توطئة[1]
كان أول ما ظهر كتاب چاستون باشلار Gaston Bachelard «فلسفة النفي» La Philosophie du Non عام 1940، في فرنسا، وقت كان في سنّه الخامسة والستين وسبق له أن نشر أحد عشر عملًا آخر،[2] منها ما كان أساسيًّا لمباحثه الإبستمولوجية ومنها ما كان متعلقًا بغير ذلك، إلى جانب أربعة أعمال تعتبر مهمة في مباحث فلسفة العلم. كان أول كتاب نشر له في عام 1928، هو أطروحته في الدكتوراة التي تقدّم إلى نقاشها في عام 1927، بعنوان «مقال في المعرفة التقريبية»، ورافقتها أطروحة مكملة بعنوان «دراسة حول تطور مشكلة فيزيائية: السريان الحراري في الأجسام الصلبة»، وقد ذكرتهما في الحاشية. وكان حصل لاحقًا في عام 1940، أنِ استُدعيَ إلى جامعة السوربون إذ شغل فيها كرسي تاريخ وفلسفة العلم حتى عام 1954، وعُيّن عندئذ أستاذ شرف، وغدا مشرف معهد تاريخ العلم.
نعلم أن فلسفة باشلار في جزء منها تُسمى «العقلانية العلمية»، أو «المادية العقلانية»،[3] وسواءً أكان الأمر عنده أم عند المثالي الفرنسي ليون برونشفيك Léon Brunschvicg (الذي كان من ضمن اثنين أشرفا على أطروحة من أطروحتي باشلار)، أم عند الرياضي السويسري فردناند چونسيث Ferdinand Gonseth، فإننا نجد نظرة مختلفة قليلًا أو كثيرًا إلى القسمة العتيقة بين المذهب العقلاني والمذهب التجريبي. إذ بقراءة رجال كهؤلاء نجد نزعةً إلى الكشف عن مدى التشابك الكائن بين العقلي والعلمي، ومدى تشبّع فكر ذاك الأول بفكر هذا الثاني بخاصة في عصرنا الحاضر. لقد غدت هذه القسمة المعتادة ساذجة في نظرهم وينبغي إعادة النظر فيها.
الإبستمولوجيات الفرنسية وإميل مييرسون
في مثل هذه القضايا الإبستمولوجية التي أصبحت مهمة في القرن العشرين، فإن باشلار أكثر ما تأثر إنما بنظريات برونشفيك. فعلى يد هذا الرجل تعلم باشلار أن يحترم نوعًا ديناميًّا من العقلانية في مجال الكشف العلمي، وأن يتجنب الاعتماد على نوع المنطق التعليمي الذي يتضمن قضايا من الضرب الذي صار معروفًا منذ كانط أنه «تركيبي قبلي». ونحن لو رجعنا إلى عشرينيات القرن وبداية الثلاثينيات، لألفينا أن هذه المقاربة كانت ثورية في هذا المجال، إذ كانت الإبستمولوجيات الفرنسية تتبع في سيرها غالبًا ما وضعه لها فيلسوف العلم الفرنسي إميل ميْيِرسون Émile Meyerson، أعني بذلك أن للعلم ثلاثة مبادئ أساسية، وهي: الهُوية، والاستدلال، والعلة القبلية.[4]
فحوى فكرة مييرسون[5] أن التفسير العلمي يقوم على تحويل القوانين الطبيعة المكتشفة إمپريقيًّا[6] إلى جُمَل هُوَوِيّة (أو جملِ هويةٍ)، تشغل حيزًا في الزمان، وهذا بعينه يتصل بأطروحة مييرسون المركزية: كل الفكر يقوم أساسًا على عملية مشابهة تسعى إلى المطابقة. لكي نفهم ذلك أكثر نشير إلى أن للعلم عند مييرسون نشاطين متضايفين متلازمين: الأول وصفي، والثاني تفسيري. نسمي الأول علمًا «قانونيًّا»، ونسمي الثاني «شارحًا»، أو «عِلّيًّا». يُعنى العلم القانوني بالكشف عن القوانين التي على وفقها تقع الحوادث الطبيعية، في حين يعنى العلم الشارح أو العلّي بتفسير القوانين التي اكتشفها العلم القانوني. يؤكد مييرسون أن العلم القانوني يتأتى في أصله من حاجتنا ورغبتنا البعدية في التنبؤ بالسلوك الذي تجري عليه بيئتنا المحيطة. أما العلم الشارح فليس يدين بشيء في أصله لمثل هذا المصدر الذي نجده عند العلم القانوني، معنى ذلك أن العلم الشارح لا يستند إلى أساس عملي، ذلك أنه لا ينبع إلا من رغبة العقل البشري في فهم الطبيعة. إن هذا العقل برأيه لا يجزيه أن يعرف فقط كيف تقع حوادث الطبيعة –وهذا ما يهتم به العلم القانوني– إنما تجده يبتغي أيضًا أن يعرف لماذا تقع حوادث الطبيعة على الشاكلة المعينة التي نراها. متى ما طرحنا سؤال «لماذا»، واستطعنا معرفة الإجابة، مكّننا هذا من إدراك أن هذا الحادث المعين ما فشل أن يقع، وما فشل أيضًا أن يكون ما هو عليه. من مثل هذه المقاربة نقع على سؤال يتعلق بالضرورة: معنى هذا أن اهتمامنا صار معلقًا بالسؤال عن شيء يُحَتّم الحادثَ عقليًّا. إننا لا نكون قد فهمنا شيئًا بحق إلا عندما نقع على الشيء الذي يبين لنا أن حادثًا ما كان ضروريًّا وما كان له إلا أن يقع كما وقع. هكذا يكون معنى التفسير في العلم «الشارح»، أن نُظهر الضرورة التي ينطوي عليها حدث ما؛ هذا من جهة.
من جهةٍ ثانية، فإن قوانين الطبيعة عند مييرسون هي التي خَلَفَتِ الحوادث على وفقها بعضُها بعضًا في سياق الزمان، إذ لما كنا معدومي القدرة على إدراك الزمان إلا بنحو تعاقبي، نتج من ذلك أن كل هذا القوانين التي نكتشفها إمپريقيًّا هي في واقع الأمر جمل تتعلق بتعاقب عدد من الحوادث في سياق الزمان. تكون وظيفة العلم الشارح عندئذ إظهار ضرورة القوانين الطبيعية التي تعقب على وفقها الحوادثُ بعضُها بعضًا في الزمان. إذن كل التسلسلات الثابتة التي يكتشفها العلم «القانوني»، إمپريقيًّا هي في الواقع ضرورية. غير أن السؤال الذي يواجهنا بإزاء مثل هذا العرض: كيف لقوانين التعاقب الزمني أن تستحيل من حقائق عَرَضية إلى روابط ضرورية؟ بمواجهة مثل هذا السؤال يجيء مبدأ مييرسون عن عملية المطابقة Identification، إذ بواسطتها يغدو في وسعنا أن ننشئ هوية أساسية تثوي بين السابق واللاحق أو المقدم والتالي. من مثل هذه العملية يتبين لنا أن المقدم مطابق للتالي، ومن ثَم فإننا نثبت أن المقدم يمثل علة كافية للتالي، وبذا يتحول التعاقب الإمپريقي إلى تتالٍ ضروري.
النقطة الأخيرة هي الوظيفة التي يشغلها الاستدلال في العلم عند مييرسون، وإزاء هذا نقع على تساؤلات نعرفها جيدًا بقراءة هيوم. إذ أَمِنَ الحق أن وجود شيء في الماضي يمثل علة كافية لاستمراره في الوجود حاضرًا؟ من الواضح أن الجواب نفيٌ، فلو كان غير ذلك لكان على كل ما وُجد يومًا أن يداوم على حاله فلا يفنى أبدًا. معنى ذلك أن الوجود الماضي للشيء ليس علة كافية لاستمرار وجوده. يترتب على هذا أن الجمل الهُوَوية في سياق الزمان ليست في الواقع بأقل عرضية من قوانين التغير، ففَنَاء بعض الأشياء يعني أن بعض الجمل الهووية باطلة، ويعني أنها ليست ضرورية في سياق الزمان، فكيف يمكن إذن أن يكون لعملية المطابقة التي يتكلم عليها مييرسون أي قوة تفسيرية؟ لنرجع القهقرى قليلًا حتى نفهم جواب مييرسون (وكل هذا حتى نفهم أكثر مواقف أشخاص مثل باشلار وبرونشفيك). قلنا إن العلم الشارح عند مييرسون ليس له أساس عملي في جوهره، فكل ما يسعى إليه إنما أن ينشئ توافقًا وتطابقًا كاملين وممتازين بقدر الإمكان بين تنظيم أفكارنا وتنظيم أشياء الواقع. ولذا عليه في مثل هذا المسعى أن يتقيد بالطبيعة كما نختبرها من جهة، وبمطلب العقلانية الذي يستدعيه العقل. كيما نشبع مطلب العقل الذي هو العقلانية، كان على العلم الشارح أن يبرهن على أن القوانين الطبيعية التي يكتشفها العلم «القانوني» ضرورية، علة هذا أن شيئًا لا يكون عقلانيًّا (ما يعني أننا نفهمه)، إلا عندما يغدو جليًّا للعقل أن القانون ما كان له أن يكون إلا كما هو. الآن، ليس يمكن إظهار ضرورة قانون ما إلا من طريقين: (أ) أن يبين المرء أن القانون المتناول ضروري بذاته per se، أو (ب) أن يبين أن القانون يمكن استنتاجه بالتمام والاستدلال عليه من قوانين أخرى هي ضرورية بذاتها. بيد أننا برأي مييرسون لا نعرف إلا قضية واحدة ضرورية: أ هي أ. هي ذي الضرورة الوحيدة التي يعرفها العقل عند مييرسون: أن الشيء لا يكون إلا ما هو عليه، يعني الهوية الذاتية. معلوم الآن أن هذه القضية ليست إلا تحصيل حاصل (توتولوجيا)؛ لا يمكن أن يُستَدل على شيء آخر منها، لذا فالعلم الشارح محكوم عليه بأنه لن يبلغ مرحلة يحقق فيها مثل هذا الشرط، لكنه مع ذلك يحقق تقدمًا نحوها. ليس علينا بأي حال أن نشرح موقف مييرسون بالكامل، لذا نختم أمره في هذا بأن نقول: كل بحث عن العقلانية هو في واقع الأمر بحث عن هوية في سياق الزمان المشهود، وليست الجمل الهووية تحليليةً محضًا.
إذن، كانت تشيع في حقل الإبستمولوجيا أفكار من هذه الشاكلة، أما باشلار وأضرابه فكان لهم أقوال أخرى. لم يكن تأثير برونشفيك مقتصرًا على ما أوردناه آنفًا، إذ تعلم منه باشلار أيضًا أن يظل قابلًا متفتحًا بإزاء الثورة العلمية التي حدثت، وبخاصة في الفيزياء، في إبان الربع الأول من القرن العشرين. بيد أنه كان أكثر استعدادًا من برونشفيك لينضم إلى الشجار الدائر في الإبستمولوجيا ويولي اهتمامًا في دراساته لعدد معين من المشكلات العلمية. من هنا يمكننا أن نتعقب ملاحظاته التي كانت منها فكرة أن المعرفة نفسها يمكن أن تستحيل عقبةً في سبيل التعلم والعلم، وأن الأخطاء التي نواجهها في العلم تحوز قيمة إيجابية علينا أن لا نتجاهلها.[7] من هنا أيضًا نفهم فكرته عن أن علم ما قبل التاريخ (والميثولوجيا الخاصة به كذلك)، يحتاج إلى أن يُطَهَّر بقدر ما ظل ثاويًا في هيكلية العقل البشري؛ كل ما هو أرسطي، وإقليدي، ونيوتوني، وحتى الروح النقدي الذي كان عليه كانط: هذا كله يخلّف وراءه طبقات بنائية في العقل البشري أقرب ما تكون إلى طبقات الأرض الجيولوجية؛ وهكذا فإننا نحتاج إلى أن نعرف ماهية هذه الطبقات، بمعنى أن نكوّن معرفة ذاتية ونحوز تصويبًا وضبطًا ذاتيًّا لأنفسنا باستمرار قبل أن نقدر على مواصلة سيرنا.[8]
هكذا هو «الروح العلمي» عند باشلار: متفتح، ويملك طابعًا تحوليًّا، ويكشف عن رشاقة ديالكتية، ويأخذ حذره بإزاء هذا التصلب الذي عادةً ما يلي أي اكتشافات علمية جديدة. فهو ينظر إلى «حقائق» الماضي ولا يرفضها، بل يعترف أن كثيرًا منها مغمورٌ عميقًا في ذهننا اللاواعي، والأحرى بنا والأخلق أن نكشف عنها ونفحصها ونفهمها ونصيّرها واقعًا مشهودًا، عوضًا عن أن تظل محض افتراضات مضمرة وغير مدرَكة فتعيق سبيل الفهم وتعلن أنها مستقيمة قويمة في حين أنها مملوءة بمفترق الطرق ومتقاطِعِها.[9]
الفكر الفلسفي والعقل العلمي
من مثل هذا العرض الوجيز الذي أنجزناه توًّا، يمكننا أن نتنبأ بالطريقة التي قد يستهل بها شخص مثل باشلار كتابه الذي هو موضوع حديثنا وكنا ألمعنا إليه بدءًا، وهو «فلسفة النفي» الذي يتناول فيه مضامين العلم المعاصر بالنسبة إلى العقل والفلسفة، ويحاول فيه تصحيح ما يراه باشلار معايبَ تضمنتها الفلسفة التقليدية إذ حكمت على العلم عبر وجهة نظر المقولات الثابتة، والمطلقة، والقبلية.[10] بادئ ذي بدء، علينا أن نعلم أن كل نسق فلسفي نستخدمه في غير محله ومخلوعًا عن أصله الفكري الذي صدر عنه، نكون قد أسأنا التصرف تجاهه وانتهينا في الغالب إلى نتائج مخيبة لأي أمل. فالحق أن لكل نسق فلسفي غايات يرمي إليها ويحصر نفسه بها، وما علينا إلا أن نستخدمه في هذه الغايات وحدها. وعليه فإن أجسم خرق نرتكبه في حق الروح الفلسفي إنما أن نعجز عن إدراك أن الاعتراف بمثل هذه الغائية الحميمية والفكرية التي ينطوي عليه النسق الفلسفي يرشدنا إلى ما يمنح كل نسق قوته ووضوحه وحياته.[11] من هنا يتبين لنا فرق يشير إليه باشلار: يوجد تفكير علمي ويوجد تفكير ميتافيزيقي، متى ما حاولنا تسليط الضوء على المشكلات العلمية بواسطة التأمل الميتافيزيقي، أو خلطنا بين مبرهنات رياضية وصور فلسفية، فإننا في واقع الأمور نكون بإزاء تطبيق فكر له سماته الخاصة على فكر آخر يتسم بغير سمات الأول. معنى هذا أننا نطبق الفلسفة التي ليس لها بحكم الضرورة إلا أن تكون مغلقة وذات غاية معينة، على الفكر العلمي المنفتح والذي لا يحدد له غاية واحدة وكفى.[12]
إن فلسفة العلوم في نظر العلماء مجموع من نتائج عامة نكوّنها من خلال التفكير العلمي (الذي يشمل الخبرة التجربية والبرهان العقلي)، إنها تجميع لحقائق مهمة لا بد من أخذها في الاعتبار، ودائمًا ما تجيء بعد أن ينتهي عمل العلم. هذا يعني أن العلم هو على الدوام غير مكتمل، في حين أن فلسفة العلماء تظل –كثيرًا أو قليلًا– انتقائية ومنفتحة ومتزعزعة. في مثل هذا السياق، يفصّل باشلار في الفرق بين الفيلسوف والعالم في التعامل مع العلم، وجماع ذلك ببساطة هو في هذا: أننا كثيرًا ما نجد نظرية مثل النسبية تنحط بيد الفيلسوف إلى النسبوية، والفَرْضية إلى افتراض، والمُسَلَّمة إلى حقيقة أولية. بقول آخر، إن الفيلسوف إذ ينأى بنفسه عن الروح العلمي، يظن أن فلسفة العلم ليس عليها إلا أن تحصر نفسها في مبادئ العلم وثيماته العامة. إن مهمتها أن تنشئ اتصالًا بين مبادئ العلم ومبادئ الفكر المحض، بعيدًا عن أي مشكلات تتعلق بالتطبيق العملي. وهكذا يتبين لنا فرق رئيس يورده باشلار: بالنسبة إلى الفيلسوف، لا تظل فلسفة العلوم محصورةً بالكلية في نطاق الحقائق، أما بالنسبة إلى العالِم فإن فلسفة العلم تظل محصورة في نطاق الحقائق.[13]
ليس محصورًا موقف باشلار بالطبع في هذا أو ذاك، فمن غاياته أصلًا أن يبين عُوَار مثل هذا التفكير الذي يتخذ جانبًا وينسى آخر، وتظل فلسفة العلم مقصورة بواسطته على جانبين: يتخذ الفلاسفة أقصى المعرفة فيحصرون أنفسهم في المبادئ التي هي جد عامة، ويتخذ العلماء أقصى المعرفة فيحصرون أنفسهم في النتائج التي هي جد معينة وجزئية. هكذا تستنفد فلسفة العلم نفسها في مواجهة هاتين العقبتين الإبستمولوجيتين اللتين تقيّدان كل الفكر: العام والمباشر، القبلي والبعدي. إنها من خلال هذه القسمة التي يشدّها كل طرف ناحيته، تعجز عن إدراك السبيل التي يسلكها التفكير العلمي حاضرًا، إذ يتنقل باستمرار مستفيدًا من القبلي والبعدي معًا، والقيم التجريبية والعقلية على السواء.
التجريبية والعقلانية
يظهر لنا إذن، أننا نفتقر إلى فلسفة علم تبين لنا الشروط –الذاتية والموضوعية على السواء– التي على وفقها تقود المبادئ العامة إلى نتائج معينة وإلى تقلبات عديدة مختلفة في نطاق الواقع العملي، وتبين لنا تحت أي شروط توحي النتائج المعينة التي نخرج بها بالتعميمات التي تحقق إشباعًا وإكمالًا لهذه النتائج، وبنوع من الديالكتيك الذي سيخرج لنا بمبادئ جديدة. معنى ذلك أن هذه الفلسفة ستظهرنا على أنه لا ندحة عن ضرب من التبديل المستمر بين القبلي والبعدي، وأن التجريبية (الإمپريقية)، والعقلانية في التفكير العلمي مرتبطتان معًا بنوع من العلاقة غريب، لكنه قوي كالرابطة التي نجدها بين اللذة والألم. والحق أن الواحد من هذين المذهبين لا يظفر في مجاله إلا إن وافق الثاني واستجاب له: تحتاج التجريبية إلى أن تُفهَم، كما تحتاج العقلانية إلى أن تُطبَّق. تجريبيةٌ بلا قوانين واضحة ومنظمة واستدلالية لا يمكن التفكير فيها ولا تعليمها، وعقلانيةٌ بلا براهين محسوسة ولا تطبيق في واقع مباشر لا يمكنها أن تكون مقنعةً تمامًا. في هذا يتبين لنا أن قيمة القانون الإمپريقي تُثْبَتُ بجعله أساسًا لسلسلة من الاستدلال، في حين أن هذه السلسلة تغدو مشروعةً متى ما كانت أساسًا لتجربة معينة. معنى ذلك أن العلم الذي هو مجموعٌ من براهين وتجارِب، وقواعد وقوانين، ودلائل وحقائق، يحتاج إلى فلسفة ذات قطبين، ومعنى ذلك أيضًا أن العلم في سيره في حاجة إلى تقدم ديالكتيكي، حيث يتضح كل مفهوم متناول بنحو تكاملي عبر وِجهتيْ نظرٍ فلسفيتين.[14]
وهكذا تتبين لنا طريقة باشلار في مقاربة الأمور، فهو لا يتبنّى مذهبًا لينفي آخر، بل يعترف بالاثنين ويشير إلى ما بينهما من تكامل، ومن هنا فإن العقلانية تكمل التجريبية. وفي كتابه «الروح العلمي الجديد» Le Nouvel Esprit Scientifique الذي ذكرناه في الهامش الأول، يعدّ العقلانية والتجريبية قاعدتين ميتافيزيقيتين – تمثّل الأولى ميدان التأويل والعقل، في حين أن الثانية تزود العقلانية بالمادة المطلوبة لإعطاء تأويلاتها. أيّ اكتفاء بالبقاء على مستوى الساذج والحدسي الذي هو التجريبي في استيعاب الوقائع الجديدة، معناه أن نحكم على الفهم العلمي بالركود لأنه لا يستطيع أن يعي ما يفعله. وبالمثل فإن المغالاة في إيلاء الأهمية إلى الجانب العقلاني وحده تقود بنا إلى مثالية عقيمة.[15] ولذا يشدد باشلار: «لا بد للتجريب من أن يذعن للحجة، كما لا بد للحجة من أن ترجع إلى التجريب».[16]
الفيلسوف في مقابل العالِم
لهذا عند باشلار أن كل فلسفة تقدم نفسها بوصفها ملائمة للتفكير العلمي الذي يتصف بحال مستمرة من التطور، لا بد أن تأخذ في بالها أن المعرفة العلمية هذه نفسها ستؤثر في بنية العقل. وهنا يظهر تناول باشلار للدور الذي تؤديه الفلسفة التي تتعلق بالعلوم، وبالطبع فإننا حسب طريقته سنرفض السبيلين الشائعتين في تناول هذا الموضوع: موضوع بنية العقل وتطوره. إذ نعمد إلى النظر في التعارض بين العالِم والفيلسوف، نجده على هذه الشاكلة: يظن العالِم أن في وسعه بدء بحثه وعقله مفرغ من أي بنية ومعرفة سابقتين، في حين أن الفيلسوف كثيرًا ما ينطلق من العقل الذي يعتبره مؤسسًا بالكامل ومزودًا بالمقولات التي لا غنى عنها في فهم الواقع. المعرفة بالنسبة إلى العالِم تبرز من الجهل كالنور الذي يشق الظلام، بيد أن عالِمنا هذا يفشل في رؤية أن هذا الجهل إنما هو نسيج من الأخطاء الإيجابية والمحكمة والمتكاتفة، وبالتالي يعجز عن إدراكٍ فحواه أن هذا الظلام الفكري يمتلك بنية، ما يعني أن كل تجربة موضوعية صحيحة لا بد أن تستلزم على الدوام تصويبًا لأي خطأ ذاتي في مقابل الواقع. لا يمكننا أن ندمر هذه الأخطاء واحدًا واحدًا، فهي متناسقة ومتماسكة كما قلنا. لهذا ليس لصاحب العقل العلمي أن يؤسس نفسه إلا بتقويض العقل اللا علمي، وعليه لذلك أن يسعى إلى تحقيق تقويم وإصلاح شامل على المستوى الذاتي. كل تقدم علمي حقيقي في الفكر العلمي لا مندوحة من أن يتضمن تحولًا. وعلى النحو عينه، كل التقدمات في الفكر العلمي المعاصر جلبت معها تحولات في مبادئ المعرفة نفسها.
أما إن نظرنا إلى الفيلسوف الذي اعتيد أن يكمن شغله في إيجاد الحقائق الأولية الثاوية في باطنه، فإن «الموضوع» –بالنسبة إليه– متى ما أُخِذ بكليته أكّد المبادئ العامة التي يتبناها دونما صعوبة. معنى ذلك أن التقلبات والتغيرات التي تجري في الواقع المشاهد نادرًا ما تثير القلق عنده، وسبيله في مواجهتها إما أن تكون بتجاهلها لأنها تفاصيل غير مهمة، وإما أن يكدسها دونما تنظيم كي يقنع نفسه باللا عقلانية الأساسية التي تتصف بها هذه المعطيات. كل غاية الفيلسوف في ذلك تكون أن يطور فلسفة واضحةً ويسيرة وسريعة تفسر الكثير من الأشياء، لكنها لا تخرج عن أن تكون فلسفة هذا الفيلسوف المعين: إنها تحمل طابعه وتراه يعيش من خلالها. حقيقة واحدة من حقائقها كافية كي تخلّصه من كل شك وجهل ولا عقلانية، لأنها منيرة وتُجَلّي كل ما كان الغموض يكتنفه، وسمتها الرئيسة في ذلك أنها تطابق بين العقل من جهة، والـ«أنا أفكر» من جهة أخرى. بإزاء هذا إذن، ما الذي قد يدعو الفيلسوف إلى افتراض ضرورة تعديل العقل بنحو مستمر للبحث عن معرفة جديدة؟ إنه ينظر إلى كل الميثودولوجيات المتباينة في مختلف العلوم باعتبارها تصدر عن منهج واحد رئيس، وعبره علينا أن نبيّن المعرفة بأكملها ونعامل المواضيع كافة بالأسلوب نفسه.[17]
في مواجهة مثل هذا التفكير الذي يحوزه الفيلسوف، فإن أطروحة باشلار لا بد أن تكون أمرًا مثيرًا للمتاعب، ما دام أنها تتناول المعرفة بوصفها تطورًا ذهنيًّا، وتقبل بأي تبدلات قد تمسّ وَحدة وسمة التماسك التي للـ«أنا أفكر». بمثل هذا الطرح يريد باشلار أن يؤسس لفلسفة «مفتوحة» تختص بالمعرفة العلمية، إذ يقصد بها إلى أن تكون وعيَ ذهنٍ يشيد نفسه بالاشتغال على كل ما يُعتبر مجهولًا، ويسعى واقعًا إلى أن يقع على ما يناقض المعرفة السابقة. والأمر أنه علينا، قبل كل شيء، أن ندرك حقيقة أن الخبرة الجديدة تجهر بالقول «لا» للخبرة القديمة، وإلا لما كنا مقابل خبرة أو تجربة جديدة ألبتة. بيد أن الذهن الذي يقدر على تحويل كل مبدأ إلى ديالكتيك، والذي في وسعه أن يستوعب باستمرار ضروبًا جديدة من الأدلة، والذي باستطاعته أن يغني هيكله التفسيري دون أي محاباة لأورچانون طبيعي مفتَرَض يُدّعى أنه مصمم للتخلص من كل شيء بتفسيره؛ لذهن كهذا لا تكون هذه الـ«لا» نهائيةً أبدًا.[18]
في سبيل توضيح باشلار لنقطته دونما أي تأخير، يطرح علينا مثالًا مأخوذًا من المجال الإمپريقي، غايته فيه تبيين ما يدعوه التعالي الإمپريقي، ويقصد به تعريف العلم الذي يعتمد الأدوات بأنه يعلو على العلم الذي يعتمد المشاهدة الطبيعية. بقول آخر: توجد بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية فجوة، والأمر عينه في التجريب وفي عملية الوصول إلى الموضوعية مع الأشياء، ولهذا نقول إن التجريب في العلوم الفيزيائية دائمًا ما ينطوي على ما هو متجاوز أو على تعالٍ: معنى ذلك أنه ليس شيئًا منغلقًا على نفسه. هذا ما يراه باشلار جاريًا في العلم المعاصر، فما يطرحه الأخير لا يحد نفسه بالحاضر إنما يتجاوزه ويعلو عليه، كما يتجاوز الأنساق المبكرة في العلم والرياضيات، وذلك بإعادة بنائها على أسس جديدة وتحت برادايم جديد يكمّل بينها عوضًا عن إنكار صلاحيتها بالكامل.[19] فالفيزياء الجزيئية تفترض مثلًا وجود أشياء تتجاوز موضوعات الواقع العادية، وتستخدم أدوات تتجاوز قدرة أعضائنا الحسية. ودرجة الحرارة مثلًا تُرى على جهاز الثرموميتر ولا يُحِسّ بها المرء، ومن دون النظرية لم يكن واحدنا ليعرف إن كان ما يُرى على الجهاز وما يُحَس به يتطابقان مع الظاهرة نفسها. وإلى ذلك، فإن أي عملية تجريب لا تمثل مجرد قراءة لمؤشر ما أو أرقام معينة، إن الأمر أكثر من ذلك. عندئذ يكون على العقلانية التي تعضد أي عملية تجريب أن تقبل بموقف مفتوح النهاية أو يقبل التعديل باستمرار، وهو الموقف عينه الذي يرتبط بما دعوناه التعالي الإمپريقي. إذن، لما كان على إطار العمل الذي يعتمده الفهم أن يُوَسّع دائمًا ويغدو طيّعًا أكثر تجاه التغيير، فإن سيكولوجية العقل العلمي لا بد أن تُبنى مجددًا على تأسيسات جديدة. وملخص القول: ليس من محيص للثقافة العلمية عن إحداث تعديلات عميقة في الفكر.[20]
مجال فلسفة العلم
يلوح إذن أن من الصعب حدّ الحقل الذي تشتغل فيه فلسفة العلم، ولهذا يطلب باشلار من الجميع أن يقدموا له بعض التنازلات. من الفلاسفة علينا أن نطالب بحق استخدام العناصر الفلسفية بفصلها عن الأنساق التي أنشأتها، إذ إن القوة الفلسفية لأي نسق يغلب أحيانًا أن تكون متركزة في تأدية وظيفة معينة، فلماذا إذن –لما كان ذلك كذلك– لا نقدم هذه الوظيفة إلى الفكر العلمي الذي كنا بيّنا حاجته الماسة إلى عون المعلومات الفلسفية؟ من ثَم لا مشكلة في أن نفيد مثلًا من الجهاز الإبستمولوجي الذي تقدمه مقولات كانط في تنظيم الفكر العلمي. قد تعين هذه الانتقائية فلسفةَ العلم الراغبة في مواجهة جميع المهمات التي يفترضها الفكر العلمي، وفي إيلاء الاعتبار لمختلف ضروب النظرية، وفي التشديد على التنوع العظيم الذي نجده في نظريات الاكتشاف والبحث. ثم إن علينا أن نطلب من الفلاسفة أن يتخلصوا من طموح إيجاد وجهة نظر واحدة ثابتة يحكمون من خلالها على علم بكامله مثل علم الفيزياء مثلًا بكل شساعته وتغيراته. إننا بهذا نقطع أنفسنا عن النظر إلى فلسفة العلم من حيث كونها مجرد نزعة جمعية فلسفية تعضد ما بين العناصر المختلفة التي للتجريب والنظرية، والتي أبعد ما تكون عن حيازة الدرجة نفسها من النضج الفلسفي. مقابل هذا، علينا أن نعرّف فلسفة العلوم بأنها فلسفة متناثرة، فلسفة موزعة. في حين أن الفكر الفلسفي سيبدو أنه نهج منظم من العملية نفسها التي هي التشتيت، وأعني نهجًا دقيقًا يحلل مختلف الأقوال والملاحظات الفلسفية المهولة التي تنضوي تحت الأنساق الفلسفية.
أما من العلماء فسنطلب حق إلهاء العلم قليلًا عن عمله الإيجابي، عن إرادته التي تتجه صوب الموضوعية، حتى يغدو ممكنًا أن يكشف عن الأَثَارَة أو الفَضَالة المتصفة بالذاتية التي قد يحدث أن تظل باقية في أكثر مناهجه تحرّيًا للدقة. وعلينا أن نسألهم: كيف تفكرون؟ ما الذي تتلمسونه؟ ما المحاكمات التي تجرونها، والأخطاء التي ترتكبونها؟ اعتمادًا على أي اندفاعة تغيرون آراءكم؟ لماذا تحافظون على الاقتضاب في الحديث عن الشروط السيكولوجية لأي بحث جديد؟ هيا قدموا إلينا، قبل كل شيء، أفكاركم الغامضة، وتناقضاتكم، وأفكاركم الثابتة، وافتراضاتكم غير المبرهنة. لقد كنتم تُدعَون واقعيين. أمِنَ الأكيد فعلًا أن هذه الفلسفة المهولة، واللامترابطة، والخالية من الثنائية والتراتبية، تتطابق فعلًا مع تنوع أفكاركم وحرية فرضياتكم؟ أخبرونا بماذا تفكرون، لا عندما تغادرون المختبر، بل في أثناء تلكم الساعات التي تنقطعون فيها عن حياتكم المعتادة وتدخلون الحياة العلمية. قدموا إلينا، لا الإمپريقية التي تمارسونها في مساءاتكم، إنما العقلانية القوية التي في صباحاتكم، والقبلي الذي يكتنف أحلامكم الرياضية، والدافع وراء مشاريعكم، وحدوسكم غير المعترف بها.[21]
هكذا إذن سيغدو مطالبًا من كل فرضية، وكل مشكلة، وكل تجربة، وكل معادلة، أن تقدم الفلسفة التي تصدر عنها. إن الغاية هي تأسيس فلسفةٍ للتفاصيل الإبستمولوجية، فلسفة تفاضلية وعلمية ستنشئ لاحقةً تتصل بالفلسفة التكاملية التي للفلاسفة. وعمل هذه الفلسفة إنما سيكون ثاويًا في قياس التطور الذي تسلكه أي فكرة، لأن كل فكرة علمية تمر في مراحل تحولية تنتقل فيها من أن تكون صياغة واقعية إلى صياغة عقلانية، وما من تحول يصل تمامه. بمثل هذه الفلسفة سيغدو جليًّا لنا كل الأمور التي يعزلها أو يرفضها أو يشذّبها مفهومٌ ما. كل تعريف علمي يمتلك ظروفًا ديالكتيكية تختلف عن التعريف الاعتيادي، ومن خلال هذه الفلسفة ستتضح لنا هذه الظروف وتتبين لنا المفاهيم بصورة أكثر تفصيلًا.[22] على علمائنا أن يعرفوا أن قياساتهم مهما كانت رهيفة، فإنها بالضرورة غير دقيقة بالتمام، ولذا فهم إنما يحاولون حد وتقليل أخطائهم بقدر المستطاع، وليست الغاية أبدًا ادعاء أننا تخلصنا من أي خطأ ممكن. وهم إلى هذا يدركون أنهم يتعاملون مع مستويات مختلفة من العِظَم Magnitude ومن الواقع، ولذا تراهم محتاجين إلى مقاربات مختلفة توصلهم إلى المعرفة بشكل ناجح؛ هذا ما يدعوه باشلار بالمعرفة عبر «التقريب»، ما يعني إدراك واقعنا بأخذ عدم دقة قياساتنا ووسائلنا الدقة التامة في الاعتبار،[23] وإدراك الحاجة إلى الانتقال من مستوى الحس العادي (مستوى التقريب الأول)، إلى المستوى الأدق الذي هو الجزيئي (مستوى التقريب الثاني). ولذا يكون سعينا إلى معرفة متنامية الدقة باستمرار دون ادعاء الوصول إلى نقطة قد ندعوها النهاية، فالسبيل ستظل مفتوحة.
كل هذا يبين السمات التي ستتصف بها فلسفة النفي: أنها فلسفة توفيقية يمكننا من خلالها أن نجمل كل تجربة وكل الفكر الذي يتعلق بتعريف ما أو مشكل معين أو مفهوم محدد. يبعد هذا فلسفة النفي عن أن تكون سلبيةً سيكولوجيًّا وسبيلًا إلى العدمية، ويقرّبها إلى أن تكون فلسفة تنطلق من نشاط بنائي يدّعي أن العقل نفسه الذي يشتغل في الموضوعات يخضع لعامل التطور أيضًا. إنها إذ تنظر إلى الواقع وتفكر فيه لا تعمد إلى إنكار مواضع الغموض التي تتخلله، بل تفيد منها وتعدل من نفسها باستمرار وتستنهض الفكر. أن نجعل فكرنا ديالكتيكيًّا يعني أن نرفع من ضمان أن الظاهرة الكاملة ستُصنَع علميًّا، وأن كل المتغيرات التي لجمها العلم وحطّ منها بادئ ذي بدء سيعاد توليدها وتُتَناول مجددًا في مجال البحث.[24] لنتذكر قولة باشلار في مستهل كتابه الأول: «أن تعرف يعني أن تصف كي ترمم»،[25] ولذا عليك الأخذ بالمشاهدة الإمپريقية والتنظيم العقلي معًا. مهما ظللت لصيقًا إلى الواقعية، فإنك تستعين بالعناصر العقلية متى ما أردت تنظيم الأشياء والمعطيات. وإذ تتقدم أكثر في التفكير العلمي، تجد أن النظريات تلعب دورًا مطردًا في ذلك.[26] لكن الحاكم الأخير سيظل هو الواقع، إذ إنْ لم يكن يستطاع إنكار أهمية التجريد النظري، فإن الواقع الملموس لا بد أن يكون الموجه الأخير الذي على الفلسفات أن تعدل نفسها على وفقه وعلى وفق العلم «المفتوح» الذي يظل أبدًا في حال تطور وتشذيب. وهذا كما قلنا من قبل هو ما تعلمه باشلار من النظر في العلم الذي عاصره، ومن ثَم وجده يستعين ديالكتيكيًّا بالإمپريقية والعقلانية وما تنطويان عليه من مقولات قبلية فلسفية.
الطابع التقدمي للعلم
لا يخلو الحديث في التقدم الأخلاقي أو الاجتماعي أو سعادة البشر من نزاع، غير أن التقدم العلمي لا يمكن الشك فيه بالنسبة إلى باشلار، وذلك إن نظرنا إليه من زاوية تراتبية المعرفة وجوانبه الفكرية. إن العلم ينطوي على تقدم فلسفي في مفاهيمه العلمية يتخذ بعدًا أفقيًّا، ومثاله الانتقال من الأحيائية عبر الواقعية والوضعية والعقلانية الساذجة وصولًا إلى ما فوق العقلانية. لن تجد فيلسوفًا يقول مثلًا إن ليبنتز كان تقدمًا على ديكارت، أو إن كانط كان تقدمًا على أفلاطون. غير أن الأمر إن تعلق بالمفاهيم العلمية فلا أوضح من التطور الفلسفي الذي يجري عليها، ومن هذا فإن المعرفة العلمية تنظم الفكر، وإن العلم ينظم الفلسفة ذاتها. ويدرس باشلار في كتابه مفهوم الكتلة عبر مراحله الخمس المختلفة كي يبين ما جرى عليه من فلسفات علمية منظمة وذات طابع تقدمي بلا شك، وقمين بالذكر أن منهج باشلار في ذلك تاريخي.
من الصعب تناول المراحل الخمس الطويلة نظرًا إلى طبيعة مقالتنا، غير أنه من الممكن استخلاص ما يلي:
(1) ليس العقل بأي حال قدرةً قوامها التبسيط، إنما هي مَلَكَة توضّح نفسها عبر إغنائها وتزويدها بما يوسع من أفقها: إنها تتقدم باستمرار نحو تعقيد متنامٍ.[27] وفي هذا يشير باشلار إلى أننا نملك احتمالًا أقل في إيجاد أن بساطة أي قانون إنما هي دلالة على صحته، كل الأمر أننا نفضل الأقل تعقيدًا من ناحية برچماتية فقط.[28]
(2) قد تكون بعض النظريات، مثل ميكانيكا نيوتن، مرضيةً للعقل ولكن بالاستقلال عن التعديلات التي تجري في نطاق التجربة. يظل الأمر، مع ذلك، أن الخبرة التي نحصل عليها من التجربة متى ما عارضت هذه النظرية أو استخرجت تصويبات لازمة،كان لازمًا أن تجري بعض التعديلات في المبادئ العقلية.[29] ما يصب في الأمر نفسه فكرة باشلار عن أن التعارض موجود بين الدقة التي تتصف بها الرياضيات مثلًا من جهة والتي يمكن نظرًا إليها أن توصف بأنها مطلقة، واللاكمال الضروري من جهة أخرى الذي ستكون عليه أي محاولة للوصول إلى الدقة في أثناء التعامل مع الواقع – هذا ما يجعل معرفتنا بالواقع تتصف بالدقة بمعنًى نسبي فقط، وليس بالمعنى التام أبدًا، وبذا يكون سيرها تقدميًا.
(3) علينا أن لا نفهم نظرة باشلار إلى تقدم العلم بوصفه خطًّا متصلًا، إذ هذه من الأمور التي نقدها على كونت ومييرسون معًا. على العكس من ذلك، يقرر باشلار وجود نوع من الانفصالات والقطائع[30] في تاريخ العلوم، وتميل المفاهيم الجديدة إلى تكميل القديمة وإغنائها مثلما أشرنا سابقًا بدلًا من أن تكون غايتها هي مناقضتها.
(4) تملك المفاهيم العلمية ما يدعوه باشلار «الملف الشخصي الإبستمولوجي» الذي يسرد تاريخ هذا المفهوم والفلسفات التي تعاقبت عليه، ويكون الملف نسبيًّا لهذا المفهوم المحدد (الجانب التزامني Synchronic)، بحيث لا يكون صالحًا إلا للذهن المعين الذي يتناوله ضمن المرحلة المنتسبة إلى طور محدد من الثقافة (الجانب التعاقبي Diachronic). وقد مرّ مفهوم الكتلة الذي تناوله باشلار بالدراسة بهذه المراحل: الواقعية الساذجة، فالإمپريقية الوضعية الواضحة، فالعقلانية الكلاسية الكانطية المتأثرة بالميكانيكية النيوتيونية، فالعقلانية الكاملة التي تُوِّجت بالنسبية، وأخيرًا العقلانية الديالكتيكية – بهذه الطريقة يريد باشلار أن يؤسس سيكولوجيا للعقل العلمي،[31] وفيها تتبين السمة العقلانية المتزايدة لمفهوم مثل الكتلة: ففي المرحلة المبكرة كانت تُفهم الفكرة من خلال المفاهيم الأحيائية Animist بنحو ذاتي، وإذ تمر عبر الواقعية ومن ثَم الوضعية حيث تُستَخدم بعض القياسات الأداتية لأول مرة، تدخل في فهمها درجات مختلفة من الواقعية ويُربَط مفهوم الكتلة بغيره من المفاهيم (مثل القوة والتسارع في قانون نيوتن الثاني: القوة = الكتلة × التسارع).
(5) ما يريد الإلماع إليه باشلار من كل هذا أمر لا مندوحة عن أخذه في الاعتبار دائمًا، وهو أن تاريخ أي مفهوم قد يتدخل في المعرفة الموضوعية في ذهن أي مفكر معين. معنى ذلك أن الفلاسفة والعلماء بوصفهم أفرادًا معينين، فإنهم يمزجون في مفهومهم عن الكتلة –أو أي مفهوم مشابه– شيئًا من الأطوار التاريخية التي مر فيها،[32] وبهذا يظل تاريخ المفهوم حاضرًا في الأفهام الجديدة. إن أي فلسفات متعلقة بمفهوم ما، مثل الواقعية والعقلانية، لا تكتفي بتكوين تاريخه إنما تتجاوز ذلك إلى بقائها جزءًا نشطًا من سيكولوجيته في أي زمن معين.[33]
العقبة الإبستمولوجية وتاريخ الفكر العلمي
الآن، ما قد يحدث في زمان معين هو أن تغدو مرحلة معينة عقبةً في سبيل التقدم الثقافي وفهم المشاهدات المكتسبة الجديدة، لذا تظهر الحاجة إلى مرحلة أخرى. بهذه الشاكلة يرتبط مفهوم الملف الشخصي الإبستمولوجي بالعقبة الإبستمولوجية: الأول هو حامل العلائم التي تدل على العقبات التي كان على ثقافة ما أن تتغلب عليها.[34] ما يعيننا أكثر على فهم الطابع التقدمي للعلم هو قول باشلار عن أن الحس بالمشكلة أو بوجودها هو ما يطبع العقل العلمي الحق، وذلك لأن المعرفة بجماعها بالنسبة إلى هذا الشخص إنما هي جواب عن سؤال. لو لم يكن يوجد أي سؤال، لما كان للمعرفة العلمية أن توجد. وعليه فلا وجود لشيء يحوز حقيقته بذاته، وما من شيء معطًى بدءًا في النشاط العلمي، وكل شيء يُبنى مجددًا.[35] وفي سبيل اختصار مفهوم العقبة دونما إسهاب فيه، نقول إنها (1) أي معرفة تصير فوق السؤال والنقد أو لا تقود إلى طرح أي أسئلة أخرى، و(2) أي مفهوم يعيق النشاط التساؤلي الذي يتصف به العلم ويغدو فوق النقد أو التعديل.
بإزاء أي عقبة تبرز أهمية أمرين: الأول هو التحليل التاريخي لها، والثاني هو ما يدعوه باشلار «التحليل النفسي» للعقل.[36] بواسطة الأول نفتش عن وجودها في النشاط التعليمي والعلمي المعاصر في سبيل تأكيد ضرورة انفتاح ودينامية الممارسة العلمية في وجه أي تعديل أو تطوير لازم، وعبر الثاني نحرر العقل العلمي من مختلف النزعات والممارسات اللاعقلانية التي قد تحجب عنه الطريق، ومثلما أن التحليل النفسي يمتلك ما يسمى «اللاوعي»، فإن اللاوعي في حال العلم مدفون في ماضي العالِم الفرد وفي الماضي الجمعي الذي يمثل تاريخ العلم بأكمله.[37]
آخر نقطة نوردها في ما يتعلق بالطابع التقدمي للعلم عند باشلار هو تقسيمه[38] تاريخ الفكر العلمي إلى فترات ثلاث:[39] الأولى هي ما قبل العلمية التي تتضمن العصر الكلاسيكي القديم وقرون الإحياء والتجديد، بمعنى أنها تمتد لتشمل القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. في حين تمثل الثانية العصر العلمي، وقد بدأ تكوينها في الجهود التي أبداها العلماء في نهاية القرن الثامن عشر، وتمتد إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أما الثالثة فتمثل العقل العلمي الجديد الذي انطلق بالتحديد في 1905، عندما ظهرت نسبية آينتشاين وغيرت كثيرًا من المفاهيم الأولية التي اعتقدناها ستظل قارةً وثابتةً أبدًا. ضاعفَ العقل في هذه المرحلة الأخيرة اعتراضاته، وفكك كثيرًا من الأفكار الأساسية وأنشأ بينها بعد ذلك ارتباطات جديدة، مجربًا في أثناء ذلك أجرأ التجريدات. ليست هذه بتقسيماتٍ بالغة الدقة، بيد أن ما يرغب باشلار في تحذيرنا منه واضح، إذ يقول: «حتى في ذهن صافٍ توجد مناطق مظلمة، كهوفٌ ما زالت تنتابها الظلال، وآثارٌ ما زالت باقية من القِدَم في طرائق تفكيرنا الجديدة»[40]. من مثل هذه الآثار القديمة التي تظل ملازمة لتفكيرنا يريد باشلار أن يحذرنا، فقد تكون هذه الطرائق القديمة فعالة جدًّا في تقدم العلم في الفترات السابقة، غير أنها تغدو هي والمناهج والمواقف القديمة حجارةً تسد أي مسلك يمكن للعلم التقدم عبره في فترات متأخرة: إنها قد تغدو عقبات إبستمولوجية يجب التخلص منها.
مثال ذلك ما نعلمه من أمر عصر النهضة الأوربي يوم خطا العلم خطوات واسعة بتعلّم الباحث آنذاك الاعتماد على الملاحظة الإمپريقية وبتعامله مع العالَم الملاحظ بدرجة عالية من الفضول والحماسة. عندما حل القرن الثامن عشر، ذاع أمر هذا الفضول المباشر وانتشر بين العلماء المثقفين في محاولاتهم حل بعض أحاجيّ الطبيعة وأسرارها، وصاروا يطرحون سؤال «لماذا» الأشياء على ما هي عليه. مع ذلك فإن عددًا من العلماء الجادين كانوا قد أهملوا مثل هذه الأسئلة الواسعة وقصروا تركيزهم على سؤال «كيف» تقع الظواهر، وبذلك اختزلوا الخبرات إلى عناصرها البسيطة الواقعية. ما نريد قوله من ذلك: حتى لو كان التفاعل مع الطبيعة المباشرة والاستجابة لها أمرًا مفيدًا في وقت ما، فإنه مع الأيام جرّد العلماء من حس المشكلة الضروري لوقوع مثل هذا الاختزال حتى يميّز بين المستويات المختلفة للسؤال. الواقع أن كثيرًا من علماء القرن الثامن عشر الهواة كان مهتمًّا بالجوانب الرائعة والتصويرية للظاهرة أكثر من سعيه إلى فهم القوانين التي تجري على وفقها الظاهرة.[41] والأمر المهم أنه يحدث أحيانًا لهذا الجانب التصويري[42] من الفترة ما قبل العلمية أن يستأنف تدخّله في التقدم الملائم للعقل العلمي متى، مثلًا، ما أفرط أستاذ ما في تركيزه على التأثيرات البصرية المدهشة لتجربة ما، أو عندما يستند في شروحاته وتفسيراته إلى الأمثلة التصويرية بدلًا من التجريد المفهومي.
جماع القول في هذا إن كثيرًا من ما كان مساهمًا في التقدم العلمي ومفسّرًا للظواهر المشاهدة، يغدو في ما بعد عقبةً تعيق سبيل التقدم نحو نوع من التفسير والفهم أشمل أو أكثر احتواءً. كل الأجسام تهوي وتسقط، كل الإشعاعات الضوئية تسلك في خطوط مستقيمة: كان مثل هذه القوانين مفيدًا في سياق معرفتنا السابقة المغلوطة، غير أنه بعدما جاء آينشتاين ظهر قصورها وعدم اضطلاعها بالوصول بنا إلى اكتشافات جديدة. هي ذي صفة العلم المعتمد على «تقريبات» متعاقبة، إذ لا يمكن فيه فصل المعرفة بما هو عام عن الظروف التي تصير فيها هذه المعرفة ممكنة. إن جانبًا مهمًّا من العلم المعاصر يتمثل في أن كل ظاهرة هي نتاج درجة ما من التقريب Approximation. وبهذا أيضًا فإن الموضوعية الحقيقية هي تأكيدنا منهجًا معينًا متنبهًا للحدود المفروضة على القياس باختلاف مستوى العِظَم الذي تجري فيه الخبرة.
ختام
نتعلم من باشلار في نهاية المطاف بعد كل حديثه التاريخي عن العقبات الإبستمولوجية ومسيرة العلم وفترات الفكر العلمي، أن الوعي الذاتي الميثودولوجي يقع في قلب الموضوعية العلمية، وأن هذه الأخيرة لا تقوم على الاتصال المباشر بموضوع الدراسة أو التجربة، إنما على البناء الحذر للتجربة نفسها في الواقع. إلى هذا، نتعلم أن العلم دائمًا ما تقدم إلى ما يتجاوز الدروس الواضحة للواقع الفيزيقي المباشر، ولذا كانت ضرورة تعديل مناهجه وطرائقه بشكل مستمر على وفق الواقع المدروس، أما الأخطاء التي ينطوي عليها العلم في كل زمان فقد تكون إيجابية متى ما أُكِّدَت صحتُها، لأنها تتحدى بذلك المعرفة الحاضرة وتدفع العلم إلى الأمام بتعديل نفسه لمواجهة هذه الأخطاء. إنما العلم نشاط فعال ومستمر التعلم من أخطائه، وليس يكمن منطقه في الذاتية وحدها أو أي سلطة اعتباطية أخرى. وإزاء التركيب الشديد الذي يتسم به الفكر العلمي المعاصر، فإن فلسفة النفي الباشلرية تقف محاولةً تحليل هذا التركيب ومعرفة ما يكوّنه.
ثم إنّ فلسفة النفي ذات نشاط بنائي، وليست تدل باسمها على أنها تسعى تعسفيًا إلى سلب الأمور. إنها لا تنبع من روح فحواه المناقضة، والتفنيد دونما أي دليل، وإثارة مماحكات غامضة، ولا هي بفلسفة تتخلص نسقيًّا من أي قواعد. إنها، على العكس من ذلك، تكون صادقة ضمن نسق معين من القواعد، ولذا فإنها لا تعترف بالتناقضات الداخلية. ولئن كانت فلسفة النفي ديالكتيكية، فإنها لا تكون بذلك قبلية مثلما هو الأمر مع ديالكتيك هيچل وغيره. بادئ ذي بدء، ليس هذا الديالكتيك الذي تتكلم عليه فلسفة النفي مكونًا من متناقضات تنفي الواحدة منها الأخرى، فهي كما قلنا لا تعترف بالتناقض الداخلي. ما تريده هو فقط أن تحاذي بين مختلف الأنساق بحيث تضعها في علاقة تكاملية في ما بينها، وهي بذلك حذرة حتى لا تنفي شيئين معًا في آن واحد. معنى ذلك أنها تنفي بشرط أن تتضمن مجددًا ما تنفيه، فالهندسة الإقليدية تشتمل على اللاإقليدية، والميكانيكا اللانيوتونية تشتمل على النيوتونية، والميكانيكا الموجية تشتمل على الميكانيكا النسبية.[43] الديالكتيك الهيچلي ينتهي إلى وحدة تركيبية بين الضدين، أما الديالكتيك الباشلري فإلى «تكامل» بين ثنائيات لا يوجد تناقض داخلي بينها.
إضافة إلى ما سبق، فإننا في فلسفة النفي نبقي على العقل والعلم معًا: العلم يبقي العقل على اطلاع، في حين أن على العقل طاعة العلم في أكثر مراحله تطورًا، ذلك أن العلم يظل في عملية تطورية. وينبغي أن لا يقصر العقل نفسه على التجربة المباشرة، إذ عليه عوضًا عن هذا وضع نفسه في اتزان مع أكثر ضروب التجربة غنًى في بنائها. لا بد للـمباشر أن يخضع في كل الظروف للـمبني.[44] لكل معرفة ظروف وشروط، ولا بد للعقل عمومًا في هذه الحال أن يكيف نفسه معها. إن فلسفة النفي لا تعترف بطريقة واحدة للتعقل والاستدلال، وعلى العقل أن يكون مرنًا فيتحرّى هذه الطرائق ويفهم تمايزاتها وحاجتنا إليها. لم يكن المذهب التقليدي الذي يتبنى عقلًا مطلقًا وثابتًا إلا فلسفة من الفلسفات، وهو الآن فلسفة بالية عفّى الزمان عليها.[45]
المراجع
- Roch C. Smith: Gaston Bachelard: Philosopher of Science and Imagination, (revised and updated), (State University of New York, 2016).
- Owen N. Hillman: Émile Meyerson On Scientific Explanation, published in PSA (The Philosophy of Science Association), Philosophy of Science, vol. 5, no. 1 (Jan., 1938).
- Stanley Keeling: Philosophy In France: The Doctrines of M. Émile Meyerson, Published in Journal of Philosophical Studies, vol. 1, no. 1 (Jan., 1926), (Cambridge University Press).
- Gaston Bachelard, The Philosophy of No: A Philosophy of the New Scientific Mind, (The Orion Press, 1968).
- John Lechte: Fifty Key Contemporary Thinkers: From Structuralism to Post-Humanism, (New York: Routledge, 2008).
- Gaston Bachelard: The New Scientific Spirit, trans. Arthur Goldhammer; Foreword by Patrick A. Heelan (Boston, Beacon Press, 1984).
- Gaston Bachelard: Essai sur la Connaissance Approchée, (Paris, 1973).
- Gaston Bachelard: The Formation of the Scientific Mind: A Contribution to a Psychoanalysis of the Objective Knowledge, intro. & trans. Mary McAllester Jones, (UK: The Bath Press, 2002).
[1] أحمد زياد، متخرج في الجامعة الأردنية قسم الفلسفة، ومحرر في دار الرافدين.
[2] Here are some of those works: Essai sur la Connaissance approchée (1928); Étude sur l’évolution d’un Problème de Physique: la Propagation Thermique dans les Solides (1928); La Valeur Inductive de la Relativité (1929); La Pluralisme Cohérent de la Chimie Moderne (1932); L’Intuition de l’instant (1932); Le Nouvel Esprit Scientifique (1934); La Dialectique de la Durée (1936).
[3] وهذا اسم كتاب له أيضًا نشر في عام 1953. بالفرنسية: Le Matérialisme rationnel.
[4] See: Roch C. Smith: Gaston Bachelard: Philosopher of Science and Imagination, (revised and updated), ch. 1, The Man and his Times, The Intellectual Atmosphere, (State University of New York, 2016), pp. 2-3.
[5] See: Owen N. Hillman: Émile Meyerson On Scientific Explanation, published in PSA (The Philosophy of Science Association), Philosophy of Science, vol. 5, no. 1 (Jan., 1938), pp. 73-80.
[6] نعلم أن مهمة العلم منذ أوچست كونت (ليس يعني هذا بأي شكل أنه هو أول من قرر ذلك، فهذا ادعاء باطل) هي ببساطة أن يصف الظواهر الواقعة، وأن يكشف عن العلاقات بين الموضوعات الظاهرية ويعبر عنها في قوانين أو قضايا عامة. ثم مع المناخ الوضعي الذي تخلل حقل فلسفة العلم، غدا إهمال الانشغالات الميتافيزيقية بدعةً لازمة وتركزت مهمة المعرفة العلمية في تحليل الظواهر والصيغ القانونية واللغة المستخدمة. الآن لا ينكر مييرسون قيمة مثل هذه المفاهيم، لكنه يدعو إلى رفضها باعتبارها غير كافية. انظر:
Stanley Keeling: Philosophy In France: The Doctrines of M. Émile Meyerson, Published in Journal of Philosophical Studies, vol. 1, no. 1 (Jan., 1926), pp. 93-100 (Cambridge University Press).
[7] See: Roch C. Smith, op. cit., p. 3.
[8] See: G. C. Waterson’s preface in: Gaston Bachelard, The Philosophy of No: A Philosophy of the New Scientific Mind, (The Orion Press, 1968), p. xi.
[9] See: The Philosophy of No, ibid., p. xii.
[10] Roch. C Smith, op. cit., ch. 3, The Epistemological Profile, p. 40.
[11] The Philosophy of No, op. cit., ch. 1, Philosophic Thought and the Scientific Mind, pt. I, pp. 3-4. (Note that all translations are and, henceforth, will be freely done).
[12] Ibid., p. 4.
[13] Ibid., pp. 4-5.
[14] Ibid., p. 6.
[15] John Lechte: Fifty Key Contemporary Thinkers: From Structuralism to Post-Humanism, Early Structuralism, Bachelard, Theory and Practice in Science, (New York: Routledge, 2008), p. 4.
[16] Gaston Bachelard: The New Scientific Spirit, trans. Arthur Goldhammer; Foreword by Patrick A. Heelan (Boston, Beacon Press, 1984), p. 4.
[17] The Philosophy of No, op. cit., p. 8.
[18] Ibid., p. 9.
[19] Roch C. Smith, op. cit., ch. 3, The New Scientific Mind, A Transcendent Science, p. 25.
[20] Ibid., p. 10.
[21] Ibid., p. 11.
[22] Ibid., p. 12.
[23] Roch C. Smith, op. cit., ch. 2, Early Epistemology, p. 11.
[24] The Philosophy of No, op. cit., p. 14.
[25] Gaston Bachelard: Essai sur la Connaissance Approchée, (Paris, 1973), p. 9.
[26] The Philosophy of No, op. cit., ch. 1, p. 17.
[27] Ibid., p. 23.
[28] Essai sur la Connaissance Approchée, op. cit., p. 93.
[29] The Philosophy of No, op. cit., p. 24.
[30] لم يستخدم باشلار مفهوم «القطيعة» كثيرًا ألبتة بقدر ما كان الأمر مع لوي ألتوسير الذي أشهر مثل هذا المصطلح.
[31] Ibid., ch. 2, The Notion of an Epistemological Profile, p. 36.
[32] Roch C. Smith, op. cit., ch. 3, The Epistemological Profile, p. 41.
[33] Ibid.
[34] The Philosophy of No, op. cit., p. 43.
[35] Gaston Bachelard: The Formation of the Scientific Mind: A Contribution to a Psychoanalysis of the Objective Knowledge, ch. 1, The Idea of the Epistemological Obstacle, I, intro. & trans. Mary McAllester Jones, (UK: The Bath Press, 2002), p. 25.
[36] Ibid., II, p. 29.
[37] Roch C. Smith., op. cit., ch. 3, The Epistemological Obstacle, p. 34.
[38] وقد اعتبره هو نفسه فجًّا، وطرحه له إنما هو في سبيل التوضيح المبدئي لما يريد الكلام عليه لاحقًا في كتابه «تشكيل العقل العلمي».
[39] The Formation of the Scientific Mind, op. cit., pp. 18-19.
[40] Ibid., p. 19.
[41] Roch C. Smith, op. cit., p. 35.
[42] مثال ذلك ما شاع في القرن الثامن عشر عن الإسفنج أو صورة «الإسفنجية»، إذ اعتقدوها قادرة على تقديم تفسير كافٍ لسمات الهواء أو بعض سمات الكهرباء، ما يحدث في مثل هذه الأمثلة التصويرية برأي باشلار أنها تتجاوز كونها تعبيرًا فتغدو بديلًا لأي تفسير حقيقي. إننا في مثل هذه الأمثلة نستبدل بالتفسير التعبير، وبالمفاهيم الصور، ولذا يقول باشلار: «إن الرموز أو الاستعارات المباشرة تشكل خطرًا على تقدم العقل العلمي، إذ إنها لا تكون دائمًا مجرد صور عابرة، بل تشجع على قيام ضرب من الفكر مستقل بذاته يميل إلى الاكتمال أو الرضاء في مجال الصورة [فقط]».
The Formation of the Scientific Mind, op. cit., p. 88; & Roch. C. Smith, op. cit., p. 37.
[43] The Philosophy of No, op. cit., p. 117.
[44] Ibid., p. 123.
[45] Ibid.