كان بوئثيوس، واسمه: أنيكيوس مانليوس سيڤيرينوس بوئثيوس[1]، واحدًا من أغنى الرجال في مملكة إيطاليا أواخرَ العصر اللاتيني، نالَ الحظوة والنفوذ، وتقلّد العديد من المناصب فكان رئيس مستشاريّ البلاط (Magister officiorum)، وكبير مسؤوليّ المحكمة، وقائد حرّاس القصر، ورئيس البيروقراطية الرومانية. كان الدمار – آنذاك – قد طال معظم أركان الامبراطورية الرومانية الغربية. ولكن السلطة الرومانية ظلّت خاضعةً لحكم ملوك إيطاليا القوطيين الشرقيين الذين حكموا القوط والرومان معاً، فاحترموا تقاليدها وقوانينها، وحافظوا على مؤسسات السلطة السياسية. وبما أن هؤلاء الملوك استولوا على الامبراطورية من داخل الامبراطورية، فإنهم بذلك حكموا بالنظام الروماني نفسه، ولم يفرضوا حكمهم عليه.
لم تكن تلك هي المناصب الوحيدة التي تقلدها بوئثيوس، فقد شقّ طريقه بتفردٍ إلى ذروة العمل السياسيّ المرموق، فعمل قنصلًا وعضوًا في مجلس الشيوخ. ثم إنّ والدَ بوئثيوس كان هو الآخر قنصلًا، وكذلك كان كلٌّ من ولديه أيضًا. بوئثيوس رجلُ دولةٍ بامتياز، لكنه أيضًا عالمٌ بارز، تَرجمَ العديدَ من الأعمال الإغريقية الكلاسيكية إلى اللغة اللاتينية، فحافظ بعمله هذا على بقاء تلك الأعمال العظيمة للعصور الوسطى في أوروبا.
وفي سنة ٥٢٣ ميلادية، حلّت المصيبةُ على بوئثيوس عندما زُجّ به في السجن بتهمة الخيانة. دخوله السجن كان بأمرٍ من الملك ثيودوريك الكبير الذي كان بوئثيوس يعمل في خدمته. دخلَ بوئثيوس السجن بتهمة لم يرتكبها، كلُّ ما فعله هو أنه وقف للدفاع عن ألبينوس[2]، عضو مجلس الشيوخ الذي كان هو الآخر يواجه تهمة الخيانة. في السجن، خلفَ القضبان التي كانت تفصل بينه وبين لحظة إعدامه الوحشية، كَتَبَ بوئثيوس عمله الأخير: عزاء الفلسفة.
لقد سطّر بوئثيوس في وجه الموت وصيته الفلسفية، وقدّم للعالَم هِبتَه الأخيرة!
عزاء الفلسفة، تلك التحفة الفنية التي ألهمت العديد من كبار الكتّاب أمثال دانتي وجيفري تشوسر[3]، إذ يُعد هذا العمل واحدًا من أكثر الأعمال الأدبية تأثيرًا في العصور الوسطى، فقد تُرجم إلى عدة لغات قامَ بترجمتها مترجمون بارزون من بينهم: إليزابيث الأولى، ملكة إنجلترا.
يصورُ لنا الكتابُ في البداية حالةَ بوئثيوس الكسيرة وهي تواجه مصيرها المحتوم. سجينٌ، يكتبُ قصيدةَ اليأس حينًا، ومذعورٌ، يتملكه الغضب على كلِّ من افترى عليه ظلمًا وبهتانا. وبينما هو كذلك، يتحسر تارةً على قسوة المآل، ويطبطب تارةً أخرى على نفسه بشيء من نفحات الشعر، تراءت له في الجوار «سمتُ امرأةٍ جليلةِ المظهر[4]». تحمل في يدها اليمنى كتبًا، وفي يدها اليسرى صولجانًا. بدا رداؤها المنسوج بعنايةٍ رثًّا وقد «مزَّقته أيدي المغيرين[5]». على الطرف السفليّ من ردائها حِيك بالحروف اليونانية حرفُ Pi (باي – Π)، وعلى الطرف العلوي حرفُ Theta (ثيتا – θ)، ثم عتباتٌ أشبه بالسُّلم تمتد من بداية الحرف السفليّ صعودًا إلى الحرف العلوي.
يُمثل الحرفُ الأول الفلسفةَ العملية، أما الثاني فالفلسفة التأملية. ثم إن طول المرأة متفاوت، فأحيانًا هي طويلةٌ فارعةَ الطول، أو متوسطة الطول أحيانًا أخرى.
المرأةُ في هذا العمل هي تجسيدٌ للفلسفة، تُعرف أحيانًا باسم السيدة الفلسفة، وأحيانًا أخرى فِيلوسوفيا (Philosophia). في طلّتها الإلهية شبهٌ بـ أثينا، إلهةُ الحكمةِ اليونانية. وكانت قد زارت بوئثيوس لتواسيه في مصيره الذي ينتظره. أمّا ما يتبع ذلك فهو خمسةُ فصولٍ من الحوار الذي يبحث فيه بوئثيوس عن معنى السعادة، والحظ، والإرادة الحرة، وطبيعة الإله. يدور الحوار (على ما يبدو) بين بوئثيوس والفلسفة، لكنّ كلا المتحاورَيْن ينطقان بلسان بوئثيوس.
أمَا وقد اتضحت لنا ملامحُ العمل بشكل عام، فإني – لدواعي الوضوح – سأحيل إلى المتحاورَيْن فيما بعد باسم السجين والفلسفة.
قلنا إن الفلسفة تقوم بزيارة السجين لتواسيه. لكنها لا تبدي أيَّ شكلٍ من أشكال الشفقة، بل تثبت – في المقابل – عدم وجود سبب وجيه للشكوى. بهذا الأسلوب، يكون بوئثيوس قد حقق الغاية التي أراد بها أن يثبت قدرتنا على التحكم في الطريقة التي نواجه بها الحظ، إذ ليس في وسعنا التحكم بالحظ نفسه. علينا إذن، كي نحيا بسلام، أن ندرك أنّ العقل هو الشيء الوحيد الذي يمكننا التحكم به.
الحظ
تخبرنا الفلسفةُ – مخاطبةً السجين – أنها هنا لنجدته؛ لأنه يعاني من آفة التعلق بالممتلكات الدنيوية. «هِبَات» الحظ – تقول الفلسفة مؤكدةً – ليست ملكًا لك، بل هي أشبه بالقرض، إذ يمكن أن تُسلب منك بنفس الوهلةِ التي أُعطيت لك.
إذن الرخاء، والسلطة، والمكانة، والأسرة، واحترام الناس ليست ملكًا لأحد. ومن هنا يكون تجسيد الحظ (Fortuna) قد جاء ليخبر السجين بنفسه: «إنني لأعلنُها واضحة: لو كانت هذه الأشياء التي تتظلم لفقدانها هي ملكك حقًّا لما كنت تفقدها أبدًا[6]».
في هبات الحظ تكمن مفاتيح السعادة حسبما يعتقد الكثيرون منّا اليوم. لكنّ الممتلكات والمكانة هي أكثر الأشياء التي يمكن فقدانها بسهولة في حياتنا. هي أيضًا سببُ التوتر والقلق الذي ينتابنا كلما سعينا أكثر إلى التحصل عليها أو التشبث بها، رغم عِلمنا بالمخاطر التي تكتنف كلّ مكاسبنا في هذه المساحة من حياتنا.
تُواصلُ الفلسفةُ وصفَ «عجلة الحظ» التي نخضع لها جميعًا. الحظ يدير عجلته ويرحل، فيهبط – في دورة واحدة – إلى قاع الهزيمة والألم مَن كان ذات مرة في قمة النجاح والحظوة، تمامًا كما هي الحال مع بوئثيوس نفسه، «إذا كنت ترغب حقًّا في إيقاف عجلة الحظ عن الدوران» – تقول الفلسفة مخاطبةً بوئثيوس – «فاعلم، يا أشدَّ الرجال بلادة، أنك تسعى إلى استعادة ما ليس لك[7]».
أضف إلى ذلك كله أن الحظ نسبيّ: ما يعتبره الأثرياء مشقة، هو في عين الفقير رفاه. في وسع السجين أن يجد الرضا طالما أنه لا يُعلّق السعادة بالأشياء التي يلقي بها الحظ في طريقه، إذ يمكن له أن يجد السعادة في اتساق وجوده. تقول الفلسفة مخاطبةً السجين: «الحظ كله خير، بالنسبة للرجل الذي يتلقفه برباطة جأش واتزان».
السعادة
تُميّز الفلسفةُ بين أمرين، خيرات الحظ، وما هو خير في ذاته؛ وهما: الفضيلة والكفاية. لأن خيرات الحظ محدودة القيمة وتخضع للقدر. ومن هذا المنطلق تثبت الفلسفةُ أن السعادة بين يديّ السجين. على بوئثيوس فقط أن لا يثق بالأشياء التي يمكن للحظ أن يسلبها إياه على حين غرة. «أتظن أن هناك أي دوامٍ لأي حال من أحوال البشر، وأنت تعلم أن هناك لحظةً مفردةً وشيكةً سوف تأتي على المرء وتمحوه محوًا؟[8]» – هذا ما كان يدركه السجينُ تمام الإدراك. عندها تلقي الفلسفةُ درسَها على السجين: «إذن إذا كنت سيدَ نفسك فأنت تملك شيئًا لا تود أن تفقده على الإطلاق، ولا يستطيع الحظ أن يَسلِبَك إياه، إن السعادة لا يمكن أن تعتمد على أشياء خاضعة للمصادفة[9]».
إذن، لا ينبغي لنا أن نُعلّق رغباتنا بأشياء دنيوية خاضعة في نهاية المطاف لعجلة الحظ. هذا ما كانت الفلسفة تسعى إلى تبيانه. ما يتوجب علينا فعله – في المقابل – هو العودة إلى إعمال العقل لإيجاد السكينة، ففي العقل يتحقق الاكتفاء الذاتي. وهذا ما أطلق عليه الرواقيون «القلعة الداخلية» – ذاك الجزء الداخلي فينا، والذي لا يمكن للحوادث الخارجية المساس به، إذ لا يمكن لتقلبات الحظ أن تؤثر على قدرة التعقل فينا.
«وهل يمكن لأحدٍ أن يمارس تسلطه على شيء سوى الجسد وما هو أدنى من الجسد — الممتلكات؟ هل بمقدورك أن تفرض أي قانون على الروح الحرة؟ أو أن تزحزح عقلًا متماسكًا عن سكينته وثباته؟[10]».
يعكس معظم الحوار الذي دار بين السجين والفلسفة التعاليمَ الرواقية، فمن شبه المؤكد أن هذه الأفكار مأخوذة من الرواقيين أمثال: إبيكتيتوس وسينيكا، فقد كان بوئثيوس على اطلاع بكتاباتهما. لكنّ هذا لا يعني أنها محصورة على الرواقيين فقط، فقد كان حضور أفلاطون هو الآخر طاغيًا بحكم تأثيره على فكرة السعادة عند بوئثيوس. تخبرنا الفلسفة شارحةً موقفها للسجين، أن الخير الأسمى والسعادة الخالصة هما الشيء نفسه، وأنهما بدورهما متطابقان مع الله. أن تحيا حياةً سعيدةً بحق، يعني أن الحظوظ الدنيوية ليس في وسعها أن تَمسّك، وأنك إلى الله أقرب.
يُقدَّم الإله على أنه غير متدخِّل (non-interventionist)، كل ما هو موجود هو في اتساق لأن الله موجود، كل الأشياء تلائم نفسها مع الله. لذا على الإنسان أن يتصرف وفقًا للطبيعة، أن يُعمل عقله لتحقيق الاكتفاء والفضيلة، فهذا من شأنه أن يفضي بك إلى السعادة، أي أن تكون مع الله.
ما نرغب فيه عندما نسعى إلى متاع الدنيا والسمعة والعلاقات هو الفضيلة والكفاية. في كل واحد منا رغبة إلى الكمال كما تقول الفلسفة للفيلسوف، لكنّ هذه الرغبة غالبًا ما تكون في غير محلها. وعندما تكون في غير محلها فإنها تقود إلى الشر. فالشرير والفاضل لا يرومان إلا «الخير»، لكن الفاضلين وحدهم هم من يصلون إليه.
الشر
السعادة والخير الأسمى هما سِيّان في نظر بوئثيوس؛ إذْ إنّ الإنسانَ تامّ الفضيلة هو إنسان كامل، والإنسان الكامل هو إنسان سعيد. الشر لا ينال إلا من إنسانية الإنسان قاطعًا صلته مع الله. كلّ عملٍ نقوم به إما يقربنا إلى الله درجة، أو يبعدنا عنه. « … وكل ما لديه عقلٌ فلديه أيضًا حرية أن يريد أو لا يريد، وإن كنتُ لا أزعم أن هذه الحرية متساويةٌ في جميع الكائنات، فالكائنات السماوية والإلهية لديها بصيرةٌ ثاقبة وإرادةٌ نزيهةٌ وقوةٌ غالبةٌ على أمرها[11]».
وهذا ما يصفه الرواقيون بالتصرف وِفقًا للطبيعة. والتصرف وفقا للطبيعة لا يكون إلا بتحقيق «الملائمة» (Oikeiôsis – orientation)، وهي إعمال المنطق في الإنسان (خاصيّة لا تتوفر لأحدٍ من الكائنات). إنّ الإنسان الذي يتصرف تصرفًا عقلانيًا – وبالتالي أخلاقيًا – هو أكثر إنسانية وحرية من الإنسان الذي يتصرف تصرفًا لا عقلاني: «هذا، إذن، حال الطبيعة البشرية: إن الإنسان هو تاج الخليقة ما دام يعرف نفسه، فإذا نسيها فإنه يكون أحط من البهائم[12]».
تعلن الفلسفة أن الأشرار، لمجرد أنهم أشرار، لا يؤذون إلا أنفسهم. إنهم يفقدون حريتهم لأن الحرية لا تتحقق إلا عندما نتصرف وفقًا للخير الأسمى. الرغبة في الملذات الدنيوية ليس تصرفًا يتوافق مع طبيعتنا. فـ بوئثيوس – كما ذكرنا سابقًا – لا يفرق بين ما هو عقلاني وما هو خير.
إننا نتصرف بإرادة حرة – حسبما تقول الفلسفة – عندما نستخدم عقولنا فقط للبت فيما نختار. فإذا كنا عقلانيين في اختياراتنا فإننا عندها نتصرف وفقا للطبيعة، وبالتالي نحن نخدم مصلحتنا. إذ لا ننشد عندها إلا «الخير». إنّ أولئك الذين يسكنون الفضيلة – حتى وإن كانوا فقراء – هم أقوى روحيًّا من فاعليّ الشر.
إذا كانت قراراتنا مدفوعة بعوامل خارجية لا تنبع من عقولنا، مثل الرغبة في أشياء دنيوية، أو تحقيق سمعة أفضل لأنفسنا، فإننا لا نتصرف وفق إرادتنا الحرة تمامًا. كلما كنا عقلانيين أكثر تحررنا أكثر للعمل والاختيار. إذ يمكن للرغبات اللاعقلانية أن تجعلنا عبيدًا إذا سمحنا لها بذلك.
«أما النفوس البشرية فتكون بالتأكيد أكثر حرية ما بقيت دائبةً في تأمل العقل الإلهي، وتصير أقل حريةً عندما تهبط إلى الأجساد، وأقل من ذلك عندما تكون سجينة الأعضاء الترابية الأرضية، وتَبلُغُ غايةَ العبودية عندما تُسلِم نفسَها للرذائل ولا تعود تملكُ رُشدَها[13]».
حرية الإرادة
لعلّ أكثر ما يشدّ اهتمام الفلاسفة المعاصرين في عمل بوئثيوس هو ما جاء في الكتاب الخامس[14]. ذلك أن الأفكار المطروحة فيه أصيلةٌ ولصيقةُ النسب بـ بوئثيوس. فالحديث عن الحظ والسعادة هو أقرب ما يكون إلى الجمع والتوفيق بين الأفكار الرواقية، والأرسطية، والأفلاطونية. ومن هنا تأتي أهمية بوئثيوس كناقل لهذه الفلسفة الكلاسيكية إلى العصور الوسطى. أما ما عرضه في الكتاب الخامس عن حرية الإرادة فهو أقرب ما يكون من عند بوئثيوس نفسه.
هنا، نجد السجين يتحدى الفلسفة حول فكرة حرية الإرادة، فكلاهما متفقٌ على وجود الله، وعلى شمول العلم الإلهي. فالله عليمٌ بأحداث الماضي والحاضر والمستقبل. ولكنْ إنْ صحّ انتفاء الزمن من منظور الله، وأن الله بكل بساطة محيطٌ بكل شيء دفعة واحدة، فما يتبع ذلك هو أن أحداث المستقبل هي بالضرورة تحدث لأن الله يعلم بحدوثها قبل أن تحدث، وليس في وسعها إلا أن تحدث. بعبارة أخرى، ثمة تنافر بين حدث ليس له نتيجة ضرورية، ومع ذلك فإن هذه النتيجة معلومة.
إذا كان علم الله محيط بكل شيء، فمن الصعب إذن أن يحافظ الإنسانُ على درجة معقولة من الحرية. ومن دون الحرية لا يمكننا أن نجد المسوغ للدفاع عن الله أمام تُهم المعاناة التي يحياها الإنسان. كيف للإله أن يحاكمنا بأفعالٍ يعلم قبل ولادتنا أنه مقدر لنا أن نفعلها؟ لا يمكن أن يكون الإنسان مسؤولًا عن فعلٍ ليس له خيارٌ فيه.
تنبري الفلسفةُ للإجابة على أسئلة السجين، فتفرّق بين سبق العلم الإلهي (divine prescience) وسبق التحديد الإلهي (divine predetermination). ثم تقر الفلسفة بخلود الله لأنه خارج نطاق الزمن. الله سرمد، والأزمنة وما يحدث فيها هو آني بالنسبة إلى الله: «السرمدية هي الامتلاك التام والآني والكامل لحياةٍ دائمةٍ أبدًا[15]».
يَشيع بين الناس أن السرمدية هي الحاضر في كل الأزمنة، وهذا يعني أن الوجود موجود داخل الزمن. ولكن الوجود داخل الزمن يدل على النقصان، ليس الله أقدم من العالم زمنيًا، لأن الزمن نفسه من خلق الله.
على هذا النحو، تفرق الفلسفة بين السرمد والدائم: «وعليه فإذا شئنا أن نسمي الأشياء بأسماءٍ صحيحةٍ فلنتبع أفلاطون ونَقُل إن الله “سرمد” (eternal) والعالم “دائم” perpetual))[16]».
لو كان وجود الله داخل الزمن، أي لو كان الله «دائمًا» وليس «سرمدًا»، لكان فهمه للمستقبل مثل فهمنا للماضي. ولكن علم الله بالمستقبل ليس كعلمنا بالماضي، علم الله آنيّ، مثلما نعي نحن الحاضرَ ونحن نعيش داخل الزمن ولسنا خالدين فيه.
«لماذا إذن تصرُّون على أن كلَّ ما تَتَفَرَّسه عين الله يصبح ضروريٍّا؟ فالناس ترى الأشياء ولكن هذا بالتأكيد لا يجعل هذه الأشياء ضروريةً، ورؤيتكم إياها لا يُضفي أي ضرورةٍ على الأشياء التي ترونها حاضرةً، أليس كذلك؟[17]».
بهذا المنطق، تصر الفلسفة على أن الله شامل القدرة والعلم، مع الابقاء على قدرة الإنسان على الاختيار. الله لا يسبب الحدث، بل يَعلمه قبل حدوثه. هو عليمٌ بها لأن وقوع الأحداث آني لكونه يحيط بكل شيء علمًا، وليس لأن عِلمَه بها قد سبب وقوعها.
هنا، يطرح السجينُ الإشكالية التالية: لو صحّ أننا نمتلك حرية الإرادة وأن الله عليم بأفعالنا قبل حدوثها، فإن أفعالنا إذن هي علّة المعرفة الإلهية. وهذا ينتقص بالضرورة من كمال الله. هذا كما يزعم السجين هو عودٌ على بدء، أنْ نعتقد بأن: «نتيجة الأشياء في الزمن يجب أن تكون سببُ سبق العلم السرمدي». تجيب الفلسفة بأنه في حين أن المعرفة الإلهية المسبقة هي من تجعل من الحدث المستقبلي ضروريًّا، إلا أن هذا الحدث حر وغير مقيّد عندما نأخذ في الاعتبار طبيعة الحدث، فبعض الأحداث محكومة بطبيعتها.
إننا نعزو شروق الشمس، مثلًا، إلى كونه »ضرورة بسيطة«، فشروق الشمس مدفوعٌ بطبيعته. ولكن المشي ليس ضرورة بسيطة مثل شروق الشمس، فلدينا حرية الاختيار بأن نمشي أو لا نمشي. فإذا اختارت امرأةٌ المشي، فهي بالنسبة إلى الله تمشي بالضرورة، لأنها تمشي. ولكنها في اللحظة التي تمشي فيها ليس في وسعها ألا تمشي لأن هذا تناقض. إذْ إن فعل المشي نفسه هو فعل حر.
أفعالنا من منظور الله هي ضرورية، ولكن معرفة الله بأفعالنا هي ضرورة مشروطة بحدوثها. إذن نحن أحرار في عين الله، ولكننا لا نسبب معرفة الله بأفعالنا بما أن معرفة الله شرط أفعالنا. ليس في وسع الشمس إلا أن تشرق، فليس لديها حرية الإرادة، لكن الإنسان حر في اختيار مواقفه وأفعاله.
الأزمة والعزاء
من رحم الأزمة الشخصيةِ والحضارية وُلد كتاب عزاء الفلسفة. فقد لعب الانشقاق في داخل الحضارة الرومانية دورًا في حكم الإعدام على بوئثيوس، ذلك أن العلاقة قد انهارت بين ثيودوريك الكبير وجستين الأول، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية. فاتُّهم بوئثيوس بأنه طرفٌ في مؤامرة رومانية للإطاحة بالقوطيين الشرقيين الذين يسود فيهم الاعتقاد بالمذهب الأريوسي، وهو مذهبٌ يَعُده المسيحيون الرومان من قبيل الهرطقة.
غالبا ما يوصف بوئثيوس بـ «الروماني الأخير»، فهو ينحدر من عائلة رومانية ارستقراطية عريقة (the gens Anicia)، تمتد جذورها إلى عهد الجمهورية. ولا يضرّ بوئثيوس شيئًا أن يكون العصر الكلاسيكي -الذي كان بوئثيوس جزءا منه – قد اضمحل ومات. يقول الفيلسوف الانجليزي برتراند راسل: «سواءً في العصر الذي عاش فيه، أو في أي عصر آخر، لم يكن بوئثيوس ولن يكون إلا مذهلًا».
لقد منع السجنُ بوئثيوس من تحقيق حلم حياته، وهو ترجمة (وشرح) كل أعمال أرسطو وأفلاطون. شانقوه هم من تسببوا في حرمان العصور الوسطى في أوروبا من الأعمال الكلاسيكية العظيمة. لكن البيزنطيين والعرب في المشرق العربي هم من حافظ على هذه الأعمال، ليجدها القارئ الغربي في عصر النهضة.
مات ثيودوريك بُعيد موت بوئثيوس، وتعرضت مملكته الى الانقسام بسبب الغزوات والنزاعات حول تداول السلطة. وغرقت أوروبا لعدة قرون (ابتداء من القرن الخامس تقريبًا وحتى العاشر) في لجة الانحطاط الثقافي والفكري المعروفة حاليًا بـ «عصور الظلام».
إن فكرة السموّ (transcendence) هي المحور الذي يدور حوله مجمل الكتاب. فصورة السّلم على رداء الفلسفة هي استعارة بليغة. فقد سعى بوئثيوس، بسبب حكم السجن الذي سينتهي به إلى التعذيب والإعدام، إلى تجاوز وجوده الدنيوي بالعقل. إذ لا يمكننا – بحسب بوئثيوس – فهم النظام الحقيقي للعالم إلا إذا نظرنا إلى الأشياء من منظور إلهي، وبالتالي أبدي.
آمن بوئثيوس أن في وسعنا فهم مشاكلنا على أنها جزء من كلٍّ أكبر، وهي التدابير الإلهية، الخير الأعظم. وكل الأشياء تخضع في نهاية المطاف إلى التسوية في الأبدية. حتى الشر لا وجود له في المخطط الأكبر للأشياء. الشر هو مجرد شكل من أشكال النقصان، وليس قوة في حد ذاته لأن الله هو الخير وهو المقتدر.
وفي حين أن العديد من الأفكار في كتاب عزاء الفلسفة قد تضاءل حضورها على مرّ القرون، إلا أن الطموح المطلق للعمل واتساع نطاقه يجعلها من عجائب العصور الوسطى. العديد من المواضيع التي ناقشها بوئثيوس ما زالت تحير الفلاسفة وعلماء النفس حتى يومنا هذا: حرية الإرادة، إشكالية الشر، طبيعة العدالة وأصل الرغبات وغرضها.
تناول بوئثيوس هذه الأسئلة من أعالي العقل وهو سجين في ظلال الموت وبين أنقاض العالم الكلاسيكي. ويبقى الكتابُ، بجماله الشعري وبنائه السحري للمنطق العقلي، عزاءً لكل المشاكل التي نواجهها. لقد أشار الكتاب مرارًا إلى قوة الخير، ولا يمكن إنكار قوته.
[1] Anicius Manlius Severinus Boëthius
[2] Albinus
[3] Geoffrey Chaucer
[4] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[5] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[6] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[7] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[8] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[9] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[10] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[11] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[12] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[13] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[14] يُقسّم بوئثيوس عمله إلى خمسة كتب، وكل كتاب إلى عدة فصول وهكذا. المترجم
[15] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[16] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى
[17] عزاء الفلسفة، بوئثيوس. ترجمة: عادل مصطفى