
لتحميل الحوار [wp-svg-icons icon=”file-pdf” wrap=”i”]: حوار فريد الزاهي – منصة معنى
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
1- الدكتور فريد، يشرّفنا ويسعدنا استقبالك لإجراء هذا الحوار. بداية، حدّثنا عن فكر عصر الأنوار، واهتمامك به. وبرأيك، لماذا لم تحظَ مقالات مونتيني بهذه الأهمية في عصر الأنوار، بالرغم من القيمة الفكرية التي تحملها والتي تخوّل لها ذلك؟ ومتى وكيف امتدَّ أثرهذا الفكر في الفكر العربي؟
في تكويننا الأدبي والثقافي العام، لم يكن من الممكن أن نتفادى مفكريّ عصر الأنوار، فلاسفة كانوا أو أدباء من قبيل مونتسكيو، وفولتير، وباسكال، وسبينوزا، وديكارت وغيرهم. إنهم يشكلون الاستمرار المعرفي للفكر اليوناني وتحويلًا له نحو الفردية، والحريّة، والعقلانية. بيد أن قراءتي لمونتيني ظلّت دومًا شذرية، لأني تعرّفت عليه في ثنايا مصنفات جاءت بعده، استشهادًا أو تحليلًا أو نقدًا. أما قولكِ إنه لم يحظ بأهمية كبرى في عصر الأنوار، فهو أمر يفنّده الأثر الذي تركه في مَن جاؤوا بعده، وهم كُثر، من قبيل مونتسكيو، وفولتير، وفرنسيس بيكون، وديفيد هيوم، وشكسبير، وآدم سميث، ونيتشه، بالرغم من أن بليز باسكال كان من أكبر منتقديه وأشدّهم شراسة. وهو ما يعني أن المقالات كانت مبشرًا بعصر أنوار سوف يتشكّل في القرن الثامن عشر، غدا فيه الفرد والذات محورًا للفكر وسيّد نفسه.
ولا يشك أحد في أن فكر عصر الأنوار، الذي بدأ إشعاعه في أواسط القرن السابع عشر، ليمتد على طول القرن الثامن عشر، كان فكر الحريّة والفردانية، الحداثة الفكرية والعقلانية ومجاوزة فكر اللاهوت والكنيسة والقدرية، باتجاه الحريّة والأخوّة والمساواة التي جسَّدتها الثورة الفرنسية. وهو بشكل ما امتداد متطوّر لفكر عصر النهضة، بطابعه الإنساني وانزياحه عن السكولائية وعن هيمنة الكنيسة، والإقطاع، والملكية. أما الفكر العربي الحديث والمعاصر، فإن موقع مونتيني فيه ضئيل إن لم يكن غيابًا تامًا. ولعلَّ هذا الأمر ناجمٌ عن غياب ترجمة جزئية أو كلية له، اللهم منتخبات من المقالات صدرت بداية الثمانينيات، نقلها نبيه صقر ضمن ترجمته لكتاب «مونتاني»، لأندريه كريسون.
تأتي ترجمة مونتيني إلى العربية متأخرة عن وقت صدورها بما يفوق الأربعة قرون، وعن سياق ترجمتها المرجعيّ في عصر «نهضتنا»، بما يفوق القرن الواحد. وهو أمرٌ راجع إلى الطابع الانتقائي و«الانتهازي» للثقافة العربية الذي جعلها، في تحوّلاتها المتسارعة، تتهافت على ترجمة الجديد وفقًا لاحتياجاتها الفكرية، السياسية، والثقافية، مما خلق ثغرات كبرى في الترجمة أصبحنا اليوم نحسّ بفظاعتها. وذلك طبعًا، هو ما جعل هذا الكاتب المميَّز لا يحظى، إلى حدود صدور ترجمتنا، إلّا ببعض الإحالات والمقتطفات، مع أنه كان أحد المراجع الأساس لكتّابنا الذين يمارسون التأليف باللغات الأجنبية. وهذه الترجمة تأتي في سياق اهتمام مترجمين عرب (ومفكرين)، من قبيل عبد الله العروي، وعبد السلام الشدادي بترجمة مونتسكيو، ولوتريامون، وغيرهما في الآونة الأخيرة. والمبتغى منها سد ثغرة التنوير التي نعيشها في ثقافتنا العربية التي تتطوّر في جميع الاتجاهات من غير أن تبني ذاتها بشكل تطوّري متجانس، ودعوة إلى إعادة توكيد مفاهيم من قبيل الذات، والحريّة، وغيرها، التي لم تستتبَّ بعد في فضائنا السياسي والثقافي والفكري.
2- «أنا أيَّها القارىء؛ مادة كتابي». بمن تأثّر مونتيني في كتابته للمقالات، ما هو موقع مونتيني في الفكر الغربي، وكيف وجدت أثر انتقال التعبير من اللغة اللاتينية إلى اللغة الفرنسية في فكر ولغة كتاب المقالات؟
فعلًا، أدرك مونتيني منذ البداية أن قدَره ككاتب يتمثّل في ثلاثة أمور: الكتابة عن الذات، الكتابة باللغة الفرنسية في الوقت الذي كان معاصروه يؤلفون باللاتينية، وابتداع أسلوب خاص به. كانت الكتب التي تُنشر في عصره تخضع للعقائدية الأخلاقية التي فرضتها السوربون. أما مونتيني فقد اختار أن يكون هو مادة كتابه وموضوعه، بحيث نراه يتحدّث عن نفسه وأسلوبه في الحياة وعن مرضه وصحته وبطريقة شبه عفوية، تمامًا كما يتكلم. فنحن نخال أنه أحيانًا يحادثنا من غير أن يفقد قوله نبر الكلام المباشر.
بيد أن المقالات كُتبت في مدة طويلة وخضعت للتعديل. ولذلك فنحن نرى أن كتابته سوف تنتقل من الصرامة إلى الشفافية والسلاسة والانسياب. وهذا نابع من تمكنه من فن القول ومن ممارسته الطويلة للتأليف، وتآلفه مع اللغة وسيطرته على أفكاره. وهو مثل معاصريه تأثّر كثيرًا بسينيكا وبالرواقيين، قبل أن يتجه اهتمامه إلى لوقريتس والأبيقورية. ومع أنه يرتاد مؤلفات كثيرة وأسماء شعراء ومفكرين عديدين إلا أن سينيكا وبلوتارخوس يبدوان الأكثر تأثيرًا في المقالات. فالأول يجعل الإرادة سبيلًا للانتصار على الألم. أما الثاني فيجعله كما نلاحظ ذلك مرتابًا في الحقيقة المطلقة والوصول إليها. وعند قراءته لسيكسوس أمبريقوس في أواخر حياته، ستصبح الارتيابية هي الفلسفة التي سوف يتبناها نهائيًا.
يعتبر مونتيني الفلسفة دواءً يغنيه عن الطب، ومن ثمّ هجومه عليه وعلى الأطباء. وفلسفته فطرية طبيعية ملائمة للحياة اليومية. إنها حكمة عادية تدعو لحريّة الذات، وعدم الجدية معها، والاحتراس من كافة أنواع التطرّف وتبني التسامح، والتمتع بالحياة بشكل كامل وعدم الخوف من الملذات، من غير سذاجة أو جشع.
ترك مونتيني وراءه آثارًا متضاربة. فباسكال مثلًا اعتبره ناقص الإيمان ونزقًا. غير أن فولتير أبان عن حبّه له مع اختلافه معه في تعرية أهواء الإنسان وضعفه. وأشاد به نيتشه مع شوبنهاور، معتبران أن كتابته تضاعف فينا فرحة الحياة. أما ارتيابه فكان وراء منهج الشك لدى ديكارت وباسكال بالأخص.
والحقيقة أن القفزة التي قام بها مونتيني باختيار اللغة الفرنسية الوليدة آنذاك، كان يخدم بشكل ما فكره المبني على العفوية والسليقة، من جهة، ولكيلا يمنح كتابه طابعًا دوغمائيًا وسكولائيًا، كانت تفرضه اللغة اللاتينية، ومن ثمَّ، الحديث بلغة الشعب التي لم يكن يقرؤها الكثيرون حينئذ. هكذا نجد أنفسنا أمام ظاهرة في الكتابة والفكر واللغة سوف تمنح لعصر الأنوار لغة جديدة وفكرًا مستجدًا ومعهما خلخلة لمفهوم الحقيقة وللوثوقية الفكرية.
3- ما هي أبرز التحديات والصعوبات التي واجهتك أثناء ترجمة كتاب المقالات، وكيف تغلّبت عليها؟ وأيضًا حدّثنا، عن شعورك الوجداني تجاه كتاب المقالات، بعد نقله إلى اللغة العربية، وكيف وجدت تفاعل العالم العربي معه؟
لا تنسِ سيدتي أنني نشرت ترجمات لمؤلفات مستعصية على الترجمة، بلغتها وفكرها: جاك دريدا، وجوليا كريستيفا، وعبد الكبير الخطيبي، وهنري كوربان، وكلود أوليي … في وقت مبكر من حياتي الثقافية. فما بالك بعد ثلاثة عقود من ذلك؟ حين يقول دريدا: كل شيء قابل للترجمة، فهو يعتبر هذه الأخيرة كتابة جديدة مفكرة ومؤولة للنصّ المترجم، تشتغل على مسارب الفكر في اللغة وفي الآن نفسه على ما تحمله اللغة إلى الفكر. من ثمَّ فإن كل ترجمة هي تجربة جديدة تفترض المواجهة مع النصّ، ومحاولات الترويض، حتى لو كانت لغته تبدو في الظاهر بسيطة. علاقة المترجم بالترجمة هي دومًا مغامرة لا يعرف عواقبها عليه؛ فالنصوص متفاوتة ومتباينة في «الصعوبة»، تجعل المترجم يحمل ثقافته وذكاءه ونباهته وحسّه سلاحًا دائمًا كي لا يهزمه النصّ الغريب، أو على الأقل كي لا يجعله يفقد ماء الوجه، أي ثقته في نفسه وفي إمكاناته. وحين تكون اللغة هي واجهة هذه المغامرة ففيها يتبدّى كل شيء. النصّ المترجَم الذي يصل إلى القارئ هو ثمرة صراع مرير مع النفس ومع الآخر، وفي الآن نفسه هو علاقة غواية يمارسها المترجم بكافة كيانه مع النصّ الآخر، حتى يروّض عناده، وحرونه، وكبرياءه، ويستكشف مواطنه الخبيئة، ويسلم من مسارب متاهاته الغامضة والملتبسة. وليس من الغريب أن يقول دريدا مرّةً أخرى بأن المترجم هو أفضل قارئ للنصّ: لا لأنه يترجمه فقط، ولكن لأنه لكي يترجمه يكون قد ارتاد كافة الخلفيات التي أحاطت بكتابته، ولأنه يعيش لحظة كتابته من جديد، لكن بلغةٍ أخرى.
في هذه التجربة يعيش المترجم محنته في صمت مع النصّ، يراود ثُنْياته، ويستكشف أحيانًا عناصر الحشو فيه، وأحيانًا أخرى تناقضاته المبطنة، وتأتآته ولحظات تردده … وفي الآن نفسه يصطدم بالجوانب التي لا تسع فيها لغته كثافته الفكرية والتعبيرية. ثمّة نصوص ممتنعة عن الترجمة، لكن الممتنع ليس محال الترجمة (الشِّعر مثلًا). وثمّة نصوص متمنِّعة عن الترجمة، أي أنها لا تفضي بمكنوناتها لك من الوهلة الأولى، بل تتطلّب منك مجاهدة وجهدًا وكدّا يستنفر منك الحواس، والفكر، والذكاء، والتأويل … وثمّة نصوص تجمع بين هذا وذاك. لكن، بساطة اللغة ليست أبدًا عنوانًا ليُسر الترجمة. فأخشى ما أخشاه هو هذا النوع من النصوص.
أول ما يواجه المترجم في المقالات هو ضخامتها (1600 صفحة)، فأضخم كتاب ترجمته لا تفوق صفحاته الخمسمائة. هذه الضخامة لا يخفف من عبئها ووطأتها إلا كون الكتاب جاء في شكل أفكار وشذرات (مقالات). وهو الأمر الذي يمنح للمترجم أمرين إيجابيين: ألا يحسّ بالملل في الانتقال من فكرة إلى أخرى ومن موضوع لآخر، وأن يحسّ من ناحية ثانية أن الكتاب بأجزائه الثلاثة الضخمة أشبه بسبحة طويلة عليه أن يمرّر بين أنامل لغته حباتها واحدةً واحدةً وهو مغمض العينين، تركيزًا وتفكّرًا وانعزالًا عن أي شيء آخر. هذا ما يدعو بشكل ما إلى نوع من الخلوة الصوفية أو الميتافيزيقية، التي تجعل الوقت يمرّ من مقالة إلى مقالة من غير أن تحسّ بسيلانه، حتى تجد نفسك في نهاية الكتاب الثالث … وهذا بالضبط ما حدث لي.
ثم هناك لغة النصّ. وهنا لا بد من توضيح هام جدًا. ما يُتداول في فرنسا منذ أواخر القرن التاسع عشر ليس النصّ الأصل لمونتيني، المكتوب بالفرنسية القديمة، التي كتب بها أيضًا رابليه وغيره، وإنما صيغ جديدة بفرنسية حديثة. وقد اخترتُ إحداها من دون أن يغيب عنّي النصّ الأصل أو الصيغ الأخرى، حين أصطدم هنا وهناك بما يثير فيَّ حسّ البحث والاستقصاء … فلغة النصّ تظلّ مع ذلك حاملة لأسلوب صاحبها ونظرته للعالم. وهي لغة تستقي فكرها من اليونانية واللاتينية ومن الفكر اليوناني والروماني. فلا تجد صفحة لا يستشهد فيها بمفكرين من قبيل سينيكا أو بلوتارخوس. نحن هنا إذن، أمام لحظة انتقالية في الفكر والثقافة، تستبطن ما يلائمها من الثقافات السابقة لكي تبني فكرًا جديدًا قائمًا على أفق جديد. هذا ما يجعل المقالات مصنَّفًا موسوعيًا. لكن المترجم العارف بعيون الثقافة العربية (الجاحظ، والأصفهاني، وابن النديم، والدميري …)، يكون متآلفًا مع هذه الكتابة الأنسكلوبيدية. من ناحية ثالثة، تغدو بعض المقاطع من الاستغلاق على الفهم ومن التشابك والإبهام بحيث يصبح البحث والتقصّي واستدعاء مقالات سابقة، أو لاحقة ضروريًا لفكّ استغلاقها وتحريرها من لغتها لاستضافتها في لغتها الجديدة.
أما الأمر الأخير، لا الآخِر، فيتمثّل في تكرار بعض الأفكار، أو تخصيص أكثر من مئة صفحة لقضية لاهوتية مسيحية قد لا تهمّ القارئ العربي. وأفترض أن المترجم التونسي الذي أصدر، في الوقت نفسه، ترجمة في جزئين، قد حذف عنوةً هذه الأجزاء، في حين أني اعتبرتُ من جهتي أن الأمانة لا تكمن في ترجمة أمينة لغةً فقط، وإنما في ترجمة كاملة شاملة تجعل القارئ يكون له الحظ نفسه في الاطلاع الكامل على المقالات بأتمّها.
وربما ستكونين قد لاحظتِ أني تفاديت اللغة «الحديثة» كثيرًا، لأتبنى لغة لها نبر الكتابة في أوائل القرن الماضي لدى طه حسين وجيله، وذلك توخيًا لأمرين: أن تلك هي لغة النهضة العربية في أوجها الحديث الناصع، وهي من ثمَّ أكثر ملاءمة للغة مفكِّر للنهضة الأوروبية ومبشِّر بعصر الأنوار. فهذه اللغة تيسّر القراءة من جهة، وتمنحها نبرًا يعبّر عن بُعد النصّ زمنًا وثقافة عنّا.
أما سؤالكِ الثاني، فيذكّرني بسعادتي لما تلقيت الانطباعات الأولى من قُرّاء اقتنوه من معرض الرياض لهذا العام، ومن بعض المثقفين الذين اطلعوا على الترجمة. بل إن أحد الكتّاب ظلّ ينشر مقاطع منه في صفحته بالفيسبوك لمدة طويلة. وقد بلغني أن الطبعة الأولى نفدت في غضون شهور قليلة. بيد أن الحسرة التي ألمّت بي تتعلق فقط بعدم استطاعة القُرّاء ببلدان المغرب من الحصول على الكتاب، لمشكلات في التوزيع، أرجو أن تُحلّ حتى تخف هذه الحسرة.
4- أين النصّ الأصل لمقالات مونتيني، هل تُرجم إلى لغات أخرى، لماذا لم تنقل عنه مباشرة بما أنك مطلّع عليه كما ذكرت، وما مدى حداثة معايير صيغة النصّ الذي اخترته مقارنةً بمعايير الصيغة الفرنسية القديمة؟
الفرنسية القديمة، كانت تكتب بطريقةٍ مغايرة للفرنسية الحديثة، وهي التي كتبَ بها مونتيني، رابليه وغيرهما. وهي ليست مستغلقة على الفهم، غير أن بها اختلافات كثيرة عن الفرنسية الحديثة التي كتب بها بروست أو بودلير، سواءً في الكلمات أو التراكيب. والصيغ الحديثة للمقالات، التي قام بها متخصصون في الفرنسية القديمة، تصوغها بطرائق وقواعد الفرنسية الحديثة، إضافة إلى تحقيق بعض الإشارات والإحالات لأمور لها علاقة بعصر مونتيني وبالثقافة والأحداث السياسية والشخصيات والإحالات والشواهد. لهذا فاعتمادنا على إحدى هذه الصيغ هو أشبه باعتمادنا على نسخةٍ محقَّقة من كتب المعري أو الجاحظ. فالتحقيق يرتبط بهذه الصيغ الحديثة ويساعد القارئ، ومعه المترجم، في امتلاك ناصية النصّ فهمًا وترجمةً. وحتى لا يكون هناك أي لبس، فترجمتنا اليوم لمونتيني ليست عن لغةٍ وسيطة (أي عن لغة أخرى)، وإنما عن الفرنسية. والفرنسية القديمة أقرب للفرنسية الحديثة في أمور كثيرة جدًا؛ إذا ما قارنا مثلًا اليونانية الحديثة بلغة أفلاطون وأرسطو.
5- عشقك للفلسفة مقابل دراستك وتوسّعك في مجال الأدب المقارن، كيف ترى ذلك. ولماذا اتجهت منذ البدء لدراسة الفلسفة؟
الحقيقة أن حُبّ الأدب كان مدخلي إلى عشق الفلسفة. قرأتُ مبكرًا جرجي زيدان، ثم نجيب محفوظ، ودرويش، وسميح القاسم، وغيرهم، غير أن ملاقاتي لجان بول سارتر أثارت لدي عشقًا جديدًا وأنا لم أجاوز ربيعي الخامس عشر. التهمتُ باللغة الفرنسية مسرحياته واهتممت بفكره الوجودي و«العبثي»، ومواقفه المعادية للاستعمار. وحين قرأتُ كتاب الخطيبي عن الصهيونية في الفكر (ولم يكن بعد قد ترجم للغة العربية)، وأنا بعد تلميذ في السنة الأولى من الثانوي، استمتعت بنقده اللاذع والساخر لهذا الأخير… فبدأت قراءاتي الفلسفية تتعمق تدريجيًا من غير أن أتخلّى عن التهام النصوص الأدبية العالمية والعربية، شعرًا ورواية، قصةً ونقدًا.
نشرتُ أولى نصوصي عام 1977، عن الرواية وأولى ترجماتي في بداية الثمانينيات. هكذا وجدتُ نفسي أقع في حبّين مزدوجين، ومتلازمين: الأدب والفلسفة، العربية والفرنسية … قبل أن ألج شعبة الفلسفة سنتين بعد ذلك وأحوز على شهادة الإجازة ببحث (كان الأول من نوعه في شعب الفلسفة آنذاك بالمغرب)، عن الكتابة والاختلاف لدى المفكر عبد الكبير الخطيبي. كان الاشتغال على هذا المؤلف المتعدد (فيلسوف، وروائي، وعالم اجتماع، وكاتب عن الفنون)، يلائم ازدواجي اللغوي والثقافي. بل إنه جرّني إلى مدارات جديدة أهمها: أنثربولوجيا الجسد، والفنون البصرية.
بيد أن الدولة حرمتني من منحة الدكتوراة لدراسة فلسفة اللغة في الخارج (نظرًا لأنها اعتبرتني مناضلًا ثقافيًا في ذلك الحين)، فحرّرني ذلك من أي التزام، فدرست الأدب المقارن والثقافة الإسلامية. ومرّةً أخرى وجدت نفسي في ذلك البرزخ. فجاءت أطروحة دكتوراة السلك الثالث فلسفية كلية، مثلها في ذلك مثل أطروحة الدكتوراة، خاصة وأني لم أجد عند عودتي من الدراسة في السوربون منصبًا في الفلسفة، فاكتفيت بتدريس الأدب الحديث لمدة سبع سنوات، قبل أن أتفرّغ للبحث العلمي.
ما كان يحدث لي هو أنّي أعيش مفارقة الدراسة والاهتمام الشخصي. فلقد عمّقتُ حبّي للأدب وأنا أدرس الفلسفة، وعمّقتُ عشقي للفلسفة وأنا أدرس الأدب وأدرّسه. ففي السنوات الأولى لتدريسي الأدب ترجمتُ جاك دريدا، وجوليا كريستيفا، وعبد الكبير الخطيبي، وكأنني بذلك كنت أخشى أن يغمرني الأدب فأفقد ذلك المصدر الذي يوقظ حيوتي ويشحذ فكري. بل إن كتابي الأول عن الحكاية والمتخيل (1990)، كان عبارة عن دراسة تأويلية فينومينولوجية للنصوص الأدبية.
هكذا ترين أن ازدواجي اللساني: (الكتابة باللغتين العربية والفرنسية)، قد تغذّى من حبّي المزدوَج للفلسفة والأدب، فنحن نرى بعينين ونسمع بيدين، وحبّي هذا قد استوى فيه حظ السمع والبصر، كما يقول ابن عربي.
6- من خلال تجربتك، واهتمامك بقطبينِ من أقطاب الفلسفة والأدب: سارتر والخطيبي، ما الذي تقوله لمن يزعم بأن الفلسفة والأدب لا يتقاطعان، ومَن يوقظ مَن؟ حدّثنا.
أصل الفكر الفلسفي شِعر؛ فالفلاسفة الأيونيون، كهيرقليطس وبارمنيدس وأنكمانيس وغيرهم، تركوا لنا فكرهم الفلسفي في صيغة شِعرية. ومصنفات أفلاطون يمتزج فيها الحكي بالحوار المسرحي بالأساطيريات بالخيال الأدبي. لكن مع أرسطو صار بناء الفكر والنصّ الفلسفي صارمًا ويخضع لبناء منطقي عقلي هو ما سيمنحنا في ما بعد السكولائية في العصور الوسطى. وليس من الصدفة أو الغرابة أن نيتشه يعود للتراجيديا كما لحكم الأولين ليبني نصًّا فلسفيًا عميقًا بطريقةٍ شِعرية. كما أن فكر هايدجر في حواره مع الشاعر هولدرلين سوف يعتبر بأن الفكر (الفلسفة)، يسير نحو القصيدة. ونحن نجد لدى بعض الفلاسفة العرب هذا التمازج كما هو الحال لدى ابن طفيل في حيّ بن يقظان. من ثمّ لا غرو في أن علاقة الشِّعري والحكائي (وهما عضد الأدب)، بالفلسفة سابق على وجود الفلسفة من حيث هي فكر مستقل. وأنا بشكل ما تلميذ لهذا التيار الفلسفي الفكري الذي يملك عينًا على الفلسفة وأخرى على الأدب؛ أعني تيار فكر الاختلاف كما تبلور بشكل ما لدى جيل دولوز وجاك دريدا، ولدى عبد الكبير الخطيبي. فحين يقرأ جيل دولوز كافكا، وجاك دريدا ألبير كامو أو مالارمي، نجد أنفسنا في مجال يتداخل فيه الأدبي بالفلسفي، من حيث إن الأدب فكرٌ يفلسف الحياة شِعرًا وحكايةً، وأن الفلسفة تستوحي منه العديد من معطياتها.
والمقالات تحقّق أيضًا هذا الهدف، باعتبار أنها كتابة أدبية لا ينفصل فيها الفكري الفلسفي التأملي عن سرد الحياة الشخصية … هذا التعاضد، حين يتحقق في نصٍّ ما يغدو نصًا إشكاليًا، منفتحًا على جمالية الأدب وعلى عمق الفكر الفلسفي في الآن نفسه، ويبني نفيه في البرزخ الفاصل والواصل بين نمطين للتفكير ظلّا متواشجين في الكتابة إلى أن فرّق بينهما التفكير العقلاني المنطقي الذي حوّل الفلسفة إلى تأمل رياضي منطقي ووضعي في العالم.
7- باعتبار الصورة «الصيغة الخصوصية لتمظهر الوجود من حيث عدم مثوله»، كما ذكرت، فيما وراء هذا المفهوم، كيف سطَت الصورة على الكلمة، كيف تدرَجت صورة الآخر في الفكر الفلسفي عند الفلاسفة، ومتى ظهر فكر الاختلاف؟
نحن نجد فكر الاختلاف بشكل جنيني لدى نيتشه، من حيث إنه فكر مجاوز للثنائيات الأخلاقية والقيمية التي انبنى عليها الفكر الغربي عمومًا. الآخر والجسد لدى نيتشه هو ما ألغي وهُمّش بسبب هيمنة هذه الميتافيزيقا. بيد أننا نجد تقعيد فكر الاختلاف لدى هايدغر في مقال بعنوان: «الهوية والاختلاف»، في الكتاب الثاني من سلسلة كتبه في «المسائل». وهو يبني الاختلاف في الهوية نفسها، لأن الهوية لا تعني التطابق، والاختلاف يخترق كل هوية ممكنة. وسنجد صدى لهذا الفكر بشكل أوضح لدى جاك دريدا منذ «الكتابة والاختلاف»، كما لدى جيل دولوز خاصةً في كتابه «التكرار والاختلاف».
يلزمنا التفرقة بين صورة الآخر، وفكر الاختلاف الذي يتحدّث عن الغيرية (alterity)، من حيث إن الأولى تعني نظرة نبنيها ثقافيًا عن الآخر، تكون متخيلة ويمكن دراستها أنثربولوجيًا بالأخص. وفي هذا الإطار تدخل دراسة إدوارد سعيد عن الاستشراق، وكيف صنع صوَره للآخر وفقًا لمنظورات ذات خلفيات ناقشها وانتقدها. بيد أن الغيرية مفهوم فلسفي ذو بعد سوسيولوجي وأنثربولوجي، وهي تخترق مفهوم النوع الاجتماعي، والأقليات العرقية والثقافية، وغير ذلك … وهو مفهوم بات يخترق مجمل الأبحاث الجديدة «الجندرية»، وما بعد الكولونيالية وغيرها … إلى حدّ أنه صار بديلًا لمفهوم الاختلاف.
ونحن نعيش عصر الصورة منذ بدايات السينما ودخول التلفزيون إلى البيوت، وما تبع ذلك من تحوّلات أدت إلى هيمنة الصورة على كافة مناحي التواصل، في شكلها الرقمي الشمولي. وبهذا الصدد يمكننا التمييز بين الصورة «التقليدية»، التي أنتجتها الفوتوغرافيا، والسينما، والتلفزيون، وبين الصورة الرقمية التي نعيش امتداداتها في هذه الفترة. كانت الصورة في شكلها الأول تحوّلًا كبيرًا جعلها تتعايش مع اللغة واللفظ، وتمنح منه وتصنع فنونًا جديدة وتفرض نفسها وسيطًا تواصليًا، وصانعًا للذاكرة البشرية ولأرشيفها. أما الصورة اليوم فإنها حوّلت الاقتصاد التواصلي إلى مبادلات تفاعلية، لم تعد فيه الصورة وسيطًا بل محيطًا للعلاقات البشرية. كنا نعيش مع الصور، ثم صرنا نعيش بها، أما اليوم فإننا نعيش فيها.
لقد انتقلنا كما يقول ريجيس دوبري من عصر الكتابة إلى عصر الصورة. لكن الصورة لم تعدم الكتابة بل استبطنتها ومنحتها سبلًا جديدة. عصر الصورة هو في الحقيقة عصر الشفهية الجديدة، المبنية على تواصلات أضحت اليوم تتطور بشكل متسارع، بحيث إن اللغة صارت بنفسها بصرية. هل سيموت الكتاب والكتابة؟ أبدًا، إنه مثل طائر الفينيق الذي سينبعث في أشكال وصور جديدة، لأن الصورة غيّرت لدينا من طبيعة الكتاب والقراءة والتواصل … وهو أمر نعيشه كل وقت بأشكال جدية ومستجدة تتحكم فيها تقنية المعلوميات الرقمية. لكن هل نحن نعرف تاريخ الصورة والتصوير لدينا؟
قد نعثر على مصنفات من قبيل تاريخ الأدب العربي، أو تاريخ السينما العربية، أو كتبًا تتطرّق لتاريخ الرواية… إلخ. وهو منحى اتبع فيه العرب أيضًا المسعى التأريخي الغربي. فالغرب نفسه لم يدرك تاريخ تطور فنونه البصرية إلا بشكل جزئي، من خلال التأريخ للمسرح، والسينما، والفوتوغرافيا، والفن التشكيلي. ولم يعد مفهوم الصورة مفهومًا إجرائيًا وشموليًا إلا في العقود الأخيرة. والحال أن مفهوم الصورة لدينا ومنذ البداية أكثر شمولية، غير أننا لم ننتبه له بشكل كافٍ؛ لأننا لا نقرأ لغتنا بشكل مباشر. فالتصوير لدينا لفظ يعني في الآن نفسه النحت، والكتابة، والخطّ، والتصوير الفوتوغرافي، والتشكيل الفني. إنه مفهوم جامع يلزمنا أن نستقي منه ما جعله بشكل ما مفهومًا جامعًا لتحليل مختلف الممارسات البصرية لدينا. فاللغة العربية تمنحنا القوة المفهومية التي يلزم علينا، على طريقة هايدغر، أن نبني بها قوّتنا المفهومية والفكرية المطلوبة، عوض أن نعمد إلى استقاء كل شيء من الفكر الغربي ولغته.
هل لي أن أقول من باب تحصيل الحاصل إن الصورة صارت اليوم، رغمًا عن تمركزنا حول اللغة، أداة تواصل فعالة تنفذ إلى ما لم تنفذ إليه اللغة، وتصل إلى درجة من لا وعينا لم تبلغها شذرات الكلام؟
إذا كانت الثقافة العربية، بفعل موروثها اللغوي، لم تهتم بالصورة إلا باعتبارها مجالًا للاستهلاك، من الصورة الفوتوغرافية إلى صورة مواقع التواصل الاجتماعي، مرورًا بالسينما والفيديو وغيرها، فإنها لسوء حظها قد فقدت جزءًا كبيرًا من تاريخها. ولا أدل على ذلك أن العرب حاليًا قادرون على تحليل قصيدة أو رواية بجميع الطرق والوسائل من العروض إلى الشِّعرية مرورًا بالسيميائيات النصية وتحليل الخطاب وبلاغة الخطاب وغيرها. وكأن الإنسان العربي يقرأ الشِّعر وهو يشاهد التلفزيون، أو وهو يتفحص هاتفه من لحظةٍ لأخرى مئات المرّات يوميًا.
إننا لا نبخس بهذا القول حقّ اللغوي من الثقافة، ولكن اللغوي صار مكونًا من ضمن مكونات أخرى في التواصل. نحن لا نزال نعيش في واقعنا الأكاديمي والثقافي كما في وقت أبي نواس، وبشار ابن برد، وابن رشيق. وهؤلاء، ولنكن متيقنين من ذلك، كانوا من النباهة بحيث كانوا لو عاشوا عصرنا، سيروّضون معارفهم كي تدرك ما يجري من مستجدات بصرية وتمسك به بشكل ناجع.
لاحظي معي أن عدد النقاد الأدبيين في ساحة الثقافة العربية المتربة الغبراء يجاوز بكثير عدد الشعراء والروائيين. والكثير منهم لهم تكوين أكاديمي في ذلك. بالبحث في المقابل عن ناقد أو باحث في الفنون البصرية، فإنك ستجدين نفسك في صحراء، واحاتها قليلة. وهم إن وجدوا فهم أدباء يستهويهم الفن والصورة لا غير. والمتكوّنون منهم في تاريخ الفن لا يفقهون شيئًا لا في تاريخ ولا في جغرافية الفنون العربية، لأنهم يتقنون تحليل التيارات الغربية فقط. إنه وضع مأساوي فعلًا، لأنه يزيد في تعميق الهوية الزمنية والوجودية والتاريخية بيننا وبين الصورة، لا التشكيلية فقط، فهي حظيت ببعض الاهتمام، وإنما الصورة اليومية التي تكتسحنا من غير أن نجد مداخل ناجعة لها.
8- من خلال ذكرك له، كيف عبّر إدوارد سعيد عن صورة الآخر في الاستشراق، من خلال شعوره وأخلاقياته كمفكر مفكِّك لنوع التفكير المجرد البعيد عن التاريخ الإنساني إلى عالم أيدولوجي ضمن سياق تاريخي واقعي؟
لقد أثار كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد من الأسئلة أكثر مما قدّم من المقترحات النقدية. وسوء الفهم الذي تعرّض له تصورّه النقدي والملتبس في الآن نفسه، جعل الكثيرين يبنون انطلاقًا منه مفهومًا للهوية وللغيرية لم يفصح عنهما سعيد إلا بنبرته النقدية الجارفة. سوء الفهم هذا، هو ما يؤكد أن الاستشراق واقع متعدد، تاريخيًا، ومجاليًا، وموضوعاتيًا. ثمّة تعددية في الاستشراق تبني تعددية موازية للتصوّرات عن الشرق والآخر، مقدار ما ثمّة استغراب متعدد. وأعتقد أن ثمّة استشراقًا ساهم في وعي الشرق بنفسه إلى هذا الحدّ أو ذاك. فلولا ماسينيون مثلاً، بما له وما عليه، ما كانت للحلاج المكانة التي تبوأها في ثقافتنا العربية المعاصرة. ولولا هنري كوربان، بما له وما عليه، لما أضحى ابن عربي بؤرة للتفكير المعاصر في ثقافتنا. بل لولا الرحالة المستشرقون لما كانت لدينا معطيات عينية وتوثيقية عن العالم العربي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. من ثمّ ليس هنالك استشراق خالص وأوحد وذو بعد واحد. لقد كان هنري كوربان، وماسينيون مثلاً أدرى من إدوارد سعيد بتاريخ الثقافة الإسلامية، وهو أمرٌ يبطل أي نقد لا يأخذ بعين الاعتبار هذه المعرفة العميقة باللغة والثقافة التي يشتغل عليها هؤلاء المستعربون المستشرقون.
أعتقد أن الوقت قد حان لإعادة النظر في نظرة إدوارد سعيد، لا لأن تصورّه النقدي غدا متجاوزًا، فهو لا يزال يحمل راهنيته، ولكن لأن الشروط المعرفية الحالية (العولمة والشمولية)، والتطوّرات التي تعرفها مفاهيم الغيرية والآخر، أضحت تبدّد مفاهيم من قبيل الشرق والغرب، وتبني تراتبيات جديدة ذات طابع جيوسياسي ومعرفي، نعيش توسعها وتبلورها من عامٍ لآخر، منذ بداية القرن الحالي، أي ربع قرن بعد نشر كتاب الاستشراق.
9- «فإن الرجل مدرَج بين ذات (إلهية) ظَهر عنها، وبين امرأة ظَهرت عنه، فهو بين مؤنثين: تأنيث ذات، وتأنيث حقيقي». من خلال اهتمامك بابن عربي، ما هي النظرة الوجودية التي دفعت ابن عربي لجعل الأنوثة الشكل الأسمى للوجود؟ حدّثنا عن ذلك.
لقد كان ابن عربي أوّل مفكر «تفكيكي»، في الفكر العربي الإسلامي، لأنه أعاد النظر بشكل تأويلي في مفهوم الألوهة، وفي قضايا أخرى من ضمنها الأنوثة. ومفهوم البرزخ لديه يحيلنا إلى مفهوم «البين بين»، لدى الرومانسيين الألمان، لأنه يجاوز الثنائيات من غير أن يعطلها تمامًا. فهو (مثله مثل هايدغر في ما بعد)، يعتمد اللغة ومعانيها أصلًا للتفكير. فالعبارة لديه عبور، والذات الإلهية تأنيث للألوهة من خلال تأنيث الذات. وهو ما يمنح ضمنيًا للمرأة وجود الذات (subject)، بالرغم من صدورها عن الرجل. لماذا لم يعارض هنا ابن عربي بين الذكورة والأنوثة؟ لأنه يفكر في الوصل قبل الفصل، أو إذا شئنا بلغة حديثة يبني الاختلاف في الهوية. وهو يضيف بعد ذلك القول: «كآدم مذكَّر بين الذات الموجود عنها وبين حواء الموجودة عنه. […]، فكن على أيِّ مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدَّم، حتى عند أصحاب العلَّة الذين جعلوا الحقَّ علَّة في وجود العالم – والعلَّة مؤنثة». هكذا تغدو ثنائية التذكير والتأنيث مدخلًا لدى ابن عربي لإعادة تأويل الموروث الفكري واللاهوتي لتبوء المرأة، ومعها الأنوثة مكانة جديدة تغدو أنطولوجية وأنْطوثيولوجية، حسب تعبير هايدغر.
من ناحيةٍ أخرى، يقول ابن عربي في كتاب الوصايا:
«إنَّـا إنَــاثٌ لِمـا فِيـنَا يُولِّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدُه * فلنحمدِ الله مَا فِي الكونِ من رَجُلِ
إنَّ الرجَـالَ الَّذِين العرفُ عَيَّـنَهُم * هُمُ الإنَاثُ وَهُم سُؤلِي وَهُم أمَلــــــي».
بهذا المعنى يكون تجلّي الألوهة في الصور تعددًا يمنح للأنثى مكانةً خاصة في هذا النسيج الوجودي: «فالعارف الكامل يعرفه في أيِّ صورة يتجلَّى فيها وفي كلِّ صورة ينزل فيها؛ وغير العارف لا يعرفه إلا في صورة معتقده، وينكره إذا تجلَّى له في غيرها» (الفتوحات). لهذا السبب يُسمي ابن عربي في أشعار الحُبّ المرأة كل مرّة باسم، وكأنه يشير بذلك إلى تعدد صور المحبوب باعتبارها انعكاسًا لتعدد صور الخالق. الأنوثة إذن صورة وعلّة مؤنثة تحيل إلى ما يمكننا تسميته «بالأنوثة الأولية»، التي تجعل الحق فاعلًا وما غيره انفعالًا، والأنوثة رمز لهذا الانفعال الذي يكون خلاقًا بدوره: «فإن كلَّ منفعل رتبته رتبة الأنثى، وما تمَّ إلا منفعل. والفعل مقسَّم على الحقيقة بين الفاعل والمنفعل: فمن الفاعل الاقتدار ومن المنفعل القبول للاقتدار عليه» (الفتوحات). هكذا يحوّل ابن عربي الانفعال إلى واقع كوني يمنح صفة الأنوثة لكل ما هو موجود. ومن خلال مفهوم المرآة نراه يكثف هذا المعطى التأويلي الجديد لارتباط الفاعل والمنفعل بعلاقة مرآوية يغذيها الخيال الخلاّق باعتباره مبدأ للوجود والصيرورة.
10- من منطلق أبحاثك حول الجسد، متى يصبح الجسد كيانًا ثقافيًا متعددًا يستوجب منظورية تحليلية لا تغيّب الطابع المعرفي والفكري الذي يخترقه؟
الجسد ليس مُعطىً قبليًا يُملأ بشيءٍ آخر مفارق له هو الروح أو النفس؛ نحن هم جسدنا لأنه ينبني ثقافيًا في رحلة طويلة تتدخل فيها القيم والعلاقات البشرية والسياق الثقافي الاجتماعي. فنحن حين ندرس اللغة والعلاقات التواصلية والعواطف والأحاسيس نكون في قلب إشكالية يكون الجسد محورًا له، لا من حيث هو بدن فقط ولكن من حيث هو صيرورة هويات تندرج فيها علاقتنا بالعالم. لهذا جاءت التصورات الفكرية الجديدة المبنية على الفينومينولوجيا لتسلط أضواء جديدة تجاوز ثنائية الجسد والنفس التقليدية الميتافيزيقية لتمنح للجسد مفهومًا جديًا يتجاوز فيه الخيالي، والواقعي، والنفسي، والاجتماعي، والتاريخي، والراهن.
الجسد كياننا الذي به نحيَا، وصورتنا الحية التي تجعلنا نبني روابطنا الاجتماعية، ونعيش فيه باعتبارنا ذاتًا فاعلة. إنه مصدر عواطفنا وأهوائنا. فنحن لا نفكر بدماغنا وإنما بجُماع جسدنا. من ثمّ يتطلب الجسد فكره المحسوس الذي يجعله يعيش الحياة بوصفها تجربة يتداخل فيها المجرد والحسي. ومعرفتنا لجسدنا هي ما يمكننا من معرفة الآخر والتفاعل معه (واليوم يتحدّث المفكرون عن فلسفة للمحسوس). فالرغبة حين تتحوّل إلى فكر ومتعة تصير إبداعًا فكريًا وثقافيًا. لكل جسد حكايته الشخصية التي تحوّله في تفاعليته إلى ذات. والمسّ بالجسد هو مسٌّ بالذات. فالجسد اختلاف حركي يترك آثاره في الإبداع، والفكر، والثقافة. وكبته وتهميشه لصالح «العقل»، و«النفس»، أي تجريده، هو ضرب من الميتافيزيقا التي تخلق القيم والأخلاق خارج حدوده. الجسد هو موروثنا الوحيد في الحياة. وقد أدرك مونتيني ذلك فتحدّث عن المرض، والشيخوخة، والحسد، والغضب … ولولا ذلك لما كانت كتابته ذاتية.
11- قلتَ بأن «الجسد يشكّل محور العمل التشكيلي والتصويري بصفةٍ عامة». من منطلق هذا القول، برأيك كيف نما الفن الإسلامي وهو خاضع لعقدة مشكلة تصوير الجسد (الإنساني، والحيواني)، بشكلٍ واعٍ وغير واعٍ؟
ما يُسمّى بتحريم التصوير في الإسلام، (كما في اليهودية وفي المسيحية الأولى)، يقوم على تخصيص الخَلق بالخالق، ومن ثمَّ على تعزيز التعالي الإلهي. وفي الإسلام يتبدى هذا الأمر واضحًا من خلال مفهوم الصورة نفسها، التي تعني لغةً: الجسد، والوجه، والخيال، والرقش، والشبح وغيرها. وليس من الغريب أن تركز أحاديث «التحريم»، على الوجه أكثر من الجسد. فالمصوّر حين يصوّر جمال الجسد الإنساني أو الشجرة مثلًا، لن يستطيع نفخ الروح فيهما. مبدأ التصوير يعتبر هنا فعل مضاهاة ناقصة للخالق ولعملية الخلق. ولذلك يكفي، لتعطيل فعل التصوير، قطع الرأس وعدم رسم ملامح الوجه وحواسه، لأن الوجه هو موطن الهوية الجسدية البشرية. من ثمَّ فإن قطع رأس التمثال مثلًا (وهي عادة جارية في البلاد الإسلامية لتعطيل التصوير)، يحوّل الجسد إلى جثة، أي إلى كيان لا روح فيه ولا هوية له.
لذلك انبنى الفن الإسلامي على مفهوم شذري للصورة: التوريق، الزخرفة، الخط، ثمّ في ما بعد على تسطيح وأسْلبة تجعل الكائنات تتشابه. فالمنمنمات اختزالية لأنها تمنحك صورة مؤسلبة عن المرأة والرجل من غير محاكاة دقيقة، مقارنة مع التصوير بالغرب. بل إن فن الخط قد دخل باب التصوير من بابه الواسع حين صار الخطاط يرسم النمر أو الهدهد وما شابه ذلك، بالخط وبعبارات مفهومة.
كثيرة هي الأحاديث التي تركز على أن التصوير قد نُهي عنه لفتنته أيضًا، والفتنة هنا تتعلّق بقدر ة المصور على تصوير كل شيء، ومن ضمنه أيضًا الكائنات الخيالية. وبعض هذه الأحاديث (حديث عائشة عن السِّتِر ذي الخيول المجنحة مثلًا)، تركز على حفظ العين من مواجهة الصورة، واستعمالها استعمالًا زخرفيًا. وبما أن العين باب النفس الشارع، كما يقول ابن حزم يلزم حمايتها من فتنة الصور.
وكما قلت غير ما مرّة، ما طُرد من الباب؛ عاد من النافذة. فتطوّر الخط والزخرفة، بالرغم من طابعهما التجريدي سوف يكون مدخلًا لبناء خصوصية تصوير إسلامي مبني على عدم التشبيه. وهو ما لم يمنع البلاد الإسلامية من التطوير الهامشي للتصوير التجسيمي، الذي سيعود للاشتغال في القرنين التاسع عشر والعُشرين.
وها أنتِ تلاحظين أن الجسد سواءً تمّ تصويره أو عدم تصويره، فإنه ظلّ خلفية للممارسة التصويرية العربية الإسلامية، يخترقها بغيابه كما بحضوره الهامشي.
12- في المتخيّل العربي، ما المتخيّل ذو الصبغة الخارقة الذي تبلوَر في الحضارة الإسلامية؟
المتخيل العربي يرتبط كثيرًا بالمقدّس. والعصر الجاهلي غنيّ كثيرًا بالتصورات الخصبة من قبيل هذه سواءً في أساطير (حكايات)، الآلهة، أو في التصوّرات السائدة عن التطيّر، العين، السحر وغيرها. ونحن نجد بعضها تستمر في قلب التصوّر الإسلامي للوجود. ولعلَّ صورة البُراق إحدى الصور الدالة على هذه القوة الكبرى للمتخيل.
والمصنفات العربية الخاصة بالخارق والعجيب والغريب كثيرة أهمها: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني، وآثار البلاد وأخبار العباد له أيضًا، ةخريدة العجائب وفريدة الغرائب لابن الوردي، ونخبة الدهر في عجائب البر والبحر لشمس الدين الدمشقي. وثمّة أبواب في كتاب الحيوان للجاحظ، وحياة الحيوان للدميري، والمستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي، وتحفة الألباب ونخبة الأعجاب لأبي حامد الغرناطي. كما أن رحلة ابن بطوطة ورحلة ابن فضلان، وغيرها من الرحلات تحوي جانبًا من هذا المتخيل عن الغريب والعجيب والخارق.
إن هذا المتخيل من صلب الثقافة في تطورها، وهو يتخذ أشكالًا كثيرة تعبر عن علاقة العرب بالعالم، سواءً من خلال الفكر الأسطوري أو الديني أو العجائبي السحري. إنه متخيل لا يزال حيًّا في الثقافات الشعبية عن الجن، والسحر، والكائنات الخارقة التي تعيش بيننا في عالم لا يفصله عنّا إلا حجاب رقيق. والتنجيم يدخل في هذا السياق، ليربط مصائرنا بعالم الكواكب والنجوم. ولا يخفى أن السحر مثلًا يعتمد على صورة الشخص أو عنصر ما من جسده (الشَعر، المني، اللباس…)؛ لكي يؤثر عليه سلبيًا ويسلب منه إرادته. فالمتخيل هنا كما في مناحي أخرى يلعب بالجسد والصورة لأنهما عضد الكيان الإنساني.
13- باعتبار الجسد محفلًا ثقافيًا في أغلب الحضارات ما بين الواقع والدين والأسطورة، كيف أثّرت رهافة الذوق الأدبي العربي في حضور الجسد كعنصر من عناصر الحضارة الإسلامية وقيمها الثقافية والأخلاقية؟
ليس من قبيل الصدفة أن تكون المقدمة الطَّللية والغزلية في الشِّعر، منذ الجاهلية مبنية على الجسد والصورة، أعني جسد الحبيبة باعتباره هنا جسدًا مسكوكًا ومتداول الخواص والصفات، وصورتها في شكل غياب، أي في الآثار البصرية التي تتركها وراءها عند الرحيل: الأطلال.
وإنّكِ لتريْن في الشِّعر كما في الأخبار وكتب النساء والقيان أن الجسد وصوره توجد في قلب الحساسية الجمالية العربية. فهذه الجماليات لم تقم على الذوق الشخصي الفردي كما كان الحال بالغرب، وإنما على أنماط من الحسن الجسدي تتدرج من السمنة (البهكنة)، إلى الاعتدال (المجدولة)، كما أنها تقوم على بلاغة خاصة للعيون، الخدود، النهود، الأرداف، المشية والهيئة … وهي بلاغة تغيّرت بعض عناصرها العامة وإن ظلّ الباقي منها ثابتًا. إنه أمر يعني أن الجسد الأنثوي بناء ثقافي متغيّر يخضع لمحددات دينية (الودود الولود)، وأخلاقية أدبية (العفّة، والأدب، والثقافة أيضًا)، ولمحددات جسمانية، كما لمنظورات فردية أحيانًا.
إن هذه الموازنة تخلق أحيانًا مفارقة تتمثّل في الطابع المثالي للأنموذج الجمالي، الذي حين يغور في البلاغة يغدو جسدًا مستحيل الواقعية. أما الجسد الذكوري فإن أنموذجه ظلّ يتمثّل في الجسد النبوي الذي اُعتبر مرجعًا في السلوك والحُسن أيضًا. لكن ثمّة بعض الانزياحات التي أدخلها البعض منهم كأبي العتاهية، والمعري، والجاحظ، الذين أخرجوا ذوي العاهات (الذين ترتبط بهم منذ الجاهلية بعض الخواص المشؤومة)، من دائرة الهامشية، فعلاً وخطابًا. فرسالة «البرصان والعميان والعرجان والحولان» للجاحظ تدرأ المسبقات المعروفة لدى العرب لتضفي طابع الشرف والعادية على أصحاب هذه العاهات. وهو أمرٌ يجعلنا نؤمن بنسبية معايير الحُسن والشرف، التي تظلّ هي أيضًا بناءً ثقافيًا تتدخل فيه معطيات ثقافية وأنثروبولوجية متعددة.
14- متى بدأ الجمال يتدرَج من البلاغة للدقة باتجاه الاختزال في الثقافة العربية، ما العوامل التي ساعدت في تدرج الذوق العام للحضارة الإسلامية، وما المشكلات التي تطرحها صورة الجسد، والتي تعترض فكرة التأمل في الفكرة الاستطيقية المجردة للجمال؟
ثمّة جماليات إسلامية بالمعنى العام، لا بالمعنى الاستطيقي، يمكن أن نجد عناصرها في البلاغة كما في التصوّف، كما في الفنون الإسلامية الزخرفية. وهذه الجماليات حسية وبلاغية أكثر منها إستطيقية بالمعنى الهيجلي أو الكانطي، نظرًا لانبنائها على هوية ذاتية غائبة. فمفهوم الذوق الجمالي يرتبط بالمتلقي باعتباره ذاتًا لها ملك الحكم والنقد.
بيد أننا يمكننا الحديث عن الجمال باعتباره قيمة ثقافية وأخلاقية خضعت للتقنين والتسنين وأيضًا للاختلاف في العصر بالرغم من استمرارية بعض معاييرها. فبخصوص الجمال البشري، كانت العرب تفضّل البهكنة أي المرأة السمينة. وفي عصر الجاحظ صارت المجدولة هي المفضلة. وإنكِ لتجدين في كتب أخبار النساء ما يمكن به بناء نماذج للجمال الأنوثي يبدأ من الشَعْر إلى الرجلين، حتى المشية والصوت وغير ذلك. وهي نماذج عرفت التباين والاختلاف بين الحضر والمضر ومن عصر لآخر. كما أن ابن البواب مثلًا يقدّم لنا تصوّرًا لجمال الخط والتصوير يعتبر أنموذجيًا. لقد صاغت العرب هذه النماذج الجمالية للجسد ففرّقت بين الحُسن والملاحة، وبين الجمال الفطري البدوي والجمال المتصنع.
ثمّة صور للجسد، الأنوثي منه بالأخص، لكننا يمكننا أن نصوغ أيضًا صورة للغلمان (أي للجمال الذكوري)، في الحضارة الإسلامية من خلال ما بلغنا عن ذلك في كتب الجواري والغلمان. هذه الصور تمنحنا نظرة عامة عن نظرة العرب وأذواقهم، ومن ثمَّ عن مفهوم الحُسن الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بصفات غير حسية كالذكاء، وسرعة البديهة، والثقافة، وحفظ الشِّعر، وحسن الصوت، والغناء … وكأن عشق العرب للحُسن والجمال الجسدي لا ينفصل بتاتًا عن المؤهلات العقلية والفكرية التي تمنح لهذا الجمال حضورًا ثقافيًا ذا قيمة مضافة.
لكن هل يمكننا صياغة جماليات انطلاقًا من هذا التأريخ؟ وهل يمكننا الحديث عن مفهوم فكري للذوق؟ لدينا معجم للحُسن والجمال، يمكننا أن نستخرج منه ذوقًا. لكن هل يمكننا التنظير لهذا الذوق؟ أعتقد أن الزخرفة العربية الإسلامية هي الوحيدة التي تسمح لنا ببعض الانسجام في هذا المضمار، لأن الاختلافات فيها، وإن خضعت بشكل كبير للتحول، ظلّت وفية لمصادرها وقواعدها العامة. أما الفنون العربية المعاصرة، فتتطلب جماليات لم نصغ بعدُ مقدماتها الأولية. وأعتقد أن ثمّة جماليات للحياة اليومية، (يدعو لها بعض الأنثربولوجيين)، لا زالت لم تحظ بفضول المفكرين والباحثين العرب لحدّ اليوم.
15- بما أن «الجسد ظاهرة بالمعنى (الفينومينولوجي) أنطولوجية»، كما ذكرت، متى تصبح مظاهر الجسد الجمالية عنصرًا ثقافيًا قابلًا للدراسة الأنثروبولوجية والسيميائية والرمزية؟ وإلى أي حدٍّ بعيد ترى هذا التجاوز في الوظائف والسياقات الخاصة به؟
لا تهتم الأنثروبولوجيا بمعايير الحُسن والجمال بقدر ما تدرس وظيفية الجسد في التفاعلات الاجتماعية. من ثمّ فإن معايير الجمال لا تأخذ قيمة إلا إذا هي كانت ذات علاقة بالمبادلات الفردية والجماعية. مثلًا اختيار امرأة بأوصاف معينة (حسنة الأوصاف، بكر…)، لكي تقدّم قربانًا للنيل. ففي مجال المقدّس تأخذ الصفات الهامشية (العاهات، التشوهات الخَلْقية…)، قيمة أكبر في إنتاج التأثيرات ذات المنحى السحري مثلًا. ودرء السحر، والعين، والشَّر يكون أحيانًا، بطبيعة الاسم. فالخنساء لم تكن تخنس، (أي لم يكن بها عرج طفيف)، وإنما سُميت كذلك لدرء العين. والعرب كانت وظلّت تُسمي العبيد والإماء بأسماء من قبيل مسعود ومرجانة، درءًا لشرهم. كما أن الفتيان ذوي الحُسن والجمال كانوا يغطّون وجوههم في الخارج درءًا لشرور العين وبلائها.
الجسد الأنثربولوجي إذن، قيمة اجتماعية تواصلية تأخذ فيه العين، واليد، والرجل، وباقي الأطراف وظائف حيوية في إنتاج العلامات والرموز التي تؤدي إلى التواصل والتفاعل الاجتماعي. فالجسد هو أيضًا اللغة والتواصل الإشاري، والعواطف والأهواء. إنه صورة تواصلية مع الآخرين الذين لا يمكن أن يوجد من غيرهم. والكثير من التقليعات اللباسية والتجميلية تبدأ فردية فتبدو غريبة، غير أنها حين تنتشر تأخذ دلالات اجتماعية جديدة. كما أن الوشم مثلًا كان ظاهرة تدخل في المقدّس والمتخيل الاجتماعي وذات دلالات لها علاقة بالسحر، فأضحى اليوم ثقافة جديدة لا تمت بصلة للمتخيل القديم.
أما السيميائيات فقد اعتبرت الجسد ظاهرة دونية، لكنها حين بدأت حديثًا بدراسة الجسد، وجدت نفسها تتخلّى عن أنموذجها اللغوي لتنفتح على الصورة والتأويل والفينومينولوجيا. وأنا أعتبر أنها بذلك الانفتاح تحرّرت من دوغمائيتها اللسانية العقلانية وأضحت فلسفة وفينومينولوجيا، لأنها وجدت نفسها أمام بنيات رمزية وبصرية لا يمكن دراستهما بعقلانية بورس أو غريماس، وإنما تتطلّب مكونات أخرى آتية من ميرلوبونتي، ودولوز، وأيضًا من أنثربولوجيا الجسد لدى لوبروطون.
16- حدّثنا عن الذاكرة البصرية في التشكيل العربي مع ذكر أمثلة على ذلك، وما موقع الرمزي بين مكونات العمل التشكيلي وحمولاته البصرية والفعل التأويلي للمشاهد.
نعني بالذاكرة البصرية في الفن مجموع العلامات، والصور، والآثار التي تندمج في العمل الفني بشكل واعٍ أو لا واعٍ لتمنحه أبعادًا جديدة، يستثمرها الفنان في صياغة هويته التشكيلية والبصرية. فحين دعا الفنان شاكر حسن وبعض من سبقوه إلى التعامل مع الخط باعتباره عنصرًا فنيًّا لا زخرفيًا، (كما أضحى الأمر لدى الحروفيين)، كان ذلك بهدف الانزياح عن معطيات التشكيل الغربي تجريدية كانت أو تشخيصية، بهدف بلورة اتجاه جديد يقوم على تحويل التراث البصري العربي إلى جمالية فنية جديدة مرتبطة بذاكرتها البصرية.
وحين عمد فريد بلكاهية إلى الاشتغال على النحاس ثم الجلد، باعتبارهما سندين وحاملين للعمل الفني، واستخدام مواد طبيعية كالحناء والكوبالط (أزرق النيلة)، والأصباغ الأخرى المعروفة، كان يجعل من التراث الصنائعي الحرفي مدخلًا لحداثة جديدة تتوسل بالتقاليد الشعبية في الاشتغال على النحاس والجلد. ثمّة تجربة هامشية أخرى نجدها لدى فنان مغمور اسمه بوجمعة لخضر. هذا الفنان الذي كان تكوينه أنثربولوجيًا، استخدم مجموع العلامات، والصور، والرموز السحرية، والغيبية في الثقافة الشعبية ليبلوِر أعمالًا فنية ثلاثية الأبعاد تنبني على هذه المعطيات. وقد اختاره الناقد والقيّم على المعارض جان هوبيرت مارتان، ليكون الفنان العربي الوحيد الحاضر في معرض تاريخي بمركز جورج بومبيدو بباريس بعنوان: «سحرة الأرض»، عام 1989.
ثمّة تجارب أخرى تتعامل مع العلامة والوشم، كما لدى مجموعة أوشام بالجزائر ولدى أحمد الشرقاوي بالمغرب، الذي استوحى الوشم باعتباره ظاهرة طقوسية على الجسد لها علاقة بالمقدس وبالمتخيل الجماعي، ليحوله إلى مادة خصبة للعمل الفني. بهذا المعنى تكون الذاكرة البصرية مرجعًا لا يستقيم فنيًا إلا بالتأويل الشخصي والاستلهام المحدّد لا بالتعامل الحرْفي. فالتعامل الحرْفي هو ما منحنا حروفية تظل سجينة سُلطة الحرف، ومحاولات محدودة الأفق، لا تحرّر هذه الذاكرة من زمنيتها وتاريخيتها. خصوبة الذاكرة البصرية تكمن في استثمارها لكي تغدو سندًا للهنا والآن، ولحداثة فنية تمنح للفن التشكيلي خصوصيته، لا لكي تشكل سندًا لأصولية، أو سلفية تشكيلية، أو فنية. فهنا يكمن رهانها.
17- ما هي أكبر المشاكل التي تواجه مجال النقد الفني في العالم العربي اليوم؟
لنقل بدءًا بأن معادلة النقد أو الكتابة على الفن والفنون البصرية في العالم العربي معادلة غير متوازنة أو خائبة. يعود الأمر كميًا إلى قلّة النقاد مقارنةً مع الوفرة الكبيرة في الممارسين للفنون البصرية والتشكيلية. ويعود أيضًا، إلى أن أغلب من يسمون نقادًا هم بالأحرى صحفيون أو أدباء يستهويم الفن التشكيلي، والقليل منهم له تكوين في تاريخ الفن، بل إن الكثرين منهم فنانون تشكيليون يمارسون النقد الفني.
هذه الوضعية ذات طابع إشكالي لأنها لم تنتج لدينا ما يمكن أن نسميه كتابة نقدية أو كتابة عن الفن. أعني أن أغلب ما يُكتب ويُنشر تغلب عليه المحاباة الإخوانية، والمديح الرخيص. كما أن ما يُنشر لا يضع الفنان في سياقه الفني والجمالي محليًّا وعربيًا وعالميًا؛ مما يجعل كل فنان أشبه بجزيرة معزولة في أرخبيل هائل، يلزمنا وساطات جديدة لنربطه بسياقه.
من ناحيةٍ أخرى، يكتب الكثيرون انطلاقًا من تاريخ الفن الغربي وكأن الفن الحديث والمعاصر بالعالم العربي نشأ من فراغ، أو هو فقط امتداد للفن الغربي. والحال أن أغلب التجارب الرائدة في العالم العربي ذات جذور شخصية أو سياقية وبيئية من المحيط الثقافي للفنان. وانعدام المعرفة بالثقافات المحلية: عربية، وكردية، ومسيحية، ويهودية، وأمازيغية، وقبطية… وبمنتجاتها الثقافية والبصرية يكون غالبًا حائلًا دون الغور في إبداعية الفنان وموقعتها في تربتها الثقافية.
عدا بعض الأسماء المبدعة والمجددة في الكتابة النقدية، يظلّ المجال عبارة عن فوضى عارمة. فامتلاك اللغة لوحدها ليس كافيًا لبلوَرة نصّ نقدي فني، كما أن ممارسة التشكيل ليست ضمانة لجودته، بل هي قد تكون عائقًا أمام تلك البلورة. الكتابة النقدية الفنية يلزم أولًا أن تكون كتابة نصية لها لغتها، وأسلوبها، وذكاؤها، وعمق تأويلاتها، لكي تنتج معرفة بالتجربة الفنية، تكون إضافة لتلك التجربة وندّا لها. هذه الندية هي ما يجعلنا نتلافى واقعًا مريرًا في النقد الفني العربي هو تبعية النصّ للوحة أو للعمل الفني.
إن المعرفة التي ينتجها النصّ النقدي عن العمل الفني تتطلّب معرفة بالمجال وبأبعاده الثقافية والبصرية، المحلية والعالمية، من ناحية، وقدرة هائلة على صياغة كتابة تستطيع الاستمرار في الزمن مقدار استمرارية العمل الفني أو التجربة الفنية التي يكون موضوعًا لها. ولقد أضحى الأمر اليوم أعقد مع التجارب الفنية الجديدة التي تعتمد الهُجنة والتداخل بين المجالات. فالفن المعاصر فن إنشائي وإنجازي، يتطلب الإمساك بكافة المكونات التي تشكله، من جسد، وصورة، وموسيقى، ومسرح، وسينما، وفيديو … إنه فن التحوّلات الذي يجعل الناقد الأحادي الجانب عاجزًا عن تملّك هذا العمل في زمنيته، وفضائيته، وحركيته … من هنا فإن التحوّلات المعرفية والكتابية التي يفرضها الفن المعاصر على الكتابة النقدية تبدو كبيرة ومتسارعة، مما يجعل الناقد العربي يلهث وراء اللحاق بتطوراته الجارفة.
18- كلمة أخيرة لمعنى، وما المشاغل الفكرية التي قد نرى نتاجها قريبًا؟
معنى منصة حداثية رفيعة، ساهمتُ فيها منذ بدايتها، وأرجو أن تسير قدمًا إلى الأمام في التطوّر. لدي مشروع سيكتمل قريبًا عن المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، الذي صدرت عنه العديد من المؤلفات باللغات الأجنبية، ولا نجد عنه كتابًا شاملًا باللغة العربية، نظرًا لتعددية فكره واهتماماته. كما أنّي أضع اللمسات الأخيرة على ترجمة لكتاب دافيد لوبروتون الأخير: «أنثربولوجيا العواطف». وهناك مشاريع أخرى في الأفق.