مقابلات وحوارات

بيونغ- شول هان: «أعتذر، لكن تلك حقائق لا يمكن تزييفها»

ترجمة: بدر الدين مصطفى

بيونغ- شول هان: «أعتذر، لكن تلك حقائق لا يمكن تزييفها»

حوار مع الفيلسوف[1]

هذا الحوار أجرته مجلة زيت فيزن ZEIT Wissen الألمانية مع الفيلسوف بيونغ- شول هان، بواسطة نيلز بوينغ وأندرياس ليبرت، المحرران الصحفيان بالمجلة، واللذان سنشير إليهما داخل الحوار باسم المجلة “زيت فيزن”.

توقع نيلز بوينغ وأندريس ليبرت (المحاوران) أن يضعهما حوارهما مع بيونغ- شول هان في مزاج سيء، لكن خاب توقعهما، فطوال أربع ساعات من الحوار المتواصل، كان الجو السائد حميميًا وحماسيًا للغاية. ربما يكون هذا دليلًا على نظرية هان القائلة بأن الإفراط في الإيجابية (التفاؤل) يفضي إلى الاكتئاب، أما السلبية (النقد) فربما تفضي إلى قدر من التفاؤل.

اقترح بيونغ- شول هان مقهى Liebling في برينزلاوِر بيرغ Prenzlauer Berg كمكان للقاء. يشغل الفيلسوف، المقل في حواراته، وظيفة أستاذ في جامعة دير كونست (جامعة الفنون) في برلين. وقد قدم مجموعة من الكتب التي أثارت موجات من الجدل والنقاش، مثل: مجتمع الاحتراق النفسيMüdigkeitsgesellschaft  ومجتمع الشفافيةTransparenzgesellschaft .

يتجنب هان الحوارات وينأى بنفسه بعيدًا عن الأضواء، لهذا يُعد هذا اللقاء فرصة نادرة قلما تكررت. وقد انقضى الوقت المتفق عليه لهذا الاجتماع قبل نهايته بعشر دقائق. انتظرناه فرأيناه قادمًا في تؤده نحو المقهى. يجلس ويطلب مشروبًا غازيًا. ثم يبدأ الحوار بيننا كالآتي:

زيت فيزن: من أين أتيت للتو؟

بيونغ- شول هان: مكتبي، كالعادة.

زيت فيزن: ما الذي تعمل عليه الآن؟

هان: أكتب كتابًا جديدًا عن الجمال[2]. قررت أن أفعل ذلك بعد قراءة مقابلة أجريت مع بوثو شتراوس[3] Botho Strauss. فعندما سُئل عما يفتقده الآن، أجاب بوثو شتراوس: “الجمال Schöne”. لم يقل أي شيء آخر سوى أنه يفتقد الجمال، وأنه يسعى لاقتناصه. فكرت إذن، لماذا لا أكتب كتابًا عن هذا؛ عن الجمال.

زيت فيزن: إذن أنت تفكر في الجمال. كيف يبدو هذا التفكير؟

هان: أحد مكونات عملية التفكير يتمثل في إدراك أوجه التشابه. وكثيرًا ما أشعر أنني أدرك أوجه التشابه بين الأحداث؛ بين الحدث الحالي والحدث في الماضي؛ أو بين الأشياء التي تحدث في الوقت نفسه. إنني مفتون بتتبع تلك العلاقات.

زيت فيزن: وما فكرتك عن الجمال الآن؟

هان: أرى وجود علاقة بين الظواهر المختلفة التي تحدث اليوم أو تلك التي تكون شائعة في عالم اليوم. على سبيل المثال، إزالة الشعر بالشمع البرازيلي Brazilian Waxing ومنحوتات جيف كونز Jeff Koons وهواتف أي فون iPhone.

زيت فيزن: عجبًا! أنت تقارن إزالة شعر الجسم بهاتف ذكي وبفنان!

هان: يمكننا بسهولة تحديد الصفة المشتركة بينهم: إنها تتعلق بالنعومة. هذه النعومة تميز يومنا الحاضر. أنت تعرف الإصدار G Flex؛ أحد الهواتف الذكية من إنتاج شركة إل. جي LG. يتميز هذا الهاتف الذكي بطبقة شديدة الخصوصية: إذا تعرض سطحه للخدش، فإن هذا الخدش سيختفي بعد فترة زمنية قصيرة للغاية، لذلك يحتوي على ما يمكن أن نسميه بشرة ذاتية الاستشفاء؛ جلدًا حيويًا إن جاز التعبير. هذا يعني أنه يتمتع بالمرونة الكاملة. أسأل نفسي، ماذا يضير وجود بعض الخدوش على سطح شيء ما؟ لماذا هذا السعي المحموم للحفاظ على السطح أملسًا؟ ثمة علاقة بين الهاتف الذكي المرن والبشرة الناعمة والحب.

زيت فيزن: الحب! يُرجى توضيح ذلك.

هان: هذا السطح الأملس على الهاتف الذكي هو جلد يقاوم الضرر، ويتجنب كافة أنواع الأذى. أليس صحيحًا، في هذه الأيام،  أنه عندما يتعلق الأمر بالحب، فإننا نتجنب الأذى أيضًا؟ لا نريد أن نكون عرضة للخطر، فنحن نتجنب الضرر أو الأذى بأي شكل من الأشكال. يتطلب الحب قدرًا كبيرًا من الالتزام، لكننا نتجنب هذا الالتزام، لأنه يفضي إلى الإصابة. نتجنب العاطفة. ونخشى الوقوع في الحب لأنه قد يؤلمنا أكثر من اللازم.

الوقوع في الحب لم يعد مسموحًا به، في الفرنسية يقولون وقع في غرامها “tomber amoureux”. هذا الوقوع يبدو سلبيًا للغاية؛ أذى يجب تجنبه. أرى ارتباطًا بفكرة أخرى … نحن نعيش في عصر التعبير عن الإعجاب عبر الضغط على علامة “Like” داخل صفحات الفيسبوك Facebook في حين أنه لا مجال  للتعبير عن شعور اللاإعجاب Dislike. لا يوجد سوى “أعجبني”، لأن “أعجبني” تسرع من عملية التواصل، في حين تؤدي “لم يعجبني” إلى تباطؤ تلك العملية. وبالمثل، فإن التعرض للأذى يفضي إلى إبطاء التواصل. حتى الفن يتعمد هذه الأيام الابتعاد تمامًا عن كل ما يمكن أن يتسبب في توليد الأذى. في منحوتات جيف كونز، لا يوجد أي مجال للأذى، لا فواصل، ولا شقوق، ولا كسور، ولا حواف حادة، ولا حتى طبقات. كل شيء ينسال عبر التدفقات الناعمة والسلسة. يبدو كل شيء مستديرًا، ومصقولًا، وناعمًا- فن جيف كونز عبارة عن سطح أملس. إن ثقافة الإعجاب آخذة في الظهور اليوم. وبمقدورنا تطبيق ذلك في  السياسة أيضًا.

زيت فيزن: هل تعني أن السياسة أصبحت ناعمة هي الأخرى؟

هان: يتجنب السياسيون أيضًا أي نوع من الالتزام. ما يتطور الآن هو سياسة الإعجاب. من من السياسيين يمكن الاحتجاج به كنموذج على سياسة الإعجاب؟ ربما أنغيلا ميركل. هذا هو السبب في أنها تحظى بشعبية كبيرة. ليس لديها قناعات راسخة ولا رؤى ثابتة. تراقب الرأي العام وتغير آرائها وفقًا له على نحو مستمر. بعد الكارثة النووية في فوكوشيما، تحولت بصورة مفاجئة إلى مناهضة الطاقة النووية. يمكنك أن تصفها أيضًا بأنها زلقة كثعبان البحر. اليوم، نحن نتعامل مع السياسة الناعمة. هناك علاقة مثيرة للاهتمام بين البشرة الملساء والفن الأملس والسياسة الملساء. وعلى نحو مؤكد، يتطلب العمل السياسي رؤية والتزامًا وقررًا، وهي أمور تشتمل على قدرٍ من الإيذاء، ولا ينبغي أن تخلق حالة من الراحة للجميع. لكن السياسة الناعمة اليوم لا تفعل ذلك. في الواقع ليست أنغيلا ميركل وحدها هي المثال على ذلك، إذ لا يستطيع أي من السياسيين اليوم القيام بغير ذلك. هم فقط أتباع لنظام لابد أن يجمع علامات الإعجاب من الجميع. لذلك يقومون بإصلاح أي أجزاء يفشل فيها هذا النظام. ويقومون بذلك تحت وهم أنه ليس ثمة بديل لذلك. لكن السياسة يجب أن تقدم بدائل، وإلا فإنها لا تختلف في شيء عن الديكتاتورية. نحن نعيش اليوم، تحت ديكتاتورية الليبرالية الجديدة. في الليبرالية الجديدة، يغدو الجميع متعهدًا بأعمال نفسه. كان للرأسمالية، في عصر ماركس، بنية عمل مختلفة تمامًا، حيث يتكون الاقتصاد من أصحاب المصانع والعمال، ولم يكن أي عامل بالمصنّع يقوم بدور المتعهد بأعماله. كان هناك استغلال خارجي، أما اليوم، فنحن نستغل أنفسنا؛ إنني أستغل نفسي تحت وهم أنني أعبر عن نفسي.

الحرية مقابل القهر

زيت فيزن: لكن مصطلح الليبرالية الجديدة يُنظر إليه على أنه مصطلح يساري، فهل أنت كذلك؟

هان: هذا غير صحيح. تصف الليبرالية الجديدة حالة المجتمع الراهن جيدًا، لأنها تتعلق باستغلال الحرية. يسعى النظام إلى مضاعفة الإنتاجية، وبالتالي يتحول من استغلال الآخرين إلى استغلال الذات، لأن هذا الأمر يعمل على توليد المزيد من الكفاءة والمزيد من الإنتاجية، وكل ذلك تحت ستار من حرية مزعومة.

زيت فيزن: يبدو تحليلك مُحبطًا للغاية. نحن نستغل أنفسنا، ولا نمتلك القدرة على المجازفة بأي شيء، لا في الحب ولا في السياسة، ولدينا خوف مرضي من الأصابة أو الأذى!

هان: أنا آسف، لكن هذه حقائق لا يمكن تزييفها.

زيت فيزن: كيف يمكن للفرد في هذا المجتمع أن يجد السعادة؟ هل يجب أن نكون أكثر التزامًا بمُثُلنا؟

هان: النظام يجعل من الصعب حدوث ذلك. نحن لا نعرف حتى ما نريد. الاحتياجات التي أرى أنها احتياجاتي، لا أكون في حاجة لها بالفعل. خذ على سبيل المثال، متجر خصم الملابس بريمارك Primark. ينظم الناس حملات منتظمة بالسيارات لزيارته، لأنه لا يوجد فرع له في كل مدينة. ما أن يصلوا إلى المتجر حتى يقومون بنهبه فعليًا (من كثرة الشراء). ثمة مقالة نشرت في إحدى الصحف مؤخرًا، ذُكر فيها حكاية عن فتاة، عندما سمعت أن المتجر سيتفتتح فرعًا له بجوار سي& أيه C&A في ميدان ألكسندر Alexanderplatz [ببرلين]، صرخت بسعادة وقالت، إذا كان بريمارك هنا، ستصبح حياتي مثالية. هل هذه الحياة هي حقًا حياة مثالية لها، أم أنه مجرد وهم ولدته ثقافة الاستهلاك؟ دعونا ننظر إلى ما يحدث هنا على وجه الدقة. تشتري الفتيات مئات الثياب، يكلف كل فستان خمسة يورو، كمتوسط شراء، وفي مقابل ذلك ثمة أناس يموتون بسبب هذه الملابس في بعض البلدان التي تنتجها، مثل بنغلاديش، إذا انهار مصنع للملابس فوق رؤوسهم. هؤلاء الفتيات يشترين مائة فستان، لكنهن لا يرتدينه. هل تعرف ماذا يفعلون بهم؟

زيت فيزن: ربما يعرضون هذه الملابس على موقع اليوتيوب، في مقاطع فيديو جذابة.

هان: بالضبط، يعلنون عنها! يصممون مجموعات من مقاطع الفيديو، يقومون فيها بارتداء الملابس التي قاموا بشرائها لتكون متاحة على فضاء الشبكة. بعض مقاطع الفيديو على اليوتيوب تنال مجموع مشاهدات يصل لمئات الآلاف في بعض الأحيان. يشتري المستهلكون الملابس وأشياء أخرى، لكنهم في الواقع لا يستخدمونها، وبدلًا من ذلك يقومون بالإعلان عنها، وهذه الإعلانات تولد استهلاكًا جديدًا. هذا ما أقصده بالاستهلاك المطلق المستقل عن استخدام الأشياء. ويبدو أن الشركات قد قامت بتفويض المستهلكين من أجل الدعاية لهم، دون أن تتحمل هي تكاليف ذلك. في الواقع يبدو هذا النظام مثاليًا.

زيت فيزن: هل يتوجب التمرد عليه؟

هان: لماذا يتوجب التمرد عليه؟ إذا نجح بريمارك في جعل حياتي مثالية فما المشكلة في ذلك؟

زيت فيزن: “الحرية جزء من الحدث”، هذا ما كتبته في عملك الجديد، النفسي- سياسي Psychopolitik. لماذا؟

هان: الحرية هي الوجه الآخر للقهر. إذا كنت تتعامل مع الأمور دون وعي بالقهر الذي تتعرض له حريتك، فهذا يعني نهاية الحرية. لهذا السبب نحن في أزمة. أزمة الحرية هي أننا نعتبر القهر حرية، لذلك ليس ثمة مقاومة ممكنة. إذا كنت تجبرني على القيام بشيء ما، فعندئذ يمكنني مقاومة هذا الإكراه الخارجي والتمرد عليه. ولكن إذا لم يعد ثمة خصم يجبرني على فعل أي شيء، ستنتفي المقاومة. لهذا السبب اخترت أن أبدأ كتابي بعبارة مقتبسة من الرسامة جيني هولزر Jenny Holzer: “أحمني مما أريد”.

زيت فيزن: إذن علينا حماية أنفسنا من أنفسنا؟

هان: إذا كان النظام يهاجم حريتي، فلا بد لي من المقاومة. الأمر المفارق في عالمنا اليوم هو أن النظام لا يهاجم الحرية، لكنه شديد الفاعلية. على سبيل المثال: عندما حاولت برلين القيام في الثمانينات بعمل إحصاء رسمي للسكان، نشبت العديد من المظاهرات، خرج الناس إلى الشوارع، وتعطلت بعض المصالح الحكومية عن العمل، لماذا؟ لقد أصبح لديهم خصم في الولاية يريد الحصول على المعلومات الخاصة بهم رغمًا عنهم. اليوم، نقوم بتسليم المزيد من المعلومات عن أنفسنا أكثر من أي وقت مضى. لماذا لا يوجد احتجاج على ذلك؟ لأننا، بالمقارنة مع الوضع السابق، نقدم المعلومات الخاصة بنا ونشعر في الوقت ذاته بالحرية. في ذلك الوقت، شعر الناس أن حريتهم تتعرض للهجوم أو الوصاية، ولهذا خرجوا إلى الشوارع. اليوم، نشعر بالحرية ونحن نسلم بياناتنا طواعية.

زيت فيزن: ربما لأن الهواتف الذكية يمكن أن تساعدنا في الوصول إلى المكان الذي نريد الذهاب إليه. نحن نعتبر أن  فائدتها أكبر من الضرر الذي قد يتولد عنها.

هان: ربما، ولكن من حيث بنيته، لا يختلف هذا المجتمع عن المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى. نعيش في نوع من العبودية الإقطاعية. أمراء الإقطاعيات الرقمية مثل الفيسبوك يقدمون لنا الأرض بغية استصلاحها ولسان حالهم: قوموا بحرثها، وستتمكنون من الحصول عليها مجانًا. ونحن نحرثها كالحمقى، ليأتي أمراء الإقطاع، في النهاية، فيجنوا حصاد ذلك. هذا هو الاستغلال التواصلي. نتواصل مع بعضنا البعض، ونحن نتوهم الحرية، ثم يجني أمراء الإقطاع أرباحهم من هذا الاتصال، الذي تقوم الأجهزة السرية بمراقبته. هذا النظام فعال للغاية. ليس ثمة احتجاج على ذلك، لأننا نعيش في نظام يستغل الحرية، ويعتبرها حلقة من حلقاته.

المجتمع الرقمي اليوم لا يخلو  من الطبقية

زيت فيزن: كيف تتعامل معها شخصيًا؟ أعني التكنولوجيا.

هان: مثل أي شخص آخر، لا أكون مرتاحًا بالطبع عندما لا أكون متصلاً. إنني ضحية أيضًا، فبدون هذا الاتصال الرقمي، لا يمكنني القيام بعملي، كأستاذ أو ككاتب. الجميع متورط ومنخرط في هذ النظام.

زيت فيزن: ما هو الدور الذي تلعبه التكنولوجيا الخاصة بالبيانات الكبيرة Big-Data-Technologien؟

هان: هذا أمر بالغ الأهمية، فالبيانات الكبيرة لا تستخدم فقط بغرض المراقبة، ولكن بشكل خاص للسيطرة على السلوك البشري. وإذا تم التحكم في سلوك الإنسان، إذا تم التلاعب بالقرارات التي نتخذها على أساس من شعور كامل بالحرية، فإن إرادتنا الحرة ستكون معرضة للخطر. بمعنى آخر، البيانات الكبيرة تدخل في تحدٍ مع إرادتنا الحرة.

زيت فيزن: لقد كتبت أن البيانات الكبرى تفضي إلى مجتمع طبقي جديد. كيف ذلك؟

هان: المجتمع الرقمي اليوم ليس مجتمعًا بلا طبقات. خذ على سبيل المثال شركة جمع البيانات أكسيوم Acxiom: إنها تقوم بتقسيم الأشخاص إلى فئات. الفئة الأخيرة هي الفئة “المهملة”. تغطي بيانات أكسيوم حوالي 300 مليون مواطن أمريكي. والآن، تمتلك الشركة معلومات عن مواطني الولايات المتحدة  تتجاوز المعلومات التي تمتلكها الإف. بي. أي FBI، وربما تتجاوز أيضًا ما تمتلكه وكالة الأمن القومي الأمريكية NSA. في أكسيوم، ينقسم الأشخاص إلى سبعين فئة، ويتم استعراضهم في كتالوج مثل سلع التجزئة، ويمكنك شراء كتالوج لكل نوع من الفئات. المواطنون ذوو القيمة السوقية العالية هم في فئة النجوم المستهدفة “Shooting Stars”. تتراوح أعمارهم بين 26 و 45 عامًا، ويتمتعون بالحيوية ويستيقظون مبكرًا للركض، وليس لديهم أطفال، ولكن قد يكونوا متزوجين، ولديهم نمط حياة نباتي، ويسافرون، ويشاهدون ساينفلد على التلفاز. هذه هي الطريقة التي تولد بها المعلومات الكبرى Big Data مجتمعًا رقميًا جديدًا.

زيت فيزن: ومن يكون في الفئة “المهملة Waste”-Klasse”؟

هان: تلك هي الفئة الأسوأ حظًا. لا يمكنهم الحصول على الائتمان، على سبيل المثال. وهكذا، إلى جانب بانوبتيكون Panopticon، سجن جيرمي بنتام Jeremy Bentham المثالي، لدينا “البان-أوبتيكون ban-opticon”، كما أطلق عليه عالم الاجتماع زيغمنت باومان Zygmunt Bauman. يعمل البانوبتيكون على مراقبة السجناء المحبوسين في النظام، في حين أن  البان-أوبتيكون هو إجراء يحدد الأشخاص غير المرغوب فيهم ويستبعد الأشخاص الموجودين خارج النظام أو المعادين له. يستخدم البانوبتيكون الكلاسيكي للتأديب، ومع ذلك يضمن البان-أوبتيكون ban-opticon أمان النظام وكفاءته. من المثير للاهتمام أن وكالة الأمن القومي وشركة أكسيوم يعملان سويًا؛ في مجال الخدمات السرية والتسويق.

زيت فيزن: هل من الممكن أن تتحول الطبقة “المهملة” إلى كتلة حرجة في النهاية، بحيث يتعذر في وقت ما التحكم فيها؟

هان: لا. إنهم يتوارون، ويخجلون، ويعيشون على إعانة البطالة؛ عاطلون ويتملكهم الخوف بصورة مستمرة. إنهم مسجونون في هذا البان- أوبتيكون، حتى لا يتمكنوا من الخروج من سجن خوفهم. أعرف الكثير من الباحثين عن عمل، وهم يعاملون كنفايات. في واحدة من أغنى البلدان في العالم، في ألمانيا، تعامل فئة من الناس على أساس كونهم حثالة. تُمتهن كرامتهم باستمرار. بالطبع ليس بمقدور هؤلاء الناس الاحتجاج، لأن العار يتملكهم. إنهم يتهمون أنفسهم، بدلاً من تحميل المجتمع مسؤوليتهم، أو اتهامه. في الواقع، لا يمكن توقع أي تحرك سياسي من هذه الطبقة.

زيت فيزن: إنه لأمر محبط للغاية. أين سينتهي كل هذا؟

هان: على أي حال، لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا، إن لم يكن بسبب أي شيء آخر، فسيكون نتيجة لفقدان الموارد الطبيعية، قد يستمر النفط في العالم لـ 50 سنة أخرى لا أكثر. نحن نعيش أسرى للوهم في ألمانيا. حيث نعتمد إلى حد كبير على مصادر خارجية في عملية الإنتاج. تقوم الصين الآن بصناعة أجهزة الكمبيوتر لنا، وملابسنا، وهواتفنا المحمولة. غير أن الدمار يقترب أكثر فأكثر من بكين، وبالكاد يمكننا التنفس هناك نتيجة كثافة الضباب الدخاني. عندما كنت في كوريا، رأيت سحب الغبار الصفراء هذه تسير على طول الطريق إلى سول. كان عليك ارتداء قناع للوجه لأن الجزيئات الدقيقة قد تلحق الضرر بالرئتين. في الواقع تبدو الطريقة التي تتطور بها الأشياء هناك مثيرة للغاية. حتى لو كان الفرد يعمل بشكل جيد ولفترة أطول- فما نوع الحياة التي يعيشها؟ يمكننا إدراك حجم المأساة بمجرد إلقاء نظرة على أولئك الأشخاص الذين علقوا كافة أنواع أجهزة الاستشعار على أجسادهم وقياس ضغط الدم ونسبة السكر في الدم والنسبة المئوية للدهون على مدار الساعة، ثم يرفعون هذه المعلومات على شبكة الإنترنت! تحت هوس العملية التي يطلق عليها التتبع الذاتي. هؤلاء الأشخاص هم بالفعل آكلي لحوم البشر (زومبي Zombies)، إنهم دمى يتم التحكم فيهم بواسطة قوى غير معروفة لهم، كما قال جورج بوشنر Georg Büchner  في عمله المسرحي موت دانتون Dantons Tod .

السعادة ليست حالة يمكن استهدافها

زيت فيزن: أستاذ هان، في كوريا الجنوبية، درست علم المعادن لأول مرة. كيف أصبح المتخصص في المعادن فيلسوفًا ناقدًا للنظام العالمي؟

هان: أنا أهوي التكنولوجيا. عندما كنت طفلاً، كنت أحب العبث بأجهزة الراديو والأجهزة الإلكترونية الأخرى. كانت لدي رغبة فعلية في دراسة الهندسة الكهربائية أو الميكانيكية، لكن اتضح أن هذا هو علم المعادن. لقد كنت تقنيًا متحمسًا ومثقفًا.

زيت فيزن: ولماذا توقفت؟

هان: لأنه ذات مرة، عندما كنت أجرب بعض المواد الكيميائية، وقع انفجار بسببي. وقد خلف ندوب مازلت أعاني منها. كدت أنهي حياتي بهذا الفعل، أو على الأقل كدت أفقد بصري كنتيجة له.

زيت فيزن: أين كان ذلك؟

هان: في المنزل في سول، وقتما كنت طالبًا، كانت أدراجي مليئة بالأسلاك والمواد الكيميائية. كنت كيميائيًا نوعًا ما، فعلم المعادن هو الكيمياء الحديثة حقًا. لكنني توقفت منذ يوم الانفجار عن العمل على المعادن، ولم أتوقف عن العبث حتى الآن، ليس مع الأسلاك أو المعادن بل مع الأفكار. فالتفكير هو نوع من العبث أيضًا، وقد يؤدي إلى انفجارات ضخمة. التفكير هو النشاط الأكثر خطورة، وربما أكثر خطورة من القنابل الذرية. بمقدوره أن يغير العالم. لهذا قال لينين: “تعلم، تعلم، تعلم!”.

زيت فيزن: هل تريد أن تلحق الأذى بالناس؟

هان: لا، أحاول أن أصف ما هو موجود. من الصعب أن نرى من خلال الأشياء. لهذا السبب أحاول أن أرى المزيد؛ أن أتعلم كيف أرى. أكتب ما رأيته. من المحتمل أن تؤدي كتبي إلى إلحاق الأذى، لأنني أظهر أشياء لا يرغب الناس في رؤيتها. لست أنا، وليس تحليلي هو الذي لا يرحم، بل العالم الذي نعيش فيه؛ إنه لا يرحم ؛ أحمق وغير معقول.

زيت فيزن: هل أنت شخص سعيد؟

هان: لا أسأل نفسي هذا السؤال.

زيت فيزن: هل تعني أنه لا ينبغي طرح هذا السؤال؟

هان: إنه في الواقع سؤال لا معنى له. السعادة ليست حالة يمكن استهدافها. بإمكانك تحديد المصطلح أكثر. ماذا تقصد بالسعادة؟

زيت فيزن: بكل بساطة: أن أكون مستمتعًا بوجودي في العالم، وأشعر بأنني انتمي إليه. باختصار، استمتع بالعالم، وأنام قرير  العين.

هان: لنبدأ بالجملة الأخيرة. أنا لا أنام جيدًا. قبل يوم أمس، كنت مشاركًا في ندوة حول الحياة الجيدة مع الفيلسوف فيلهلم شميدت Wilhelm Schmidt، اٌفتتحت بمقطوعة موسيقية: تنويعات غولدبرغ Goldberg-Variationen؛ تدور حول المعاناة من الأرق الشديد. ذكرت الجمهور بالجملة الأولى من عمل مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود Suche nach der verlorenen Zeit erinnert”. في الإنجليزية، يقال “For a long time, I went to bed early” ومعناها “لفترة طويلة، ذهبت إلى الفراش مبكرًا”، أما في الفرنسية فالمقابل لهذه الجملة: “Longtemps je me suis couché de bonneheure” وهي تقدم نفس المعنى، لكن كلمة bonneheure في الفرنسية تشير إلى السعادة أيضًا. لذا فإن الترجمة المناسبة للجملة ستكون: “لفترة طويلة، ذهبت إلى الفراش مرتاحًا”. أخبرت الحضور أن النوم المريح هو علامة من علامات الحياة السعيدة والجيدة. غير أنني، على المستوي الشخصي، أعاني من الأرق.

زيت فيزن: ماذا تفعل عندما لا تستطيع النوم؟

هان: ماذا أفعل؟! أكون مستلقيًا هناك. في الجانب الآخر من العالم، هل أحب أن أكون في العالم؟ كيف أحب أن أكون في هذا العالم الخاطئ؟ هذا غير ممكن، وأنا لست سعيدًا. أعجز كثيرًا عن فهم هذا العالم، ويبدو سخيفًا جدًا بالنسبة لي. لا يمكنك أن تكون سعيدًا بالسخافة. لكي تكون سعيدًا، فأنت بحاجة إلى الكثير من الأوهام.

زيت فيزن: تستمتع إذن بـ…؟

هان: ماذا؟

زيت فيزن: بماذا تستمتع؟

هان: لا أستطيع الاستمتاع بالعالم.

زيت فيزن: ربما قطعة جميلة من الكعك؟

هان: أنا لا آكل الكعك. يمكن أن استمتع بوجبة جيدة، لكن الطعام في برلين، وفي ألمانيا، يمثل مشكلة. لا يبدو أن الألمان يقدرون الطعام الجيد. ربما يكون هذا العداء تجاه كل ما هو شهواني ناتجًا عن الثقافة البروتستانتية. غير أن للطعام قيمة مختلفة تمامًا في آسيا؛ قيمة أعلى بكثير. ينفق الناس الكثير من المال عليه، على عكس ألمانيا. خذ اليابان، على سبيل المثال: الطعام نوع من العبادة هناك، له طقوس جمالية.

زيت فيزن: كلامك به قدر كبير من الحنين. لقد عشت في ألمانيا لمدة 30 عامًا. كيف تأقلمت مع ذلك؟

هان: في الواقع ليس تأقلمًا. أحب العيش في ألمانيا. أحب الهدوء هنا، وهو ما تفتقده سول. أحب اللغة الألمانية؛ كلماتها وتعبيراتها. بمقدور أي شخص يقرأ كتبي ملاحظة ذلك. لدي لغة هنا يمكنني أن أتفلسف بها بأريحية كبيرة. نعم، هناك أشياء تجعلني سعيدًا. الطعام ليس كثيرًا، لكن باخ كما يعزفه غلين جولد. كثيرًا ما استمع إلى باخ لساعات. لا أعرف هل كنت سأظل في ألمانيا لفترة طويلة ما لم يكن هناك باخ، وشوبرت وينترريز، وشكترليب شومان. خلال دراستي للحصول على درجة في الفلسفة، اعتدت على الغناء كثيرًا، ولا سيما شومان وشوبرت، وقد أخذت الكثير من دروس الغناء أيضًا. غناء مقطوعة الشتاء Winterreise لشوبرت برفقة البيانو، هذه من الأمور المبهجة جدًا …

إسكات اللغة

زيت فيزن: إذن هناك جمال في هذا العالم! أنت تقضي الكثير من الوقت في إظهار كم يكون هذا العالم بائسًا.

هان: ربما. أنا حقًا أبث اليأس في قلوب تلاميذي لأنني أكشف لهم عن كل هذه المشكلات في محاضراتي. عندما قلت في المحاضرة التي تسبق محاضرتي الختامية نهاية الفصل الدراسي، اليوم سوف نفكر في الحلول، صفق بعضهم فرحًا بذلك، ولسان حالهم: أخيرًا! الآن سوف نقضي على اليأس!

زيت فيزن: كم هو جميل. الحلول هي موضوع نريد مناقشته معك أيضًا.

هان: أردت أن أفكر في الحلول، ولكن بعد ذلك وصفت المزيد من المشاكل.

زيت فيزن: حسنًا. إذن ما هي المشاكل الأخرى الموجودة؟

هان: لا توجد لغة اليوم- هناك عجز عن الكلام وانعدام القدرة عليه. لقد أُسكتت اللغة. من جهة، هناك هذا الضجيج الهائل، ضجيج الاتصالات، ومن جهة أخرى هناك هذا الإسكات الهائل للغة. وإسكات اللغة يختلف عن الصمت. الصمت بليغ جدًا. الصمت لغة. بالمثل، يكون السكون بليغًا أيضًا، ويمكن أن يكون لغة. لكن الضجيج وإسكات اللغة يختلفان عن الصمت والسكون. هناك فقط الاتصالات الصامتة، وهي تمثل مشكلة كبيرة. في عالم اليوم لا توجد معرفة، المعلومات فقط هي المتاحة. المعرفة مختلفة تمامًا عن المعلومات. المعرفة والحقيقة يبدوان طرازين قديمين. كما تمتلك المعرفة أيضًا زمنًا مختلفًا، فهي تمتد بين الماضي والمستقبل. لكن زمن المعلومات يرتهن إلى الحاضر؛ الآن فقط. تستند المعرفة على التجربة والخبرة، لكننا نعيش اليوم في عالم لا يسمح، على نحو مرعب، بتراكم ذلك.

زيت فيزن: ما رأيك في ما هو قائم في العلم؟ ألا يفضي إلى المعرفة؟

هان: لم يعد العلماء يفكرون في السياق الاجتماعي للمعرفة. إنهم يقومون بأبحاث إيجابية. تتخذ كل معرفة مكانها داخل منظومة السلطة وعلاقاتها القائمة. وتفتح الباب أمام طاقات جديدة، ومعرفة جديدة، وخطاب جديد. المعرفة هي دائمًا جزء لا يتجزأ من بنية السلطة القائمة. يمكنك ببساطة إجراء بحث إيجابي دون إدراك أنك واقع تحت تأثير هذه السلطة، ودون أن تفكر في سياق المعرفة. هذا التفكير في السياق لم يعد متوفرًا اليوم. أصبحت الفلسفة مجالًا معرفيًا إيجابيًا أيضًا. لم تعد تشير إلى المجتمع، بل إلى نفسها فقط. لقد غدت في حالة عمى عن المجتمع.

زيت فيزن: هل تقصد الحياة الأكاديمية بأكملها؟

هان: ربما أكثر من ذلك أو أقل. الكلمة الآن لعلوم غوغل Google Science، دون التفكير الناقد في نشاطنا. يجب أن تفكر العلوم الإنسانية في نشاطها الخاص، غير أن هذا لا يحدث. كثير من الباحثين، على سبيل المثال، يقومون بأبحاث دافعها الانفعال. أود أن أسأل باحثًا مشاركًا في بحث من هذا القبيل: لماذا تفعل ما تفعله؟ في الواقع لن أحصل على إجابة، لأنه لا يفكر في نشاطه الخاص.

زيت فيزن: ماذا تقترح؟

هان: هذا الأمر يتعلق بأهمية العلوم الاجتماعية والإنسانية. علينا أن نفهم بوضوح الخلفية الاجتماعية لأبحاثنا، لأن المعرفة تتشابك بعلاقات السلطة داخل النظام. لماذا تسود الأبحاث الانفعالية بشكل مكثف اليوم؟ ربما لأن العواطف تعتبر الآن قوة منتجة. تستخدم العواطف كأدوات للتحكم. إذا كنت قادرًا على التأثير في العواطف، يمكنك التحكم في السلوك البشري والتعامل معه على مستوى اللاوعي.

زيت فيزن: أنت الآن تبدو كأحد منظري نظرية المؤامرة. هل من الممكن إنشاء نظام أفضل في ظل تضاعف عمليات الذكاء الاصطناعي؟

هان: الذكاء  Intelligenz هو عملية intel-legere، القراءة بين، إدراك التمايزات بين الأشياء. الذكاء هو نشاط متمايز داخل النظام. لا يمكن للذكاء الاصطناعي تطوير نظام جديد؛ لغة جديدة. فالروح تختلف تمامًا عن هذا الذكاء. لا أعتقد أن أجهزة الكمبيوتر، التي يتضاعف ذكائها يوما بعد يوم، قادرة على استنساخ الروح البشرية. يمكنك تصميم آلة ذكية تمامًا، لكن الآلات لن تخترع أبدًا لغة جديدة أو شيء مختلف تمامًا، على ما أعتقد. لا تمتلك الآلة روحًا. لا يمكن لمخرجات الآلة أن تتجاوز مدخلاتها. هذه بالتحديد هي معجزة الحياة، حيث بمقدور الحياة أن تتجاوز دومًا مدخلاتها، يمكنها أن تنتج شيئًا مختلفًا تمامًا عن مدخلاتها. هذه هي الحياة؛ الحياة روح. هكذا يختلف الأمر عن الآلة. ولكن هذه الحياة معرضة للخطر عندما يكتسي كل شيء بالطابع الآلي، عندما تتحكم الخوارزميات في كل شيء. الإنسان بوصفه آلة خالدة، كما يتصوره علماء ما بعد الإنسانية Posthumanisten مثل راي كورزويل Ray Kurzweil، لم يعد إنسانًا. ربما سنحقق الخلود في نهاية المطاف بمساعدة التكنولوجيا، لكننا سنفقد الحياة. سوف نحقق الخلود على حساب الحياة.


[1]  هذا الحوار منشور على الرابط الآتي:

https://www.zeit.de/zeit-wissen/2014/05/byung-chul-han-philosophie-neoliberalismus/komplettansicht

وقد تمت الترجمة بإذن من المجلة.

[2]  صدر هذا الكتاب بالفعل تحت عنوان Die Errettung des Schönen (2015) وقد نقلناه إلى العربية تحت عنوان خلاص الجمال (الرياض: منصة معنى للنشر والتوزيع، 2021).

[3]  بوتو شتراوس: روائي وكاتب مسرحي ألماني. ولد عام 1944 في ناومبورغ. درس شتراوس الأدب الألماني وتاريخ المسرح والعلوم الاجتماعية. كما عمل محرراً لمجلة “المسرح اليوم” ثم عمل في المسرح في برلين. ويعد شتراوس واحدًا من أهم المؤلفين المسرحيين الذين ألفوا مسرحيات أثارت جدلاً واسعًا. المترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى