سرُّ البيان: اللفظ أم المعنى أم النَظْم؟
تحفل الأدبياتُ البلاغية العربية التراثية بمدارسات معمّقة لمسائل التعبير في قالبٍ من البلاغة، الفصاحة، البراعة، والبيان، وشهدتْ تكوّن مدارس بلاغية أسستْ لمداخل متنوعة في الصناعة التعبيرية الرفيعة، واحتدم النقاشُ حول أسرار البلاغة والبراعة، أهي راجعة أساسًا إلى الألفاظ[1]، أم هي معلَّقة جوهريًا بالمعاني[2].
ولكن، أليس ثمّة طريق ثالث؟ الفكر العربي الإسلامي، يُفلح دومًا في التنائي عن الثنائيات الحادّة المتصارعة، كما هو حال الفكر الغربي. وعليه، فثمّة مدرسة عَوان بين معسكري اللفظ والمعني، إذ أبتْ هذه المدرسةُ إلا التوازن العادل بين اللفظ والمعنى، فجعلتْ لكلٍ قدره وإسهامه في الإبانة عن مقاصد المتكلم أو الكاتب في قالبٍ من البيان الرفيع، وتُوِّجتْ هذه المدرسةُ بـ نظرية النَظْم لـ عبدالقاهر الجرجاني (المتوفى سنة 471 أو 474 هـ)، وهي التي تُقرّر بأن البلاغة كامنة في حُسن النَظْم للكلمات، بعضِها في إثر بعض وفق ترتيب خاص، تمامًا كنظم العِقد كما في كتابه الشهير دلائل الإعجاز.
لنفترض أننا نتوفر على خرزات متنوعة: لونًا، شكلًا، حجمًا، وملمسًا، وأعطينا هذه الخرزات لعشرة من الناس، أتراهم ينظمونها بطريقة واحدة متشابهة؟ لا، لن يحدث هذا، إذ لكلٍ ذوقه الخاص، مما يجعلهم يتفاوتون في طرائق نظمها، وفي العادة يكون بعضها أكثر جمالًا من بعضها الآخر، بسبب براعة النظم وذائقة الناظم، وهذا هو حال التعبير اللغوي وفق نظرية النظم، إذ تؤكد أن البراعة التعبيرية كامنة في حسن الرصف للكلمات بألفاظها ومعانيها، رصفًا به تستخرج الكلمةُ أحسنَ ما في أختها، وتفعل أختُها معها الشيءَ ذاته، فتنتجانِ مع بقية أخواتهما: وضوحًا تعبيريًا، بهاءً بيانيًا، وجرسًا عذْبًا.
الصنعة التعبيرية: هل نبتدئ باللفظ أم بالمعنى؟
إذن، المعركة حُسمتْ بالتصالح الطوعي بين طرفي التعبير وفق الصيغة التعاقدية الجرجانية الحكيمة العادلة، فلا ينتصر طرفُ على آخر، ولا يُضعف طرفُ آخر، وإنما يصيران إلى تآلف وتعاون وتحاشد. هذا حسن ومُشعر بالأمان التعبيري، أليس كذلك؟! ولكن ثمّة شيئًا استوقفني في عبارة محلِّقة للجرجاني في دلائل الإعجاز، إذ يقول في معرض توصيفه البديع للبلاغة أو البراعة بأنها ليست «غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يُكسبه نُبلًا، و يُظهر فيه مزية»[3]، بما يقرِّبنا من تحقيق معيار البلاغة والبيان المتمثل في: «حسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحقّ بأن تستولي على هوى النفس وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب»[4].
هذا المقولة التأسيسية تجاوزتْ مسألةَ «أيهما أهم؟» حيث عبَرتْ بِنا إلى محطة التعبير اللغوي الرفيع، طارحة سؤالاً أنجع وأعمق، مفاده: بأيهما نبتدئ، أباللفظ أم بالمعنى؟ الجرجاني هنا يقدم لنا توصية رائعة، حيث يجعل القِياد من حيث الابتداء -لا من حيث الأهمية- في يد المعنى، حيث يؤكد في موضع آخر، فيقول: «وأنك إذا فرغتَ من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خَدَمُ للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها»[5]. و«المعنى»، الذي نأتيه أولًا حال الرغبة في التعبير عن شيء ما، يحتمل دلالتين اثنتين متضافرَتين، وهما:
- المعنى العام للأفكار أو المشاعر التي نروم إيصالها للطرف الآخر في إهاب الكلام أو التعبير اللغوي. أي أن هذه الدلالة هي دلالة عامة، فهي تشير إلى «الرسالة» التي أتغيا نقلَها إلى الطرف الآخر.
- المعنى الخاص لكل لفظ نتخيّره ليكون جزءًا من الكلام الذي نعبِّر به عن أغراضنا. أي أن هذه الدلالة هي دلالة خاصة، حيث تركز على المعنى الأقرب أو الأدقّ عبر التقاط اللفظ الأنسب لهذه الفكرة أو ذلك الشعور.
ماذا يريد الجرجاني أن يقوله لنا؟
الذي أفهمه من هذه المقولة التأسيسية، أنه يؤكد أن المنطلق التعبيري إنما هو المعنى لا اللفظ، فهو ينصحك بـ «أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختار له اللفظ ..»، فالبلاغة المتحققة -وفق الوصفة الجرجانية- هي الشروع في إتيان المعنى أولًا، وذلك بأن يكون هو الأسبق من جهة التفكير وكيفية أداء حقوقه كاملة غير منقوصة، ثم يُصار إلى التقاط اللفظ المعبر عنه بأفضل ما يكون التعبير وبأتمِّ ما يكون عليه البيان. أي إنك حينما تروم التعبير الكتابي مثلًا، فإن عليك أن تبتدر بالتفكير في المعنى المراد إيصاله للقارئ من جهتي الدلالة العامة (=الرسالة أو الفكرة العامة)، والدلالات الخاصة المشكِّلة للرسالة (=المعاني أو الأفكار التفصيلية)، لا الألفاظ، مما يجعلك أكثر تحوطًا للمعنى، فتتجاوز بذلك التكلف اللفظي.
مثل هذا التكلف يحدث في العادة عند الكتّاب المبتدئين (=المراهقة اللفظية)، حيث يميلون في بكور ممارساتهم الكتابية إلى التزويق اللفظي والاستعراض الشكلاني للذخائر اللغوية والأسلوبية، فربما قرأ أو حفظ أحدُهم كلمات أو عبارات أو أساليب راقته، فنجده يعتسف التعبير ويرغم السياق على قبول هذه الكلمة أو تلك العبارة أو ذلك الأسلوب، لا من أجل سوق المعنى بحُلة أجمل أو صورة أنصع، وإنما لباعث كتابي جواني (=تحقيق الذات اللغوية المتكلِّفة)، ولو كانت هذه الطريقة التعبيرية على حساب وضوح المعنى أو حسن النظم. يخسر كثيرًا الكاتبُ الذي تطول مراهقتُه اللفظية[6]!
جربوا أن تفكروا أكثر في المعنى أثناء انخراطكم في الصنعة التعبيرية. العديد من الفوائد ستجنونها من تلبسكم بهذا النهج التعبيري التلقائي الرائع، ولعلي أضعها في ثلاث كبار:
- تَمثلُ نظرية النظم
من يفكر في المعنى قبل اللفظ، سيجدُ قلمَه أقرب إلى تَمثُل نظرية النظم بعمقها وبهائها، حيث يقوده ذلك إلى تأمين المعنى بأقصى درجات الدقة والتحوط، ومن يروم ذلك مخلصًا وهو على قدر جيد من الأدب، فسيكون متوفرًا حينها على قدرة كافية على انتخاب ألفاظ تنقل المعاني في صور قشيبة.
- اختطافُ قلب القارئ
من يفكر في المعنى قبل اللفظ، سيكون قلمه قَنطرة إلى قلب قارئه قبل عقله. كيف يكون ذلك؟ اللفظ يملكه الكاتبُ، في حين أن المعنى يتملّكه القارئ ويسعه التصرف فيه، توسيعًا وتضييقًا وفق مقتضيات المنهج والفكر. ولهذا، فإن تقديم المعنى حال الانخراط في العملية التعبيرية، إنما ينمُّ عن «إيثار تعبيري»، يحسّه القارئ ويثمّنه عاليًا، حيث قدَّم الكاتبُ ما هو للقارئ على ما هو له، وما يلبث القارئ أن يترجم ذلك النهج إلى ألفة عجيبة مع النص وكاتبه، حتى لو كان يستبطن رأيًا مخالفًا للفكرة الجوهرية المطروحة في النص.
- تطبيق الاقتصاد اللغوي
فائدة كبيرة نحققها حينما نبتدر تفكيرًا بالمعنى قبل اللفظ، وهي أثيرة لدى القارئ النابه الجاد، إذ إن الابتدار بالمعنى يحقق خاصية الاختصار والمباشرة في الصياغة، فإذا ظهر المعنى بأربع كلمات فلا يُصار إلى خمس، وهذا ما يجعل التعبير وجيزًا والنصّ مكثفًا، وهذا لعمري هو جوهر البلاغة. ضمن علامات الجودة في النصّ أن يُقال فيه: ليس ثمّة كلمة زائدة لا قيمة لها، تصريحًا بشيءٍ أو إيماءً إليه. وتزداد قيمة الاختصار لدى الإنسان المعاصر المولع بالسرعة والرشاقة، ومما يؤكد ذلك، أن دراسة حديثة خلصتْ إلى أن الاقتصاد اللغوي يُعين على نجاح عملية التواصل في شبكات التواصل الاجتماعي[7].
دعوة إلى أن نهاجر إلى المعنى!
في لحظة ما، تفطَّنتُ إلى زاوية كانتْ مُعتمةً في ذهني إلى أن أنارتْها المقولةُ الجرجانية التأسيسية السابقة، حيث كان يرد في ذهني سؤالُ: لماذا المعنى له الأولوية من جهة الابتداء في صناعة التعبير؟ بعد شيء من التأمل، وجدتُ إجابةً أشبعتني من وجوه رئيسة في المسألة. وهذه الإجابة ضمَّنتُها عنوان هذا النصّ: إنما التعبير بالدلالات، ولكل مُعبر ما عَنى! أحسب أن بعضكم قد فطِن للمقاربة التي توسلتُ بها. إنها مقاربة النية، وذلك كما ورد في الحديث النبوي الشريف الشهير: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. عجيب هو أمر الحقائق، إذ تتوالد، تتواشج، وتنبع من جدول واحد!
دعونا نهاجر إلى المعنى، فنُقيم فيه مساكنَ فكرنا ومثاويَ مشاعرنا، ومن كانتْ هجرتُه إلى المعنى، فهجرته إلى البلاغة التلقائية والبراعة السلِسة، وأما من كانت هجرته إلى لفظ متقعر يتزين به أو أسلوب متفاخم يتحلّى به، فهجرته إلى ما هاجر إليه! وهذا ما يجعلنا نختم بالقول: لئن كانتْ النيةُ عمودَ العمل الصالح، فالمعنى هو عمود التعبير الناجح.
[1]كما في قولة الجاحظ الشهيرة: «والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفُها العجميُّ والعربيُّ والقرويُّ والبدويُّ، وإنّما الشأنُ في إقامةِ الوزنِ وتخيرِ اللفظِ وسهولةِ المخرجِ وصحةِ الطبعِ وجودةِ السبكِ، وإنما الشِّعرُ صياغةٌ وضربٌ من النسج وجنسٌ من التصوير»، الحيوان، طبعة دار الكتب العلمية، مج 3، ص 67. انظر ردود عبدالقاهر الجرجاني على هذا المسلك كما في دلائل الإعجاز، تحقيق محمود شاكر، ص 57 وما بعدها.
[2] يضع ابن رشيق القيرواني ابن الرومي وأبا الطيب في عِداد منْ يعتنون بالمعنى على حساب اللفظ، انظر: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، مج 1، ص 124.
[3] الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق محمود شاكر، ص 43.
[4] السابق، ص 43.
[5] السابق، ص 54.
[6] في هذا إشارة إلى أنه لا يكاد أحدُ منا ينجو من المراهقة اللفظية في مرحلة أو مراحل مبكرة من التكوين والكتابة، وقد لا ننجو للأسف من قدر منها في مراحل متأخرة أيضًا، وهو ما يدعو إلى الاستبصار والمراجعة والنقد والتطوير.
[7] إيمان مداني وصفوان حسيني، الاقتصاد اللغوي في مواقع التواصل الاجتماعي ودوره في إنجاح العملية التواصلية، مجلة جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية، مج 33، ع 3، ص 465-486.