
«أن نحكي عن الكائن قصصًا فهذا أمر، أما أن نمسك بالكائن في الكينونة التي تخصه، فذلك أمر آخر. إن ما ينقص دومًا، بالنسبة إلى المهمة المشارة إليها توًا، ليس الكلمات، بل قبل كل شيء، النحو» – هايدغر
«وإذا كان الجندر هو ذاته مطبعًا عبر المعايير النحوية (…) فإن تغيير الجندر على المستوى المعرفي الأكثر أساسية سوف يتم، في جزء منه، عبر الطعن في النحو الذي في نطاقه تعين الجندر وتشكل» – بتلر
مقدمة:
حين يقرأ أثرٌ ما بواسطة المعاصرين المغايرين له؛ فإن ما ينتظره ذلك الأثر لا التغاير بواسطة الغير فقط، بل إضافة دلالات ومعانيّ كانت مكدرة بمدلولات، ورزمة من الأزمنة تبدأُ لتردم فجوات المعاصرين (الزمنية)؛ فكلّ تلقٍ لاحق للأثر الفلسفي هو تفارق عن الهو هو/ العينه (the same)، وسعي للتخفيف من « صدأ العالم».[1]
تنطلق هذه المقالة من عملين أساسيين هما: «قلق الجندر» و«الكينونة والزمان»؛ ورغم أن ما يباعدهما لكثير؛ فهاجس الكينونة والزمان يختلف عن قلق الجندر، بالإضافة لاختلاف التقاطع المعرفي والتاريخي الذي تنزل فيه كل عمل، وتباين كبير في المنهج واستعمال المفاهيم، وفوق ذلك الفرادة الأسلوبية في العملين؛ ليصعبنّ الجمع بينهما،[2] إلا أن هنالك ميدانًا عزيزًا على العملين، ألا وهو: الأنطولوجيا. ستحاول هذه المقالة عرض الإنجاز البتلري في تخريب ما أسمته «أنطولوجيا الجندر»، إلا أن المنجز البتلري لا يفهم مداه إلا حين يقارن بالمنجز الهيدغيري في الكينونة والزمان لتفكيك الأنطولوجيا بعامة؛ وبما أن هذه المقالة محدودة فهي لن تسبر كل التلاقيات الفلسفية الممكنة بين العملين؛ بل تحاول تلمس بعض الأشباح الهيدغيرية في عمل لم يذكر فيه (هايدغر) بإطلاق.[3] في البداية تسعى المقالة لتوضيح مفوهميّن في تقويض الأنطولوجيا، وفي الفقرة الثانية سأناقش أهمية التصور البتلري عن إنجازية الجندر بالتضايف مع مفهوم هايدغر للدازاين (الكائن الإنساني) وفي الختام سنستعرض مفهومي العناية والمحاكاة الساخرة.
- الأنطولوجيا: بين التفكيك والتخريب
ما الذي ينبغي تفكيكه في الكينونة والزمان؟ وما هي مهمة التفكيك في هذا العمل؟ يتعلق الأمر ابتداءً بإستشكال أنطولوجي وتأويلي متعلق بإعادة تأويل وتملك للتراث، الذي يرث الدازاين فهمًا سابقًا، وبما أن كل فهم ينطلق من المسبقات، فإن التفكيك يعمل لا من أجل تدمير الذي كان، بل «تلطيف» الموروث المتراكم عبرالزمن والذي يتخلل الدازاين في يوميّته، وبالنسبة إلى هايدغر فإن التفكيك لا يتم إلا «تحت هدي مسألة الكينونة»،[4] وهكذا فإن السؤال عن معنى الكينونة لا يعاود طرحه إلا بعد إعادة تأويل للسائل (الدازاين)، من هنا نفهم هذا الإصرار على تحاشي هايدغر للمسمى إنسان،[5] وتعويضه بالمفهوم دازاين. فالتفكيك الموجه نحو الإنسان وتراثه الذي ترعرع فيه؛ يصيّره دازاينًا. ينبه هايدغر إلى أنه لا يمكن أن يكون هنالك أنطولوجيا أساسية (مرتبطة بالسؤال عن معنى الكينونة) إلا بعد تفكيك للموروثات الأنطولوجية التالدة التي تحجب عن الدازاين الكثير من إمكاناته، فأن يصبح الدازاين قدرة فائقة على الإمكان، تلك هي المهمة.
إذا ما كان التفكيك هو التخير الهيدغيري لتفكيك تاريخ الأنطولوجيا فإن التخريب في قلق الجندر يتنزل مقامًا مختلفًا، ولا تحاول هذه المقالة إقامة تناظرًا مطابقًا وتامًا بين التفكيك والتخريب. لا تنشغل بتلر كثيرًا بتقديم تعريفات للتخريب والتخريبي، فالأمر عندها لا يعنى بأنطولوجيا أساسية همها طرح سؤال معنى الكينونة وقد استذكر بعد نسيانٍ، فالهم الذي يحركها من طبيعة مغايرة؛ فالنسيان عند بتلر ليس هو نسيان الكينونة الذي يتطلب تفكيكًا لاستذكاره وتملكه، بل الجندر الذي فُكر فيه في أكثر مناحيه جذريةً إما بوصفه تأويلًا ثقافية للجسم/الجنس من طرف المجتمع (الأنثروبولوجيا البنيوية)، أو اختلافًا جنسيًا يتمايز فيه الجنسين بعضهما عن بعض (الفينومينولوجيا والتحليل النفسي)؛ تعلن بتلر أنها تسعى «لإعادة التفكير الجذري في البناءات الأنطولوجية للهوية»،[6] وتتساءل «ما هي، ميتافيزيقا الجوهر، وكيف تُشكل عملية التفكير حول مقولات الجنس؟»،[7] إن هدف بتلر هو التفكير في الجندر بوصفه هوية متقومة أنطولوجيًّا بميتافيزيقا الجوهر إلى نهايته؛ والأمر يتطلب إذًا جينيالوجيا نقدية لن يكون مهمتها التساؤل عن البدايات لمقولات الهوية، أو البحث عن الحقائق الأصلية للرغبات الأنثوية أو الكشف عن هوية خالصة في مكان ما، بل التوكيد على الانتشار المتكثر والمتعدد للمفاعيل الناتجة عن الممارسات والمؤسسات والخطابات التي تشرعن لهوية ما وتطبعنها بثبات كأنها الواحد.[8] على إثر ذلك نعاين في كتابها قلقلةً للمقولات الجوهرانية لهوية الذات، معتبرةً أن «الكمال الأنطولوجي» لذات تسبق ما هو قانوني واجتماعي وهمًا تأسيسًا، ناتجًا عن التصورات الليبرالية الكلاسيكية المتأسس في فرضية حالة الطبيعة؛ التي ما زالت تحكم «بنى القانون» في يومنا المعاصر، تستنكف بتلر عن كل فرضية تقترح في مضمونها هوية للذات متأسسة من قبل جوهريًّا، وكأن هويتها المفترضة سلفًا هي الترجمة الوحيدة لها.[9]
وفي المجمل لا تقترح بتلر عبر تخريبها للهوية المتقومة بميتافيزيقا الجوهر أي نوع من أنطولوجيا الجندر التي تقول لنا على نحو سديد من هو الرجل؟ ومن هي المرأة؟ ففي المحصلة نجد أن التخريب ليس إلا محاكاة ساخرة من مقولتي «الرجل» و«المرأة»، البطلين في «عرس العالم»؛[10] فالتخريب لا يعني نزع القناع أو الزينة عن الحاضرين في ذلك العرس، بل تكثيف وتنويع للزينة وللأقنعة المجندرة حتى لا يستبان إلا العرس ذاته وقد فقد كل واحد من الحاضرين إمكانية أن يسأل «متى بدأنا؟» ومن «هو العريس»؟ ومن «هي العروس»؟[11]
أسلوبان في التقويض قد حاولنا توضيحهما؛ فالخيط الرفيع الذي يجمعهما هو سعيهما لتفتيق الممكنات بما هي كذلك، وهما لا يسعيان لتقديم مضمون للممكن، فالممكن قد تناهى للإنسان، بما هو تجسيده وتنويعاته كافة.
- الدزاين وإنجازية الجندر
أود الآن أن أعود مرةً ثانية للدازاين (الكائن الإنساني)، سأستهل من الفقرة 25 (من الكينونة والزمان) الساعية لطرح سؤال «من هو الدازاين»،[12] أولًا يرد هايدغر أي تصور عن الذات self)) بوصفها قيمومة (قائمة أمامنا)، فتنسيب الذات إلى جوهر له ديمومة في الزمان؛ ومن ثم يتعدد بحسب تغير السياقات ويتمثل العالم كموضوع له،[13] لا يتناسب مع الدازاين الذي عُرف بأنه «كينونة-في-العالم»، وإثر ذلك؛ لن يكون السؤال ما هو الدازاين بل من هو. «من» هنا لها دلالة أنطولوجية؛ هكذا يكتسب الدازاين تنويعات وجودانية (مقوّمة للوجود) للـ«من»، فالدازاين لا يحاب عن المن الخاصة به إلا بعد فهم وجوداني صوري يظفر بأنماط الكينونة الأصلية، فماهية الدازاين تكمن في وجوده،[14] لكن مع من هو يوجد؟ مع الآخرين؛ وملاقاة الدازاين للآخرين هو تخصيص أنطولوجي لـكينونته-في-العالم بوصفه كينونة-معًا (الآخرين)، ينبه هايدغر أن هذا لا يعني تجميعًا لذوات في مكانٍ ما بل هي بنية الدازاين طالما هو يكون في العالم.[15] العالم بمعية الآخرين منشغلًا بالأدوات التي تجمع الجميع؛ كل دازاين هو موجود في الوسط دومًا، مع الناس (أو «الهُم») الذين سبقوه أبدًا وهو على الأغلب ينتمي لهم أكثر من ذات نفسه.[16]
ما منزلة الجندر من هكذا فهم هو يسم نفسه بأنه أنطولوجي وصوري؟ نعود لبتلر بحذر شديد؛ تشدد بتلر «…أن الجندر ليس واقعة»،[17] وإذا ما حولنا مقاربة عبارتها ضمن تحليلة الدازاين التي بسطنا بعض معالمها،[18] فإن الجندر ليس ماهية أصلية، بل هو على الأغلب تفسير الناس حول منزلة الأفراد المجندرين والمجنوسين من قبل، وتفهم بتلر إنجازية الجندر ليس فقط الفهم التأويلي للموضوع المجندر بل أيضًا فعل الممارسة اليومية، والطقس الذي يصاحب عبور كل كائن مجندر، فالـ«جندر هو التشكيل الأسلوبي المتكرر للجسد، مجموعة من الأفعال المتكررة»،[19] وبالتالي حتى ما نسميه باطنًا للهوية أو للطباع هو مطبع عبر الأسلبة التي تخترق سطح الجسد الأخرس؛[20] الذي إذا ما حاولنا إرجاعه إلى منشأه الأنطولوجي فهو ليس إلا «كينونة-في-العالم»، وقد أضحى مجرد واقعة بدنه المجندر (والمجنوس)، وكأن الدازاين عبر إنجازية الجندر قد قذف في العالم من أجل أن يتجندر ولا أكثر من ذلك؛ لا يتعلق الأمر عند بتلر بتجاوز كامل لنظام الجندر الثنائي؛ وبالمثل عند هايدغر، فهو لا ينبش عن ذات أصيلة أو هوية خالصة وقد تعرت من الناس ومن يوميتها، فهو يقترح الـتنويع الوجودي (existentiell modification) للناس (أو الهُم)،[21] وفي المحصلة إذا ما كان تحليلية الدازاين لا يهدف إلى أن يستعمل ثقافيًّا فإن تخريبية بتلر لهوية الجندر هو قد استعمل على نطاق واسع من قبل الأقليات؛ فبين «الكينونة والزمان» و«قلق الجندر» هوة، لا يجسرهما إلا العناية نحو واقعة الكينونة-في-العالم (الفريدة) التي تنتهي بالموت (هايدغر) ووهب الإمكان للحياة لكي تكون قابلة للحياة أكثر من قبل (بتلر)[22].
- خاتمة: العناية والباروديا
ستكون العناية (sorge) عند هايدغر نمط كينونة تشد الدزاين برمته؛ وهو يعرفها بأنها «كينونة-متقدمة-على-نفسها-في العالم»،[23] فالعناية توصيف قبلي-وجوداني للكينونة-في-العالم، فكل ممارسة وانشغال بالأدوات ورعاية الآخرين هي ضروب من العناية، بل حتى الإرادة والدافع والميول[24] وربما حتى الرغبة التي أضحت طمعًا في الآخر،[25] هي أنماط من العناية لكن لا تتعلق سوى بمستطاع-الكينونة التي لكل فرد والمتعلقة بأن يحتمل حدث أنه ملقى-به-في-العالم، وتصبح الأصالة واللا أصالة إمكانيتين لتحمل القلق الذي ينزع الدازاين من يوميته ويرده إلى واقعة وجوده،[26] أن يتقدم المرء على نفسه معناه أن يعتني بهذا الإمكان (الخالي من المضمون) الذي له ولا يتركه مطموسًا من قبل الناس؛ ستجد العناية الهيدغيرية تنويعها مع بتلر وبل وواقعنيتها المجسدة، ونقصد هنا باروديا الجندر أوالسخرية المجندرة من الجندر (gender parody)، تصبح السخرية من هوية الجندرة هي ضرب من العناية نحو الإمكان الذي لا يظهر لأن السياق الاجتماعي قد مارس ضربًا من الحرمان للممكن، فكل جندر هو في نهاية المطاف «…مجرد حكاية تنظيمية فحسب»،[27] فإن أقوال تلك الحكاية هي أفعالها إنجازيًّا، وحده التكرار التخريبي والساخر يورط تلك الحكاية، ويوقف سرد، ويعاود استشكال الضمائر والصفات،. لن تكون باروديا الجندر قبولًا لكل شيء، فقط زعزعة لمقولات الهوية الممتلئة بخطابات ومعايير لم تعد تبصر إلا نفسها كأصل؛ لتقنعنا أن لحكاية هوية الجندر أصلًا وفرعًا.
في الفقرة (44) من «الكينونة والزمان» وضمن مناقشته للحقيقة والانفتاح، يعاود هايدغر ليتملك الحقيقة أنطولوجيًّا لا معرفيًّا؛ تصبح الحقيقة معه كشفًّا من حيث أن الدازاين متقوم بالانفتاح وبالفهم وهذا معنى تضمين الوجود بوصفه ماهية له؛ ولا ينطلق هذا التعريف إلا لأن الدازاين عناية (كينونة-متقدمة-على-نفسها)، فالانفتاح (الفهم) يمكّن من افتراض أسبقية الحقيقة على نحو خاص، وبما أننا «…معينون بالانفتاح، [ينبغي لنا] أن نفترض أنفسنا»[28]؛ هذا المقدرة على الافتراض يتجلى في «قلق الجندر»، وسواء ذكر هايدغر فيه أو لم يذكر؛ ربما هو نفسه ومن خلال الكينونة والزمان قد سخر من قبل من هوية الجندر حين كان يعتبر كينونة الواحد وقدره.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[ [1] ] قول ينسب إلى أنبادقليس؛ راجع:
أفلوطين عند العرب، تقديم وتحقيق عبدالرحمن بدوي. مكتبة النهضة المصرية، 1955، ص24 من أثولوجيا أرسطو.
[[2] ] يشير أحد الباحثين (Aret Karademir) إلى ندرة الجمع بينهما، وأن هنالك هوة لا تجسر (unbridgeable gap) بين عمليهما؛ ولكنه يميل أكثر في بحثه نحو دراسات الجندر. انظر:
A.Karademir, Butler and Heidegger: On the Relation between Freedom and Marginalization. Hypatia, vol. 29, No. 4, 2014, pp: 824-838.
[[3] ] يبدو أن الحوار بين بتلر وهيدغر ضنين؛ أو هي لا تذكره أو تحاوره إلا عرضًا، والحال عندها عكس ذلك مع تلامذته (آرنت، سارتر، لفيناس).
[[4]] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان. ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد، 2013، ص 79-80
[[5]] على الأقل في مرحلة الكينونة والزمان.
[[6]] جوديث بتلر، قلق الجند: النسوية وتخريب الهوية. ترجمة فتحي المسكيني، المركزالعربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 73
[[7]] بتلر، المصدر السابق، ص 82
[[8]] بتلر، المصدر السابق، ص 58 و73
[[9]] بتلر، المصدر السابق، ص 70
[[10]] عبارة بديعة لعالم الاجتماع إرفنغ غوفمان؛ انظر:
إرفنغ غوفمان، تقديم الذات في الحياة اليومية. ترجمة ثائر ديب، دار معنى للنشر والتوزيع، 2021، ص51
[[11]] بتلر، المصدر السابق، ص52 و53
[[12]] هيدغر، المصدر السابق، ص 232- وهو سؤال لا يطرحه هيدغر إلا بعد تحليلات أنجزت في الفقرات السابقة عليها
[[13]] هيدغر، المصدر السابق، ص 233
[[14]] هيدغر، المصدر السابق، ص 237
[[15]] هيدغر، المصدر السابق، 243
[[16] ] هيدغر، المصدر السابق، ص 252
[ [17] [ بتلر، المصدر السابق، ص 296
[[18]] في مقالة سابقة نشرت في معنى حاولنا توضيح منزلة الموت ضمن تحليلة الدازاين. انظر:
«مقام الموت في «الكينونة والزمان» وممات الآخرين»
[[19]] بتلر، المصدر السابق، ص 121
[[20]] بتلر، المصدر السابق، ص 122
[[21]] هيدغر، المصدر السابق، ص 258
[[22] ] بتلر، المصدر السابق، ص 46
[[23] ] بتلر، المصدر السابق، ص 362 و363
[[24]] هيدغر، المصدر السابق، 366
[[25] ] أدين هنا بتخريج الرغبة بوصفها طمعًا إلى الصديق عبدالكريم الخليفي.
[[26]]هيدغر، المصدر السابق، ص 362