«يشتغل المترجم بواسطة عناصر اللغتين، كما لو أنّ الأمر يتعلّق بعلاماتٍ رياضية يمكنها أن تؤول، عن طريق الجمع والطرح، إلى قيمٍ متكافئة». – ف. شلايرماخر، في المناهج المختلفة للترجمة.
لكي يُمكن للترجمة أن تقول الشيء ذاته على «وجه التقريب»، يقترح علينا أمبرتو إيكو أنّ نمارسها كتفاوضٍ ومساومة Négociation. الكلمة كما هو معلوم، تحيل إلى السياق التجاري والسياسي، إذ تعني أساسًا تقديرًا للخسارة التي تتعرّض لها الأطراف المشاركة في صفقةٍ تجاريةٍ أو حوارٍ سياسي، وكذا الأرباح التي يمكن أن تُجنَى من وراء ذلك. «إنها تقتضي منّا أن نتنازل عن شيءٍ ما للحصول على آخر، كنوعٍ من التّراضي الذي يجعل الفرقاء يخرجون من العملية برضىً معقول ومتبادل».
من هم هؤلاء الفرقاء؟ يجيبنا إيكو: «أطراف متعددة، رغم أنّ بعضها قد يعدم كل مبادرة: فمن جهةٍ هناك النصّ المصدر، بحقوقه المستقلة بذاتها، يُضاف إليه صاحبه، إن كان على قيد الحياة، وحرصه على مراقبة العملية، من غير أن ننسى الثقافة التي وُلد النصّ في حضنها. ومن جهةٍ أخرى، هناك نصّ الوصول، والثقافة التي يظهر فيها النصّ، مع انتظارات القرّاء المحتملين. وأخيرًا هناك صناعة النشر التي تحدّد معايير متحوّلة، حسبما إذا كان نصّ الوصول مرصودًا لمجموعة كتبٍ في فقه اللغة، أم لمجموعة كتب تسلية»[1].
لا يتبقّى للمترجم إذن إلاّ أن يساوم ويتفاوض، ليخفّف من الخسارة التي يمكن للأطراف الداخلة في عملية الترجمة أن تتقبّلها، أو كما يُقال في شأن كل تفاوض، ليخرج بأقلّ خسارة، أو ليخرج الجميع «رابح رابح»، كما أصبح السياسيون يرددون اليوم. معنى ذلك في الأساس أنّ إيكو، فضلاً عن ابتعاده عن المفهوم الأخلاقي للخيانة، فإنّه يسلّم بعدم وجود قواعد عامّة من شأنها أن تُوجِد حلولاً للقضايا التي تطرحها الترجمة. ما يتبقّى هو التفاوض في شأن كل حالة تُواجَه، وكل معضلة تُطرح، وهو تفاوض لحظيّ في شأن الحلّ الذي يظهر أنه هو الحلّ المناسب. فحتى إن تشبثنا بالحديث عن الأمانة هنا، فإنها ستكون أمانة التاجر ورجل السياسة، لا أمانة رجل الأخلاق.
مفهوم الـ Négociation الذي يقترحه إيكو، حتّى وإن كان يجرّ الترجمة إلى مجال الربح والخسارة، والبيع والشراء، والمساومة والتفاوض، وحتى إن كان يبعدها عن كل طرحٍ أخلاقيّ يقيس الترجمة بمدى وفائها للأصل، أو خيانتها له، فإن ما يُمكن أن يؤخذ عليه هو كونه يسلّم بأن في جيب المساوِم فائضًا من الإمكانيات، كما يفترض أنّ المفاوِض، بإمكانه أن يتنازل طوعًا عن شيءٍ ما، كي يحصل على آخر، فهو الذي يدبّر العملية ويتحكّم فيها. لكن، ربما كان هذا التحكُّم غير متاح دومًا بالنسبة للمترجم، فهو ليس مهندسًا يخطّط لمشروعه، إنّما هو أقرب إلى البريكولور الذي يحاول أن ينجز العملية اعتمادًا على ما يتوفّر، حتى وإن كان هذا الذي يتوفّر يتّسم بالمحدودية.
لا شكّ أنّ القارئ قد خمّن أنني أشير هنا إلى التقابل الذي يضعه كلود ليفي-شتراوس بين المهندس والبريكولور. ولكي نوضّح الربط الذي نراه بين المترجم وهذا البريكولور، لا بأس أن نتذكّر بأنّ صاحب «الفكر المتوحش» يرى أنّ بإمكان البريكولور أن يقوم بمهامٍ عديدة ومتنوعة، لكنه على خلاف المهندس، لا يجعل أيًّا منها يتوقف على الحصول على المواد الأولية وعلى الأدوات المهيأة قياسًا على مشروعه. فعالم أدواته عالم منغلق، والقاعدة التي يعمل حسبها هي التكيّف مع ما يتوفّر، وأعني مع مجموعة محدودة من المواد والأدوات، التي قد تكون متنوعة؛ لأنّ التأليف بين عناصر المجموع لا علاقة له مع مشروع اللحظة، بل ولا مع أيّ مشروع مخصوص، إنما هو نتيجة لا تخضع بالضرورة لكل الفرص التي سنحت لتجديد المخزون وإغنائه، أو صيانته بفضل ما يتبقّى من البناءات السابقة.
معلوم أنّ العالِم الأنثروبولوجي يستعمل مفهوم البريكولاج للدلالة على العمليات التي تساهم في بناء الفكر الأسطوري الذي يعبّر عن نفسه «بواسطة سجلّ متنوع، حتى وإن تمّ توسيعه فهو يظلّ محدودًا، ورغم ذلك فهو مضطر إلى اللجوء إليه، لكونه لا يتوفّر على غيره»[2]. عندما يتصوّر المهندس مشروعه ويخطط له، فإنه يشترط أن تُوَفَّر له المواد والأدوات الضرورية لإنجاز ذلك المشروع، أمّا البريكولور فإنّه لا يفتأ يعيد النظر في تحديد ما يتوفّر من موادٍ وأدوات.
ليس المترجم-البريكولور مهندسًا يشترط توفير ما يلزم لنقل النصّ إلى لغةٍ أخرى وسياقٍ آخر، إنما ملزم بالاقتصار والعمل بما يتوفّر وما تتيحه اللغة الناقلة. إنه مضطر للبحث عمّا يُرضي أطراف الترجمة والسعي وراء توافقات، إلّا أنه مثل بريكولور ليفي شتراوس: «لا يمكنه أبدًا أن يأتي على إنجازٍ نهائيّ لمشروعه، فيضطر لأنّ يضيف شيئًا من عنده»[3]. فهو ليس مهندسًا يطلب من اللغة الناقلة أن توفّر له جميع الأدوات اللازمة لإنجاز مشروعه، إنما هو بريكولور يعيد النظر في تحديد الأدوات التي يمتلكها مُقَدَّمًا من أجل «طبخةٍ جديدة».
نستلهم من مقال لرولان بارت نُشر في المغامرة السيميولوجية أنّ البريكولور يقيم «مطبخًا للمعنى»[4]، فهو يتزوّد من السوق بدلائل العالم وعلاماته، فيتذوّق طعمها، وبما أنه قادر على أن يُبرز استعمالاتها الممكنة، وفي قدرته أن يصوغها وفق اهتماماته، وإمكاناته، فإنه يغدو قادرًا على تملّك الموضوعات التي سبق طبخها ليعمل منها «مرقه الجديد».
يولّد المترجم-البريكولور – انطلاقًا من استعمالاتٍ متداولة للغة – عبارات تتحدد معانيها بالكيفية التي يتملّك بها اللغة. فالألفاظ تتخذ عنده معانيها من استعمالاتها واشتقاقاتها الأصلية، لكن أيضًا من التجربة النظرية والعملية التي اكتسبها بصددها. إذ يقيم حوارًا مع هذه المعاني، فيحتفظ لها بنصيب من اللاّ تحديد يسمح لها بأن تبدّل مكانها، وتتنقل بحسب ما تمليه السياقات، وفق ما يراه هو أكثر ملاءمة. إنه لا يشترط توفير الألفاظ المطابقة، ولا يأخذ الألفاظ في ما استقرّت عليه، إنّما فيما يمكنها أنّ تصيره، وما تفرضه عليها «استضافة الغريب».
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] Umberto Eco, Dire presque la même chose, Expériences de traduction, tr Myriem Bouzaher, Grasset, Paris, 2003.
[2]Claude Lévi-Strauss, La pensée sauvage, Paris, Plon, 1962. p.33
[3]Claude Lévi-Strauss, La pensée sauvage, Op. Cité, p.35
[4] Roland Barthes, « La cuisine du sens », dans L’Aventure sémiologique, Seuil, Paris, 1985, p. 228
يعمّم جاك دريدا مفهوم البريكولاج على الخطاب كيفما كان: «إذا أطلقنا البريكولاج على ضرورة استقاء المفهومات من نص موروث ضعيف التناسق أو محطم بالمرة، سيكون علينا أن نقول إن كل خطاب بريكولور». كل إنتاج لخطابٍ حسب دريدا هو بريكولاج. انظر بهذا الصدد:
Jacques Derrida,L’écriture et la différence,
Paris, Seuil, 1967