لا بد من الحديث عن الزمن عندما يتعلق الأمر بقياس اتساع الفضاء الخارجي، لكي نستطيع الحديث عن المسافة. أخبر أبنائي، حينما أراقب سماء الليل معهم، أنَّ ضوء النجوم الذي تدركه أبصارنا الآن موغل في القِدَم؛ فبعضه نشأ حينما كانت الديناصورات تقف حيث نقف الآن، وبعضه قبل أن تكون هناك حياة على الأرض.
إنني أكتب بلغة أدبية حينما أقول ذلك، ولكن الأصل أن أقدم ضوءًا تدركه أعيننا المجردة لا يزيد عمره عن 2,5 مليون سنة، ويأتي من مجرة أندروميدا المجاورة، (ويتطلب ليلة صافية غير مقمرة؛ ليظهر)، ولكن لأنَّ أعيننا المدعومة يمكنها عبر الهاتف المحمول رصد خرائط من إشعاع الخلفية الكوني الميكروي المتبقي من الانفجار العظيم قبل 13,8 مليار سنة، فإني أعتقد أنَّ المبدأ الأساسي هو ما يهم، وأيُّ فرصة لذكر الديناصورات تُعد إضافة.
يصعب على العقل استيعاب المسافات بين النجوم، ومع ذلك، يبدو أنَّ ابني -البالغ من العمر سبع سنوات- يدرك جوهرها على الأقل، وهذه إحدى السمات المتعلقة بموضوعات الفضاء (والديناصورات)؛ حيث يسهل الحديث عنها مع الأطفال؛ لأنها تفتقر إلى أي سياق اجتماعيّ؛ فاستحالة الحركة اللحظية بين مكانين مختلفين تبدو منطقية، وأمَّا اضطرار الأم والأب إلى لذهاب إلى العمل -مثلًا- فلا يبدو منطقيًّا؛ إنَّ قوانين الفيزياء – في حدِّ علمنا – لا تتغير في الجانب الآخر من الكون.
إليكم: كيف أتحدث عن الفضاء مع ابني؟
نقضي في السيارة ساعة كاملة للوصول إلى منزل جدته الذي يبعد ثلاثين ميلًا، وإذا ضاعفنا السرعة، فسنصل في نصف المدة، ولكنَّ الأمر سيستغرق بعضالوقت (كلما قرأتُ له هذه الفقرة وجدته يقول مفتخرًا: «نصف ساعة»)، ولو استطعنا الانتقال بسرعة الضوء – ما يزيد قليلًا عن 180,000 ميلًا لكل ثانية – فإننا سنصل خلال 0.0002 ثانية تقريبًا؛ فلا بد من مرور بعض الوقت أيًّا كانت سرعة الانتقال أو قصر المسافة التي تقطعها. يكون الضوء المنبعث من الشمس، في الساعة التي نستغرقها لقطع مسافة ثلاثين ميلًا، قد قطع معظم الطريق إلى زحل، ولكنه سيستغرق أكثر من خمس ساعات قبل وصوله إلى بلوتو – وأكثر من أربع سنوات قبل أن يصل إلى أقرب جيراننا من النجوم، وهما النجمان الثنائيان: ألفا سنتوري (أ) وألفا سنتوري (ب)- فلا يمكن أن يكون الشيء ذاته –حتى الضوء- في مكانين في ذات الوقت.
تصبح الطريقة التي يعمل بها كوكبنا أقل بديهية عند هذه المرحلة؛ فإنَّ سرعة الضوء -بخلاف سرعة سيارتي- ليست رقمًا اعتباطيًّا، إنما تمثل حدًّا أعلى لقوانين الفيزياء كما نفهمها، إذ السرعة التي يقطعها الضوء عبر الفراغ هي أيضًا السرعة القصوى التي ينتقل بها أي نوع من المادة أو الطاقة أو المعلومات من مكان إلى آخر. إنها -في الواقع- سرعة الزمن في حد ذاتها، وللزمن خاصية تدعو للتأمُّل منذ بزوغ الفلسفة، وهي أن الانتقال عبر الزمن يكون في اتجاهٍ واحد بخلاف المكان.
حتى ابنتي التي تبلغ من العمر أربعة أعوام تُدرك ما يستتبع ذلك؛ فهي لن ترى، أبدًا، لا هي ولا أي إنسان آخر، ديناصورًا حقيقيًّا. إن المقولة الفارسية المأثورة: «هذا الوقت أيضًا سيمضي» تُلخِّص أكثر الحقائق ثباتًا، وهي أنَّ الزوال الحتمي هو مصير كل أحد وكل شيء.
إذا كان هذا ما يُعلِّمه التحديق في النجوم، فإنَّ ما تعلِّمه الليالي الصافية سيكون أكثر قتامة في منزل عائلتي، والإنتروبيا (entropy) أو القصور الحراري ليس إلا البداية. ففي ورقة نُشرت في دورية Frontiers of Physics في شهر نوفمبر عام 2020م، حقَّق عالم الفيزياء الفلكية فرانكو فازا وجرَّاح الأعصاب ألبيرتو فيليتي في أوجه التشابه بين ما يسميانه: «اثنان من أكثر الأنظمة صعوبةً وتعقيدًا في الطبيعة»، وهما شبكة الخلايا العصبية التي تُشكِّل الدماغ البشري، والشبكة الكونية للمادة المظلمة التي تشكل أكبر مقياس هيكلي معروف للكون.
ما أن تصل إلى المستوى المجرِّي – وهو نطاق تهيمن عليه المادة المظلمة والطاقة المظلمة التي تمثل 95% من محتوى الكون رغم أنها غير مرئية لنا – حتى تكشفُ نمذجة الجاذبية شبكة من الخيوط المكوِّنة لمليارات المجرات حول الفراغات التي تُقدر بمليون فرسخ نجمي (نحو 3,260,000 سنة ضوئية). وتختلف هذه الشبكة وبنيات العقل البشري بأكثر من 27 درجة من حيث الحجم. يُشير التحليل الكمي، رغم ذلك، إلى ملاحظة أوجه شبه في تنظيم خيوطها وعقودها: بين التعقيد ذاتي التنظيم للمادة التي تربط بين مئة مليار مجرة، وترابطات الخلايا العصبية في الدماغ البالغ عددها 70 مليار خلية عصبية. يقول المؤلفان: «يُشير مستوى التشابه المُحيِّر الذي يكشفه تحليلنا إلى أنَّ التنظيم الذاتي لكلا النظامين المُعقدين تُشكِّله على الأرجح أسس ديناميات شبكية مماثلة، رغم العمليات والمقاييس الفعلية المختلفة تمامًا».
التشابه ليس دقيقًا لا ريب، ولكن إذا قارنت – مثلما فعلت أنا وأبنائي- بين تصورات الشبكة الكونية وخلايا الدماغ العصبية، فقد يكون التفريق بينهما تفرقةً سريعة أمرًا صعبًا؛ فكلاهما بهيّ ومتشابك على نحوٍ كُسيري: ألياف متشعبة ومتشابكة حول فقاعات من العدم، مثل جوف كعكة إسفنجية لا متناهية.
إنَّ التأمل في أعماق المكان والزمان يعني، بعبارة أخرى، اكتشاف شيء مبهم ومألوف على نحوٍ مريب في آن واحد: عمق من التشابه الذاتي الذي يربط بين علم الأحياء، وعشرة مليار سنة من البُعد. والوجود الإنساني كله لا يبلغ إلا أقل من ومضة في الزمان والمكان. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بمواجهة القصور الحراري (الإنتروبيا)، فثمة هيئات وإيقاعات مشتركة بين الاستراتيجيات التي طورتها الحياة على الأرض والبنى العظمى التي انتهى إليها الكون. إنَّ الحياة تغالب سهم الزمن حينما تُمرِّر نسقها المتراكم عبر الدهور، وكذلك يفعل كل شيءٍ آخر سعيًا للانسجام والتجانس في كل شيء.
أشاهد ضوء النجوم السحيق مع أبنائي، مستدعيًا صورةً عن بدايات الزمن وأبعد مدى للكون، استنادًا إلى جزءٍ من فهمنا للمخلوقات. وآمل أن يشاهدوا النجوم ذاتها مع أبنائهم، ويُحدِّقوا معًا في الماضي البعيد. فسيعود كل ما نحن عليه في النهاية إلى المدى الفارغ بين النجوم، وسوف يتلاشى الضوء عبر تريليونات السنين، وستمضي كل الأشياء. ومع ذلك، يمكننا أن نحيط -هنا والآن- بصورة من هيئته، وأن نرى في جملة كل شيء شيئًا من أنفسنا.