عندما يكون هاتفي النقال بين يديّ، هل أكون أنا الشخص نفسه لو كان الهاتف في غرفة أخرى؟ من ناحية، من الواضح أني لن أكون كذلك؛ إذْ ستكون مهاراتي الحسابية والمِلاحيّة استثنائية للغاية إذا كان الجهاز متصلًا بالإنترنت؛ سأتمكن من الإجابة عن مليارات الأسئلة في غمضة عين وإن كانت جميع إجاباتي غير دقيقة، وسأتواصل مع ملايين الغرباء عبر الزمن والمسافة، وسأتمكن من التظاهر بأنني شخص آخر، أو بأنّي نسخة مهذبة من نفسي بما يمدحني .
أيمكنني حقَّا فعل كل هذا؟ هل أنا من أفعل هذه الأشياء؟ أم تُراني أستخدم أدوات متنوعة لتفعل هذه الأشياء لي؟ لربما بدا واضحًا “أنني” لستُ الفاعل الحقيقي لأيٍ من هذه الأشياء التي ذكرتُها آنفًا؛ أقل ذلك أنه ليس كما أفكر أفكارًا معيّنة، أو كما أنظُمُ الكلمات لحكي قصّة؛ فأنا رجلٌ وَجَدَ نفسه في القرن الواحد والعشرين، وبالتالي أُتيح له الوصول إلى ترسانة كاملة من الأدوات التقنية. لكنَّ أساسيات جهازي الحيوي، وهويتي، وإدراكي تشبه ما امتلكه أسلافي في العصر الحجري. بناءً على آخر تحليل، أنا عقل يقبع داخل جمجمة تعلو جسدًا.
هل أنا حقًّا هكذا؟ هذه الكلمات التي تقرؤونها الآن، تقنيات خاصة: أي: مجموعة أدوات متشارَكة متشابكة قضى أسلافنا آلاف السنوات الأخيرة في صقلها. نحن مختلفون تمامًا عن أسلافنا في عصر ما قبل القراءة والكتابة، وذلك بفضل تمثّلات حياتنا الداخلية والخارجية. لا تعد الكلمات المكتوبة تقريرًا عن حالاتنا النفسيّة، أو سجلًّا لما نلاحظه فحسب؛ فإنها أيضًا مذكّرتنا للعالم ومجمعُ معارفنا؛ إذ تراكم ثم تراكم لا نهاية له؛ فتعرِّفنا على طرقٍ جديدة للوجود؛ وهي ليست الوحيدة في هذه الوظيفة.
وفقًا لما يُعرف بـ«نظرية العقل الممتد» ثَمَّ مسلَّمة أنَّ العقل يمتد كامتداد أجسادنا، فهي على أفضل حال استقراء مغلوط للنفس؛ وعلى أسوأ حال فهي شكل من أشكال الماهوية البيولوجية التي تتجاهل كثيرًا مما هو مميز حول وجودنا. فأن تُولد في خضمّ الإرث التقني والثقافي للبشرية يعني أن تُولد في عالم يضجّ بالآثار الفنية الإدراكية: بأغراض وبيئات تحسّن من حيواتنا النفسية بطرقٍ تتطلّب رصيدًا معرفيًّا.
امتلاك هاتف نقال واستخدامه لا يؤثر على هويتي في ارتباطي بالعالم أو بدوري فيه فقط، بل كلّما استخدمت هاتفي واعتمدت عليه، صار جزءًا من عقلي؛ فهو نوع من البِدلة الفكرية التي لا تُفعّل فحسب جوانب العملية الإدراكية، بل تمثلها أيضًا. إذا أُخذ منّي، سأتغير جوهريًّا. وإذا ثُبتّت تطبيقات جديدة، واستُعملت خاصيّات جديدة، صار [واقعي] معزّزًا على نحوٍ جوهري.
وقد صاحب الوجود الدائم للكاميرات العالية الدقّة في الأجهزة الحديثة، فعلى سبيل المثال مجموعة من التعديلات الإدراكية التي لا يمكن تفسيرها إلا كمنتجات للنظام المقرون «شخص بهاتف مزوّدٍ بكاميرا» حينما ألتقط صورةَ قائمةِ طعامٍ بلغة أجنبية، ثم أستخدم تطبيقًا يراكب على الفور الترجمة باللغةَ الإنجليزية على هذه الصورة، فأنا أوظّف إمكانيّةً لا نستطيع أن نُعزيها على نحوٍ مستقل للجهاز أو لنفسي. فطالما أنّ الهاتف متصل بالإنترنت، ومشحون، وفي يدي، فأنا أستطيع أن أفهم العالم وأفسّره بطرقٍ جديدة تمامًا.
نُعزِي عبارة «العقل الممتد» إلى ورقة ألفها الفيلسوفان أندي كلارك وديفد تشالمرز، والتي تبدأ بسؤال واسعٍ مثير – «أين يتوقف العقل؟ ويبدأ باقي العالم؟» – وتبني عليه لتشير أنه -ولو من ناحية المبدأ- فحتى النقطة التي ينتهي فيها عقل شخصٍ ما ويبدأ عقل شخصٍ آخر غيرُ مُحدَّدة تحديدًا دقيقًا؛ فابنتي ذات الخمس سنوات معتمدة على أبوَيها كليًّا تقريبًا، وعلى مجموعة من البالغين؛ ليؤمنِّوا عالمها ويجعلونه مفهومًا. فماذا يكون ذلك إن لم يكن امتدادًا –أو توزيعًا– لحياةٍ عقلية بين كثير من الأجساد؟
عند قراءة المثال السابق ألاحظ أنَ لغتي تميل إلى الغموض، لكنَّ الذي تعرضه هذه الأفكار ما هو إلا تصحيحٌ للتركيز التقني الذي يسود تأويلات نهج كلارك وتشالمرز، وللتشابه الخاطئ الذي ترمي إليه [هذه التأويلات] حول عقولنا والأدوات التي اخترعناها؛ لتعزّزها.
أنا في هذا مذنب مثل أيّ شخص جزئيًّا بسبب أنَّ نظرية العقل الممتد تلائم عصرَ الهواتف الذكية تمامًا. لعلّ أفضل تمثيل للإدراك المعزّز بالآلة، أو لقوة جاذبيّته، حقيقة أنَّ أكثر الناس على اتصال دائم بحواسيب بحجم الجيب في كل ساعةٍ من النهار، ومع هذا، تتجاوز أصول هذه الظاهرة وإسقاطاتها معادلةَ العقول والآلات تجاوزًا كبيرًا.
كما ناقشت المؤلفة آني مورفي باول في كتابها الأخير: (العقل الممتد: قوة التفكير خارج الدماغ) (The Extended Mind: The Power of Thinking Outside the Brain)، لأن أدمغتنا لا تشبه الحواسيب ألبتة، فلهذا تنتفع من التقدم التقني. يا لأهميّة هذا التقدّم! لكنه بعيد عن النوع الوحيد من الامتداد الفكري الذي يستحق الالتفات إليه، ولا يجب أن يمنعنا ذلك من التعرف على الطرق العديدة التي تشكِّل فيها بيئاتنا وعاداتنا وعلاقتنا جوانبَ الذات. كتب باول: «أجهزتنا تمدّد عقولنا، وستظل كذلك» ، «لكنَّ هذا لا يحدث دائمًا؛ إذ تقودنا أحيانًا إلى التفكير على نحوٍ أقل ذكاءً، مثل أي شخص شتته رابط أو أضاعه نظام ملاحة… وهذا يدل في غالب الوقت أنّ الذي صمّم الحواسيب والهواتف الذكية الحالية نسي أنَّ المستخدمين هم أجسام من جلدٍ وعظم، وأنهم يحتلّون مساحات فيزيائية، ويتفاعلون مع غيرهم من البشر».
كما يعرف أكثر آباء وأمهات القرن الواحد والعشرين أنّ علاقات الأطفال بالتقنيّة وقودُ تحليلات صالحة على نحوٍ شائك لإدمان الأجهزة التقنية، والاعتماد عليها، والشعور بالنّقص بسببها. إلا أن وجهة النظر الأخرى تكاد لا تُذكَر في كثير من هذه النقاشات، وهي قوة الأدلة حول احتياجنا الهائل لهذه الأشياء كالحركة واللمس والتحفيز، واحتياجنا إلى نطاق غني حسيًا بالأنشطة والإدراكات، واحتياجنا إلى غذاءٍ جيد، وصُحبة جيّدة، وراحة، ونقاهة؛ إذ إنَّ التقنية لا يلزم أن تُعدّ عدوًّا لهذه الأشياء، لكنّ تجاهلنا لها صفة مؤكدة للتقليل من عقولنا وهويّاتنا؛ لتضييق الأفق الإنساني تضييقًا لا داعيَ له.
ماذا يتعين فعله؟ تقترح باول نهجًا عمليًّا واعدًا؛ إذ تناقش فتقول: «نحن نتمدد خارج حدودنا ليس بتدوير أدمغتنا كآلة أو بتضخيمها كعضلة، ولكن بنشر موادٍّ غنية في عالمنا، وبنسجها في أفكارنا». يمكن إثراء عقولنا، إثراءً جمعيًّا ومتزايدا بتقبل فكرة أنَّ أفكارنا أيضًا ليست أفكارنا أبدًا.