المرء حاصل قراراته: قراءةٌ لبعض الدلالات الفلسفية في «بِتَر كول سول»

تحتوي المراجعة على حرقٍ كامل للأحداث
مَن منَّا لم يتخيل نفسه يمتطي آلة الزمن، بساط الريح الذي يتحدى الحتمية، الذي تنبّأ به الأدباء، وأثار عقول الفلاسفة، وداعب طموح العلماء – حتى وإن بدَّده المناطقة؟ مَن منَّا لم يرغب يومًا ما في أن يدير عقارب الساعة إلى الوراء، ليغيّر حماقة ارتكبها، أو يعدل عن خيارٍ أساءَ اختياره، أو يغيّر تصرّفًا حاد عن جهة الصواب، فيصمّم مسارَ حياته، لتكن كما يشاء؟
«ماذا لو امتلكت آلة للسفر عبر الزمن؟» هذا السؤال يأتي على لسان سول غودمان في الحلقة الثانية عشر من رائعة المخرج فينس غيليغان: «بِتَر كول سول»، ورغم أنه لم يُطرح إلاّ بعد أن شارف المسلسل على الانتهاء، إلا أنه سؤالٌ جوهريٌّ في العمل كله، بل وقد يُعد أنسب المداخل لتحليل هذه الملحمة التي ستظلّ محفوظة في لوح الخلود، بين الأعمال الدرامية التلفازية.
فلاش باك
تعرض الحلقة سالفة الذكر ثلاث ذكرياتٍ (فلاش باك)، منها اثنتان تجيبان صراحةً عن سؤال السفر عبر الزمن، والثالثة تجيب عنه تلميحًا. الإجابة الأولى كانت من نصيب مايك، الذي يختار أن يعود إلى يوم وفاة ابنه، ثم يدرك أن هذا الحدث مجرد نتيجة لاختيارٍ آخر سابق عليه، فيعدل عنه إلى اليوم الذي قبل فيه رشوته الأولى؛ فذلك هو الحدث الذي وضعه على طريقٍ انتهى بموت ابنه.
أمّا الذكرى الثانية فتتضمن ظهورًا مفاجئًا لوالتر وايت (الشخصية الرئيسة في عمل غيليغان الأسطوري «بريكنج باد») وهنا – وعلى غرار أسلوب كيشلوفسكي- تتقاطع الحلقة الثانية عشرة من «بِتَر كول سول»، مع الحلقة الرابعة عشرة من «بريكنج باد»، تحت عنوان: «أوزيماندياس» [اسم رمسيس الثاني باليونانية]. في هذه الحلقة يوجِّه سول السؤال نفسه إلى والتر، غداة اليوم الذي فقد فيه كل ما يهمه في الحياة: «أنتَ عالم أليس كذلك؟… ماذا ما الذي ستفعله لو امتلكت آلة للسفر عبر الزمن؟»
إنّ والتر الذي نلتقي به في هذا المشهد ليس هو والتر، الذي عهده الجمهور، حيث المجرم العبقري، ضحية الظروف (ربما)، الذي نجح في أن يحوِّل كل ورطة لفرصة، وظلّ يحوك الخطط ويغزل الشراك حلقة تلو أخرى، حتى غلب الكارتل (تكتل عصابات المخدرات) في نهاية المطاف؛ بل إننا هنا نلقى أمامنا والتر الأحمق، المثير للشفقة، الذي تسرّبت الدنيا من بين أصابعه، وقد خسر كل شيء في اللحظات الأخيرة. لكنه رغم ذلك -كما هو- عنيدٌ حتى الرمق الأخير؛ فرغم ما حلَّ به من مصائب، ما زال محتفظًا بالقدر نفسه من ثقته بنفسه التي ترقى إلى الغرور، وتقليله من شأن من حوله الذي يبلغ حدَّ الصَلَف.
لم يلتفت والتر في البداية إلى دلالة السؤال ومغزاه، فكل ما راعه منه انتفاء السفر عبر الزمن منطقيًا (ما زال يتصوّر نفسه أستاذ الكيمياء المتألِّق مع طلابه!). غير أن استنكاره هنا ليس استنكارًا علميًا بل نفسيًا، فكأن طغيان الشعور بالخزي والمرارة دفعه لنفي الفكرة بذريعة أنها مستحيلة عمليًا! فكانت إجابته بما تحمله من رطانة علمية، تبتعد عن الدلالة الإنسانية للسؤال، لكنها تكشف عن جانبٍ رئيس في شخصيته.
اعترافٌ مكتوم
يقول والتر متأملًا: «شيءٌ أنا نادمٌ عليه!». ثم يلقي نظرةً معبرةً على الساعة الثمينة التي أهداها إليه جيسي يومًا ما. هذه النظرة كانت إجابته الداخلية أو الافتراضية عن السؤال (أهو ندمه على لقائه بجيسي، أم على ما أفضت إليه علاقتهما؟ في الواقع لا ندري). لكنه عندما أفصح بلسانه قال شيئًا آخر. فإذا الذي يندم عليه أشد الندم، ليس إلاّ تخلّيه عن شركته «غراي ماتر» التي أسَّسها مع بعض أصدقائه، بعدما احتالوا على طرده منها، حتى أمْكنهم هو نفسه من ذلك.
في كلتا المناسبتين، يتجنّب جيمي السؤال ويقدّم إجابات غامضة، واحدة عن المال والأخرى عن انزلاق قدمه، التي تسببت في إصابة ركبته وضعفها، الذي لازمه وظلّ يعاني منه لفترات! هذا هو إذن، الرجل الذي قضى المسلسل كله، يتجنب طرح الأسئلة الصعبة على نفسه، ويتهرّب من عواقب ما جنته يداه، وينكر أيّ ندم؛ فإذا بالفلاش باك الذي يتلو مشهد المحكمة يفضحه، ويروي لنا قصةً مختلفةً، كما سنرى.
حيث نلتقي فيه أكبر أشباح ماضي جيمي: أخوه تشاك. يعود الفلاش باك زمنيًا إلى البدايات الأولى من «بِتَر كول سول»، إذ نرى جيمي يسلّم بعض البقالة إلى تشاك، في مشهدٍ تغلب عليه الحميمية، ودفء العائلة. وعلى الرغم من أن الأخ الأكبر يقدّم لجيمي فرصةً للبقاء والتحدث عن الخيارات المتاحة أمامه، إلا أن جيمي يرفض عرض أخيه في إباء. فينصحه الأخير أن يغيّر مسارَه الوظيفي إذا لم يشعر بأنه مناسبٌ له، فيردُّ جيمي بسؤال: هل فعلت أنت ذلك من قبل؟ ثم يدير له ظهره، ويخرج.
آلة الزمن
في الواقع لم ينطق جيمي/سول هذه الإجابة قط، بيدَ أن المشهد يوحي إلينا أن هذه هي الإجابة الصحيحة، التي توجَّب عليه قولها. اللحظة المناسبة التي يفترض أن يسافر إليها جيمي، من أجل تصحيح مسار حياته (في هذا المشهد تقع عينا جيمي اتفاقًا على نسخة من كتاب «آلة الزمن»، لمؤلفه هِربرت جورج ويلز، موضوعة على مكتب تشاك. هذا الكتاب هو الذي استوحى جيمي منه سؤاله).
هنا إذن خيط البداية، واللحظة الجوهرية التي لو تبدّلت أقلّ تبدُّل، لتغيّرت العواقب كلها إلى غير رجعة. هنا اللحظة التي ترتب عليها فشله في تصحيح علاقته بأخيه، هذه العلاقة الملتبسة التي تتأرجح بين الحبّ والحنق والشفقة والحسد، لكنها حتمًا لم تتجاوز صلة الرحم والشعور بالواجب. وما يثير المشاعر أكثر من ذلك، هو نظرة تشاك المخيبة للآمال، عندما رفض جيمي دعوته للبقاء لفترةٍ أطول. إنها نظرةٌ تُظهر أن الأمور لو سارت على غير ما قُدِّر لها ولو قليلًا، لظلَّ الأخوان متحابين، لا يعكر صفو ودّهما شيءٌ، ولما حاول تشاك تحطيم جيمي، ولما لجأ جيمي إلى تدمير تشاك، ولأمكن تجنُّب الكثير من المعاناة والألم بل والموت. لكن لو حدث هذا لما كان المسلسل!
الحياة خيارَات
مصيرنا رهن خياراتنا! والوجود في أعمق معانيه ليس إلاّ ممارسة لفعل الاختيار، كما يقول سارتر. الخيارَات بدايات تفضي إلى نهايات، ومع ذلك فخيارَاتنا في الكثير من الأحيان قابلة للتعديل، غير أنَّ كل تأخير سيجعلنا ندفع ثمنًا أكبر من ذي قبل. المعضلة الحقيقية هي قدرتنا على مواجهة الوحش الكامن داخلنا، والسيطرة عليه وضبطه. هذه هي المشكلة الرئيسة التي يطرحها فينس غيليغان، في عمَليه المكملين لبعضهما: «بريكنج باد»، و«بِتَر كول سول».
كلَّ من شاهد «بريكنج باد»، يعلم تمام العلم أن جيمي سينتهي يومًا ما إلى سول، وهنا يأتي دور «بِتَر كول سول»، الذي يرسم لنا مراحل هذا التحول ومعالمه: كفاح جيمي ضد نفسه، وضد ماضيه «جيمي المنزلِق»، وفي مواجهة ما قاله والتر وايت له في مشهد الفلاش باك الثاني في الحلقة الأخيرة: «سقوطٌ وانزلاق.. كنتُ هكذا دائمًا إذن». إذْ بعد 22 سنة، يعلن جيمي استسلامه أخيرًا أمام جيمي المنزلق، ثم يرفع الراية البيضاء بعد ذلك أمام سول. فكأن المسلسل كله كان محاولة للهروب من هذه اللحظة، فلما حانت أنهت بذلك سبب المسلسل، وكأن كل ما تكبده جيمي على امتداد الخط الزمني للمسلسل، كان أهون عليه من أن يقرّ بأخطاءٍ يواجه بها نفسه.
أطوار الإنسان
في الحلقة الأولى من «بريكنج باد»، قال والتر إنّ الكيمياء هي «النمو، ثم الاضمحلال، ثم التحوّل!» وبينما ينتهى المسلسل عند الاضمحلال ولا يتجاوزه إلى التحوّل، يمرّ «بِتَر كول سول»، بكل هذه المفاهيم في مواسمه الستة، ثم يحشدها جميعًا في الحلقة الأخيرة. وفي أحد أعظم مشاهد المحاكمات في تاريخ الدراما التمثيلية، يقدّم سول اعترافًا مريرًا، مقرًّا بمسؤوليته عن إمبراطورية والتر الإجرامية، التي وفَّر لها الحماية القانونية وحال دون القبض على صاحبها، أو قتله في غضون شهر؛ بل ويعترف أنه يتحمل المسؤولية عن وفاة هانك وتشاك وهوارد.
في الواقع إنّ سول لم يكن «هكذا دائمًا» كما وصفه والتر. ربما كان جيمي هكذا ذات مرّة، وربما يكون قد أصبح كذلك في مرحلةٍ ما، ولكن كما تقلب المسلسل في أطواره وتطور حتى صار أحد أعظم الأعمال الدرامية التلفازية طرًا، فكذلك تطوّرت شخصية جيمي، ثم اضمحلت، ثم تحوّل إلى رجلٍ أفضل مما كان عليه.
كان من أوقع المشاهد وأكثرها تأثيرًا لحظة شروع جيمي في البكاء، وهو يتحدث عن وفاة هوارد، حتى يذهب إلى حدّ الاعتراف بالتسبب في خسارة تشاك لتأمينه، ممّا أدى في النهاية إلى فقدان وظيفته، ثم حياته. هذا خطاب مختلف تمامًا عن الخطاب الذي سبق أن ألقاه أمام نقابة المحامين بعد وفاة تشاك؛ فهذه المرّة كان اعترافًا حقيقيًا بالندم. حيث استعاد الرجل إنسانيته أخيرًا، لدرجة أنه طلب من القاضي أن يناديه باسم جيمس ماكغيل. وهذه هي المرّة الأولى في المسلسلين التي يكون فيها جيمي صادقًا تمامًا مع نفسه!
الآليات الدفاعية
يثير «بِتَر كول سول»، مشكلة الهوية الشخصية، فسول ليس هو جيمي، وجيمي ليس نفسه جين، وجين ليس فيكتور! كلهم يبدون كشخصياتٍ مختلفة على الرغم من أنهم جميعًا، في الواقع، يشيرون إلى كائنٍ بشري واحد. ورغم ذلك، يبدو أنهم مختلفون، ليس لأنّ الاسم المستعار لا يتغيّر فحسب، بل يغيّر معه أيضًا سِمات الشخصية الرئيسة. وهو ما يقودنا إلى مفهوم الهوية، وما تثيره من أسئلة تحتاج قليلًا من التلبث عندها، للوقوف على ما تعنيه شخصية جيمي متعددة الوجوه.
«نعم، كان جيّدًا، عندما كنتُ أعرفه!» هذا ما ردت به كيم على سؤال جيسي، حول مهارات سول القضائية.
في مطلع القرن العشرين قدم عالم النفس الشهير سيغموند فرويد مفهومه عن الآليات الدفاعية، التي تمكِّن الإنسان من الاحتيال على ذاته؛ حتى يرى أن كل الأمور تسير على أفضل ما يروم. فنحن نحتال على أنفسنا لتفادي المشاعر المؤلمة: مثل الذنب أو الحزن أو الخزي أو الخجل أو التهديد.
إن سيطرة هذه المشاعر على المرء، تجعله عاجزًا عن عيش حياته بأمانٍ وراحة، لهذا يلجأ العقل إلى الآليات الدفاعية التي تمده بتبريرات دائمة لأفعاله، ما يجعله في حالةٍ إنكار دائم لذاته الحقيقية وواقعه؛ لكنها في المقابل تحقق له قدرًا من الأمان والرضا عن النفس، وتجعله يرى ذاته والأشياء من حوله على أفضل نحوٍ ممكن (شيء أشبه بفكرة الاعتقاد الزائف عند سارتر).
في الواقع لا يمكن النظر إلى شخصية سول غودمان إلاّ من منطلق كونها آلية نفسية دفاعية اخترعها جيمي بعد وفاة تشاك، لهذا بدت مختلفة تمامًا عن جيمي الذي كانت تعرفه كيم. نستطيع أن نرى دهشتها وحيرتها من التحوّل الذي طرأ عليه، في المشهد الذي جمعهما في مكتبه، لتوقيع أوراق الطلاق ثم خروجها منه.
والتر وسول
في الحلقة الحادية عشرة، المسماة «بريكنج باد» من الموسم الأخير، يضعنا غيليغان أمام مقارنة بين شخصيتين: والتر، وسول. الأول، حظي بفرصةٍ للتراجع بعدما حقّق هدفه في تأمين عائلته، وهي الحجة التي طالما استند إليها في سلوك طريق إعداد الميثامفيتامين (رغم أنه يعترف في الحلقة الأخيرة بأنه فعل ذلك إرضاءً لنفسه). إلا أنه لم يتراجع بل واصل انزلاقه حتى انتهى إلى القاع.
أما الثاني، فقد حاول الفرار من واقعه، بعد هروبه من شخصية سول، التي طاردته طوال حياته الجديدة، التي عاشها كميّت. لم يستطع جيمي التكيُّف مع هويته الجديدة، ونجح سول في التسلّل إليها شيئًا فشيئًا، إلى أن عادت أكثر تشوهًا وجشعًا. فهذا سول الجديد لا يتورع عن السرقة بل والقتل. لقد مدَّ سول الجديد خَطَّ سول القديم إلى نهايته.
وبينما كانت نهاية والتر بالموت مستحقة، لكن موت سول كان موتًا معنويًا: انسحاق الشخصية، بدلًا من موت الشخص نفسه. فالموت الطبيعي وإن كان فيه تطهيرٌ لما اقترفه المذنب، لكنه قد يعفيه من جرائمه. بدلاً من ذلك، ينتهي أمر سول إلى السجن، ونراه راضيًا بمصيره، وحيدًا لبقية حياته؛ لا يقطع وحدته المعنوية سوى ما ستجود عليه به من زياراتٍ بين الفينة والأخرى حبّ حياته: كيم.
نقطة التحوّل
كانت نقطة التحوّل من سول إلى جيمي داخلية؛ لذا لم نلحظها نحن – المشاهدين- إلاّ في مشهد المحكمة، رغم أنه قد أعدَّ لها جيدًا قبل ذلك. لقد أدركنا أن التحوّل قد حدث عندما علم، أثناء التفاوض مع المدعي العام على تخفيف العقوبة، أنَّ كيم أفضت باعترافها حول ما جرى مع هوارد.
لقد سحقت كيم سول سحقًا، واسترجعت جيمي الذي طُمر تحته لسنوات، لكنه لم يكن قد مات. أراد جيمي أن ترى كيم بنفسها كيف استطاعت الانتصار على سول، فنسج خطته ليجعلها تحضرالمحاكمة. أراد جيمي أن ينهي كل الأمور بنفسه، وأن يحافظ على ذلك حتى النهاية. لقد اختار سول مصيره، فهو سيد قراره حتى النهاية.
وقد دفع سول ثمنًا باهظًا لاستعادة جيمي: 86 عامًا من السجن. لكن جيمي اختار الضوء دون الظلام، وآثر الحبّ على الكراهية. وهو رغم سجنه، أصبح محبوبًا بين زملائه من المساجين، بعدما تعرفوا على الأسطورة التي تعيش معهم. الرجل الذي ساعد عددًا لا يحصى من الأشخاص، بغض النظر عن المجرمين والخارجين على القانون منهم. الرجل الذي قاتل من أجل المهمشين والعجزة، في وقتٍ أدار الجميع ظهورهم إليهم. هذا الرجل انتصر على نفسه؛ لأنه قرّر أن يواجه أخطاءه، مهما كانت نتيجة هذه المواجهة، فحقَّ له أن ينعم بالسكينة والطمأنينة، بالطريقة الصحية الآمنة، لا بالإنكار أو الآليات الدفاعية النفسية.
هرم ماسلو
في الهرم الذي وضعه عالم النفس الأمريكي الشهير أبراهام ماسلو، المعرّف باسم هرم ماسلو، الذي يرتِّب فيه الاحتياجات الإنسانية؛ يضع الاعتراف ونيل تقدير الآخرين، ضمن الاحتياجات النفسية الأساسية للإنسان. ربما كان جزءٌ رئيسٌ من شخصية جيمي، ينشد هذا الاعتراف ونيل التقدير من الآخرين، من أخيه وحبيبته كيم على وجه التحديد.
ربما كان تشاك في جانبٍ منه يحبّ جيمي، لكنه لم يعترف بهذا قط، بل وحرمه من تقديره في المواقف التي استحقها جيمي. ومن ناحيةٍ أخرى، يمكننا أن نزعم أن جميع محاولات جيمي لمساعدة كيم في كل مرّة مدَّ لها يد العون فيها، كانت بدافع من الحبّ ومن رغبته في نيل تقديرها؛ إنما كان يكتسب ثقته في نفسه من خلالها. ولا أدلَّ على ذلك من أن كيم عندما قرّرت أن تشقّ طريقها بعيدًا عنه، طرأ التحوّل من جيمي إلى سول، وظلَّ هذا الأخير يلتمس تقديرها، لكنه وجد ضالته هذه المرّة في جماعته الجديدة، التي قادته إلى الطريق الخطأ.
وقد سار سول في الطريق إلى نهايته، إلى أن قُبض عليه في صندوق القمامة. كان بإمكان سول حتى بعد أن وقع في أيدي الشرطة، أن يجد ثغرات أخرى للهروب، خاصةً بعدما أثبت لنا مهاراته في فعل ذلك (في مشهد التفاوض). لكنه قرَّر أن تكون هذه هي النهاية. ولعلَّه عندما اعترف أمام القاضية، وأمام كيم وكل الحاضرين، لم يكن بهدف نيل اعترافها وتقديرها؛ بل كان يظهر لها أنه اكتشف الأمر، حتى وإن جاء هذا الاكتشاف متأخرًا. وأنه فهم أخيرًا أنه لا يستطيع الهروب من كل شيء، ومواصلة الدفاع عن نفسه بلا نهاية، إنْ كان يريد تجربة الحبّ حقًا.
لقد أدرك أخيرًا أنه إذا أراد أن يكون حُرًا، فإن عليه أن يواجه أخطاءه، وجرائمه، وإنْ كان الثمن سجنًا، لن يخرج منه حيًّا.
عودٌ على بدء
يُختتم العمل بمشهدٍ أيقوني، يتبادل فيه سول التدخين مع كيم من سيجارة واحدة. فكما بدأ التعارف بينهما خارج شركة المحاماة بهذه الطريقة ينتهي بها أيضًا. وإنْ كان في مكان آخر هذه المرّة: السجن. تشتعل السيجارة باللون الأحمر، ما يتباين مع مشهد بالأبيض والأسود – على غرار ما فعله سبيلبرغ في «قائمة شندلر» – السيجارة وحدهها تتلون داخل المشهد معلنة عودة جيمي الذي تعرفه كيم.
الإنسان هو الإنسان، فيه من الخير مثلما فيه من الشر، وربما لا نعرف حدود كلٍ منهما إلاّ في المواقف المصيرية، والأحداث الكبرى التي تزلزل أعماقنا وتعصف بروحنا عصفًا لا تبقي معه شيئًا في مكانه. في الواقع لا يوجد أحدٌ غير مُدان في «بِتَر كول سول» (على الأقل الشخصيات الرئيسة داخل العمل). ليس من شخص بريء تمام البراءة. لكن السوبرمان الحقيقي هو من يصنع مصيره بيده (لا يمكن تجاهل شخصية ناتشو فارغا هنا)، ولا شك أنّ سول قد نجح في هذا.
من هم الأشرار؟ هل ولدوا هكذا أم صُنعوا؟ هل الشر جزءٌ من طبيعتنا البشرية أم هو دخيلٌ عليها؟ هذا هو السؤال الذي ناقشته كافة الأديان والفلسفات الكبرى، وهو السؤال نفسه الذي طرحه غيليغان في ملحمته ذات الأجزاء الستة. إن «بِتَر كول سول» بمنزلة تأملٍ عميقٍ في طبيعة الشر والخطأ والحدود بينهما. وفيه محاكمة لآليات الدفاع التي نلجأ لها، ونحتال بها على أنفسنا، ونهرب بها دائمًا من مواجهة خطايانا. لقد وضعنا المسلسل إزاء مآزق أخلاقية كثيرة، وصوَّر لنا الخيارَات المتعددة التي نلقاها في الحياة الواقعية، لكي نتأملها قبل اختيار المنحى الذي نريد أن ننحوه.
أخيرًا، وحتَّى أقدّم إجابتي الشخصية عن السؤال الجوهري، الذي ابتدأ به المقال: ماذا لو امتلكت آلة للسفر عبر الزمن؟» ربما كان من ضمن الاحتمالات أن أعود من جديد، إلى تلك اللحظة التي سألتُ فيها صديقي الملهم، مسترشدًا برأيه: «هل تنصحني بمشاهدة “بِتَر كول سول”؟» فكان أن وعدني بتجربة مشاهدةٍ لن تُنسى!