
لتحميل الحوار : حوار باربارا كاسان
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
- لنبدأ من البداية. كيف أصبحتِ فيلسوفة تتمتع بكل هذه الشهرة؟ هلا تحدثينا سريعًا عن مسار حياتك، الشخصي والأكاديمي؟ ومن هو الشخص الذي كان له الأثر الأكبر في حياتك؟
لقد رغبت في التمرّس في الفلسفة عندما فهمت، انطلاقًا من صف الفلسفة (وهذا بالفعل أمرٌ فريد في المناهج الفرنسية)، أنّ التساؤل عما إذا كان الله موجودًا أو عن ماهية الحرية يمكن أن يكون مهنة. ومع ذلك، لم أفكر قط في الفلسفة على أنها منفصلة عن الشعر، أو الأدب، أو البلاغة، أو الفنون والعلوم. ولطالما أحسست بها ومارستها على أنها «فلسفة و[شيء آخر]»، وربما لهذا السبب ليس لدي تاريخٌ دراسيّ كلاسيكيّ. في فرنسا، كي تُدرّس الفلسفة في ظروف جيدة، من الأفضل لك أن تكون من خريجي «معهد المعلمين العالي» ومتخصصًا في الفلسفة. أنا لا أنتمي لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، لأنني لم أُقبل في هذه المباريات، وليس لقلة محاولاتي. ذلك هو السبب الذي جعلني أسلك طُرقًا جانبية، وهي طرق أفادتني كثيرًا. على سبيل المثال، كنت مُدرِّسة لمراهقين مصابين بالذهان في مستشفى نهاري لبضع سنوات، وقد فُتنت بهذا العمل. كما قمت قمت بتدريس الثقافة العامة لعمال البريد الذين كانوا يستعدّون لدخول «المدرسة الوطنية للإدارة». وكان العام 1968 [ثورة الطلاب] بابًا كبيرًا للطالبة الفتية جدًا التي كنت عليها. وتلتها في العام 1969 مرحلة أساسية، وهي: ندوة «ثور» Thor، مع هايدجر وعند «رينيه شار». ثم ناقشت أطروحة الدكتوراة في الفلسفة اليونانية، وانتهى بي الأمر أن عُيِّنت في «المركز الوطني للبحث العلمي». بعد ذلك أصبحت الأمور سهلة للغاية. سافرت كثيرًا، ونشرت أعمالاً، وشاركت في ندوات ومؤتمرات في جميع أنحاء العالم تقريبًا، وكان يُثيرني دائمًا اكتشافُ ثقافات أخرى وعوالم أخرى.
لا شك أنّ الشاعر رينيه شار هو الرجل الذي كان له التأثير الأكبر فيّ. لكن السؤال الفلسفي الأول الذي طرحته على نفسي يتعلق بهايدجر، الفيلسوف العظيم، والنازي مع ذلك. وكان هذا السؤال: «هل يمكن للمرء أن يكون من مؤيّدي فلسفة ما قبل سقراط وبطريقة أخرى؟». هل يُمكننا [أن نجيب إجابة مختلفة عن هايدغر و] ألا نجعل من بارمنيدس، ومن اليونان، ومن اللغة اليونانية، فجرًا مُطلقًا، يُنحّي كل شيء آخر إلى البربرية، كل شيء باستثناء اللغة الألمانية، التي هي يونانية أكثر من اليونانية، والتي هي أيضًا «أصلية»، بمعنى أنها «متجذرة في عِرقٍ مُحدّد وشعب مُحدّد»؟ إنّ أطروحتي حول موضوع «مبحث اللاوجود» التي كتبها السفسطائي جورجياس -وهو موضوع اقترحه بيير أوبنك Aubenque- هي التي ساعدتني في الإجابة بشكل مختلف عن إجابة هايدجر. وكان جان بولاك، العالم بالهيلينية العظيم، هو الذي ساعدني في العمل على النصوص اليونانية في هذا الاتجاه.
- هناك حدث عربي/إسلامي تذكرينه غالبًا في محاضراتك: وهو تأسيس «بيت الحكمة» على يد الخليفة العباسي المأمون في بغداد. ماذا يمثّل لك «بيت الحكمة» ولماذا تتخذينه مثالاً في غالب الأحيان في محاضراتك؟
لقد أسّستُ جمعية مع دانييل ووزني تُسمى «بيوت الحكمة-الترجمة». فنموذج «بيت الحكمة» [العربي] يهمنا لأنه يقوم على الانتقال بين اللغات والثقافات، ولكن على الانتقال أيضًا بين التخصصات والفنون والتقنيات والعلوم والفلسفة، وكذلك بين الأجيال. إنهم علماء وخبراء وهواة يهتمون ببعضهم بعضًا ولا يعتقدون بوجود «البرابرة» [الذين لا يتكلمون لغتهم]. باختصار، هذا نموذج قائم على معرفة التعامل مع الاختلافات التي هي الترجمة.
- غالبًا ما تكررين أن الترجمة حاجة وضرورة. إلى من هي حاجة وضرورة؟ هل هي كذلك بالنسبة إلى من تتوجه إليه؟
إنها ضرورة للجميع، هذا إن أردنا أن يكون العالم معقدًا ومشتركًا. فبعيدًا عن التواصل العالمي [العولميّ]، عبر «الإنكليزية المعولمة» وحدها، على سبيل المثال، أعتقد أنّ اللغات، التي تمثل رؤى متعددة للعالم، يجب أن تكون حيّة وحاضرة.
- هذا بالإضافة إلى أنك جعلت من الترجمة الموضوع الأساسي لعددٍ من كتبك. كيف وصلت إلى درجة اعتبار الترجمة موضوعًا فلسفيًا بامتياز؟
انطلاقًا من التعريف الذي أقدمه لهذا الموضوع الفلسفي، أي معرفة التعامل مع الاختلافات، ندرك هنا أن هذا النموذج جيد في السياسة. بل أذهب إلى حدّ قول إنه هو الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه اليوم!
وندرك أيضًا أنه أفضل النماذج لجميع العلوم الإنسانية، بشكل عام، لأنه يمنعنا من الاعتقاد بأننا نملك العالمية، وهذا اعتقاد يبدو لي أنه أساس العديد من أعمال الاستعمار والعديد من الأصوليات. تعجبني حقًا عبارة أمبرتو أيكو التي يقول فيها إن «لغة أوروبا هي الترجمة»، بل لعلّها ستكون لغة العالم.
- نحن متفقون على أن الترجمة مفيدة – إنها حاجة، كما تقولين – بالنسبة إلى اللغة والثقافة اللتين يُترجَم إليهما، وعلى عدة مستويات. كيف هو الأمر بالنسبة إلى اللغة والثقافة اللتين يترجم منهما؟ وماذا يعني الأمر للمؤلف الذي يترجَم كتابه؟ حسب تجربتي الخاصة، المؤلفون الذين ترجمت كتبهم كانوا مسرورين جدًا ومهتمين بعملي ومتحمّسين. وأنت بنفسك، عبّرت لمرات عديدة عن فرحك بترجمة كتبك. أليس كذلك؟ كيف نستطيع تعليل هذا الأمر؟ هل يعود إلى الأنانية وحب الذات؟ أم أنه بالأحرى شعور لدى المؤلف بعالمية أفكاره وبالتالي وعيه لضرورة نشرها في الثقافات الأخرى؟
من ناحيتي على أي حال، وبالإضافة إلى حقيقة أن أكون واضحة ومتاحة لجماهير أخرى، أكثر ما يثير اهتمامي هو الفارق الموجود بين الأصل والترجمة، وبالتالي فهم ما يقف حاجزًا أمام الترجمة، والتحولات التي تطرأ على النص أو العمل [المُترجم]. لقد قال بورخيس: «الأصل يحاول أن يشبه الترجمة»! إن المؤلف، عندما يُترجَم له، يتعلم الكثير عن نصه الخاص به، وبالتحديد من خلال المناقشات مع مترجمه. أنا لا أؤمن على الإطلاق بعالمية فكرتي، ولا بعالمية الفكر بشكل عام، فأنا أهتم أكثر بإقامة العلاقات، وبطرقٍ مختلفة، من أجل ربط الكلمات والأشياء. أنا لا أسعى إلى الانتشار، بل إلى أن أَفهم وأن أُقارِن.
- في إحدى محاضراتك، تقولين إن الكلام يمكن أن يصنع العالم، أو بالأحرى إنه يقوم بذلك بالفعل. ماذا تقصدين بذلك بالضبط؟ وما هي وظائف عملية «الكلام» أو «التكلم» في نظرك؟ ومفهوم «الكلام» عندك، هل ينطبق أيضًا على الكلام المترجم؟ ولماذا؟
إنّ التقليد اليوناني العظيم يميِّز بُعدين اثنين من الكلام. الأول هو «الكلام عن»، أي قول شيء ما عن شيء ما، في عبارات تهدف إلى الحقيقة، وإلى التطابق بين ما يُقال وما هو كائن. الفلسفة كلها تكمن هناك. والبُعد الثاني هو «الكلام إلى»، وهو لا يهدف إلى كشف الحقيقة، بل إلى الإثبات والإقناع. البلاغة وفن الخطابة يكمنان كلاهما هنا. ومع ذلك، هناك بُعد ثالث يختلف عن هذين البعدين، والذي أسمّيه -مُتبعةً الفيلسوف الإنجليزي جون أوستن- البُعد «الأدائي». فهو لا يهدف لا إلى الحقيقة ولا إلى الإقناع؛ بل يهدف إلى شيءٍ ما مثل التأثير والفعالية والكفاءة. يُقدّم أوستن، في كتابه «كيف نفعل الأشياء بالكلمات»، أمثلة صغيرة على ذلك، كمثال القاضي الذي يقول «فُتحت الجلسة»، ويفتحها فعليًا بقوله هذا فقط. وغالبًا ما تكون العبارات الدينية أو أحكام القانون من هذا القبيل: «أنا أُعمِّدك»، «أنا أصفح عنك»، «أعلن أنكما متحدان برباط الزواج». إلا أن هذا البعد ليس شيئًا جديدًا حقًا، وأجده قد طُبِّق لدى فلاسفة ما قبل سقراط، الذين ينظر الفلاسفة إليهم بازدراء، أي السفسطائيين. هكذا، يضع جورجياس في «إطراء هيلينة» هيلينةً جديدة، وبريئة … لا يوجد الكائن قبل أن يوجد الخطاب، فالخطاب هو الذي يجعل من نفسه «الراعي الأمين» له، وفق عبارة هايدجر»؛ بل هو بالأحرى من تأثيرات القول، وبشكل خاص، من تأثيرات «قصيدة بارمينيدس». نصل هنا إلى الفعالية الخاصة بالخطاب: إنه يُحوِّل ما يُقال إلى كائنٍ موجود. »نعم نحن نستطيع Yes, we can» … هكذا نرى إلى أيّ مدى تتساوى السياسة والدين هنا، في السراء والضراء.
- تقولين في إحدى مقابلاتك التلفزيونية إن الإنسان هو في الوقت نفسه كلام ونور وموت. هل بالإمكان شرح هذه الفكرة؟ وما العلاقة التي تربط بين هذه «المكوّنات» الثلاثة للإنسان؟
هذه عبارة يونانية بالتمام، وتتعلق باللغة اليونانية. الطريقة التي يُسمّى الإنسان بها، في قصائد هوميروس على سبيل المثال، هي كلمة «فوس» phôs التي تُترجَم بـ«ميت [فانٍ]». ولهذا المصطلح جذرُ «فيمي»phêmi نفسه، أي «قال، تكلم»، الذي يقوم على المحاكاة الصوتية للنَّفَس في الهندو أوروبية، وهي *bha. لكن «فوس» phôs، إن نُطقت بنبرةٍ مختلفة (لقد جاءت النبرات في وقتٍ متأخر، ولها غالبًا وظيفة إزالة اللبس الدلالي)، تعني «النور»، على شاكلة «فينو» phainô، أي «برز، ظهر، تألق»، وهذا ما أدى إلى كلمة phénomène «الظاهرة». الإنسان كائن فانٍ وُهب اللغة، والنور بالنسبة إليه جوهري كي يعيش ويرى عالم الأحياء؛ فالجحيم المظلم مليء بالظلال. رؤية النور والتكلم مع شخصٍ ما، ذاك تعريف جيد للسعادة بالنسبة إليّ.
- في قاموسك «كلماتٌ لا تُترجم»، تقولين بالفرنسية ما تعبّر عنه بعض الكلمات الأجنبية، والتي تعتبرينها غير قابلة للترجمة. وهذا الكتاب نفسه مترجم إلى عدة لغات، ومنها العربية. هل هناك تناقض ما؟ أم أن هناك عدة مستويات من القول، من نص لآخر؟ وهل بالإمكان أن تشرحي لنا مفهوم «عدم القابلية للترجمة» عندك؟
«ما لا يُترجم» هو من أعراض الاختلاف بين اللغات. وأنا أعرّفها، ليس على أنها ما لا نترجمه، ولكن على أنها ما لا نتوقف عن ترجمته، أو بالأحرى عن عدم ترجمته. يجمع «قاموس كلمات لا تُترجم» عددًا من الصعوبات التي تعيق بانتظام فهمنا للنصوص في هذا المجال، إذا ما أخذناه في معناه الواسع، المتعلق بالفلسفة واللغات الأوروبية. وهكذا، «مرحبًا»، Khaire («ابتهج، متّع نفسك») في اليونانية القديمة، وVale («كن بصحة جيدة») باللاتينية، و«سلام» بالعربية، و«شالوم» بالعبرية، كلها كلمات تكشف عن العالم بطريقة مختلفة. لكن، من المفيد والغنيّ بالمعلومات أن يوجد الفرق بين كلمة aimer (أحبّ) في اللغة الفرنسية، والتي يجب أن تٌنقل إلى الانكليزية حينًا بكلمة love، وحينًا أخر بكلمة like، أو الصعوبة في نقل المصطلح الهيغلي الشهير Aufhebung (الإلغاء). أنا لا أبحث في هذا القاموس عن الترجمة الصحيحة المثلى، بل أحاول أن أفهم وأن أوضح صعوبة الترجمة بشكل جيد. فاللغة الفرنسية، لغتي الأم، هي بمثابة «لغة ما ورائية» للقيام بهذا الأمر، ولكن من الواضح أنه يمكن للمرء تغيير اللغة الماورائية و«ترجمة» قاموس ما لا يُترجم.
لكن، وأنت على حق في ذلك، الأمور ليست بهذه البساطة. لأنّ اللغة سياسية، وهذا القاموس سياسي بقدر ما هو فلسفي. أنا كنت أنوي عند قيامي بوضع هذا القاموس، أن أقاوم اتجاهين محتملين في أوروبا: من ناحية، الانتقال إلى «الغلوبيش»، أي «الإنكليزية المعولمة [الشاملة]»، الذي يحيل لغات الثقافة الأوروبية، مثل الفرنسية، ولكن أيضًا الإنجليزية الجميلة والجيدة، إلى مرتبة اللهجات البسيطة التي تُتداول في المنازل. من ناحية أخرى، ما أسميه «القومية الأنطولوجية»، على غرار هايدجر أو من قبله، ريفارول، الذي يفرض تسلسلاً هرميًا للّغات وفقًا لقربها من اللغة المجرّدة، أي «لغة الوجود»، «اللغة الطبيعية»، المتجذرة في الشعب وحتى في العِرق. ليس للترجمة الأمريكية لهذا «القاموس» هذا الاهتمام، ولكن الهدف منها توسيع نطاق الفلسفة التحليلية السائدة، ولتكون بمثابة عملٍ مقابل أو مصاحب لها. أما الترجمة الأوكرانية فإنها تستكشف الاختلاف مع الروسية، في حين أن الترجمة الروسية قد طلبتها دار النشر نفسها.
والترجمة إلى البرتغالية حصلت في البرازيل، وإلى الإسبانية في المكسيك، وهما تعملان على تحويلات اللغة الأم عندما تَبتلع اللغات الأصلية في البلدان المحتلة. ثم إن الترجمة العربية، وهي غير كاملة في الوقت الحالي، قد ركزت على المصطلحات القانونية بالمعنى الواسع للكلمة، بما في ذلك القانون والأخلاقيات، وذلك من أجل المساعدة في «توسيع البرنامج»، وهذه كلمات أستعيرها من علي بن مخلوف [المترجم العربي]. لذلك فإن ترجمة قاموس «كلمات لا تترجم» هي إعادة اختراعٍ في كل مرة تحصل فيها، فهي تقدم منظورًا آخر، ومداخل جديدة، وتتخلّى عن مداخل أخرى، وتُكيّف أمثلة نصية ولغوية ونحوية جديدة. القاموس ليس عملاً مغلقًا، ليست «مشروعًا» ergon كما يقول أرسطو، ولكنه طاقة energeia، وإيماءة، كما يقول هومبولت أيضًا.
- أنا لطالما أكدتُ على أن الترجمة حلقة في سلسلة، أي إنها مرحلة من ضمن مسار طويل يبدأ بالمؤلف ولا ينتهي بقارئ النص المترجَم. هل تعتقدين أن النص المترجم الذي لا «يتدبره» أبناء اللغة الهدف يبقى دائمًا ورغم كل شيء نافعًا وفاعلاً في ثقافة هذه اللغة؟
حقًا، ليست الترجمة سوى حلقة واحدة في سلسلةٍ مفتوحة طويلة لا يمكن التنبؤ بها أحيانًا، وهذه السلسلة هي النقل. فأنا لا يمكنني أن أتخيل، على سبيل المثال، الآثار التي يمكن أن تنتجها ترجمة القاموس الحالية إلى اللغة الولوفية. إن التقارب بين كلمتي traduire و interpréter («ترجم» و «أوّل») موجود بالعمق في المصطلحات العربية، والإبداع عن طريق الترجمة جزء من الثقافة والفلسفة. لكنني أودّ أن أؤمن بأن النص المترجم الذي لا «يتدبره» [الناس] يُمكن أن ينتظر: إنه هنا، وموجود، ومن المهم جدًا أن يكون موجودًا هنا، فنحن لا نعرف ما الذي سيتحصل منه في المستقبل.
- لا شك أنك تعلمين أن الفلاسفة العرب القدامي كانت لهم شهرة كبيرة في العالم المعروف آنذاك، وأنهم كوّنوا مفردات (مصطلحات) عربية خاصة بهم وقد نُقلت هذه المصطلحات إلى اللاتينية ثم إلى عدة لغات أوروبية. لكن، اليوم، يستعمل الفلاسفة العرب، في معظمهم، وفي لغتهم الأم مفردات ومصطلحات مختلفة تنبع من قراءاتهم الإنكليزية أو الفرنسية، هل يُعد هذا صحيًا؟ وهل يمكن القول إن لكل عصر فلسفته ولكل فلسفة مفرداتها وإن المفاهيم الجديدة تتطلب كلمات جديدة؟ وهل الفلسفة ترتبط ارتباطًا حميمًا بالكلمات وباللغة (وبلغةٍ معينة)؟
لقد كانت اللغة العربية لغة أساسية في الترجمة-النقل، وهي حافظت على جزء كبير من الفلسفة، وخاصة الفلسفة اليونانية، ونقلتها وحولتها. لكن، من الواضح أنها أيضًا وقبل كل شيء لغة لها مواردها الخاصة ومصطلحاتها الفلسفية الخاصة بها، وأنا متأسفة جدًا لأننا لم نتمكن من دراستها بحد ذاتها فيما أسميناه «مفردات الفلسفات الأوروبية، قاموس ما لا يُترجم». وهذا هو السبب في أن ترجمة هذا القاموس إلى اللغة العربية وإعادة ابتكاره فيها أمرٌ يُعد مغامرة جديدة ورائعة.
أنا أؤمن بوجود صلة بين اللغة والفكر، بين اللغة و«رؤية العالم»، إن أردنا التحدث مثل الرومانسيين الألمان. وأنا أعتقد أنه من المهم جدًا أن يعمل المرء بلغته هو، لكن هذا يعني أيضًا وربما في المقام الأول أن يعمل بين اللغات. لأنه إن كان الإنسان لا يتحدث إلا بلغة واحدة، فإنه لا يعرف حتى أنه يتحدث بلغة. «أكثر من لغة» ذاك هو الشعار الذي اخترته ليُنقش على سيفي الذي قُدِّم لي عند دخولي الأكاديمية. المُدخلات في قاموس «ما لا يُترجم» ليست مفاهيم؛ بل هي كلمات، كلمات في اللغة. وكما يقول هومبولدت، لم أصادف مفاهيمًا بتاتًا؛ بل كلمات فقط. ما هو عالمي يكون دائمًا عالميًا لشخص ما، والإنكليزية كما الفرنسية، لا تقدمان مفاهيم بل كلمات. ومن الممكن أن يجد المرء أنّ هذه الكلمات التي تأتي من مكان آخر مثيرة للاهتمام، أو يمكن أن يستخدمها، ويبحث لها عن مُقَابِلات، ويستخدمها كمطلِقةِ تحذيرات، ويدمجها في لغته أو يُعيد ابتداعها، أو يستفيد من مخزون لغته التاريخي من المعادلات المختلفة عنها، أو يتابع بذلك العمل على هذه المشكلة المزعجة التي هي «عبقرية» اللغات. يمكن للفيلسوف العربي الذي يتحدث اللغة العربية أن يستخدم كلمات إنكليزية، ولكن مما لا شك فيه أنه لا يستخدمها مثل الفيلسوف الإنكليزي. هناك لجنة للمصطلحات تترأسها «الأكاديمية الفرنسية»، وهي تبحث عن أفضل المُقَابِلات للكلمات الجديدة المستخدمة في الفرنسية، وهي بالفعل إنكليزية في مجملها. لكن اللغة، مثل «قاموس ما لا يُترجم»، ليست عملاً مغلقًا: إنها طاقة تستوعب باستمرار كلمات جديدة تأتي من أيّ مكان آخر، وتعطي أيضًا بعضًا من كلماتها للّغات أخرى. هذا أمر صحيحٌ تمامًا، على سبيل المثال، بين العربية والفرنسية، والعكس بالعكس. كما أن الشعب ليس هوية ثابتة أكثر من اللغة: فالتطور جزء من حيويته. وما أجده جديًا وحقًا خطيرًا، هو أن يوجد فيلسوفٌ عربيّ لا يمارس الفلسفة إلا باللغة الإنكليزية -كما طلبت إحدى الوزيرات [الفرنسيات] من باحثي «المركز الوطني للبحث العلمي»، من أجل رفع مستوى المؤسسة في تصنيف شنغهاي-عندها ستصبح اللغة العربية قد عفا عليها الزمن في أقسامٍ كاملة من ميادين استعمالاتها.
- من بين الفلاسفة العرب، القدامى والمحدثين، الذين تعرفينهم، أيهم استرعى انتباهك بشكل خاص؟ ولماذا؟
أنا لا أتحدث العربية، وهذا من أشدّ ما يؤسفني. والحقيقة أقول، أود أن أكون قادرة على فهم القليل من العربية والعبرية والصينية، وهذا أضعف الإيمان … لذلك، لا تعدو معرفتي بالفلسفة العربية أن تكون أكثر من معلومات كلها عبر وسطاء [بالترجمة]، وهي غير كافية بشكل جذري. أنا أعرف – قليلاً – الفلاسفة العرب، مثل ابن رشد والفارابي، الذين نقلوا وترجموا وأعادوا اختراع الفلاسفة اليونانيين. وأعرف بعض الفلاسفة العرب المعاصرين مثل محمد أركون، الذي قدمه لي أصدقاء فلاسفة مثل الراحل عبد الوهاب المدب، وعلي بن مخلوف، وسليمان بشير ديان، الذين يعملون على طرح إسلام منفتح. باختصار، لدي الكثير لأتعلمه. وأنا أعمل بجهد، ذلك أنني بدأت مشروعًا كبيرًا حول «ما لا يُترجم في الديانات التوحيدية الثلاث».
- في عصر العولمة والحوسبة الشاملة، هل هناك مستقبل للفلسفة عمومًا وللفلسفة الفرنسية خصوصًا؟ إن كان الجواب نعم، وهذا ما نتمناه، في أي اتجاه يذهب الفكر الفلسفي حاليًا، في فرنسا وفي العالم؟
لا أعرف كيف أجيب على هذا السؤال. إذا كانت الفلسفة هي ممارسة الحكم، الذي يحصل بتوجيه من تاريخ مفتوح، فأنا لا أفهم لماذا لا يعود لها بغتة مكان في العالم المسكون. كما هو الحال في كل شيء، يجب المتابعة والابتكار. أنا شخصيًا أعتقد أنه يمكننا استخدام العولمة والحوسبة كحلفاء لنا، أو على الأقل محاولة ذلك.
فيما يتعلق بالترجمة، على سبيل المثال، أنا بصدد إعداد برنامج بحثي مرتبط بما يسمى الترجمة «العصبية»، وبالتعلم الإلكتروني. من الممكن تزويد أجهزة الكمبيوتر، التي تجمع كل شيء تجده على الشبكة، وفي الغالب بالإنكليزية المعولمة، بمواد أكثر تعقيدًا ومختارة نوعًا ما، ومرتبطة بمدوّنات ما لا يُترجم وبالترجمات التي تحلل صعوباتها، على سبيل المثال موقع «أورلكس» Eurlex الكبير جدًا والمرتبط بشكل خاص بمدونة اللسانيين الحقوقيين من محكمة العدل الأوروبية في لوكسمبورغ. وأنا أود إنشاء «ويكي» [قاموس على الإنترنت] لما هو غير قابل للترجمة، ما من شأنه أن يجعل «الترجمة الآلية» أقل سطحية ويستخدم الصعوبات المثبتة فيها، وانحرافاتها التي يمكن اكتشافها، بوصفها مطلِقةً للتحذيرات.
من وجهة نظر «فلسفية» أكثر دقّة، يبدو لي أن «النظرية الفرنسية» تمثل نقطة توازن ممتازة أو ثقل موازن للفلسفة التحليلية التي تكون في بعض الأحيان سريعة وعالمية ومختصرة في مقاربتها للّغات والفوارق بينها. أعتقد أن الاهتمام بالفوارق في اللغات والثقافات والتقاليد الفلسفية هو منظور صحي، بشرط معرفة كيفية إعادة هذا المنظور إلى وظيفته الصحيحة وفحصه من جديد وباستمرار. باختصار، علينا أن نعمل معًا.
- لقد كنتِ مسؤولة في اليونسكو عن «شبكة الفيلسوفات»[1] كما كنتِ مسؤولة عن «مجلة الفيلسوفات» في اليونسكو أيضًا. هل تختلف الفلسفة حسب جنس الفيلسوف؟ وعمومًا، هل يمكن أن يخضع الفكر لجنس الشخص الذي يكوّنه وينطق به؟ أو ربما لجنس الشخص الذي يُوجّه إليه؟
إن الفلسفة، ومن حيث كونها تُعرَّف على أنها حب الحكمة، لا تدين بأي شيء للجنس من حيث المبدأ. ولكن في الواقع، حصل أنه من خلال «اختراعها على يد اليونان»، لم تترك عمليًا أيَّ مكان للنساء. وتقليديًا، أُعطيت الفلسفة للرجال، والأدب للنساء. وعندما تمنحهن الفلسفة المعاصرة مكانًا، يكون ذلك في أغلب الأحيان مكانًا للتشويش على الفلسفة التقليدية وكذلك لإعادة إطلاق هذه الفلسفة التي هي للجميع، أي للرجال خصوصًا: الفيلسوفات يتخذن هذا المكان من أجل إثارة الضجة ووضع العصي في الدواليب، ولكن ذلك يكون من أجل دفعها إلى الارتقاء والتقدم وليس من أجل تغييرها. ومع ذلك، أنا أعتقد أنّ الوعي بالجنس اليوم، أو الأحرى بالنوع [الجندر] (الجنس أعمى والنوع واعٍ، sex blind and gender aware، كما يقول الأمريكيون)، يُغيّر الأوضاع قليلاً، عند الرجال والنساء الذين يكتبون كما عند الرجال والنساء الذين يسمعون. وربما يكون لدى النساء -وبقدر ما يمكن أن يكون هناك معنى لصيغة الجمع العامة هذه- رغبة فورية أقلّ في السيطرة. إنّ عبارة «سيدة الطبيعة ومالكتها» غريبة في صيغة المؤنث، أليس كذلك؟ ويبدو لي أن شبكة الفيلسوفات ومجلتهن في اليونسكو شيء ضروري خصوصًا وأن وضع المرأة في العالم متفاوت جدًا: ليس الشيء نفسه، وهذا أقل من أي وقت مضى، أن تكون امرأة أفغانية أو امرأة فرنسية. الشبكة ليست حلاً، ولكن إذا تمكنا من إعادة إحيائها؛ فسيكون ذلك بمثابة تسليطٍ للضوء، أو مساعدة لوعي الأمر جماعيًّا.
- أخيرًا، هل بالإمكان أن تخبرينا عن المواضيع التي تعملين عليها حاليًا وعن مشاريعك المستقبلية؟ وما هي الكتب التي تعملين الآن عليها وأيها سيصدر قريبًا؟
لقد ذكرتُ منذ قليل متابعة معجم ما لا يُترجم في الفلسفة الذي سيكون «معجم ما لا يُترجم في الأديان التوحيدية الثلاثة»، أو الأديان الإبراهيمية. كيف نقول «الله»، و«الآخر»، و«آمن»، في التوراة والإنجيل والقرآن؟ لماذا الجمعة، والسبت، والأحد؟ ما هي الكلمات الأكثر لفتًا للنظر في كل كتابٍ من الكتب الثلاثة، وما هي الكلمات الفريدة، والعبارات الملتبسة، وتراكيب الجمل، وشبكات الدلالة البارزة؟ وكيف تدرك الكتب الثلاثة ذاتها في علاقتها بلغة الوحي (أو بلغات الوحي)، والنقل، والترجمة الممكنة؟ هذا عملٌ هائل تُفتح أبوابه هنا. وإذا استغرق وضع أول قاموس 150 باحثًا وحوالي خمسة عشر عامًا، فأنا لا أجرؤ على تخيّل المدة التي سيستغرقها القاموس الحالي، لكنني أعتمد على الوصول إلى نتائج مهمة بالفعل ويمكن نشرها في غضون خمس سنوات.
سأصدر في بداية العام الدراسي القادم، في أكتوبر، كتاب بعنوان «ما تقدر الكلمات عليه: الفلسفسطائية» (Ce que peuvent les mots. Philosophistiquer) (هذا مصطلح جديد صاغه نوفاليس)، عن دار النشر Bouquins. وأنا أتناول فيه عددًا معينًا من النصوص، التي غالبًا ما لا يمكن الحصول عليها أو التي استعملت بمثابة أمهات النصوص في أعمالٍ أكبر. وهي كُتبت بين عامي 1977 و 2022، وأنا اعتبرت أنها تشكل حقًا مجموعة متكاملة تجمع بين الشعر والفلسفة وعلم اللغة.
وفي منتصف أكتوبر، سينتهي المعرض الذي أنا مسؤولة عنه في «لا فيي شاريتيه» في مرسيليا، وهو بعنوان «الأشياء المهاجرة»، وأنا آمل أن تتاح لي الفرصة قريبًا لتحويل الأفكار إلى أشياء، مرة أخرى. هذه طريقة أخرى للكتابة للجميع، وأجدها رائعة. أنا أيضًا أمينة مشاركة في «المدينة العالمية للغة الفرنسية» في فيليه كوتريه Villers-Cotterêts، كما أقوم حاليًا بإكمال كتالوج المسار الدائم. أقصد بذلك كتالوج مسار معرض اللغة الفرنسية الدائم في هذه البلدة، ويقوم على مبدأين: اللغة شأن سياسي، ولا توجد اللغة، أيًا كانت، من دون تضافر الآخرين.
كما أعمل يوميًا في جمعية «بيوت الحكمة – الترجمة». لقد انتهينا منذ فترة من وضع أربعة مسارد ثنائية اللغة للإدارة الفرنسية، بما في ذلك مسرد باللغتين العربية والفرنسية، وسنقدمها بشكل خاص في «معهد العالم العربي» في باريس في ديسمبر القادم. إنهم لا يترجمون وحسب؛ بل يوضّحون صعوبات التفاهم بين أولئك الذين يَستقبلون وأولئك الذين يُستقبلون عن طريق «حُقن ثقافية» متبادلة، نحن بحاجة إلى التمويل، وأنا أبحث عن مصادر له.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] أسس اليونسكو «الشبكة العالمية للنساء الفيلسوفات» في 8 مارس 2007 بمناسبة اجتماع عمل شارك فيه 25 من مشاهير الفيلسوفات في العالم، وكان ذلك بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة. تعمل هذه الشبكة من خلال «مجلة النساء الفيلسوفات» على توحيد كلمة الفلاسفة النساء في العالم أجمع، وخاصة في العالم الثالث، من أجل إعطائهن حرية التعبير عن أفكارهن انطلاقًا من التقاليد الفكرية التي ينتمين إليها (المُحاوِر).