حدثَ كثيرًا أن وقع حَجْرُ الآباء من طرف الأبناء بذريعة فقدانهم الصواب في إدارة شؤون حياتهم، وبخاصة ما له صلة بالأملاك والثروة، إمّا لطمع فيها من دون انتظار الأجل المحتوم، وإمّا لتهرّب من القيام على رعايتهم كبارًا، وإمّا لكون الآباء فقدوا السيطرة على أنفسهم لعاهة بسبب تقدّم في العمر، وربما تكون هنالك أسباب أخرى، وأيّا كانت الظروف الذي تدفع بالأبناء الوارثين إلى حجر الآباء المورّثين، فالمتوقّع منهم رعايتهم رعاية تناسب مقام الأبوّة، وليس ينبغي حجزهم طمعًا في مال، أو ضجرًا من حال، فذلك أمر لا تقرّه الأعراف، ولا تعترف به الشرائع، ولا تصادق عليه القوانين، ومع ذلك، فسجلّ التاريخ ملآن بالأمثلة على ذلك.
لم يصمت بعض الآباء الذين تعرضّوا لمحَن جحود الأبناء على ما لحق بهم من حيف، فحاولوا إبطال التُهم التي لفّقوها ضدّهم، والغالب أنهم كانوا يأتون بشهود على سلامتهم، أو وثائق صحية تؤكّد عافيتهم، ولكن ندر أن أثبت أحدهم سلامته العقلية والصحية بدليل أدبي يقدّمه لهيئة المحكمة يثبت فيها براءته من تهمة خلعها عليه أبناؤه طمعًا في ثروته، ومن تلك النوادر ما وقع لسوفوكليس، الكاتب المسرحي الإغريقي الشهير، فتحت طائلة شعور ابنه، واسمه «أيوفون»، بالخوف على ثروة أبيه، قدّم لقضاة أثينا طلب الحجر عليه، فطبقًا لدعواه، اشتطّ الأب في أعماله الغريبة، وفَقَد الرشد، وما عاد مؤهلًا للتصرّف في أملاك العائلة، فزوالها مؤكّد ما دام الشيخ لا يعي حاله، وعليه ينبغي فرض الحجر عليه للحيلولة دون ذلك.
والحال لم تكن كذلك، فسوفوكليس، لم يفقد رُشده، ولا طاش صوابه، إنما كانت له محظيّة يتسرّى بها بين كتابة مسرحية وأخرى، وأنجب منها ابنًا، ما أثار خشية الابن الشرعي من أن تؤول تركة الأب إلى أخيه غير الشرعي، فليس يجوز لوارث آخر أن يحوز ثروة الأب، وهو من نتاج متعة عابرة. لا تتوفّر حجّة قانونية أو اجتماعية تؤيّد حق الابن غير الشرعي في الاستئثار بالتركة، وذلك أمر شائع في معظم المجتمعات التي تعدّ الأملاك العائلية حقًّا حصريًا بالورثة الشرعيين، وتحرم سواهم منها، وعلى هَدي هذا العرف تجرأ أيوفون على أبيه، بطلب حجره، فقد أراد استباق الأمر قبل وقوعه.
قَبلتْ هيئة المحكمة النظر في التهمة، وبدل أن تبادر إلى ردع الابن الذي أساء لأبيه، وهو عمود أعمدة المسرح في بلاد اليونان، ورجل دولة ذو صيت تبوأ أعلى المناصب الرسمية، وصاحب تقوى مذ صباه في معابد الإغريق، وعوض زجر الابن، وردّ دعوته، فقد ارتأت النظر فيها للتأكد من حال شيخ اتّهم بقصور في عقله، وفيما كان القضاة يتداولون الأمر توجّه سوفوكليس بنفسه إلى المحكمة، وقد فرغ لتوّه من كتابة مسرحية «أوديب في كولون»، وبدل أن يطلب إليهم نقض دعوى ابنه، وعرض أدّلة تثبت أنه مالك لزمام أمره، خاطبهم قائلًا «إنْ كنتُ أنا سوفوكليس، فأنا لستُ خائر القوى، وإن كنتُ خائر القوى، فأنا لستُ سوفوكليس»، ثم قرأ عليهم فصولًا من تلك المأساة العظيمة، التي وقفت على الأيام الأخيرة من حياة الملك أوديب. ولم يلبث القضاة طويلًا في حال من الدهشة، فقضوا ببراءته، فهو في لياقة عقلية لا غبار عليها، وبذلك أبطلوا دعوى الابن حالما فرغَ الأب من قراءة المشهد الأخير من مسرحيته، ولم يكتفوا بذلك، بل رافقوه في موكب جماعي إلى منزله، فمثله ينبغي تكريمه لا تحقيره.
حُسب الدفاع عن سوفوكليس في تاريخ الأدب لصالح القضاة الذين أثبت لهم الشاعر الفَطِن أنه في كامل سلامته البدنية والعقلية والتخيلية، فهو لم يداهنهم ببراهن الجدل، وأدلّة الحِجاج، ولا بتقارير الأطباء، ومواثيق الشهود، بل قرأ عليهم مشاهد من آخر مسرحياته، ولم ينف التهمة عن نفسه، ولم يتفادها بالإنكار، بل أسلم رقبته لرسن العدالة، بأن تنكّر بقناع أوديب الملك الضرير المشرّد، وهو يبحث عن المكان الذي ينقضي فيه أجله، وبدل الثناء على تلك المأساة التي وقفت على حياة ملك عبثت به الأقدار، وصيّرته آثمًا بقتل أبيه والزواج من أمه، أصدر القضاة قرارًا عاجلًا ببراءته، وزادوا بأن حملوه جماعة إلى بيته. ولو لم يقع الأمر بالخاتمة التي انتهى إليها سوفوكليس، وسيق إلى ملجأ العجزة، وفُرض عليه الحجر، لما عرف أحد نهاية أوديب.
تطوي سجلّات التقاضي أحكامًا كثيرة بين جائرة ومقسطة، ولكن دليل إثبات البراءة الذي قدّمه سوفوكليس للدفاع عن نفسه كان فريدًا من نوعه، وقوبل حكم القضاة بالثناء من طرف مؤرّخي الأدب، غير أن مونتيني، وهو يتحدّث عن تقلّب أفعال الإنسان بحسب الأحوال التي يكون فيها، لم يؤيّد القرار، فلا يجوز الاعتماد على مأساة كتبها سوفوكليس دليلًا على أنه «كان ذا دراية بتدبير أمور بيته»[1] فإن كان الشاعر بارعًا في إدارة دفّة جملة من الشخصيات المتخيّلة في مأساة استوحاها من مرويات العصور السالفة، واصطنع لها حبكة متماسكة، واستخلص منها عِبرة، فذلك لا يؤكد قدرته على إدارة شؤون عائلته التي يحتمل أن يعرّض أموالها للتلف، فهذا، في نظر مونتيني، ليس من جنس ذاك، ويلزم الفصل بين سلامة عقل واقعي وسلامة عقل كتابي.
حينما نعاين موقف مونتيني من تلك القضية التي طواها التاريخ، نشعر بأنه استاء، بعد ألفي سنة، من براءة كاتب عظيم الأهمية من تهمة جائرة ألصقت به في شيخوخته، ليس لتصفية حساب مع سوفوكليس، إنما لاستقامة مونتيني في عدم خلط الأمور ببعضها، فسلامة خيالات الشاعر غير تخليطاته العائلية. ولكن ما الذي جعل المحكمة تردّ دعوى الابن بناء على عمل أدبي متخيّل استوحى أساطير الأولين، وتعيد الاعتبار للأب؟ هل ثمة تواطؤ برّأ ساحة الأب من جنحة التخريف، وفساد العقل؟ هل كان القضاة من هواة المسرح أم أنهم كانوا من المعجبين بأعمال الشاعر الكبير التي ظلّت حاضرة على مسارح أثينا مدة زادت على نصف قرن قبل ذلك؟
لست قاضي عدل لأبتّ في صلاحية أدلّة نزع الأهلية عن سوفوكليس، ولا في إثبات صلاح عقله، فالقضاة المتمرّسون بالحكم أدرى منّي بذلك، وأسلافهم اليونانيون أعلم بالسياق الذي جرت فيه تلك الوقائع، فقد حكموا على سلامة عقل شاعر من براعة ما كان يتخيّل، وأبطلوا دعوى ابنه لتعذّر إنفاذها في حقّ أبٍ له القدرة البارعة على سبك أثر أدبي. وبعبارة بديلة تؤدّي الغاية ذاتها، فقد برّأت المحكمةُ الشاعر من قصور عقله، وأثبتت فطنته، بدلالة ما خطر له في خياله، وليس ما قام به في بيته، فإن كان معافى العقل في عالمه المتخيّل، فهل يلزم عنه أن يكون معافى في إدارة أملاكه؟ وهل تجنّى الابن على أبيه، ولم يراع مقامه، في إقدامه على طلب الحجر عليه، أم أن الشيخ فقدَ رشده، فعلًا، وتصابى، في أخريات عمره، وبدأ التخليط؟ صمت تاريخ القضاء عن كثير من ذلك، ولم يأت على ذكره، إنما يعرّف قرّاء المآسي الإغريقية أن سوفوكليس هو الكاتب الأوسط بين العمالقة الثلاثة من شعرائها: أسخيلوس الذي يكبره، ويوربيدس الذي يصغره، وكان هو في طليعتهم، كهوميروس بين أقرانه من شعراء الملاحم، وفاق فيها كلّ شعراء عصره، ونال تقديرًا طوال حياته، وإلى ذلك تولّى مسؤوليات رفيعة الشأن في بلاده، وكان على صلة قوية بأعلام عصره مثل هيرودوتس، وسقراط، وأفلاطون، وبركليس.
وأحسبُ أن الدليل الذي حال دون حجر سوفوكليس بحاجة إلى وقفة تأويلية، وليست قانونية، ليتبيّن لنا إن كان صالحًا ليكون دليل براءة أم لا. فقد كتب سوفوكليس مسرحية «أوديب في كولون» قبيل عام من وفاته، أو نحو ذلك، وهي، بالقطع، آخر مآسيه الكبرى، والوحيدة التي لم يرها على المسرح، فما وقع تمثيلها في حياته، إنما أشرف على عرضها حفيده، الذي حمل اسمه، وهو من ابنه أيوفون الذي أقام الحجر عليه، وليس من ابن محظيّته، وفيها تجلّت تقوى أوديب المشرّد في ربوع اليونان، وهو يتضرّع للآلهة لوضع نهاية لحياة عجّت بالآثام التي ناء بها من دون أن يدري. كان تشرّد أوديب مؤلمًا لكلّ قارئ عرف نبله، وصلاحه، وجسامة الآثام التي وقعت على كاهله، وهو ينحدر بسلالة قدموس السورية الأصل من مجدها العظيم إلى أبناء يتقاتلون على بوابات طيبة، ويسفك كلّ منهم دم الآخر، وقد دُمغوا بعار أخلاقي إلى الأبد.
كانت محنة أوديب شائعة بين الأثينيّين العارفين بأساطيرهم القديمة، وقد عالجها شعراء الملاحم والمآسي، ورواها الإخباريون، ووقف عليها الفلاسفة، فهل ينكر أحد على القضاة معرفة ما كان شائعًا في تراثهم التاريخي والأدبي؟ الأرجح أنهم أخذوا في حسبانهم أن استسلام أوديب لمصيره الأخير، وهو مصير ديني، كناية عن استسلام سوفوكليس في نهاية عمره، وقد عرف عنه الورع، فقد خدم كاهنًا في أحد المعابد، ونثر في تضاعيف أعماله روحًا تقوية لا تخفى على قارئ لأعماله، وإلى ذلك فقد خالف أقرانه من الشعراء في تقرير المكان الأخير لملك طيبة، فجعله كولون، مسقط رأس سوفوكليس، وليست أثينا، كما تروي الأساطير، وهنالك من فتحة تقود إلى العالم السفلي دفع بملك أعمى إلى ما كان ينتظره، ويبحث عنه. وليس يُعرف إن حلّ الملك المعذّب في الفردوس أم في الجحيم، فذلك الانقسام في المآل الأخير للمرء بعد موته لم يكن واضحًا في خيال قدامى الإغريق.
وقفت مسرحية «أوديب في كولون» على خاتمة ملك انتقم من نفسه لخطأ لم يتعمّد اقترافه، وها قد أصبحت دليل براءة على سلامة وعي مؤلّفها. ولكن، مهلًا، فهل كانت لدى الشاعر بقايا من نوازع جنسية تجعله ينزلق إلى معاشرة محظية فات أوانها منذ زمن طويل بحيث يورث ابنه منها تركته؟ عن شيء من ذلك أجاب أفلاطون في أول محاورة «الجمهورية». لم يأت الجواب على لسان سقراط، كما جرت العادة في كل محاوراته ما خلا «الشرائع»، وهي خاتمتها، إنما ورد على لسان «سيفالوس/ كيفالوس» وهو ثريّ مسنّ زاره سقراط في بيته، وسأله عن شعوره بالحياة، وقد أحدقت به الشيخوخة من كل جانب، فهل لنوازع الجسد من أثر في الأفكار والأفعال؟ فكان جوابه «دعني أخبرك أنه عندما تخبوا الملذات الجسدية، فالأعظم إليّ ملذات ومفاتن الحديث». ولدعم رأيه في ذلك نقل سيفالوس لسقراط جواب «الشاعر المسنّ سوفوكليس» عن سؤال شبيه وجه إليه «هل يتلاءم الحبّ مع المسنٌين؟ وهل بقيتَ الرجل الذي كنتَ؟» فكان جوابه «هربتُ، بكل سرور، من الشيء الذي تتكلّمون عنه، وأشعر بأنني تخلّصت من سيّد مجنون». وكان تعليق سيفالوس على ذلك هو الآتي: «تبدو لي كلماته صالحة كما لو كانت في الوقت الذي تفوّه بها، فالشيخوخة تملك إحساسًا كبيرًا بالهدوء دون شك، وحرية من الأشياء التي ذكرها. إن الرغبات الجسدية عندما تضعف، ويسترخي قيدها، كما قال سوفوكليس، نكون بعدها متحرّرين ليس من قبضة سيد مجنون فقط، بل من قبضة أسياد عديدين»[2].
يُفهم الآتي من ذاك الجواب: أقرّ سوفوكليس أنه كان شغوفًا بالنساء في شبابه، ولكن ذلك أمسى ذكرى بعيدة، وها هو يحبو صوب حتفه بشيخوخة متقدّمة، ما عاد الشاعر مجنونًا بشيء له صلة برغبات الجسد، إنما بالأحاديث الفاتنة، إن لم نقل برواية الأساطير القديمة. راق جواب سوفوكليس لسيفالوس، فهو نظيره في السنّ؛ فالشيخوخة تطوي تحت جناحيها فوران الغرائز، وتؤمن الطمأنينة لصاحبها، فيتخلّص من النمور الهائجة في جسده، فهو يبحث عن أنيس يشاركه العيش لا عن متعة الفراش. استكثر أيوفون على أبيه طيب المساكنة في أخريات عمره، فأراد الحجر عليه ليستأثر بأمواله، لكن الأب تفطّن، وحمل إلى القضاء دليل براءته، مأساة جليلة القدر تفكّ القيود من حول المعاصم، وتقطّع حبل المشانق.
إذن، فنحن بإزاء أمرين شبه مُحالين، فلا الرجل الذي تولّى دفة قضايا كثيرة في حياته، وواظب على الكتابة الواعية حتى وفاته، بعاجز عن إدارة بيته، ليدفع بابنه للحجر عليه، ولا هو يدرج خلف الحسان يطلب متعة لا وجود لها بدلالة ما نسب إليه في محاورة الجمهورية، فقد تحرّر من سطوة النمور، فلا سبب إلا مخاوف أيوفون من ذهاب الإرث إلى أخيه من غير أمه، لكن قضاة أثينا، شهدوا للأب سلامته من أيّ تهمة قد تضعه تحت طائلة الحجر عليه، بل حملوه في موكب إلى بيته، وبذلك قطعوا دابر الشكّ في كلّ ما يتّصل به، وهذا أمر يحسب لهم من وجهة نظر أنصار الأدب، ولكن، من وجه آخر، أين كان أولئك القضاة أو أشباههم من التهمة التي حكموا فيها بالموت على سقراط، في تلك المدة تقريبًا، بتهمة إفساده شباب أثينا بأفكاره الفلسفية التي كان يجادل بها في «الأغورا»؟ هل كانت غاية المحاور المشّاء إفساد أهل أثينا، وهو من دعاة الفضيلة، أم أنه كان يحاورهم في أحوالهم، ويسعى إلى بثّ العدل والتقوى في أوساطهم؟ فلماذا أجمعوا على قتل فيلسوف أيقظ سُبات مجتمع بكامله، وقضوا ببراءة شاعر عن حادث مفرد؟ أم أنّ الشاعر أفطن من الفيلسوف؟
يعود ذلك، في تقديري، إلى التفريق بين الفلسفة والأدب، وإلى التفريق بين السياسة العامة والكيد الشخصي، فالراجح أن أهل العدالة غضّوا الطرف عن أعرافها حينما وجدوا أن حوارات الفيلسوف مع مواطنيهم قد جرّدتهم، وجرّدت أقرانهم الساسة، من الهيبة التي هم في أمسّ الحاجة إليها، فالتهكّم، وتوليد الأفكار بالجدل العقلي، يدفع الناس إلى خلع العذار في مجتمع أثينا، فيما تبجيل الملوك، والتضرّع للآلهة، واستعادة أمجاد القدماء، وعدم خدش هيبة القضاة، يطري النفوس، ويبطل مفعول أية تهمة، كيدية كانت أم صحيحة. قضى سوفوكليس نحبه من فرط سعادته، كما يشاع، وقتل سقراط بغدر صريح، كما هو ثابت. وغاية ما نريد إثارته هنا هو وضع مفهوم العدالة، أنصفت أو ظلمت، تحت شلال التفكير السليم.
أعفت تراجيديا إغريقية مؤلّفها من الحجر عليه من طرف قضاة أثينا، ولكن حدث ما أهو أجلّ من ذلك، وأعظم، بعد زهاء ألف سنة، فقد أعفت قصيدة صاحبها من القتل المعلن على الملأ، أي أنها أعفت شاعرًا من فتوى نطق لها نبيّ. حدث ذلك لكعب بن زهير، أحد فحول الشعراء المخضرمين، فقد أهدر الرسول محمد دمه لهجاء تلفظ به في حقّه بقصيدة ركيكة في المبنى والمعنى، حينما اتهم أخاه بجيرا، باحتساء الراح معه «شربتَ مع المأمور كأسا رويّة»، وهو ما يربأ عنه نبّي، فكان أن «غضب وأهدر دمه»[3]، وزاد بأن أمر أتباعه بتنفيذ حكمه حيثما وجدوه «مَنْ لقي منكم كعب بن زهير فليقتله»[4]. وإلى ذلك، كان الشاعر، قد شبّب بالمحصنات من المسلمات، وأولهنّ أمّ هانئ بنت أبي طالب، أي ابنة عمّ الرسول، وشقيقة الإمام علي رفيق دربه، وهي أول نساء قريش اللواتي بايعنه في الكعبة عند فتح مكة[5]، وكانت أثيرة لديه حتى أنه خطبها، ولكنه لم ينكحها[6]، والأهم من ذلك، فأمّ هانئ هي صاحبة البيت الذي أسرى منه إلى المسجد الأقصى، كما قال ابن الأثير [7]، فلما بلغه تشبيب كعب بها «أمر بقتله، وقطع لسانه»[8].
إذن، اقترف شاعر مشرك إثمًا مزدوجا بحقّ نبيّ الله، طعن دينه، وخدش عرضه، فكان أن أهدر دمه للأول، وأمر بقطع لسانه للثاني، فلا تجوز الحياة لشاعر شنّع بلسانه على رسول الله، وعلى أهل بيته، ومع ذلك، فقد عفا الرسول عن الشاعر بقصيدة واحدة قالها فيه، بل حظي بما لم يحظ به شاعر في الإسلام، حينما نهض الرسول في المسجد، وألقى عليه بردته، فآلت إليه عباءة آخر أنبياء الله. وكما ذكر ابن رشيق، فإذ التمس الشاعر عفوا، فلم ينكره الرسول عليه، إنما سخا به عليه، وخلع عليه بردته، فما «كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه، ووهبه بردته»[9]. وعلى غرار ما قام به سوفوكليس من حمل مسرحيته، والذهاب بها إلى دار العدالة حيث القضاة، حمل كعب قصيدته في خياله الشعري، وذهب بها إلى مسجد المدينة، حيث كان الرسول وجماعته يؤدون صلاة الصبح، وقد فرغوا بعدها يتداولون في أمورهم جماعة من الأنصار والمهاجرين، وهنالك بدل أن يقدّم الدلائل على براءته من تهمة التجديف بحق رسول الإسلام، ويعتذر عن تشبيبه بالمسلمات القانتات، فاجأ القوم بقصيدة كادت تهرق دمه في نصفها الأول، فقد تغزّل بمعشوقته سعاد، وانفطار قلبه لفراقها، وتذكّر طعم ريقها، فهو كالخمر المعتقة اللذيذة، وأطال في ذلك كثيرًا، فارتجل زهاء خمسة عشرة بيتًا في محاسنها، والناس في ترقّب من عدو الله، وهم يجمجمون، وهو لا يكتفي بإلقاء شعره أمام من قضى بإهدار دمه، بل يشبّب بملهمته في أول مساجد الإسلام بين جمع من المؤمنين الذين التفوّا حول نبيّهم «هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ»، ثم يتمادى في تشبيه ريقها بالخمرة المحرّمة في كتاب الله «تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلول». ثم يسرف بخمسة عشرة بيتًا غيرها في تصوير حاله الصعبة يقطع الفيافي على راحلته، وهي تنوء به «مازلتُ أقتطع البيداء مدّرعا جُنح الظلام وثوبُ الليل مسبول».
لم يأت قدوم الشاعر إلى المسجد عفو الخاطر، بل عن فطنة، ولم يبالغ في ذكر ترحاله على ناقته عن رغبة في التوسّل، بل عن دهاء، فقد حلّ بين أعداء أُمروا بسفك دمه، وهو يلتئمون حول نبيّهم في مسجد اقتحمه مُشرك نال صراحة من قدوتهم ببذيء القول، وأطنب في الوقوف على مفاتن عشيقته، وأحوال ناقته، فقد كان يعلم بأنهم يعرفون، ويعرف رسولهم، أن الشاعر أخذ بعُرف راسخ غايته التمهيد للموضوع، والموضوع الذي توقّعه الرسول وأتباعه هو مزيج من الاعتذار والمديح، واستغرق زهاء ثلاثين بيتًا هي متن القصيدة، ولبّ غرضها، وهو ما شافع له عن كلّ ذنوبه، وبخاصة حينما بلغ بيت القصيد بقوله «إنّ الرسول لسيف يُستضاء به مهند من سيوف الله مسلول»، فكان أن وقف الرسول، وخلع عليه بردته، فأبرأه من الإثم الذي اقترفه، وصحّح له أنه لم يكن مأمورًا من الشيطان بل هو المأمون الذي ائتمنه الله على عباده، وامتنع عن قراءة البيت الذي هجاه به الشاعر، وطلب من أبي بكر الصدّيق أن ينشده، فلا يجوز للرسول إنشاد الشعر، وليس ينبغي أن يتلفّظ به، فكان يكسره، أي ينثر نظامه، التزامًا بمضمون الآية الكريمة التي حظرت عليه قول الشعر أو إنشاده «وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ».
هل انفعل الرسول بما سمع من مديح فاق ما ناله السابقون من ملوك الزمان، أم أنه راعى تقاليد الاعتذار عند العرب، وما يتوجّب على ذلك من العفو عن الإثم أيا كان ذنبه؟ يبدو حسم الأمر غير متاح الآن، وليس هذا السياق هو محلّه المناسب، فليست غايتي إثبات أو نفي ذلك، إنما الوقوف على فطنة الشاعر في نزع مفعول فتوى بالقتل أو الحَجر، ومع ذلك، فيروى أنّ الرسول كان يحبّ الشعر، ولكنه يمتنع عليه، ودرءًا لشبهة الإلهام الشعري الذي يشاع أنه يأتي بفعل الشياطين، كان يأبى قوله، فإذا لزم الأمر في موقف يحتاج تمثيله بالشعر يقوم بكسر وزنه، فغايته منه الاعتبار وليس التغنّي. ما الذي أسفر عنه سوء التفاهم بين شاعر ونبي: قوّضت قصيدة واحدة قرارًا صريحًا بهدر دم شاعر، وقطع لسانه، شاعر ينتسب إلى أعظم سلالات الشعر العربي، كما انتسب سوفوكليس إلى نخبة شعراء اليونان، ومنذ ذلك الوقت، جبّتْ لاميّة كعب ما سبقها من أشعار له، وبها دشّن غرضًا شعريًا جديدًا لم يكن مألوفًا عند العرب، وهو ما يعرف بالبُرديّات، حينا، وبنهج البُردة، حينا آخر، أي بقصائد اختصّت بمدح الرسول، واستقام أمرها، وضربت جذرًا عريقًا في الشعر العربي مازال يطرح الثمار إلى الآن.
وإذ تبرّئ قصيدة أو مسرحية صاحبها من حكم بالقتل أو الحجر، فليس ذلك بقليل، فلطالما تسبّبت قصيدة بقتل صاحبها، فقد دفع بعض الشعراء حياتهم ثمنًا لقصيدة، أو حتى لمقطع من قصيدة، كما حدث، على سبيل المثال، لطرفة بن العبد، ووضاح اليمن، وبشار بن برد، وأبي الطيّب المتنبّي، ومن حسن حظّ كعب بن زهير، الذي كان في موقف أعقد من سابقيه ولاحقيه، أن وقع بين يدي نبّي خيمت عليه الرحمة بعد صلاة الصبح، فبقصيدة واحدة تحولّ مصيره من شريد في بوادي العرب، لا ملاذ له أينما ولّى وجهه، إلى صحابي ينطق بالحكمة، والموعظة الحسنة، في شعره حتى مات.
وأكتفي، بمثالي سوفوكليس وكعب بن زهير، في إظهار أهمية الدليل الأدبي المعبّر عن الفطنة في إثبات البراءة أمام القضاة، أو في انتزاعها بعد صدور حكم بالقتل من نبي بين أتباعه، فالوثيقة الأدبية المتخيّلة قد تكون أشّد أثرًا في النفس لتغيير قرار صدر بحقّ شخص من أية وثيقة لإثبات البراءة. وإذ أسلم كعب بن زهير، وصلح إسلامه، كما تجمع الروايات على ذلك، ولم يعد إلى ذكر معاصي الجاهلية، وتوفي هانئ البال بعد مدة طويلة من وفاة الرسول، فإن سوفوكليس لم يطل به المقام في أثينا، فسرعان ما توفي بعد أن ختم حياته بالمأساة التي برّأته من تهمة التخليط، وحالت من دون حجره، كما حالت لامية كعب من دون قتله.
إلامَ يعود كلّ ذلك؟ أيعود إلى ما يحدثه الشعر من أثر بالغ في النفس حتى تلين، وتبتهج، وتستبدل حكمًا بحكم أم إلى فطنة الشاعر الذي لا يوجد لديه غير فطنته؟ قد وقفت على الاحتمال الأول، فيما مضى من سطور هذه المقالة، وأختمها بالثاني، فمن بين ما أمسى معروفًا اقتران الشعر بالفطنة، فأن تكون شاعرًا هو أن تكون فطنًا، فلا شعر حقيقيًا بلا فطنة، والفطنة شعور غير قابل للوصف يحدس بأمور على غاية من الأهمية، لكنه لا يقرّرها كما هي، فهو يلمح إليها، ولا يصرّح بها، وقوامه السبك الدقيق، والايقاع المنتظم، وقد سبق ابن رشيق غيره في وصف سيرورة انتقال كلام العرب من النثر إلى الشعر ليكون تعبيرًا عن الفطنة، أي من اعتبار الأحداث أمرًا بديهيا إلى التفطّن بها على سبيل الشعور، والإدراك الغامض، فقال «كان الكلام كله منثورًا، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعرافها، وذِكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد، لتهزّ أنفسها إلى الكرم، وتدلّ أبناءها إلى حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تمّ لهم وزنه سمّوه شعرًا؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا»[10] .
إذن، فإحدى غايات الشعر العظيم هي الفطنة، فالتفطّن لا يغيب عن عالم الشعر والشعراء، بل تقترن قيمة الشعر بتفطّن الشاعر لأمور لم يفطن لها الآخرون، فله صلة وثيقة بالشعور العميق، والاحساس الرقيق، أي أن الشعر ابن التبصّر، والنباهة، والدهاء، فما غايته إدراك العالم كما هو بل الهجس الرمزي المبهم به، ولهذا قيل بأن الفطنة هي «التنبّه على المعنى» أي التفطّن له، أو هي «ابتداء المعرفة من وجه غامض»[11]. وتلك هي وظيفة الشعر، ومهمة الشاعر. أو هي، أي الفطنة، بحسب الراغب الاصفهاني «سرعة إدراك ما يقصد إشكاله»[12] لا يثمر الشعر إلا فيما يقصد إشكاله، وما سوى ذلك، فمن مهمة النثر، فلا عجب أن يتفطّن الشعراء إلى ما لا يتفطّن إليه سواهم، فوجدت فطنتهم ضالّتها في مجلس قضاة ومجلس نبي.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] مشيل دو مونتيني، المقالات، ترجمة فريد الزاهي، الرياض، دار معنى للنشر والتوزيع، 2021، الكتاب الثاني، ص19.
[2] أفلاطون، المحاورات الكاملة، محاورة الجمهورية، ترجمة شوقي تمراز، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994، ص43-44.
[3] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987، ج2، ص 146.
[4] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ج17، ص86.
[5] الكامل في التاريخ، ج2، ص129.
[9] ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق محمد عبد القادر، بيروت، دار الكتب العلمية، ج1، ص22.
[10] العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج1، ص 17.
[11] أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، تحقيق محمد إبراهيم سليم، القاهرة، دار العلم والثقافة، ص85.
[12] الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، بيروت، 1980، ص106.