًا يُكوّن معيار للمعرفة. إنّ هذا الموقف يقوم على انتقادٍ لموقف ديفيد هيوم بأنه من المستحيل ألّا يعرف الإنسان على الأقل أنه موجودٌ في جسده، وأنّ هناك أشخاصًا موجودين حوله. وعلى الأقل، حين يرفع الشخص يَده ليراها، فهو على علمٍ بأنّ هذه اليَد موجودة. يدعم تشيزوم هذا الموقف لأنه يراه أكثر عقلانيةً من الموقفين الآخرين، ويجادل بأنه في حال شكَّكَ الشخص بأنّ اليَد التي يراها وهمٌ، إذا كان هناك أشخاصٌ غيره يرونها معه في ذات المكان والزمان، لا يمكن أن يكون موهومًا، بل محقًّا (Chisholm 596). ومن ثمَّ هناك اعتقادات بديهية تبدأ بها المعرفة من دون الحاجة لمعيارٍ يصنّفها بأنها اعتقادات جيدة أو صحيحة.
حقيقة موقف تشيزوم
«هناك العديد من الأشياء التي من الواضح أننا نعرف أنها صحيحة. إذا أبلغتك بالأشياء التي أراها الآن وأسمعها وأشعر بها – أو، إنْ شئت، الأشياء التي أعتقد الآن أنني أراها وأسمعها وأشعر بها – فمن المحتمل أن يكون تصريحي صحيحًا؛ فأنا أخبرك بشيء أعرفه. وهكذا أيضًا، إذا أبلغتَ عن الأشياء التي تعتقد أنك تراها وتسمعها وتشعر بها الآن. من المؤكّد أنّ هناك أوهامًا وهلوسات. يعتقد الناس غالبًا أنهم يرون أو يسمعون أو يشعرون بأشياء لا يرونها أو يسمعونها أو يشعرون بها في الواقع. ولكن من هذه الحقيقة – وهي أن حواسنا تخدعنا أحيانًا – نادرًا ما يترتب على ذلك أنّ حواسك وحواسي تخدعنا أنت وأنا معًا الآن» (Chisholm 596).
اقترح تشيزوم أنه إذا قال شخصان لبعضهما إنهما يسمعان ويشاهدان نفس الظواهر، فمن المحتمل أنهما لا يهلوسان، ويجب أن يثقا في حواسهما. من هذا المنطلق، يتابع ليقول إنّ هذه التجارب المعينة هي الخطوة الأولى للمعرفة، ولهذا السبب فهو يدعم الموقف الخصوصيّ. لكن أعتقد أنّ هذا الموقف يعبّر بحقيقته عن أنّ الإجماع حول التجارب الحسّيّة بين مجموعةٍ من الناس هو معيارٌ للمعرفة لكي نميّز بين التجارب الحسّيّة الحقيقية والخاطئة. عندما لا يكون لدينا إجماعٌ حول صوتٍ معينٍ أو مظهرٍ معينٍ، فمن المحتمل أن يكون هلوسةً. إذن، الإجماع هو معيارٌ نميّز عبره الظواهر الجيدة عن السيئة. لهذا السبب، أعتقد أن تشيزوم، خلافًا لما يدّعيه، ليس مع الموقف الخصوصيّ، بل مع الموقف المعياريّ المنهجيّ. إنّ المشكلة الأساسية في الثقة في الحواس هي كيفية التمييز بين الهلوسة والتجارب الحقيقية. لذا، فإنّ معيار الإجماع يجعل من السهل إجراء هذا التمييز ثم بناء المعرفة وفقًا لهذا المعيار.
لكن هذا المعيار غير مقنعٍ وغير كافٍ لحلّ مسألة المعيار في بناء المعرفة. علينا أن نكون حذرين، فقد يكون لدينا مجموعة من الأشخاص يدّعون أنهم يرون شبحًا كل يوم في مكانٍ معينٍ، لكن هل يكفي ذلك للاعتقاد بأنها معرفة؟ لا أعتقد ذلك. لا يزال هذا المعيار فضفاضًا، ويجب أن نحصر دائرة ثقتنا في التجربة الحسّيّة حتى عندما يكون يوجد إجماع. فيجب أن نسأل ما إذا كان لدينا إجماعٌ حول نفي الاقتراح ذاته. في حالة الشبح على سبيل المثال، إذا كان لدينا إجماع على أنها هلوسة جماعية، فعلينا مقارنة عدد الأشخاص الذين يرون الشبح وعدد الأشخاص الذين لا يرونه في ذات المكان والزمان. ولكن كيف لنا أن نقرّر أية مجموعةٍ من الناس لديها الاعتقاد الصحيح؟ هل يجب أن يكون الاعتقاد الحاصل على العدد الأكبر من الناس هو الفائز؟ وماذا لو كانت الأرقام متساوية تقريبًا؟ يجب أن يحتوي المعيار على مقارنةٍ بين أعداد حاملي معتقدٍ ما ونفيه، أي المقارنة بين عدد الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يرون أو يسمعون شيئًا ما وبين عدد الأشخاص الذين يدّعون أنهم لا يرون أو يسمعون ما يراه أو يسمعه الأشخاص السابقون. لكن يبدو أننا بحاجةٍ إلى معيار آخر لاتخاذ القرار. لذا، فإنّ معيار الإجماع الذي أعتقد أنه يكمن وراء موقف تشيزوم ليس معيارًا جيدًا أو كافيًا.
الموقف الرابع من مسألة المعيار
لقد قدّم تشيزوم ثلاثة مواقفٍ لمسألة المعيار، لكن يبدو أنّ لدينا موقفًا رابعًا من هذه المسألة، وهو الموقف الذي قدّمه كانط في كتابه «نقد العقل الخالص» (1781). الموقف الرابع هو أنّ المعرفة تُبنى على أساس الاستعمال الصحيح لقوانين العقل، وهذا هو المعيار، ولكن هذه القوانين ليست صحيحةً بحدّ ذاتها وإنما وظيفتها توحيد إدراكاتنا للظواهر. إن الاعتقاد الذي نكوّنه عن أيّ ظاهرةٍ ليس صحيحًا بحدّ ذاته بمجرد أنه يأتي من التجربة الحسّيّة، فالإنسان يتلقّى الظواهر عبر الحواس مبعثرةً لا معنى لها، وهو بحاجةٍ لقوانين العقل لتوحيدها وتنظيمها وبالتالي لفهمها. إنّ موقف كانط يتميّز بأنه لا يثق بما تعطيه الحواس من اعتقادات أو إدراكات، ولا بقوانين العقل بحد ذاتها، لكنه يثق بطريقة تفاعلها مع بعضها؛ أي تفاعل الصّور العقلية مع المحتوى الذي يأتي عبر الحواس. لنأخذ على سبيل المثال قانون السببية، وهو واحدٌ من القوانين الإثني عشر التي وضعها كانط. الاستخدام الصحيح لقانون السببية هو للظواهر المتتالية، مثلًا عندما نرى نار الموقد تحت الماء، ثم الماء مغليًا. في هذه الحالة، يكون الاستخدام الصحيح لقانون السببية بالقول إنّ النار هي السبب، بينما الماء المغلي هو النتيجة. خلاف ذلك، سنستخدم القانون بطريقةٍ خاطئةٍ مع المحتوى. إنّ قانون السببية بدون التجربة الحسّيّة ليس له قيمةً، أي أنه لا يمكننا أن نقول بأنه معيارٌ صحيحٌ بحدّ ذاته. الإدراك لظاهرتين متتاليتين لا يمَكّننا أن نستنتج بأنّ الأول هو السبب والثاني هو النتيجة، أي أنه لا يمَكّننا حتى تشكيل اعتقادٍ عمّا نراه، وهذا يأتي من نقد هيوم للسببية بأنها حكمُ عقلنا على الظواهر، ومن الممكن ألّا يعبّر عن الظواهر كما هي بحدّ ذاتها. إذن، المعيار، وهو الاستعمال الصحيح للسببية، ليس صحيحًا بمعزلٍ عن المحتوى الذي نتلقّاه عبر الحواس، وهذا المحتوى غير صحيحٍ بمعزلٍ عن المعيار الذي يتمثّل بقانون السببية. القانون فارغٌ بدون الظواهر، والظواهر لا معنى لها من دون القانون. لذلك، ولتكوين الاعتقاد الصحيح عن الظواهر، علينا أن نستعمل القوانين العقلية بطريقة صحيحة.
لا يناقش كانط في كتابه متى نُهَلوس على سبيل المثال، لكنه يناقش كيف يمكننا التأكّد من صحة اعتقاداتنا عن الظواهر، أي كيف يكون الاستعمال الصحيح للقوانين العقلية. يضمن هذا الاستخدام الصحيح المعتقدات الصحيحة عن الظواهر، لذا يمكننا أن نستنتج أنّ الاستخدام الخاطئ لهذه القوانين يمكن أن يُنتِج اعتقاداتٍ خاطئةٍ عن الظواهر كالهلوسة. نحن بحاجةٍ للمعيار وللظواهر الخاصة معًا في نفس الوقت لأنه لا يمكننا القول إنّ المعيار صحيحٌ ما لم يكن لدينا محتوى، ولا يمكننا التأكّد من صحة أيّ محتوى ما لم نستخدم قوانين تفكيرنا. الخطأ الذي اقترفه تشيزوم هو عدم التمييز بين الاعتقاد وبين الظواهر كما نتلقّاها عبر الحواس، فبالنسبة لكانط الاعتقاد يتكوّن عبر المعيار. وبما أن المعيار ليس صحيحًا إلّا في استعماله الصحيح، فلا يمكننا القول إنّ موقف كانط معياريٌّ. كما أن موقفه ليس خصوصيًا لأنّ بالنسبة له ما من اعتقاداتٍ صحيحةٍ من دون استعمالٍ صحيحٍ لقوانين العقل. لذلك، نحن بحاجةٍ للظواهر وللمعيار لتكوين اعتقاداتنا الصحيحة وفصلها عن الاعتقادات الخاطئة. إذا أردنا أن نجاوب على السؤال أ علينا أن نستعمل المعيار الذي يقترحه كانط لتحديد المعرفة الصحيحة للظواهر، وإذا أردنا أن نجاوب على السؤال ب ونحدّد المعيار الصحيح، علينا أن نستعمل الظواهر ونشكّل الاعتقادات ليصبح المعيار صحيحًا. إذن، صحيحٌ أن السؤالين الأساسيين في مسألة المعيار يعتمدان على بعضهما، إلّا أن كانط يخرج من الدائرة المفرغة مستندًا على اعتمادهما على بعضهما. ولكن من أين يأتي بالثقة في أنّ هذه الاعتقادات صحيحة وبأنّ المعيار صحيح؟ إنّ الثقة تأتي من أنّ جميع البشر لديهم القوانين ذاتها، لذلك، الثقة تنبع من كونية (universality) القوانين، وليس من موضوعيةٍ مطلقةٍ خارجيةٍ.
هل يمكن تخطّي الموقف المشكّك؟
إنّ الموقف المعياريّ يحدّد المعيار ويبني على أساسه الاعتقادات الصحيحة، لكنه لا يطرح إمكانية أن تكون جميع إدراكاتنا أوهامًا، بمعنى أن يكون عالمنا الخارجي وهمًا. كما أنّ الموقف الخصوصيّ أيضًا لا يطرح هذه الإمكانية، وتحديدًا تشيزوم الذي يعتبر نفسه داعمًا لهذا الموقف يصرّح بأنّ الهلوسة تحصل في أوقاتٍ قليلةٍ ممّا يجعل قضية الأوهام قضيةً ثانويةً. إنّ الموقف الكانطيّ يجعل الثقة بالأحكام والاعتقادات تأتي من داخل الإنسان وليس من خارجه، وهذه الثقة لا تعني أنّ اعتقاداته تطابق الواقع الخارجي. فبالنسبة لكانط لا يمكننا معرفة الشيء بحدّ ذاته كما هو بمعزلٍ عن معرفتنا، وحتى أنه لا يؤكّد وجود الشيء بحدّ ذاته إلّا أنه يفترض وجوده لكي يتعامل مع الظواهر كما تتلقاها الحواس. إذن، الموقف الكانطيّ لا ينفي احتمال أن تكون جميع ظواهرنا أوهامًا، بمعنى أنها ممكن أن تكون غير مطابقةٍ لواقعها الحقيقي. لكن ما أهمية هذا الاحتمال؟ إنّ الموقف المشكّك يهدف إلى أن يكون بناء المعرفة أمرًا مستحيلًا. ورأس الكلام هنا هو السؤال التالي: في حال اعتبرنا أنّ الموقف الكانطيّ أو الخصوصيّ أو المعياريّ يتخطّى حجّة الحلقة المفرغة للموقف المشكّك من مسألة المعيار، هل يمكن اعتبار هذا التخطّي نفيًا لكوْن بناء المعرفة أمرًا مستحيلًا؟ بالأحرى، هل هذا التخطّي يضمن إمكانية بناء المعرفة؟ لا أعتقد ذلك، وهذا لأن المواقف الثلاثة لم تتخطَّ احتمال أن تكون جميع إدراكاتنا عن العالم الخارجي أوهامًا، لذا فإنّ المعرفة التي سنبنيها ستكون قائمةً على الأوهام. لذلك، أعتقد أنّ الأولوية يجب أن تكون في معالجة الثقة بالحواس من خلال طرح إمكانية أن يكون كل ما نتلقاه عبرها وهمًا.
أدمغةٌ في وعاء
إنّ مسألة الشكّ بالعالم الخارجي بأسره عبّرَ عنها ديكارت في التأمل الأول حين افترض وجود شيطان خارق الذكاء يستخدم جميع قواه لكي يخدعه في كل ما تتلقاه حواسه عن العالم الخارجي كما في جميع اعتقاداته (Descartes 79). عندما يكون ديكارت نائمًا، ويحلم بأنه يرى يدًا تلمسه، يشعر باللمس ويرى اليد ويسمع صاحب اليد حين يتكلم. لذلك، يسأل ديكارت، ماذا لو كان يعيش في حلمٍ وهو يكتب تأملاته؟ فالحواس تعمل في الحلم على خداع ديكارت بأنّ ما يشعر به هو حقيقة خارجية. ماذا لو كان الشيطان يخدعنا في جميع ما تتلقاه حواسنا؟ هناك رواياتٌ لعددٍ من الفلاسفة يطرحون عبرها التشكيك ذاته، والنسخة المحدّثة تطرح إمكانية وجود حاسوب مكان شيطان ديكارت. قد يطرح المشكّك حول العالم الخارجي السؤال التالي: ماذا لو كان هناك جهاز حاسوبٍ كبيرٍ متّصلٍ بجميع أدمغتنا التي تم وضعها في وعاءٍ ضخمٍ، يرسل لنا صورًا افتراضيةً عن أنفسنا وجميع الأشياء الأخرى في العالم ويجعلنا نشعر بها كما لو كنا في حلم؟ إنه مشابه لاحتمال وجود الشيطان الشرير الذي يخدعنا في أفكارنا كما اقترح ديكارت حيث السؤال الأهم هو التالي: إذا كنا في هذه الحالة التي تشبه الحلم، هل يمكننا أن نعرف أو أن نعي أننا فيها؟ النسخة الحديثة من هذا الشك تسأل عما إذا كان بإمكاننا القول أو التفكير بأننا أدمغة في وعاء في حال كنا كذلك. بتعبيرٍ آخر، هل يمكننا أن نفرّق بين دماغٍ في جسدٍ ودماغٍ في وعاءٍ يعتقد بأنه في جسدٍ؟ الموقف المشكّك، بحسب بوتنام، يقول إنه لا يمكننا التمييز بين هاتين الحالتين، فإذا كنا فعلاً أدمغةً في وعاء، لا يمكننا أن نعرف ذلك، لذا لا يمكننا معرفة ما إذا كان العالم الخارجي وهمًا أو حقيقةً.
يحاول بوتنام أن يتخطّى التشكيك بالعالم الخارجي ويجادل بأنّ عبارة «نحن أدمغةٌ في وعاءٍ» تدحض ذاتها مثلما أنّ عبارة «جميع التعميمات خاطئة» تدحض ذاتها (Putnam 528). هذه العبارة الأخيرة هي بحدّ ذاتها تعميمٌ لأنها تشمل جميع التعميمات، وإذا افترضنا أنها صحيحة، مضمونها سوف يشملها ويجعلها خاطئةً، أي أنها خاطئة لأنها تعميم. وهكذا، يمكننا أن نقول إنّ هذه العبارة تدحض ذاتها، ما يجعلها عبارةً خاطئةً أو قضيةً كاذبةً بنظر بوتنام. وكذلك، عندما أقول «نحن أدمغةٌ في وعاء»، وأعتبر ذلك صحيحًا، في حال كان هذا صحيحًا لا يمكنني الإشارة إلى أدمغة حقيقية أو وعاء حقيقيّ لأنني سأتحدث بلغة العالم الافتراضي وليس بلغةٍ من اللغات التي أتكلمها في عالمنا الحقيقي. يقول بوتنام إنه إذا كنّا نتكلم اللغة الإنجليزية، ففي عالم الوعاء سوف نتكلم إنجليزية الوعاء (Vat-English) التي تختلف عن اللغة الإنجليزية. وبالتالي، لا يمكن أن تكون عبارة «نحن أدمغةٌ في وعاء» التي نقولها في إنجليزية الوعاء صحيحةً لأنّ الأشياء التي تشير إليها هذه الكلمات ليست هي الأشياء الواقعية التي تشير إليها كلمات اللغة الإنجليزية. لذلك، «نحن أدمغةٌ في وعاء» هي عبارةٌ تدحض ذاتها، مما يعني أنها عبارة خاطئة أو قضية كاذبة. إذن، يستنتج بوتنام أنه لا يمكننا أن نكون أدمغةً في وعاء.
نقد حجّة بوتنام
تقوم حجّة بوتنام على أنّ الأدمغة التي تكون في وعاءٍ غير قادرةٍ على الإشارة إلى أشياء العالم الواقعي. وهذا بالضبط ما أعتقد أنه خاطئ. لكن قبل أن أدخل في الحجة التي تدعم موقفي، عليّ أن أشير أولًا إلى أنّ موقف بوتنام يتطلّب افتراضًا مسبقًا بأنّ العالم الواقعي حقيقي ولسنا نعيش في الوهم. فلكي يعرف القائل بأننا «أدمغة في وعاء»، وبأنّ كلمات هذه العبارة لا تشير إلى أشياء العالم في حال كانت العبارة صحيحةً، عليه أن يعرف مسبقًا أشياء هذا العالم، وبالتالي بأنه يعيش في هذا العالم الحقيقي. وإذا كان يعرف بأنه يعيش في العالم الخارجي وأنه ليس وهمًا، فأيّ شكٍّ بالتحديد يعالج بوتنام؟ ثانيًا، إنّ العبارات التي تدحض ذاتها على مثال «جميع التعميمات خاطئة»، لا يمكن أن تكون خاطئةً أو صحيحةً. بتعبيرٍ أدق، القضايا التي تدحض ذاتها ليست كاذبةً أو صادقةً. إنها قضايا لا يمكن اتخاذ القرار فيها (undecidable)، ولكن بوتنام يأخذ الخيار السلبي تجاهها من دون أن يبرّر موقفه. في ما يلي، سوف أجادل بأنّ الأدمغة التي تكون في وعاء يمكنها الإشارة إلى أشياء العالم الخارجي، خلافًا لما يدّعيه بوتنام، مما يجعل الحجّة التي قدّمها غير كافيةٍ لتخطّي التشكيك بالعالم الخارجي.
يؤكّد بوتنام أنّ الصور التي يتلقاها الدماغ من الحاسوب غير مطابقةٍ للأشياء التي في العالم ويشبّهها برسمٍ لشخص ونستون تشرشل قامت بها نملة من دون قصد. عندما تغيب القصديّة (intentionality) لا يمكننا اعتبار الرسم أو الصورة التي يتلقاها الدماغ بأنها تشير إلى ونستون تشرشل شخصيًا أو أيّ شيءٍ من أشياء العالم. لكن ماذا لو كان صانع الحاسوب لديه القصديّة لإدخال صورة تشرشل أو صورة شجرةٍ حقيقيةٍ، فلمَ لا يكون الدماغ الذي يتلقى صورة تشرشل وصورة الشجرة يشير إليهما عندما يتكلم عنهم بلغة الوعاء ويقول: «شجرة»، و«تشرشل»؟ إنّ جواب بوتنام على هذا الاعتراض هو أنّ الحاسوب لا يمتلك القصديّة التي يمتلكها صانعه. لذا، يمكن اختزال المسألة إلى الفرق بين معرفة الحاسوب الموصول بالدماغ لأشياء العالم وبين معرفة الإنسان لها، أي الدماغ الذي يتلقى معلوماته من حواس الجسد وليس من الحاسوب.
يبدو أنّ القصديّة بالنسبة لبوتنام مرتبطةٌ بشكلٍ جوهريٍّ باللغة، ولهذا السبب كانت حجّته الرئيسية حول الاختلاف بين لغة الوعاء ولغة هذا العالم. إلّا أنني لا أعتقد أنّ اللغة هي الشيء الوحيد الذي يترجم القصديّة للعالم الخارجي. أعتقد أنّ نفعيّة الأشياء تجعلنا نشير إليها حتى من دون استخدام الكلمات. على سبيل المثال، عندما يستخدم الطفل الذي لا يعرف التحدّث شوكةً لتناول الطعام أو كرسيًا للجلوس أو طاولةً لوضع الشوكة عليها، فإنه يشير إلى هذه الأشياء بفعل استخدامها. يُعطى الدماغ في الوعاء صورةَ طاولة وشوكة وكرسي، ويُوهم باستخدامها للجلوس وتناول الطعام. وهكذا، حتى لو لم يتحدّث لغة الوعاء لتسمية هذه الصور، فهو يشير إليها. لا أعتقد أنّ الحاسوب في حدّ ذاته يمكن أن يشير إلى الأشياء إذا لم يستطع جعل صورهم مفيدة، ولكن إذا كان الحاسوب متصلاً بالدماغ يجعل الفائدة ممكنةً حتى وإن كان الاستخدام وهمًا، مما يكفي للإشارة إلى أشياء العالم الخارجي من دون اللغة. لذا، فإنّ حجّة بوتنام ليست مقنعة لأنه يعتمد على أنّ الدماغ الموجود في وعاءٍ لا يمكن أن يشير إلى أشياءٍ حقيقية بينما أعتقد أنه يستطيع ذلك.
الخاتمة
في حال لم نتمكّن من تخطّي الشكّ بعالمنا الخارجي وبمصداقية حواسنا، لا يمكننا بناء المعرفة الحقّة على هذا الأساس. إنّ القصديّة تجاه أشياء العالم الخارجي والإشارة إليها لا تكفي للثقة بأننا لسنا نعيش وهمًا. لذلك، هل نعود في مسألة بناء المعرفة إلى ما قدّمه ديكارت ونقول بأنّ الحقيقة الأولى التي يمكن أن نثق بها ونبدأ ببناء المعرفة الحقّة على أساسها هي أننا نفكّر، وتحديدًا أننا نشكّ بحقيقة عالمنا الخارجي وبمصداقية حواسنا؟ إنّ الشكّ هو فعل التفكير الذي لا يمكن أن نشكّ فيه، حسب ديكارت. وبطريقة الشكّ بجميع الاعتقادات، الشكّ كفعل تفكيرٍ يمكن أن نحوّله إلى الاعتقاد الأول للمعرفة «أنا أفكّر»، أي أنها تمثّل التفاحة الأولى التي أعادها ديكارت إلى السلة لتكون نقطة بداية بناء المعرفة. أعتقد أنّ الخيار ما بين الثقة بالعالم الخارجي المادي والشكّ فيه مرتبطٌ بنظرتنا للإنسان. إذا كانت نظرتنا للإنسان ثنائيّةً مثل ديكارت، أي أنّ عقل الإنسان من طبيعةٍ مختلفةٍ عن طبيعة الجسد المادي والدماغ، هذه النظرة تدعم التعارض بين المعرفة التي تأتي عبر الحواس والمعرفة الفكرية المحض. وهذا التعارض يُترجَم في الثقة أو الشكّ في المعرفة الحسّيّة كالعلوم التجريبية من جهةٍ، والمعرفة العقلية المجرَّدة من المادة كالرياضيات وعلم المنطق من جهةٍ أخرى. وفي حال كانت نظرتنا للإنسان أحاديّةً، أي أنّ العقل من طبيعة الجسد المادية، فمن الصعب أن يقوم تعارض بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية المجردة، ولكن يصعب الخروج من الشكّ إذا بدأنا فيه. فديكارت استطاع الخروج من الشكّ من خلال ثقته بعقله ذي الطبيعة غير المادية. ومهما كانت نظرتنا للإنسان وتكوينه، يمكننا أن نسأل عمّا إذا كان الاختبار بوضع دماغٍ في وعاءٍ ممكنًا. فهل إذا فصلنا الدماغ عن باقي الجسد، تبقى قدرته على التفكير قائمة؟
المراجع:
Descartes, René, John Cottingham, Robert Stoothoff, Dugald Murdoch, and Anthony Kenny. Descartes: Selected Philosophical Writings. Cambridge: Cambridge University Press, 1998.
Kant, Immanuel, Paul Guyer, and Allen W. Wood. Critique of Pure Reason, edited by Guyer, Paul, Allen W. Wood. Cambridge: Cambridge University Press, 1998;1999;2013;. doi:10.1017/CBO9780511804649
Putnam, Hilary, “Brains in a Vat,” in Epistemology: Contemporary Readings. Michael Huemer and Robert Audi. London: Routledge, 2002. 524 – 538.
Chisholm, Roderick, “The Problem of the Criterion,” in Epistemology: Contemporary Readings. Michael Huemer and Robert Audi. London: Routledge, 2002. 590 – 601.