مقالات

أصواتُ الأدب: هل نحن مرهفوّ السمع حقًا؟

الخطاب والتمثيل والإنصات

سواءً فُهمتْ مقولة ماركس عن الشرق “لا يستطيعون تمثيل أنفُسهم، ولا بُد أن يمثّلهم أحد” بشكلٍ سليمٍ أم لا، بات من المحال تجاهل توظيفها المستمر في نقد ما يتعلق بقضايا التمثيل وعلاقات القوى المتضمنة فيها.[1] بحسب هذا التوظيف الشائع، تُشير العبارة ظاهريًا إلى وجود طرفين -على الأقل-: طرفٌ متمكّن وطرفٌ مستضعف. ولأن المستضعف غير قادرٍ على تمثيل نفسه، فإن على الطرف المتمكن أن يمثّله.

لكن بعد ما يزيد عن قرنٍ ونصف من قول ماركس إياها، يستحيل اليوم قبول المعنى الظاهر دون ولوج معمعة أسئلة موازين القوى والتعبير عن الذات أو الذوات بلا وساطات ولا نيابات. ذلك أن الأسئلة من قبيل “بأي حق تتحدث؟” أو “من يُمثّل من؟” أو حتى “من أي مواقعية ينطلق هذا الخطاب؟” ما عادت غريبةً على محاولات نقد الخطابات الإنسانية المعرفية بشكلٍ عام، إذ باتت سلطة الخطاب المعرفي الغربي (الأكاديمي على وجه الخصوص) مبحثًا لا مناص منه في تفكيك منطق وإبستمولوجية الاستعمار بشكليه الكلاسيكي والجديد. ولذا ليس من المستغرب أن تكون المواقعية بحد ذاتها جزءًا أساسيًا من مناهج مختلف المدارس التقويضية اليوم رغمَ اختلاف أجندتها السياسية ومُنطلقاتها الإبستمولوجية.[2]

سوى أن من الصعب تجاهل حقيقة أن معظم هاته الأسئلة تمحورت حول ثنائية المُتلفظ/الممثل وحللت تفاوت السلطة بينهما وتَبِعات ذلك على الخطاب (سواء فيما يتعلق بالمحتوى أو الشكل أو غيرهما) دون اعتبارٍ لأبعاد أخرى لا تتشكل عملية إنتاج الخطاب إلا عبرها. أخصّ من بين هاته الأبعادِ ما سأسميه هنا إنصاتًا، أي عملية استماعٍ تتسم بالقصدية والتركيزِ في سبيل إدراك ما يتجاوز ظاهر الخطاب. ومن الجليّ أن الإنصات هنا يرتبط بمن يستقبل الخطاب، سواء كان الخطاب مبنيًا على تلفظ مباشرٍ أو تمثيل بالنيابة.

يمكن صياغة المشكلةٍ بشكلٍ بديل: من حيث كونها صبت اهتمامها على ثنائية المتلفظ/الممثل، تجاهلت أسئلة التمثيل نقد إمكانية استقبال الخطاب أساسًا، مفترضةً ابتداءً أن الآثار المُحتملة محضُ امتدادٍ للمواقعية وموازين القوى. ولذا ظل الجدل دائرًا في فلكِ أطرِ التمثيلِ ودقته وتعدديته دونما استقصاءٍ مماثل وراء أهلية المستقبِل وإمكانية الإنصات.

تنبني أطروحة المقالة، إذن، على افتراضِ أن إدراك مواقعية التلفظ بحد ذاته جزءٌ من الخطاب ومحتواه؛ طالما جهل مستقبل الخطاب حيثيات وإشكالات مواقعية التلفظ به وارتباطها الجذري بسياقاتها وما يتبع منها، يستحيلُ الحديث عن فهم المضامينِ دون تغليبِ هيمنة المستقبلِ على تقرير ما يُقال بشكلٍ أو بآخر، أي تغليب تمثيلِ الصوتِ عوضًا عن الإنصات للصوت نفسه. فحتى وإن أقررنا بضرورةِ أن يكون التلفظ بالخطاب مباشرًا بلا وساطة ولا نيابة، فلا يعني ذلك أن فهم الخطاب متاحٌ للجميعِ ابتداءً (وقد تتعاظم المشكلة في حال كان الخطاب تمثيليًا صريحًا). وبالتالي يقع الأمر على عاتقِ مستقبلِ الخطاب في موضعةِ نفسه موضع المساءلة لكي يخرجَ من عباءة القصور الإدراكي نحو الإنصاتِ الفاعل لما قد يقع خارجَ نطاق مألوفاته، مثريًا في الوقت نفسه ذاته ومتعمقًا في طيات الخطاب المُنصَت إليه وبواطنه.

ترسيم حدود المشكلة

سوى أن الإيغال في لب الأطروحةِ دون تقصي ما إذا كانت أصلًا مشكلةً تستدعي البحث قد لا يعدو كونه ضربًا من إضاعة الوقت. السؤالُ المحوري لهذا القسم هو: هل تجاهلت أطروحات التلفظ/التمثيلِ مستقبلَ الخطاب فعلًا؟ وما علاقة التمثيل أو عدمه بفكرةِ الإنصات؟ ومن الضروري التنويه أيضًا على أن السطور التالية مبنيةٌ على افتراض أن عدم الإنصات للعمل الأدبي يعني بالضرورة تمثيله، بتفاوت درجات التمثيل. ذلك أن القارئ مثلًا حين يفرض ما يألفه على العمل، فالنتيجة هي أنه سيستخرج منه بشكلٍ رئيسي ما يعقله دون اعتبارٍ لإمكانية أن تكون قراءته مفروضةً على النصّ أكثر مما هي نابعةٌ منه. وسأعود لهذه النقطة لاحقًا.

في سبيلِ الإجابة عن سؤالي التمثيل أعلاه، أستحضرُ سريعًا بضعة أمثلةٍ قد تشي بالحاجةِ لمثل هذه المقالة. أولها المثال الذي لا مناص من استحضاره في كل تساؤلٍ عن التمثيلِ وما ينطوي عليه: بحث الاستشراق لإدوارد سعيد.[3] يطرح سعيد ثلاثة مفاهيم للاستشراق تتمايز نظريًا فيما بينها من حيث تناول كل واحدٍ منها زاوية مختلفة نسبيًا عن البقية. هناك الاستشراق بوصفه دراسة الشرق أكاديميًا أولًا، والاستشراق بوصفه أسلوب تفكيرٍ مبني على التمييز الأنطولوجي والإبستمولوجي بين الشرق والغرب ثانيًا، والاستشراق بوصفه أداةً غربيةً لمواصلة إخضاع الغربِ سياسيًا وفكريًا ثالثًا.

القاسم المشترك بين هذه التعريفات الثلاثة هو كون الاستشراق في كل الحالات “تمثيلًا”. إذ يؤكد إدوارد سعيد منذ صفحات الكتابِ الأولى على محورية مسألة التمثيلِ في كل ما يتعلق بالخطاب المعرفي الاستشراقي. ذلك أن “الشرق” الذي هو موضوع البحثِ ليس إلا مخيالًا تبلور بوصفه نقيضًا للغرب، وبالتالي فإن الاستشراق ليس إلا إطارًا يخلقُ الواقعَ الذي يزعم بحثه وتفسيره، وإن تمثلات الشرق وما ينبني عليها محضُ متخيلاتٍ تتداخل فيها هوية الغرب والغربيّ مع انعكاساتها في عملية إنتاج الخطاب.

لا أزعم هنا الإحاطةَ بكل تبعات مفاهيم سعيدِ ولا بالثيمات المتفرعة منها. ما يهمّ في هذا الاستحضار الوجيز هو حقيقةُ كون إحدى ركائز الاستشراق عند إدوارد سعيد مبنية على تصورٍ محدد عن ماهية التمثيل واتجاهه. يمكن صياغة التصور كالتالي: يمثل الغربُ الشرقَ انطلاقًا من لا-واقع.

وبغض النظر عما إذا كان تصور إدوارد سعيد للغرب هو الآخر جوهرانيًا ومليئًا بمختلف الإشكالات التاريخانية أم لا، ليس من الصعب افتراض أن تقويض مثل هذا الاستشراق ممكنٌ من خلال نسف الوساطةِ والتمثيل على مستوى الخطاب وإنتاجه، بحيث يأخذ “الشرق” على عاتقه تمثيل نفسه بنفسه خارج الأطر الإبتسمولوجية والأنطولوجية المفروضة عليه. تصور الاستشراق هذا، إذن، مبني على أسئلةٍ تمثيلية محددة، من ضمنها: كيف يمثل الغرب الشرق؟ وما مدى واقعية التمثيل؟ ويمكن إضافة تساؤلٍ آخر مرتبطٍ بالكيفية التي سيتغير من خلالها الخطاب الاستشراقي وقتما أسهم المتلفظ “الشرقي” الأصيل في التعبير عن ذاته خارج أطر الاستشراق.

من الجلي أن مستقبِلَ الخطابِ ليس محورًا رئيسيًا في طرح إدوارد سعيد حول الاستشراق، إذ يرتكز الطرح إجمالًا على بحثِ علاقات القوى المتباينة التي مكنت الغربَ من دراسة الشرق وإنتاج المعرفة عنه وتمثيله، وعن مختلف صور الشرق عند المستشرقين وجذورها وما يترتب عليها، دون تطرق حقيقي لإشكالات مستقبِل الخطاب الاستشراقيّ سلبًا أو إيجابًا. فعلى سبيل المثال، لو افترضنا وجود قارئين لرواية «عداء الطائرة الورقية» لخالد حسيني، أحدهما مهتمٌ أكثر من الآخر بتحليل الخطاب الاستشراقي في الروايات المكتوبة بالإنجليزية من قِبَل كتّاب ينتمون لدول طالتها القوى الاستعمارية والإمبريالية، فهل يمكن أن نغفل محورية اهتمام الأول وقتما ارتأى في الرواية تصويرات تنميطية مُشيطِنة لجوهرٍ شرقي؟ أوليس هذا الاهتمام هو ما أبرزَ له أبعادًا من العمل لم تكن بالضرورة واضحةً للآخر؟[4]

يمكن ملاحظة إشكالية شبيهة في طرح بوروما ومارغاليت عن الاستغراب بغيابِ تحليل الخطابات من منظور مستقبليها، أو غياب موضعة مستقبل الخطاب بوصفه جزءًا من العملية بالأحرى.[5] يشير العنوان الفرعي للكتاب «الغرب بعيون أعدائه» لثيمةٍ جوهريةٍ تقع على النقيض من طرح إدوارد سعيد. ليس موضع الإشكال هنا “كيف مثل الغرب الشرق؟”، بل “كيف تمثل الغربُ في عيون غير-الغربيين؟”، أو أولئكَ الذين يعتبرون الغرب عدوًا وجوديًا لهم. ينطوي الكتاب على محاولةٍ لفهمِ أسس التمثلاتِ حول الغرب وانعكاساتها على أرض الواقع من عدمها، متمحورًا هو الآخر حول ثنائية نحن/هم وشيطنة الآخر وإشكاليات المعرفة المنتجة على ضوء هذين المنظورين. كما يحاول الكتابُ تأصيل الحرب ضد الغربِ بوصفها جوهرًا كامنًا في الطبيعة البشرية، متجلية في مشاعر الحقد والبغض المتولدة عن نجاح الآخر الوجودي وفشلنا “نحن”. لكن على عكسِ أطروحة سعيد، يفتقر كتاب الاستغراب للثقلين النظري والمعرفي اللذين يجعلان أطروحته الرئيسية ذاتِ قيمة حقيقية قبال الاستشراق، ولا يعدو كونه محاولةً بائسة حالمة في الرد على نقد الاستشراق، لا سيما وأنه يرتكز على أطروحات ساذجة من قبيل “الهجوم على الغربِ […] هجومٌ على ذهن الغرب” أو حول امتلاك الغرب جوهرًا ثابتًا منذ التاريخ القديم.

وحتى لو أخذت أطروحة الكتاب بجدية، فسرعان ما سيكتشف القارئ أن الكتابَ بحد ذاته دليلٌ على خطورة الاقتصار على تحليل الخطاب كما لو إنه قائمٌ بذاته، خصوصًا إن كان محض اجتزاءٍ للخطابات من مواقعيّتها (وهي إحدى مخاطر إغفال نقد استقبال الخطاب) وقولبتها ضمن أطر مسبقةٍ لمعانيها. ذلك أنّ الكاتبين يقعان مرارًا في فخاخ القصور عن فهم الرمزياتِ والتمثيلاتِ ضمن سياقاتها، مما يجعل تحليلهما لا-تاريخيًّا بامتياز. يتجلى ذلك، مثلًا، في تبنيهما لثيمة “عداء الغرب” بوصفها صفةً مشتركةً قد تختلف مسبباتها، سوى أنها مترابطة بشكل أو بآخر باختلاف الأزمنة والأمكنة. ولذا لا يريان أي إشكال في استخدام ذات العدسة التحليلية في قراءة أعمال دستويفسكي وتحليل دوافع التفجيريين الانتحاريين بوصفها جميعًا عداء للعلموية والعقلانية الغربيين.

وثمة مثالٌ رئيسي آخر فيما تخلص گاياتري سبيڤاك إليه في مقالتها “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟”.[6] في معرض ردها على ما طرحاه فوكو ودولوز حول ما إذا كان المستضعفون قادرين على تمثيل أنفسهم بأنفسهم، تنفي سبيڤاك استنتاجهما بإمكانية التمثيل المباشر قائلةً أن التابعين لا يستطيعون في الحقيقة تمثيل أنفسهم، بل يحتاجون لمن يتكلم بالنيابة عنهم.[7] يرتكز استنتاج سبيڤاك بشكلٍ رئيسي على افتراض أن “الفاعل” عند فوكو ودولوز ليس إلا امتدادًا للذات الفردية المتجردة للآخر داخل السياق الغربي. بعبارةٍ أخرى، مفهوم الفاعل القادر على تمثيل نفسه بحد ذاته منتجٌ ضمن الخطاب الغربي، وهو ما يؤدي في الوقت ذاته لنزع المفهوم من السياقات الآيديولوجية والإمبريالية التي يتموقع ضمنها خطاب فوكو ودولوز. وبالتالي فإن الفاعل الذي يمثل نفسه حسب تعبيرهما لا يعدو كونه جزءًا من العمليات التاريخية التي شكّلت مفهوم فاعليته وحدودها في المقام الأول.

ما تنادي به سبيڤاك في المقابل هو أن فعل التابع التعبيري قد لا يجد آذانًا صاغيةً عند المثقفين لأنهم غير قادرين أساسًا على إدراكِ فعل التعبير أو إدراك احتمالات المعنى المنطوية فيه. كل محاولةٍ لإدراك معنى الفعل جزءٌ من التكلم بالنيابة عن التابع أو تمثيله. وعليه فحتى الإلمام بالمناخ الثقافي المحيط بالفعل (وهو ما برهنت عليه سبيڤاك في تفكيكها لحكاية انتحار بادوري[8]) لا يُفضي بالضرورة لاستنتاج أن التابع عبّر عن ذاته. ولذا فالتابع لا يستطيع التكلم، والتابعة بوصفها امرأة ضمن مثالها المطروح لا يمكن سماعها ولا قراءتها إلا من خلال وسيطٍ قادرٍ إلى الإدراك والتكلم.

رغم أن سبيڤاك تشير جزئيًا إلى ثيمة استقبال الخطاب في معرض نقدها لفوكو ودولوز وعدم قدرتهما على إدراك ما يكمن خارج مواقعيتهما الخطابية، سوى أنها تكتفي بذاك القدر دون استكشاف إشكاليات فكرة استقبال الخطاب بحد ذاتها. أي أنها تقولب علاقة التمثيل بشكلٍ رئيسي ضمن سؤال إمكانية التلفظ من أساسها، دون أن تُشكِل استقبال فعل التلفظ الحادث. بعبارةٍ أخرى، على غرار مثال «عداء الطائرة الورقية»، لو فرضنا جدلًا صحة توكيد سبيڤاك على أن انتحار بادوري في المقالةِ تعبيرٌ احتاج تفكيك المثقف من أجل أن يكتسب قيمة، فما الذي جعل سبيڤاك هي التي تدرك معنى الفعل دون غيرها؟ كيف تمكنت هي من استقبال الخطاب التعبيري ومن ثم إعادة صياغته أو قولبته ضمن إنتاج خطابي آخر؟ وما الذي جعل فعل الانتحار نفسه يُعتبَر غير-تمثيليّ رغم كونه مباشرًا؟ يزداد تعقيد الأسئلة حين نضع بعين الاعتبار أن سبيڤاك ذكرت في المقالة أيضًا عدم تمكن فيلسوفة بنغالية نابغة مثلها على فهم انتحار بادوري، إضافةً لعجز أفراد العائلة عن قراءة الانتحار خارج كونه نتيجة علاقة حب غير شرعي. وبالتالي من الجلي أن الاقتصار على ثنائية المتلفظ/الممثل وحدها غير كافٍ لفهم هاته الأسئلة وما يترتب عليها من إشكالات.

أما المثال الرابع والأخير متعلقٌ لا بطرفي ثنائية التلفظ/التمثيل بحد ذاتها، بل بالنسيج الذي تتم العملية من خلاله إن صح التعبير، أي بالوسط الذي يُتيح للعملية أن تحدث أساسًا. نجد ذلك مثلًا، بشكلٍ غير مباشر، في نقد جيري آدلمان للتاريخ العولمي ولمزاعم كونه سرديةً تقويضية لا-مركزية.[9] ذلك أن آدلمان يرى أن قواعد التاريخ العولمي ومفاهيمه مصاغةٌ أساسًا ضمن فضاء ما تزال قواعد اللعبة فيه غربية بشكلٍ مهيمن، وبالتالي فإن محاولة غير-الغربيين للإسهام في سردية التاريخ العولمي لن تعدو كونها توكيدًا لهيمنة القواعد الخارجة عنها. وتتعاظم المشكلة حالما نتذكر أن تكامل السرديات ليس ممكنًا إلا بوساطة لغةٍ مشتركة -وهي الإنجليزية في هذه الحالة- وبالتالي فما معنى الإسهامات التقويضية اللا-مركزية طالما صيغت ضمن قواعد ووسائط ما تصبو لتقويضه؟

من الصعب بمكانٍ تجاهل ما ينطوي عليه نقد آدلمان، خصوصًا إذا ما طُرح سؤال التلفظ/التمثيل ضمن أفق اللغة المشتركة.[10] سوى أن من الممكن تجاوزه مبدئيًا بخطوتين ذهنيتين رئيسيتين: أولًا، تبنّي التابع مثلًا للغة المهيمنِ لا يعني قبوله تلقائيًا لكل قواعدها ومضامينها. جزءٌ من التلاعب في اللغة وإزاحة الترابطات التي تنطوي عليها كامنٌ في محاولات فك الارتباط بين اللفظة أو المفهوم ومكوّناتهما الذهنية. وعليه فإن تبني الإنجليزية لا يعني بالضرورة أن المتلفظ يموقع نفسه ضمن عوالم معنى مختلفةٍ وخارجةٍ عنه، إذ إنه قد يطوّع اللغة –عالمًا بهيمنتها- من أجل كسرِ سيطرة مفرداتها وقواعدها.[11]

أما الخطوة الثانية فهي مبنيةٌ على مغلوطية فصل اللغة أساسًا عما يجاورها من عملياتٍ داخلة في تشكّل المعرفة. ليست اللغة سابقةً ولا تابعةً لتحصيل المعرفة ولا إنتاجها، وكل افتراضٍ بأولويتها يعني تحجيم دورِ فواعل أخرى لها أهميتها في إدراك العالم. أختارُ من بين هذه الفواعل ما سأطلق عليه هنا “تجاربية”، وهو أساسُ المعرفة التجاربية التي يتأتاها الفرد من خلال انخراطه في تجربةٍ ما. لا أظن أن تعريفِ التجاربية ولا المعرفةِ المتأتاة منها ممكنًا. يكفي لتقريبِ صورتهما أن أذكر اختلاف تجربة قراءة روايةٍ عن فقد الأم، مثلًا، جذريًا بين من عايش الفقد وذاقه وبين من لم يعشه بعد (هذا على افتراض أن تجربة الأمومة في حياتهما متطابقة. ويتعقد الأمر أكثر حين نضع بعين الاعتبار تباين أبسط التجارب التي نعتقدها بكونيتها). وكذا الأمر عند من يقرأ نصًا أو يشاهد فيلمًا يلامسانه فيما سبق وأن مر فيه، إذ تصبح قدرة الفرد على الانغماس فيهما ومن ثم الخروج بفهمٍ أعمق لتفاصيلهما أكبر ممن يقبع إطار تجاربه خارجهما. وهذا ما يُتيح إمكانية التعبير أصلًا وراء ظاهر اللغةِ دون ارتهانٍ لقيودها.

أستحضر هاتين الخطوتين بغية تجاوز إشكالية تقديس اللغة بوصفها المقرر الرئيس للمعنى أولًا، وللدخول في أطروحة المقالة الرئيسية حول أصوات الأدب ثانيًا. عطفًا على كل ما سبق، يمكن صياغة الأطروحة الرئيسية كالتالي: طالما لم نسع قصدًا للإنصات للعمل الأدبي، فقد ينتهي بنا الأمر نحادث أنفسنا دونما إدراكٍ لما قد يقع خارج إطار ما نألفه. وليس الإنصات هنا مرادفًا للقراءة المتمعنة (وإن كانت أحد أركانه)، بل تمتد لتطال السياقات المحيطة بالعملِ ونقد علاقاته بالواقع. يتطلب هذا الإنصات إدراك أننا –بوصفنا مستقبلين للخطاب- جزءٌ أساسي من عمليات إنتاج الخطاب بما فيها من تلفظ أو تمثيل أو أطر تتيح كل ما سبق.

لكن قبل تقصي أبعاد الأطروحة الرئيسية وإشكالاتها، من الضروري التعريج على المعرفة التجاربية في الأدب لتسويغ اختياره وفهم بعض أسس ما تفترضه الأطروحة. كما أن من الضروري التنويه على أن ما يلي مبنيٌّ على تأملات وتقصيات حول جنس الرواية تحديدًا، وبالتالي فإن تصور العمل الأدبي متصورٌ في الغالب بوصفه عملًا سرديًا تخييليًا.

كيف يغير الأدب فهمنا للعالم؟

أبدأ برفضِ مدرستين سائدتين في تصور العمل الأدبي. أولًا، ثمة مدرسة تولي العمل الأدبي سيادةً واستقلالًا بحيث تتمحور عمليتا فهمه وإنتاج المعنى حوله ضمن أدواتِ العمل نفسه دون إحالات خارجه. هناك، مثلًا، شكلانية إيخنباوم الذي يؤكد على ضرورة تبني “علمٍ أدبٍ يكون مستقلًا وحقائقيًا”، مشيرًا في الوقت ذاته إلى ضرورة ألا يعير هذا العلم أي اهتمامٍ للمشاكل التي تطرحها العلوم الاجتماعية بحكم كونه علمًا أدبيًا بحتًا.[12] وهناك أيضًا بنيوية بارت –جزئيًا- طالما فُهمت بنية العمل على أنها تقرر المعنى إلى جوار تقريرها للبين-علاقات داخل السرد وتوظيفات أجزاء السرد نفسها.[13] في كلا المثالين، يتمحور التحليل على النص الأدبي بما هو أدبيّ فيه.

ولعل أحد أوضح الأمثلة أيضًا على هذه المدرسة ما ذهب إليه كالڤينو في مقالته “لِمَ نقرأ الكلاسيكيات؟”.[14] ذلك أن كالڤينو يقدم أربعة عشر تعريفًا توصيفيًا للعمل الكلاسيكي دون أن يشتمل أيٌّ منها على تحليلٍ لعلاقة العمل الكلاسيكي بسياقه التاريخي أو بوقعهِ على القراء في زمنه. بمعنى أن كالڤينو حلل الكلاسيكيات كما لو أنها لطالما كانت كلاسيكية، بلا اعتبارٍ للقوى الاقتصادية-الاجتماعية المحددة المساهمة في تشكيل إنتاج واستقبال الأعمال، وبلا تمحيصٍ للسلطة المتضمنة في عملية ترسيم عناوين المعتمد الأدبي الذي يستلهم كالڤينو تعاريفه من خلاله.

من الجلي، إذن، أن الإشكال الرئيسي فيما يتعلق بأطروحة هذه المقالة هو النزعة اللاتاريخانية في مثل هاته المدارس التي تجعل النص كما لو أنه عالمٌ مستقل وتُعلي من شأنه ضد كل ما سواه. ذلك أن الأعمال الأدبية تصبح كما لو أنها سابحةٌ في عالمها الخاص، متحاورةً مع بعضها بعضًا ومتفاعلةً مع الواقع ضمن صيغ مقولبة مسبقًا إن صح التعبير. ولا يعود للعمل الأدبي بحد ذاته أهمية تاريخية إلا ضمن موقعه في تاريخ الأدب وحده.

أما المدرسة السائدة الثانية فهي التي تقف على النقيضِ من سيادة العمل الأدبي واستقلاليته، إذ تشير إلى كون العمل محض تجلٍّ للظروف التاريخية التي ينتج ضمنها. بعبارةٍ أخرى، يُنظر للعمل الأدبي من حيث كونه يعكس واقعه التاريخي دون تقصٍّ لما يختص به العمل نفسه في معالجة ذلك الواقع أو التلاعب به عبر أدواته وأطره. ومن الأمثلة المبكرة نسبيًا لترسيم حدود هذه المدرسة ما يسمى بالنقد العلم-اجتماعي، والذي وصفه هايمان في عام ١٩٤٧ بأنه النقد الذي “يبدأ مع ڤيكو الذي شرح الكتّاب ضمن ظروفهم التاريخية في كتابه «العلم الجديد»، والذي يستمر في تصور هيردر للأدب بكونه في المقام الأول نتاجًا للظروف القومية والزمانية”.[15]

كما يمكن رؤية مقارباتٍ حتمية شبيهة في بعض تيارات النقد النسوي والماركسي والثقافي للأدب. فهناك مثلًا تحليل سوزان لانسر للتحديات التي يواجهها النقد النسوي الأكاديمي على يد النساء الملونات والفقيرات والسحاقيات، واللاتي عبرن عما تتضمنه أكدمة النقد من إشكاليات سلطوية وتمثيلية مبنية على مواقعية أولي الامتياز.[16] بعبارةٍ أخرى، طمس النقد النسوي الأكاديمي الظروف والتجارب التي تمر بها النساء خارج مواقع الامتياز من خلال تركيزه على آداب دون أخرى. ويمكن التمثيل على التيارات أيضًا بطرح باربرا فولي عن تمحور النقد الأدبي الماركسي حول الطبقيات الاجتماعية-الاقتصادية، وهو ما يفتح الباب لقراءة العمل الأدبي عبر ما يحتويه من بنىً سيادية أو ما أشبه.[17] وهناك أيضًا النقد الثقافي الذي يعتبر النص الأدبي ثقافيًا من حيث كونه “لحظة ديناميكية تتوسط بين الفرد والمجتمع، وبين الماضي والمستقبل”.[18]

تتشارك هذه التيارات فكرة أن العمل الأدبي “منتج” لسياقاته وظروفه، وتنصب جهودها في محاولة استقصاء جوانب العمل الأدبي بما يعبر عن هذه السياقات والظروف. وهذا الإشكال الرئيسي الذي تقع فيه هذه التيارات، إذ تختزل العمل في كونه وثيقةً وقائعية تُستقرأ الظروف عبرها، وتسلب عن العمل قدرته التحويلية بما يختص به. فحتى لو كانت الإشارة تبدأ من النص، إلا أنها تنتهي دومًا خارجه. ويتضح الإشكال من حيث تأسس أغلب هاته التيارات على الأدب الواقعي بشكلٍ أساسي، إذ غالبًا ما ينطوي على علاقةٍ محددة بين العمل والواقع الذي يمثله بما يمكّن تقصي أبعاده.[19]

يتطلب الفرار من عواقب الإشكالات السابقة إعادة تصور العمل الأدبي خارج كونه عالمًا مستقلًا أو محض انعكاسٍ لواقعه. كما يتطلب إدراك أن العمل الأدبي لا يقوم بذاته في أيٍّ من مراحل تشكيله أو إنتاجه أو استقباله، وأن وجوده بحد ذاته وجود علائقي. ومن هذا المنطلقِ أقترح إعطاء الأولوية لعلاقة الأدب-القارئ في مقاربة العمل الأدبي، وهو ما سأتبناه ضمن نطاق هذه الأطروحة.

ترتكزُ هذه العلاقة على فكرة أن العمل الأدبي ساحةٌ يشتركان فيها الكاتب والقارئ من حيث التخيل وخلق المعنى.[20] يتضمن العمل الأدبي ما يمكن تسميته بالبُعد الحواريّ أو الديالكتيكي. فمن جانبٍ أول، يحاول القارئ أثناء قراءة العمل فرض نوعٍ من الكلية عبر ما يدركه أثناء القراءة من عناصر وخيوط. تنبني هذه الكلّية على المعارف والتصورات المسبقة التي يستحضرها القارئ عن سيرورة الواقع بشكلٍ عام والأدب بشكلٍ خاص. وهذا ما قد يمكّن العمل الأدبي من إعمالِ عمله، وهو الجانب الثاني من البعد الحواري، إذ يستطيع إزاحة التصورات والمعارف المسبقة من خلال فك الارتباطات التي يألفها القارئ. ولأن بحث هذه النقطة وتوضيحها يستوجبان العودة لأطروحة المقالة الرئيسية، فالموضع ملائمٌ هنا للانتقال مجددًا للمعرفة التجاربية والأصوات التي ينبغي عليها الإنصات لها.

أصواتُ الأدب وانزياح المعنى

أولى نتائج إعطاء الأولوية لعلاقة الأدب-القارئ هي استيعاب أن الواقع لا يُدرك إلا من خلال وسائط تعيننا على ذلك، بغض النظر عن شكل هاته الوسائط. في حالة النص الأدبي، من الجلي أن للغة دورًا محوريًا في الوساطة، وبالتالي فإن نقدها في عملية الفهم محوري هو الآخر. ولكن الانخراط في تيارات النقد كالمذكورة أعلاه لن يُفضي هنا إلى التصور المحدد للأدب-القارئ، وبالتالي ينبغي الاستعاضة عنها بنقدِ المفاهيم والفئات التفكيرية من أجل أن ترتسم ملامح التفاعل الحواريّ بينهما بشكلٍ أجلى.

بشكلٍ عام، يمازج هذا النقد بين تصور الأدب كمنتجٍ ثقافي منتمٍ لظروف تاريخية محددة، وبين كونه وسيلةً لا لتصوير الواقع بالمعنى البسيط قدر ما هو معالجةٌ له. وبالتالي فإن أسئلة القصدية في النص ذات أهمية قصوى: لِمَ اختار الكاتب أن يجتزئ من عالمه هاته الأبعاد؟ وهل اختار تصويرها بموضوعيةٍ مزعومةٍ أم أنه كان يستحضرها متلاعبًا؟ وكيف يمكن رؤية العمل ضمن الأعمال الأخرى المنتمية لنفس الحقبةِ والبقعة (بغض النظر عما تتطرق له الأعمال)؟ هل توظيف الكاتب للغة ناقدٌ أم مطبعن؟

وكذلك فإن القارئ حين يقبل على العمل محملًا بمعارف ومفاهيم مسبقة، فهو إنما ينخرط في العملية الحوارية بقدر تنازله عن تشييء أطره وبقدر أهليته على قراءة العمل الأدبي كما لو كان عالمًا غريبًا يستوجب معاينةً فاحصة. فالعمل قد يفصح عن تجربةٍ ذات قوامٍ مغاير جوهريًا عما اعتاده القارئ أو مر فيه، مما يعني أن على هذا القارئ بذل جهد قصديّ من أجل موقعة نفسه ضمن هذا الإطار المغاير لكي يفهم. كل هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن العمل الأدبي ليس انعكاسًا للواقع بقدر ما هو معالجةٌ له، أي أنّ على القارئ استقراء واستقصاء جوانب العمل الأدبية واللغوية والتاريخية في محاولة فهم العالم الذي تُعبّر التجربة من خلاله. وهذه هي النقطة الأهم؛ لا تحتكر اللغة معنى وحيدًا للتجربة، وليس من الضروري أن تُستشفّ التجربة عبر ظاهر اللغة، بل ينبغي اعتبارها أيضًا جزءًا من كلٍّ متجاوزٍ لقصور اللغةِ ووسيلةً لاقتحام عوالم لم نكن نُدركها سابقًا.[21] وهنا تكمن إحدى القيم التي يُغفل عنها أحيانًا حينما يطرح سؤال قيمة الأدب فكريًا وثقافيًا؛ يلعب الأدبُ دورًا محوريًا في زحزحة ما نألفه من أنماط تفكير وزوايا نفهم العالم عبرها من خلال قدرته على أن يزودنا بمعارف تجاربية، أي بما يتيحه لنا من فرصةٍ لعيش تجارب مغايرة من شأنها أن تُعيدنا إلى ذواتنا بشكلٍ مختلف عما كنا عليه. وهذا ما يعني أننا سنرى العالم بشكلٍ مختلفٍ أيضًا وقتما بدأنا ننصت للأعمال متجاوزين القراءات غير-الفاعلة.

ومن الجليّ خطورة وهمِ احتواء الأعمال الأدبية على مر التاريخ جوهرًا إنسانيًا كامنًا بما يمكّن القراء حيثما وأنّى كانوا من إدراكها على مثل هذه المقاربة. ذلك أن الإنصات لأصوات الأدب يقتضي إلمامًا بتاريخانيتها وما يترتب على ذلك من نقدٍ لمنهجيات قراءتها السياقية. وهذا يعني بدوره أن مواقعيّة الأعمال وكتّابها جزءٌ أساسي من الفهم والبحث، وليسوا محض إضافةٍ على استقلالية وسيادة العمل بما ينطوي عليه. وبالتالي حتى بافتراض وجود جوهرٍ إنساني، فإن تجلياته عبر الأزمنة والأمكنة من الاختلاف بما يستوجبِ على القارئ بذل الجهد في إدراك معانيه لئلا يُعيد تكريس ذاته وحسب.

من الجلي، عطفًا على كل ما ذُكر، أن قراءة العمل الأدبي بما هو حالةٌ متفردة ولحظةٌ تعبيرية تتقاطع فيها الذات والمجتمع والزمان والمكان خطوةٌ أولية في سبيل الإنصاتِ للصوت المنبعث فيه دون الخضوع للتمثيلات والوساطات. كما تتضح ضرورة أن يستنطق القارئُ النصّ بشكلٍ فاعلٍ قصديّ ضمن هذه التقاطعات من أجل تعميق فهم العمل وبالتالي إثراء أطر الذات المفاهيمية وإجبارها على الخروج من ضيق المعاني المألوفة باتجاه فسحة المعاني المحتملة. إرهاف السمع يعني أن نتخلى بقدر الإمكان عن أصواتنا الخاصة وأن ننصت للمتلفظِ ضمن أطره ومعانيه هو بقدر الإمكان. حينها قد نباشر إدراك ما يقع خارج المألوف ونبدأ نقد ذواتنا بما يُعيد صياغة علاقاتها مع الذوات الأخرى والعالم.

——————-

[قّدّمت بعض أجزاء هذه المقالة في مؤتمرUnmute Yourself: Voice, Representation, and Power الذي أقامته الجمعية الأمريكية للدراسات العليا في الآداب بأكتوبر ٢٠٢١]

[1] استخدم ماركس هذه العبارة في “The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte” المنشورة عام ١٨٥٢:

https://www.marxists.org/archive/marx/works/1852/18th-brumaire/ch07.htm

ومن أمثلة محوريتها فيما يتعلق بمسائل التمثيل، هناك مثلًا استخدام إدوارد سعيد للعبارة كتوطئة لكتابه الاستشراق ضمن معناها الظاهر الذي يُشير إلى ضرورة أن يُمثّل الشرق من لا ينتمي له، أي الغرب في سياق استخدامها. كما نجدها جزءًا من رد غاياتري سبيڤاك في مقالة “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟” على كلًا من فوكو ودولوز. والإحالات لكل هاته المصادر موجودةٌ أدناه ضمن الهوامش المرتهنة بها.

[2]  بما أن هذه المقالة تنبني بشكلٍ رئيسي على العديد من الأسس التي يمكن تمييزها في ما-بعد-الحداثة وما-بعد-الكولونيالية إضافةً إلى الديكولونيالية، فأخصّ بالذكر هاته التيارات الثلاث. ومن الجدير بالذكر أنني أستشهد بها عالمًا أن أيًّا منها لا تشكل تيارًا وحيدًا قائمًا بذاته ولا أنها واضحة المعالم بالضرورةِ بما يؤهلها لتكون عدسةً تحليلية دون اختزالات مجحفة في حق علاقتها هي الأخرى بموازين القوى، ولكنها مفيدةٌ ولو مبدئيًا من باب رسم خارطة ذهنية لأطروحة المقالة.

[3] Edward Said, Orientalism (New York: Vintage Books, 1979), chapter 1.

[4] Khaled Hosseini, The Kite Runner (New York: Riverhead Books, 2013).

وقد ضربت فاطمة كيشافارز مثالًا برواية «عداء الطائرة الورقية» ضمن ما أسمته بالسرد الاستشراقي الجديد، والذي من خصائصه تبسيط تعقيد الثقافة المحلية وتصويرها كما لو أنها تقليدية ومبسطة بالدرجة التي تهيئها لاستيلاء الغرب عليها سياسيًا وثقافيًا. ولعل ملامح هذه الفكرة تتجلى في تبلور شخصية أمير في قبال غيرها من الشخصيات. انظر:

Fatemah Kashavarz, Jasmine and Stars: Reading More than Lolita in Tehran (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 2007), 2-3.

[5] Ian Buruma and Avishai Margalit, Occidentalism: The West in the Eyes of its Enemies (New York: Penguin Press, 2004).

[6] Gayatri Chakravorty Spivak, Can the Subaltern Speak?: Reflections on the History of an Idea (New York: Columbia University Press, 2010), 21–78.

وقد صدرت ترجمة عربية مؤخرًا للمقالة، سوى أنها ليست بالجودة المطلوبة كما يتراءى لي.

[7] Michel Foucault and Gilles Deleuze, “Intellectuals and Power,” in Language, Counter-memory, Practice: Selected Essays and Interviews, ed. Donald F. Bouchard, (Ithaca: Cornell University Press, 1996), 205-217.

[8] تذكر سبيڤاك في المقالة قصة انتحار بوڤانيسواري بادوري في شقة والدها شمال كالكوتا عام ١٩٢٦. لم يكن انتحارها ناجمًا عن حملٍ غير شرعي، كما شك بعض من حولها، إذ كانت حائضًا آنذاك (كانت تعلم أن انتحارها سيُقرأ في سياق علاقة غير شرعية، ولذا انتظرت حتى فترة الحيض). ما اكتشف بعد عقدٍ هو أنها كانت عضوًا في إحدى الجماعات المسلحة إبان النضال لاستقلال الهند من الاستعمار البريطاني. بصفتها عضوًا، كلفت بادوري في نهاية الأمر بمهمة اغتيال سياسي. ونظرًا لعدم قدرتها على أداء المهمة وإدراكها إشكاليات الثقة في الأمر، أقدمت على قتل نفسها.

[9] https://aeon.co/essays/is-global-history-still-possible-or-has-it-had-its-moment

[10] لا يسع المكان للحديث بشكلٍ أكثر تفصيلًا عن هذه النقطة. ولكن من الضروري التنويه على أن أسئلة التلفظ والإفصاح بلغة المهيمن داخلةٌ ضمن هذا الإشكال نفسه حتى وإن لم يقتصر عليها. فاللغة في نهاية المطاف جزءٌ من الخطاب وإنتاج المعرفة، وليست وحدها تحتكر الأمر. وهذا ما يشير أيضًا لضرورة نقد الآلية التي توظف بها اللغة في الخطاب إلى جوار مضمونها، إذ قد يتشارك خطابان اللفظات نفسها دون أن يعني بالضرورة تشاركهما في الأجندة.

[11] يتطرق كلًا من ميشرا وهودج في مقالتهما “ما هي مابعد-الكولونيالية” إلى نقطة مثيرة للاهتمام حول هذا الإشكال، وتحديدًا حول تباين الآراء فيما يتعلق باستخدام المُستعمَر للغة المستعمِر. ففي معرض نقدهما لكتاب «الإمبراطورية تعاود الكتابات»، يتطرقان لإشكالية العنوان نفسه من حيث كونه مستوحى من عنوان ثاني أجزاء أفلام حرب النجوم، مشيرين إلى أن مثل هذه البين-نصيّة تقحم مشاكل التواطؤ مع المهيمن وما إلى ذلك. سوى أنهما لا يتطرقان إلا لمامًا لدور الكاتب في تطويع لغة المهيمن وفق عوالم مختلفة مغايرة عما تستبطنه الخطابات المتبناة. للمزيد حول ذلك، انظر:

Vijay Mishra and Bob Hodge, “What is Post(-)Colonialism?,” Textual Practice, no. 5 (1991): 399-414.

[12] Boris Eikhenbaum, “The Theory of the ‘Formal Method,’” (1926).

[13] أقول “جزئيًا” بحكم مغلوطية اختزال نفع طرح بارت في كونه مرتبطًا بإنتاج المعنى داخل العمل الأدبي وحده، وهو ما أدى لاحقًا لبزوغ دراسات تستثمر بنيوية بارت في قراءة عناصر واقعة خارج بنية العمل السردي نفسه. انظر:

Roland Barthes, “An Introduction to the Structural Analysis of Narrative,” New Literary History 6, no. 2 (1975).

Lucien Goldmann, Towards a Sociology of the Novel (Cambridge, Tavistock Publications, 1977).

[14] Italo Calvino, “Why Read the Classics?”, The New York Review, October 9, 1986.

وقد ترجمه أحمد شافعي في مدونته:

http://readingtuesday.blogspot.com/2012/10/blog-post.html

[15] Stanley Edgar Hyman, “The Marxist Criticism of Literature,” The Antioch Reivew 7, no. 4 (1947): 541-542.

[16] Susan S. Lanser, “Feminist Literary Criticism: How Feminist? How Literary? How Critical?”, NWSA Journal 3, no. 1 (Winter 1991): 8-9.

[17] Barbara Foley, Marxist Literary Criticism Today (London: Pluto Press, 2019), 14-18.

[18] Alice Templeton, “Sociology and Literature: Theories for Cultural Criticism,” College Literature 19, no. 2 (June 1992): 20-21.

[19]  من الأمثلة غير المباشرة على هذه المقاربة، والتي تمتد خارج نطاق الأدب، هو ما نجده مثلًا في الصفحات الأولى من كتاب توماس بيكيتي «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، وفي استشهاده تحديدًا بروايات جين أوستن وهنري دي بلزاك بوصفهما أمثلة على أعمال أدبية تجلت خلالها الظروف الاجتماعية-الاقتصادية واللامساواة آنذاك في المجتمعين الإنجليزي والفرنسي. وظيفة النص هنا بشكلٍ رئيسي دلالية إلى واقع خارجه، ولا مكان للتساؤل عن الأبعاد الأدبية الكامنة في تصوير بعض الواقع دون بعضٍ آخر.

[20] أستلهم هذه الفكرة بشكلٍ رئيسي من مقاربة ولفغانع ايزير الفينومينولوجية للقراءة. ولكن، كما هو واضح في المقالة، تمتد حدود الفكرة لتطال الأبعاد التاريخانية في العمل الأدبي، وهي نقطةٌ لم تكن حاضرة في مقالة ايزير. انظر:

Wolfgang Iser, “The Reading Process: A Phenomenological Approach,” New Literary History 3, no. 2 (Winter 1972): 279, 290.

Dominick LaCapra, “Rethinking Intellectual History and Reading Texts,” History and Theory 19, no. 3 (October 1980): 250.

Dominick LaCapra, History & Criticism (Ithaca: Cornell University Press, 1986), 34-44.

Hans Robert Jauss, “Literary History as a Challenge to Literary Theory,” New Literary History 2, no. 1 (Winter 1970): 7-8.

[21] أدين في صياغة هذه الفكرة بشكلٍ رئيسي للديكولونيالية وللمدرسة التي تُعرف بـ “علم الاجتماع التاريخية”، إذ إن الأولى تشدد على أهمية المعارف المنتجة محليًا خارج الأطر المألوف استعماريًا وعلى أهمية قراءة هذه المعارف والتجارب ضمن محليّتها، فيما تشدد الثانية على ضرورة تقصي كل مفهوم ضمن امتداده الأفقي التاريخي كخطوة رئيسية في فهمه. انظر مثلًا:

Arturo Escobar, “Worlds and Knowledges Otherwise,” Cultural Studies 21, no. 2-3 (April 2007): 184-190.

Ramon Grosfoguel (2007) “The Epistemic Decolonial Turn,” Cultural Studies,  no. 21 (April 2007): 211-223.

Margaret R. Somers “Where is Sociology after the Historic Turn? Knowledge Cultures, Narrativity, and Historical Epistemologies,” in The Historic Turn in the Human Sciences, ed. Terrence J. McDonald (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1996).

Margaret R. Somers, “The Privatization of Citizenship: How to Unthink a Knowledge Culture,” in Beyond the Cultural Turn, eds. Victoria E. Bonnell and Lynn Hunt (Berkeley: University of California Press, 1999), 126-127.

Hayden White, Tropics of Discourse: Essays in Cultural Criticism (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1986), 18-23.

Francis Adyanga Akena, “Critical Analysis of the Production of Western Knowledge and Its Implications for Indigenous Knowledge and Decolonization,” Journal of Black Studies 43, no. 6 (September 2012): 605-608.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى