الشعر نصٌّ مغرور. ربما بسبب قناعته بأسبقيّة وجوده على غيره من الأجناس الكتابية، وربما بسبب الهالة التي تُصبغ عليه من قِبَلِ كُتّابه وقرائه. الأكيد أنه يتمنّع الإفصاح عن مكنوناته حتى تُبذل من أجله القرابين.
يُخطئ من يقرأ الشعر بعقله فقط، كما يُخطئ من يكتبه فقط بعقله أيضًا. ليس في قولي هذا نفيٌّ أو منعٌ للحجج العقلية المتضمَنة في القصائد، لكنه ازدراءٌ للتفرّد بها. الشعر يُكتب ويُقرأ بالقلب، بالحب. تتطلب قراءة الشعر نوعًا من الحضور المضاعف من قِبل القارئ، أي أن يدخل عالمَ القصيدة بوجدانه وعقله، وأن يمنح نفسه لعالمها، حتى يصبح جزءًا منه، أو على الأقل صديقًا له. وبتحقيق ذلك، ستتحول عملية القراءة، كلما توغلنا أكثر في النص، إلى عملية داخلية، وليس خارجية تتم من خلال العينين فقط. هذا الحضور المضاعف لا يمكن أن يتحقق إلا عبر قدر معين من التهيؤ والاستعداد، وعبر نوع من تدريب النفس على القراءة.
تختلف أساليب التدريب على قراءة الشعر، فبينما يرى البعض أن الدخول إلى القصيدة يكون من خلال معرفة عصرها وسياقها، وآخر يرى أن العيش مع القصيدة يتطلب إدراكًا لمعانيها وفهمًا لمراميها، أرى أن معرفة السيرة الذاتية للشاعر تحل كثيرًا من غموض القصيدة، وترخي حبال الفهم ليستطيع القارئ أن يعقد بها أي معنى يريد إسقاطه من خلالها.
إن كتب الشروح والمعاني والدراسات النقدية للشعر تمدّنا بأدوات من خارج القصيدة غالبًا، وتساعدنا على الوصول إلى باب البيت، لا إلى داخله؛ أما السير الذاتية للشعراء فهي التي تأخذ بخطانا خطوة خطوة لدخول العالم الداخلي للقصيدة، إلى عقل الصانع نفسه، فنتعرّف على طبيعة حياته ودوافع كلماته ومبررات مشروعه، وبعد ذلك سنكون أكثر قدرةً للذهاب إلى عالم القصيدة والتجوّل فيه حيث الظلال المضيئة أو الباهتة، والتناغم أو عدمه بين الكلمات، وكيف استخدمت في هذا الموضع أو ذاك، وكيفية القول، ودلالة الصور الحسية والذهنية. ليس هذا فقط، بل، وهو الأهم، كيف توحدت هذه العناصر وخلقت لنا كائنًا جديدًا، لا ينتمي لأي عنصر منفرد منها، بل إنها جميعها ذابت فيه، لتمنحها تلك الفرادة التي يتميز بها كل عمل أصيل.
لا أقصد من فهم القصيدة على ضوء سيرة كاتبها قصْر معانيها على تلك التجربة الشخصية، بل فتح نوافذ الفهم على مساحات أرحب انطلاقًا من تلك التجربة، ففهمُ القصيدة وسبب كتابتها وحال كاتبها لا يعني حصر دلالاتها على ما أراده قائلها، فالنص أكثر رحابة من ذاتِ قائله، وأكثر قابلية للتأويل من مراد الشاعر.
أن تفهم النثر معناه أن تمسك بالأفكار الداعية لكتابته، أما أن تفهم قصيدة فيعني أن يجتاحك الإلهام المنبعث منها. يرى سارتر أن النثر في جوهره نفعيّ؛ ويعرّف الناثر بوصفه رجلًا يستعمل الكلمات، أما الكلمات في الشعر فمختلفة كل الاختلاف، إذ تصبو دوًما إلى الخلود، وكأنها هي من تستعمل الشاعر ليعبر عنها.
تعريفات
خصّص عددٌ من الشعراء سيرًا خاصة بتجاربهم الشعرية، وهي قليلة مقارنة بغيرها من السير الذاتية العامة، يبحثون فيها عن المؤثرات في نشأتهم، ويجيبون على أسئلة الكتابة وطقوسها، ويناقشون مسائل الشعر وما وراءه من آراء تنظيرية؛ وما كان لهذا التوسّع لدى الشعراء في سؤال الذات والموهبة والكتابة أن يكون إلا بعد التحولات المعرفية التي أطلقتها حركة الشعر الحر، فبعدما كانت هذه الأسئلة وإجاباتها مضمرة في القصائد، وهذا ما سبب تأخر ظهور أدب السيرة الذاتية مستقلًا في التراث العربي المعتمد على الشعر كثيرًا، بدأت الإجابات تظهر على هيئة مقدمات نظرية للدواوين الشعرية، ثم تطورت لشهادات في المجلات الأدبية، لتستقر في سير ذاتية مفردة عن «أنا» الشاعر وسيرة شعره وتجربته في آن واحد. ويمكن تعريف السيرة الذاتية الشعرية المراد تناولها هنا بأنها: حكيٌ نثريٌّ يقوم به الشاعر عن تجربته الشعرية قراءة وكتابة، تنظيرًا وتأثيرًا، دون الإسهاب فيما لا صلة له بشعره. وبسبب الاقتصار على جانب من الحياة الشخصية يَستبعدُ بعض النقاد السيرةَ الشعرية من جنس السير الذاتية التي يُشتَرط فيها العموم والشمول لحياة الكاتب ويُلحقها بالسير الجزئية، إلا أن الناظر في عامة السير الذاتية يرى أنها قائمة على الانتقاء وصعوبة الوفاء بكل لحظات الحياة المفصلية فكيف بالهامشية، فالكاتب السيرذاتي ينتقي من حياته الأحداث الأبرز، والتي تعني القارئ بشكل أكبر، ولأن الشعر أبرز ما في حياة هؤلاء الشعراء فمن الطبيعي أن ينال الصدارة والتفرد.
كتَب شفيق جبري «أنا والشعر»، وعبدالوهاب البياتي «تجربتي الشعرية»، وصلاح عبدالصبور «حياتي في الشعر»، ولم يكتف نزار قباني بسيرة ذاتية نثرية واحدة، بل شغل الناس بسيرتين الأولى بعنوان «قصتي مع الشعر»، وأردفها بـ«من أوراقي المجهولة… سيرة ذاتية ثانية»، وأصدر غازي القصيبي «سيرة شعرية» قبل سيرته الأشمل والأهم «حياة في الإدارة»، وسطّر أدونيس تاريخ مرحلة مهمة من تطوّر الشعر العربي الحديث في سيرته الشعرية الثقافية -كما جنّسها- «ها أنت أيها الوقت». وجاء متأخرًا «الجسر والهاوية» للشاعر المغربي محمد بنطلحة، و«قلب العقرب» للشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة، ومن أعذب سير الشعراء «طفل لاعب باللاهوت» للشاعر العراقي أحمد عبدالحسين. ويمكن اعتبار سير نزار هي الأقرب لاشتراطات السيرة الذاتية المكتملة.
تلاحظ الناقدة الفرنسية بياتريس ديدياي في «اليوميات الخاصة» أن القصيدة ضد اليوميات تمامًا، ذلك أن القصيدة تتعدى الفرد، وتتعدى الزمن، بينما تحفل اليوميات بالذات واللحظيّ. وهذا، برأيها، أدّى إلى ندرة كتابة «يوميات التجربة الشعرية»، أي التعبير عن لحظات ولادتها والتأريخ للسيرة الشعرية بصيغة اليوميات، وهذا ما نلاحظه في النصوص التي بين أيدينا، فكلها سيرٌ استعاديّة ترسم خطوط التجربة الشعرية من دهاليز الذاكرة، وتنتهج جنس الكتابة الأقرب للمقالة، أو السرد المفتوح بعيدًا عن التجنيس.
وترى الدكتورة أسماء الجنوبي في رسالتها «سير الشعر الذاتية في الأدب العربي الحديث» أن سير الشعر الذاتية نوع أدبي خالص ظهر في الأدب العربي الحديث تلبية لحاجة المبدع والمتلقي والنقد والعلم والعصر معًا، وجاء بصور مختلفة وفق اختلاف تلك الحاجات. ومع تتبع السير الذاتية المترجمة للعربية نجد عددًا مما يمكن إدخاله في هذا الجنس، ولكن الذي يفقد التجنيس أهميته هو عدم تصنيف الكاتب نفسه لسيرته بأنها سيرة شعرية وإن كانت مؤطرة بتجربته الشعرية. ومن ذلك سيرة الشاعر الأمريكي تشارلز سميك «ذبابة في الحساء»، وكتاب الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا «بعضُ حياةٍ وشعر»، وأهم منهما سيرة الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف والتي اختار عنوانًا لها «داغستان بلدي»، والتي أراها مادة ثرية في مهارات الكتابة ودرسًا في الوعي النظري النقدي الذي يجب أن ينطلق منه الشاعر للكتابة.
ومع ذلك، فهناك الكثير من سير الشعراء العامة التي لم تقتصر على التجربة الشعرية فقط، ومن أثراها سيرة شاعر العراق الجواهري «مذكراتي»، ومن أجملها عندي «شطحات لمنتصف النهار» للشاعر المغربي محمد بنيس. وقد خالف عدد من الشعراء شرط السيرة الذاتية الذي وضعه فيليب لوجون من أن السيرة هي «حكي نثري» فكتبوا قصة حياتهم شعرًا على هيئة «قصائد سيرية»، بما يسمح بتسمية هذا الجنس «شعرنة السيرة»، كما كتب محمود درويش ديوانًا كاملًا من وحي طفولته، وأعاد وديع سعادة بناء سرديته بـ«تركيب آخر لحياة وديع سعادة»، وكتَب الشاعر المصري محمد عفيفي مطر سيرته بخط يده في ديوانه «ملكوت عبدالله»، وسطّر الشاعر السعودي جاسم الصحيح سيرته في عدد من قصائده، وغيرهم كثر. وهذه الجنس من القصائد يستحق العناية والدراسة، وقد أسهمت الباحثة هياء الثنيان فيه ببحث تحت عنوان «القصيدة السيرذاتية في شعر محمود درويش».
مبررات
«فصلُ السيرة الشعرية عن السيرة الذاتية أمرٌ بالغ الصعوبة»، كما قال غازي القصيبي في سيرته، بدعوى أن الشعر يمثّل أحد وجوه الإنسان التي يصعب الاقتصار على استعراضها بعيدًا عن جوانبه الأخرى، ومع ذلك فقد ركّز على ما له اتصال بصفته كشاعرٍ مرّ بتطورات عدة وأطوار مختلفة من التكوين والنضج، قاصدًا من هذه الكتابة مساعدة الباحثين والقراء العاديين في تيسير قراءة شعره وفهم رسائله، وهذا تأكيد من الشاعر نفسه على أهمية سيرته في فهم قصائده.
يبرر نزار قباني كتابة «قصتي مع الشعر» بقوله: «أريد أن أكتب قصتي مع الشعر قبل أن يكتبها أحد غيري. أريد أن أرسم وجهي بيدي، إذ لا أحد يستطيع أن يرسم وجهي أحسن مني. أريد أن أكشف الستائر عن نفسي بنفسي، قبل أن يقصي النقاد ويفصّلوني على هواهم، قبل أن يخترعوني من جديد». ومع ذلك لم يسلم وجهه من عبث الرسّامين وتأويلات النقاد. لا يريد نزار لسيرته أن تكون تاريخًا بالمعنى الأكاديمي للتاريخ. لأن التاريخ هو علم الحوادث الميتة، علم الحوادث التي توقفت عن الفعل والانفعال. ولا أن يكون الكتاب بحثًا جيولوجيًّا لمادة قصائده، وتربتها، وتشكيلها. فالقصيدة كما يراها ليست إناء رومانيًا أو فينيقيًا من الفخار تنتهي مهمتنا بقراءة الكتابة المحفورة عليه. القصيدة ليست مادة منتهية، ليست زمنًا ميتًا. إنها جسر ممدود على كل الأزمنة.
الشاعر المصري صلاح عبد الصبور كان أكثر كرمًا في اصطحاب القارئ إلى دهاليز أشعاره، ففي سيرته التي اختار عنوانًا لها «حياتي في الشعر»، كشف عن تكوينه الشعري والثقافي، وأدخل القارئ معه إلى فضاءات الكتابة، ليريه كيف تخلّقت الجملة وراء الجملة، إلى أن اكتملت القصيدة ثم الديوان، مخالفًا الكثير من الشعراء الذين يقفون أمام كيمياء القصيدة، وكأنها سر حربي، يجب أن يبقى مغلقًا، خوفًا من افتضاض بكارة النص، وإفشاء سر الصنعة.
جال بنا نزار في حياته كما في شعره، وأخذنا إلى غرف القنصليات التي عمل بها حول العالم، لكن صلاح عبدالصبور لم يكتب سيرته الذاتية، بل كتب سيرة عقل وقلب، حاول بهما أن يَفهم نفسه أولًا، ومن ثم العالم والشعر، وها هو يبدأ بمقولة سقراط: «اعرف نفسك» ويرى أن تلك الجملة حوّلت مسار الإنسانية، «إذ سعى هذا الفيلسوف إلى تفتيت الذرة الكونية المسماة بالإنسان، والتي يتكون من تناغم آحادها ما نسميه بالمجتمع، ومن حركتها ما نطلق عليه اسم التاريخ، ومن لحظات نشوتها ما نعرفه بالفن». هذه المقولة لدى الشاعر تعني أنه يجب عليك أن تعرف الجذور التي تنتمي إليها، وهي جذور البشرية الممتدة في تلك المفردة، فليس تاريخ المعرفة الإنسانية بأوجهها العقلية والحدسية والتجريبية إلا تاريخ تأمل الإنسان في ذاته، وكما يوضح فإن نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر للإدراك البشري، وليس معنى النظر في الذات هنا الانكفاء على النفس، بل عَدّ الذات محورًا أو بؤرة لصور الكون وأشيائه.
أما أحمد عبدالحسين فيرى أن من «البديهي أن يكون الشعر مؤثرًا بصاحبه، وأن يضع له يدًا على كل موضوع من حياته»، ولأن حياته مضت مع الشعر خبط عشواء لا تكاد تعثر على نظام يضبطها أو منطق يفهرسها، جاءت سيرته على هذه الشاكلة، لا فهرس يجمعها ولا زمن يؤطرها، أراد أن يبعثر سيرته كما كانت حياته.
بدايات
محكي الطفولة عنصر مهم وحاضر بشكل رئيس في السير الذاتية، ويضاهيه في الأهمية دور الذاكرة في إعادة بناء هذا الحكي الطفولي عندما تعجز عن استعادته كما هو، كما نجد لهذه الإعادة تبريرًا تنظيريًا بل وتحريضًا من قبل منظّر السيرة الذاتية الأول فيليب لوجون الذي يرى أنه يجب تجنّب قاعدة المحتمل الطبيعي في محكي الطفولة وولوج فضاء التخييل. وحينئذ لن يتعلق الأمر بفعل التذكر، بل باختلاق صوت طفولي تبعًا للآثار التي يمكن له أن يحدثها على القارئ. وهذا ما يعطي أهمية في الانتباه لدوافع الكتابة السيرية في رسم الخارطة الحياتية وتسطيع بعضها على حساب غيرها.
بدأ ولع غازي القصيبي بالشعر وتذوقه مبكرًا أيام دراسته الابتدائية في البحرين، ونشأ من قراءاته المكثفة لكتب الأدب ومن تشجيع أحد أساتذته، ثم من الجو العائلي المتعاطف. وزاد في الثانوية التي كان بها ناديًا للشعراء، حتى قرر الاستجابة لصوت الشعر الخفي في داخله. بدأ القصيبي يكتب المحاولات الشعرية في حدود الرابعة عشرة، واستمرت طيلة السنتين التاليتين، تحت ضغط من شعور الغيرة الذي داخله، وهو يرى أحد زملائه محط احترام المعلمين والطلبة ويلقبونه بالشاعر، معترفًا بأن الغيرة من زميله كانت الدافع الرئيس لكتابة الشعر، وقد كتبه «لينازعه احتكاره الشعري». حتى تطوّر الأمر بينهما إلى ما يشبه المساجلات الشعرية التي لم تخل من تنافس، ومن مهاجاة ونقد مبطن. وتحدّث عن المؤثرات الأولى التي ظلّت مسيطرةً على قصائده الأولى، بما فيها مؤثر نزار قباني تحديدًا، الذي اكتشف عن طريقه عالم الشعر الحديث المتحرر من رتابة القافية والتفعيلة، ثم عمر أبو ريشة عادًّا لقاءه به نقطة تحوّل في مساره الشعري أكثر من أي شاعر آخر تأثر به، وتوطدت علاقته باللغة الشعرية الجديدة مع تعرفه على نتاج بدر شاكر السياب، لكنه فشل في تذوق شعر البياتي وأدونيس.
يؤمن نزار قباني بأن «الشاعر يكتب، ولكنه أسوأ مَن يُفسّر کیمیاء الكتابة، ويموت على دفاتره ولكنه لا يستطيع تفسير موته الشعري»، ومع ذلك يحاول جاهدًا على امتداد السيرة تقديم ما يفك مغاليق أشعاره، وتبيان تربة قصائده، فيعود أول ما يعود إلى بيتهم الذي ولد فيه، «لا بد من العودة مرة أخرى إلى الحديث عن دار “مئذنة الشحم” لأنها المفتاح إلى شعري، والمدخل الصحيح إليه. وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة، ومنتزعة من إطارها. هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة. إني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، وإنما أظلم دارنا».
أثر بيت نزار ونشأته لا تخفى على قارئ شعره، فقد «كان اصطدامي بالجمال قدرًا يوميًّا. كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة، وإذا سقطت أسقط على حضن وردة». كما يحاول الربط بين هذه التنشئة وبين الفتح الإسلامي للأندلس، وكيف أثّرت الطبيعة الساحرة هناك على الشعر الإسلامي، «هذا البيت ترك بصماته واضحة على شعري. تمامًا كما تركت غرناطة وقرطبة وإشبيلية بصماتها على الشعر الأندلسي. القصيدة العربية حين وصلت إلى إسبانيا كانت مغطاة بقشرة كثيفة من الغبار الصحراوي، وحين دخلت منطقة الماء والبرودة في جبال “سييرا نيفادا” وشواطئ نهر الوادي الكبير، وتغلغلت في بساتين الزيتون وكروم العنب في سهول قرطبة، خلعت ملابسها وألقت نفسها في الماء، ومن هذا الاصطدام التاريخي بين الظمأ والري، ولد الشعر الأندلسي. هذا هو تفسيري الوحيد لهذا الانقلاب الجذري في القصيدة العربية حين سافرت إلى إسبانيا في القرن السابع. إنها بكل بساطة دخلت إلى قاعة مكيفة الهواء، والموشحات الأندلسية ليست سوى “قصائد مكيفة الهواء”. وكما حدث للقصيدة العربية في إسبانيا حدث لي. امتلأت طفولتي رطوبة، وامتلأت دفاتري رطوبة، وامتلأت أبجديتي رطوبة».
يقترب بنا صلاح عبد الصبور أكثر من عالمه الشعري، حين يؤكد أنه كان يحس في الأيام الأولى من الكتابة، بأن رحلة الشعر هي رحلة المعنى إلى الشاعر، لا رحلة الشاعر إلى المعنى، وكيف عبّر عن هذا في إحدى قصائده الباكرة. شيئًا فشيئًا ينسلخ عبد الصبور من ذاته ليعود إليها، متحدثًا عن أنّ الشاعر يبدأ حياته الشعرية أقرب إلى الذاتية، ويتذكر حين كان طالبًا أنه جمع أول مجموعة شعرية في كراس صغير، وكانت تحتوي على قصيدة واحدة في غرض اجتماعي، بينما البقية نفثات ذاتية صارخة، ويفسر ذلك الجنوح المسرف إلى الذاتية بأنه عائد إلى ولادته بين كتب المنفلوطي وجبران. ومن المراحل المهمة في حياته والتي تركت أثرها حتى مات، ما مرّ به في الرابعة عشرة من لحظات شك وإنكار لله -عز وجلّ-، والتي يحاول تفسير حدوثها بقوله: «كما تولد الحياة والموت في الجسم، نطفة أو جرثومة، ولد الإنكار في نفسي، لا أذكر كيف ترعرع حتى طلب أن يخرج، وخرج إنكارًا كأوضح الإنكار، وربما كانت قراءة بعض بسائط الداروينية بتلخيص سلامة موسى، وقراءة نيتشه في صيحته المرعبة “إن الله قد مات” هي التي دفعت بي إلى الطرف الآخر من الموضوع. وأصبحت أتزين بالإنكار وأجمع القرائن عليه من كل الفلسفات والأفكار كما يجمع المدعي أدلة الاتهام، واطمأننت أو حاولت أن أطمئن إلى هذا الموقف». ولله درّ الإمام أبي حامد الغزالي حين غاص في وصف نفوس أولئك الذين عاصرهم في بدايات القرن السادس الهجري من المنبهرين بالفلسفة اليونانية التي يهوّلها أصحابها، وبيّن أن انبهارهم هذا قاد عددًا من المنتسبين إلى العلم في زمانه لاعتقاد ذات الأفكار الفلسفية ليشاركوهم جاه فخامتها! يقول الغزالي: «فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة، کسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس، وإطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم ودقة علومهم، وأنهم مع رزانة عقلهم منكرون للشرائع، فلما قرع ذلك سمعهم، تجملوا باعتقاد الكفر». فكم رأينا مَن يصدق عليهم تصوير أبي حامد «فتجملوا باعتقاد الكفر»! ممن يردد شعارات الثقافة الغربية الغالبة لا عن فهم مستوعب لها، ولكن تجملًا باعتقادها لما في نفسه من تهويلها، وما صلاح عبدالصبور في مراهقته إلا واحدًا منهم كما قال: «أصبحت أتزين بالإنكار»، لكنه بعد ذلك بات يُوصَف بـ«الشاعر الميتافيزيقيّ» حسب الدكتور لويس عوض، ويعلّق عبدالصبور على هذا الوصف قائلًا: «والواقع أني اهتممت بفكرة الله قبل أن أعرف كلمة الميتافيزيقا، شأن معظم الأطفال حين يفاجؤون بمشكلة الموت والحياة، وبتعدد الأديان وبحديث الجنة والنار، والحلال والحرام. إن فكرة الله لا يستطاع الإفلات منها قط، ولعل هذا هو ما عناه کیرکغارد من قوله إن الوجود البشري في جوهره عذاب دیني».
صديق صلاح عبدالصبور المقرّب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي كتب سيرته الشعرية أيضًا في كتاب «الشعر رفيقي»، وهما اللذان تم اختزال حركة التجديد الشعري في مصر، المعروفة باسم «حركة الشعر الحر» فيهما، انتصر الأول للفن الخالص، بينما مزج الثاني بين السياسي والفني. صلاح عبد الصبور ظل مقيمًا في مصر، لم يغادرها شأن كثير من الأدباء الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد نحو المنافي المختلفة، تحت وطأة اضطهاد السادات للثقافة والمثقفين، كانت أغلب العقول الثقافية خارج الوطن، وبقي صلاح وحده يصارع أزماته الوجودية، في صمت قاتل، حتى سبّب له جلوسه في مصر وتعامله مع السلطة الكثير من المشاكل التي مات من أثرها، بينما ذهب حجازي إلى باريس في رحلة استمرت أزيد من خمسة عشر عامًا، انتهت قبيل مصرع السادات. ذهب النصف الأول من كتاب «الشعر رفيقي» في التنظير الشعري حول: «القافية الجديدة-محاولة في فهم الإيقاع-القصيدة الجديدة وأوهام الحداثة-الشعر کلام موزون-اعترافات حول المعنى»، واكتفت السيرة بالنصف الثاني من الكتاب، تبدأ بـ«الخروج من الأسطورة»، ويقدم حجازي فيما بعد خبرته حول «الرؤية والتجربة» ويضيء ما خفي علينا من علاقته بصلاح عبدالصبور، الذي كان يعمل معه في مؤسسة روز اليوسف في مقتبل العمر، إضافة إلى تضمينه رسائل متبادلة بينه وبين الشاعر أمل دنقل، وحوارًا دار بينه وبين أدونيس في المغرب دون اتفاق أو قصدية منهما. يبدأ الكشف لدى حجازي من الوقت أو الزمن، من الظهيرة «التي يهرب منها الإنسان بالذهول والحلم» ففي تلك الساعات وعى الطفل على الأم، وهي تجلس وحدها في الباحة الفسيحة، تبكي إخوتها الأربعة، وقد ماتوا في اكتمال الشباب، وبذلك كانت صور وإيقاعات النواح ينبوعًا من ينابيع الشعر عند حجازي، حتى وهو يمجد الحياة، ويعترف بأنه حاول في عدة قصائد أن يقبض على هذه اللحظات، إلا أنه يخفق دائمًا.
لا يُسهب أحمد عبدالحسين في الحديث عن بداياته ولا عن مراحل تكوينه الثقافي، يكتفي بالتعبير بشاعرية عالية عن بدايات بحثه عن المعنى، عن شغفه بالتاريخ والجغرافيا في كتب أطالس العالم، عن الكتاب الذي قرأه جاهلًا عنوانه واسم مؤلفه باحثًا عن بديل لوالده الذي خانه بموته؛ «كل موت خيانة. لكنّ موت الأب انهيارُ السدّ الذي حجَز عن طفولة الطفل وحوش الداخل وكائناته التي انفلتت مقهقهة يومَ أغمض الأب عينيه». سيرة أحمد تَناوب على بعثرتها غيبٌ وشهادة، لاهوت وناسوت، يفصح فيها الشاعر عن جرحه السري المزدوج: الله والشعر، وعن آثار معضلته المؤرقة طوال حياته: تشيّعه.
تأملات
في سير الشعراء نجد أنفسنا أمام وقائع خفية لم يطّلع عليها إلا كاتبها، وقائع وجدانه التي شكّلت سيرة أعماقه. ويبدو أن مقولة سان جون بيرس «لا تاريخ إلا تاريخ الروح» تصلح أن تكون القنديل الذي تُكتب على ضوئه سير الشعراء.
الكثير من الشعراء يضايقهم الحديث عن لحظة الكتابة الشعرية لديهم، وكأنهم لا يريدون كشف مطبخهم الشعري أمام المارّة، كما يقول محمود درويش، غازي القصيبي لم يكن منهم، فقد أسهب في الحديث عن لحظات ولادة القصيدة، مؤكدًا على أن «الحديث عن ميلاد القصيدة ينقلنا من الشعر إلى السحر. ميلاد الشعر يكاد يكون سحرًا»، ولعل هذا الإكثار عائدٌ إلى اعتداد غازي بتفرده بالشعر عن غيره من أقرانه، ولأن هذه اللحظات المخاضيّة من أمتع لحظات الشاعر. أما نزار قباني فلا يرى الشعر نارًا سماوية، ولا ذبيحة مقدسة، مصادر الشعر بشريّة، وكتابته عمل من أعمال البشر، رافضًا فكرة الإلهام جملة وتفصيلًا، والتي يتمسّك بها كثير من الشعراء حفاظًا على حياض الشعر وخوفًا من المزاحمة على عتباته. فلحظة الإلهام ما هي إلا بُرهة يتّحد فيها الوعي بالحلم، والدربة بالموهبة، والثقافة بالمراس. وليس هناك من قصيدة جديرة بالاعتبار، كما يقول الناقد الروسي يوري لوتمن، دون قدرٍ من الوعي والإرادة الثاقبة الخفية.
ومع التأكيد على أهمية الموهبة الفطرية، التي تكون مقصود كثير ممن يتحدثون عن الإلهام الشعري، وأهمية العمل والتحصيل المعرفي في سبيل توليد القصيدة، أُرجّح بين الرأيين بقول الشاعر المغربي محمد بنطلحة في سيرته الشعرية «الجسر والهاوية»، فهو يرى أن «قصة خلق القصيدة قد تبدأ بالصدفة. ولكن حبكتها لا تتم إلا بالصنعة. علم الحيل مفيد هنا. والإمكانات كثيرة: تقطيع، سرد، إخبار، وصف، تعدد أصوات، کولاج، وغير ذلك». فالشاعر لا يكتب وحسب، بل يعيد الكتابة عبر الحاجة إلى المحو والتشطيب، وعبر الفعل اللاإرادي للقصد.
جاءت سيرة بنطلحة في سبعة فصول مرکّزة، وبلغةٍ مفكّر فيها ومفارقة تمزج بين التأمل النظري والبحث المعرفي عن الذات، فأتت مقاطع غير قليلة منها كأنها متواليات أو نصوص شعرية. كانت نصوص الكتاب، في الأصل، مداخلات ألقاها الشاعر على فترات متقطعة حول تجربته الشعرية، راصدًا تحولات تجربته الشعرية ومؤثراتها. كتب الشاعر بعض هذه النصوص باللغة الفرنسية، فتوجه عبرها إلى قارئ أجنبي مما أوجد معه میثاقًا قرائيًا مختلفًا حدد نوعية الأفكار التي تحدث حولها.
يرى كثير من النقّاد، وكذلك الشعراء، أن سيرة الشاعر تؤخذ من شِعره فقط، إلا أنّ لصلاح عبدالصبور قولًا آخر، فهو يرى أن «القصيدة وجود مستقل عن صاحبها، إنّ لها حياتها الخاصة، فإذا استنبت الشاعر لها رأسًا، فلا بد أن ينبت لها أذرعًا وأقدامًا. وبهذا المعنى يصبح الباحثون عن السيرة الشخصية للشعراء في شعرهم فحسب منحنين على الصدق الواقعي لأنهم جعلوا أساسهم الوحيد هو الصدق الفني الذي له منطقه الخاص». وسواء اعتبرنا الشعر سيرةً للشاعر أو رفضنا ذلك، يبقى الجمع بين دراسة سيرته الذاتية، إن كتبَها أو كتبت عنه، مع دراسة شِعره، المثبت والمتخلّى عنه، عملية مهمة لفهم الشاعر ورسم تصوّر كامل عنه، فكثير من القصائد تمحى من الدواوين بعد نشرها، كما أن بعض القصائد لا يدرك مغزاها دون معرفة لسياقات كتابتها.
نُقِد الشاعر صلاح عبدالصبور بأنه شاعر الحزن لسوداوية شعره وامتلائه بالموت، وطالبوا بإبعاده عن مدينة المستقبل السعيدة حتى لا يفسد عليهم أحلامهم وأمانيهم بما يبديه من بذور الشك في ازدهار مستقبلهم، فردّ عليهم: «لست شاعرًا حزينًا، ولكني شاعر متألم. وذلك لأن الكون لا يُعجبني، ولأني أحمل بين جوانحي -كما قال شللي- شهوةً لإصلاح العالم». وليس ردّه هذا محاولةً لإرضاء النقّاد، بل هو تصريح برأي تجاه العالم البائس الذي يعيش فيه، لأنه يرى أن «آراء النقاد الذين يصدرون عن وجهة نظر غير فنية لا تستحق عناء الاهتمام». علاقة الشاعر بالفكر كما يراها عبدالصبور لا تنبع من إدراكه لبعض القضايا الفكرية، بل من اتخاذه موقفًا سلوكيًّا وحياتيًّا من هذه القضايا، بحيث يتمثل هذا الموقف بشكل عفوي فيما يكتبه، إذ «الشاعر لا يعرض آراء، ولكنه يعرض رؤية». ويرى أن الميزة الحقيقية في الفن والأدب المتحضرين أنهما تراث ممتد، يستفيد لاحقه من سابقه، ويقنع كل فنان بإضافة جزء صغير إلى الخبرة الفنية التي سبقته، وتظلله كله روح المسؤولية عن البشر والكون. ومن هنا لا يجد إليوت غضاضة في التضمين من دانتي أو بودلير، أما أولئك الذين ما زالوا يصدرون عن نظرية السرقات الشعرية، ويتوهمون الأدب والفن زينة وبهرجة، وثيابًا ولحى مستعارة فهم لا يدركون شيئًا من جوهر الفن، ويقول عبدالصبور: «إن الفنان يولد في الفن، ويعيش فيه، ويتنفس من خلاله. وكل فنان لا يحس بانتمائه إلى التراث العالمي، ولا يحاول جاهدًا أن يقف على إحدى مرتفعاته فنان ضال. وكل فنان لا يعرف آباءه الفنيين إلى تاسع جد لا يستطيع أن يكون جزءًا من التراث الإنساني، وهو في الوقت ذاته لا يستطيع أن يحقق دوره كإنسان مسؤول في هذا الكون».
ختم صلاح عبدالصبور تجربته الشعرية متحدثًا عن مسرحيته مأساة الحلاج التي: «كانت معبرة عن الإيمان العظيم، الذي بقي لي نقيًّا لا تشوبه شائبة، وهو الإيمان بالكلمة». أما كتاب أحمد حجازي فلم تكن الفصول السيرية فيه طويلة بما يكفي لتصنيفه سيرة ذاتية بأكمله، وإن لم تخلُ من اعترافات هامّة، ففي الوقت الذي سعى حجازي جاهدًا للتجديد في الشعر والتخلي عن قديمه بأوزانه وقافيته، يصرح مبيّنًا دوافع وخلفيات كثير من المطالبين بالتجديد في مختلف القضايا، «أعترف الآن بكل موضوعية أن معرفتنا بالشعر القديم في ذلك الوقت لم تكن أفضل من معرفة خصومنا بشعرنا الجديد». ولا غرابة في هذا إذ هو مصداق قول الأول «من جهِل شيئًا عاداه» مهما ادعى غير ذلك من المبررات.
وفي إشكالية التلقي للكاتب، عانى حجازي من مشكلة التصنيف الأول، وهي ورطة أن يُقولبك النقاد والقراء وفق إصدارك الأول، وصعوبة -بل استحالة أحيانًا- تغيير ذلك التصنيف مهما كثرت إصداراتك. عندما صدر ديوانه الأول «مدينة بلا قلب» اعتبره النقّاد مسؤولًا عن باب المدينة والقرية في الشعر العربي المعاصر، لكن دواوينه التالية كانت صدمة لهم، لأن ما فيها من شعر حول هذا الموضوع أخذ يتناقص، «وهكذا وقعوا في حيرة البحث لي عن تخصص آخر، فلم يوفق أكثرهم، وظل الديوان الأول مرجعهم الأساسي في الحديث عني»، مع أنه كما يقول لم يكن الشاعر الأول الذي اختار الريف والمدينة موضوعًا لشعره، لكن الريادة له في إفراد هذا الموضوع في مجموعة شعرية كاملة محاولًا إضافة شيء إلى الموضوع.
لم يعبأ أحمد عبدالحسين بالتعليقات على شِعره سوى من قرينه، صديقه الذي كان رأيه صك اعتماد الشعرية لأبيات أحمد، صديقه الذي يشاركه كتابة قصائده بآرائه لا بقراءتها فقط، فهو يرى أن «الشعر محض كلمات خلّب ما لم يكتبه اثنان: الشاعر وقرينه». ويقول: «لست شاعرًا لولا صديقي، ما كنت لأكون حتى ظل شاعر لولاه، وجوده خلق لي الوهم المحرّض على أن أستمر. به وحده رأيت شعري، ولعل شغفي بشعري رجع صدى لشغفه هو به، فلم أكن محايدًا وأنا أقرأ ما أكتب، إذ كان هو يقرؤه نيابة عني ويلقنني حبه لقصائدي التي لعلها ليست بذات أهمية».
حسرات
يعتبر أكثر فصول سيرة حجازي کشفًا، ما جاء فيها بشأن صلاح عبد الصبور، والذي قرأته في اليوم الثاني من قراءتي لسيرة صلاح على نحو مفاجئ، ويُمثِّل هذا الفصل مفتاحًا مهمًا لفهم طبيعة العلاقة بين الشاعرين والتي انتهت بموت أحدهما في بيت الآخر. يقول حجازي عن صلاح: «كنا زميلين متکاملين كثيرًا ومتنافسين أحيانًا، ولقد تعلمت منه شيئًا نافعًا، أنّ حاجتنا للحلم، لا تحمينا دائمًا من وقوع الكابوس». كان اللقاء الأول بينهما فاترًا، إلى أن ضمهما مكان عمل واحد، ويكشف حجازي عن علاقتهما الملتبسة قائلًا: «عندما التقينا لأول مرة كنت شابًّا في العشرين مغلقًا على إحساس فادح بالموهبة والاضطهاد، وكنت قد قرأت لصلاح الذي كان يكبرني بأربع سنوات قصائده الطليعية، التي بدت لي آنذاك نثرًا بالمقارنة بشعري الرمزي، لكن صلاح كان قد أصبح مشهورًا، ولم أكن أنا إلا شاعرًا مبتدئًا». إلى أن يقول: «كان في الخامسة والعشرين حين تحقق له كل شيء الشهرة والعمل المرموق والأجر المجزي، ورضى الجميع بما فيهم الدولة التي اختارته ضمن النادرين من أبناء جيله لتخلع عليه أوسمتها وجوائزها وتعهد إليه منذ أواسط الستينيات بإدارة عدد من أهم مؤسساتها الثقافية». وفيما يشبه الرثاء یکتب حجازي: «أشعر أنني أفهم الآن صلاح أفضل مما فهمته في حياته، ولهذا أحس بندم شديد، ويتضاعف شعوري بالخسارة لأني لم أبذل مثل هذا المجهود لفهمه وهو بجانبي».
افتتح الشاعر العراقي حميد العقابي سيرته بهذه القصيدة التي اختار البيت الأخير عنوانًا لها:
«ينفردُ بذكرياته
يُقلّبها
يُصلحُ هیأتها
يُرممُ ما تآكل منها
وكقبلة تبحث عن فمٍ
يبحث لها عن موضع قدم في الزحام
لكن أسئلةً تتعاظم
تهجس
تتوجس
تشتعل
تتجمرُ
ثم تنطفئ عند سقوط رذاذ القادم عليها
يظل يصغي إلى رماده».
لم ينتظر طويلًا حتى يألفه القارئ ليمضي به إلى سراديب حياته، بل فاجأه منذ المقدمة في التصريح باعترافاته وكأنه يقول للقارئ: هاأنذا فلترعني سمعك فلدي الكثير مما تحتاج السماع إليه. يصف بعض النقاد هذا الفعل بـ(غواية القارئ)، أي محاولة استمالته مبكرًا من قِبل الكاتب بادعاء الاعترافات المباشرة أو كثرة التشكي والاستعطاف، حتى يتقبّل تفاصيل سيرته وتفاهات حياته.
أولى حسراته، حسرة صدمتني وأرّقتني، تأملتها كثيرًا وجعلتها على قائمة رسائلي لأصدقائي الشعراء، واكتفيت من سيرته هذا الاعتراف، يقول حميد: «ثلاثون عامًا مرّت وقد أصدرت العديد من المجموعات الشعرية ولكني لا أستطيع إحصاء الخسارات التي سببتها لي عبارة (إنه شاعر)، خسرت المستقبل الباهر الذي كان يتوسّمه الأمل بي، وحرمت من الجسارة التي تجلب اللذات فصرت كلما التفت إلى قصيدة خسرت امرأة، ارتضيت بالقليل مما ترميه الحياة إليّ، فشلت في كل المهن التي زاولتها، المطرقة في يدي لا تعرف طريق المسمار فأدفع ثمن سهوي رضوضًا وانخذالًا أمام زوجتي فأسمع قهقهات الجدار (إنه شاعر..إنه شاعر)، خسرتُ العديد من الأصدقاء، ارتضيت بعزلتي وغيرت النظام وفقًا لنزواتي وما يتطلبه انتظار القصيدة، تهجأت الحياة وفق نصيحة الشعراء فحفظتُ السنوات على ظهر قلب ثم نسيتها فتكررتْ أخطائي وظلّت تتكرر حتى غدوتُ خطأً هرمًا أبيض الشعر، خسرت الأمل والوطن متعللًا ببيت شعر قاله أبو الطيب المتنبي، وكم من مرة كنت أخرج من بيتي ملتجئًا إلى الغابات في ليالي الشتاء الدنماركي مصطحبًا الفرزدق معي نصرخ بالجن (أخاكم أخاكم)، خسارات كثيرة ربما كان أفدحها بأني أُلهيت عن كل مكرمة بقصيدة لم أقلها».
أما أحمد عبد الحسين فقد ختم سيرته بنص تحت عنوان «ندم» بدأه قائلًا: «سنندم على كل شيء، على ضياع الوقت والجهد سدى، على اللحظات التي لم ننصرف فيها إلى عملنا الأثير إلى قلوبنا، على نقصان خبرتنا، وعلى اكتمالها دون أن نصرفها إلى ما نحب، على الضائع لأنه ضاع، وعلى الموجود لأننا أتلفناه بكثرة الاستعمال، على لحظاتِ غباءٍ کانت ندبةً في ضمائرنا قلّبتنا طويلًا على أسرّة الأرق، وعلى لحظات اتقاد الذكاء التي أسلمتنا لغربة عن أنفسنا والعالم».
لا مفر من الندم، لا سلامة من الخيبات، لا حياة بلا خسائر، ويبقى السؤال: هل سنندم حقًّا أم أننا لن نجد وقتًا للندم؟ وهل سيؤثر ندمنا على قراراتنا؟
غايات
تحدّث فيليب لوجون ضمن «ميثاق السيرة الذاتي» عن الحوافز التي تقود المؤلف إلى كتابة السيرة الذاتية، وذكر منها: الحنين إلى الماضي، والتلذذ بالذكريات، والوصول إلى القيمة. ما لم يتحدث عنه لوجون هو الدافع لقارئ السيرة الذاتية، والذي يمكن صياغته في «بناء الهوية الخاصة»، ورسم الطريق الشخصي، استنادًا لما قرأه ووجد مناسبته لبيئته وحاله، واختيار الزورق الأمثل لرحلة حياته.
قد نتفق بأن الشعراء هم أكثر من وصف الحياة على حقيقتها، وسطّروا العديد من النصائح لعيشها، إلا أنهم وإنْ عبّروا عن حقيقة الحياة في قصائدهم فقد كانوا أبعد الناس عن عيش الحياة في واقعهم، وسيرهم شاهدة على هذا، ويمكن الاستئناس لهذا بقول عباس العقاد، سواء ارتضيتَه واحدًا منهم أو أحد الغاوين من أتباعهم، فقد قال في يومياته: «أصحاب القرائح الشعرية لا يتمتعون بالحياة الحقيقية كبقية الناس؛ فإن حياتهم كلها ذاهبة بين أملٍ في المستقبل أو ذكرى للماضي، وقلّ أنْ تستقر بهم نفوسهم في الحاضر الراهن؛ لأنه دائمًا على غير ما يشتهون».
يكتب الشعراء سيرهم الذاتية للتأكد من عيشهم الحياة بعدما كانوا يعيشون الكتابة، فقد كانت حياتهم منذورة لأشعارهم، يخوضون التجارب وأذهانهم مشغولة بصياغتها لقصائدهم. وقد صاغ هذه الغاية المستترة نيابة عنهم الشاعر شوقي بزيع بقوله:
«كان لا بدّ كي يُدخل (النهر) في الشعر أن يفقد النهر
لا بدّ أيضاً لكيّ يدخل (الحبّ) أن يفقد المرأة المشتهاة
و(الحلمَ) أن يفقد الغفوة المطمئنة
و(البيتَ) أن يفقد العائلة
ومن حيث لم ينتبه، كان يبهجه أن يخون المسمّى لكي يربح الاسم أو أن يرى في الكتابة ما لا يرى في تفجّر مجرى الحياة الحقيقيّ، أو أن يقايض بالمفردات السقيمة فردوس أيامه الزائلة
هكذا راح يحصي محطات تلك الحياة التي خانها بالقصائد، حتى إذا أصبح العمر مقبرة من حروف، تراءى له الموت في زيّ أعماله الكاملة».
لا أكتب الشعر، أعيشه. أصنع من أيامي قصائد ومعلقات. يُقبِل العالم علينا أحيانًا على شكل قصيدة، مما يوجب علينا استقباله وعيشه على تلك الهيئة. يَعتبر هايدغر الإنسانَ مُقيمًا في اللغة، ويعيد تشكيل العالم من خلالها، وأن الفيلسوف يسير نحو القصيدة. الإنسان بنظر هايدغر يقيم في العالم باعتباره شاعرًا. والشاعر هنا هو كل فنان يقيم في مجال إبداعه.
نتعلم الحياة من كتابة الشعر، لا من نصوصه مباشرةً، وهو ما أُسميه «العيش الشعري». كانت سير الشعر مختبرات للكتابة، معامل لتوليد الأفكار وصقلها وإخراجها، مما أثمر أدوات وفيرة في القبض على الألفاظ والتعابير والصور، ولو أخذنا تلك الطرائق في الكتابة واستثمرناها في الحياة لجاءت حياة شعر لا حياة شاعر.
لا شِعر إلا بعد تفكّر طويل، ولا حياة إلا بتأمل طويل. الشعر أكثر الأفعال براءة، كما يؤكد هايدغر على قول شاعره المفضل هولدرلين، وهو ما يعني عيشًا بريئًا منفتحًا على الحياة، غير متحفظ تجاهها، يأبى أن يكون سهمًا في سوق المضاربات، أو سلعةً لخدمةِ أحدٍ في الخصومات. الرفض هو البدّ اللازم للشعر، الاعتراض على السائد والمكرر، مغالبة الشائع، إعادة تسمية الأشياء، وكذلك الحياة الشعرية. يولد الشعر بتأمل وطول أناة، وتُلبِسُ الحياةُ الشعرية صاحبَها الهدوء والتأني في ظل هذا التسارع غير المجدي وغير المفضي إلى شيء ذي بال. يُقنعك الشعر بأن هناك من الكمالات ما هو أكبر من حدود النفعيّ، كما أنّ للكلمة دورًا أكثر من تبادل المعلومات والتفاهم بين المخلوقات.
كتابة الشعر الحديث منهجٌ في تعلّم الصمت، فالقصيدة الحديثة لم تعد تعتمد على تسويد الصفحات، بل على بياضها أيضًا. أعادت القصيدة الحديثة إلى الصفحة قيمتها، وأجبرت القارئ على ملاحظة البياضات والأمكنة الشاغرة، مؤكدة أن اللامكتوب مساوٍ للمكتوب، وأن السواد وحده هو فضاء الأعمى، وأن الصفحة هي أُلفةٌ بين ليل ونهار في آن معًا.
لدى الشاعر الكثير من الأسئلة، تنتظره على الطريق حينًا، وتقطع طريقه حينًا، وتُخرجه عن الطريق أحيانَ كثيرة. الشعر أبُ الأسئلة، والحياة بحثٌ عن الأجوبة. الشعر أكثر الأجناس الأدبية اجتهادًا في كشف المجاهيل، في الغوص داخل الأعماق واستخراج مكامنها، وزاد هذا الاجتهاد في هذا العصر من خلال ما يُعرف بقصيدة التفاصيل، والتي أسسها الشاعر اليوناني یانیس ریتسوس ثم أدخلها الشاعر العراقي سعدي يوسف للعالم العربي بترجمته لقصائد الأول والكتابة على غرارها. تتوقف هذه القصيدة أمام أكثر الأشياء بساطة لكي تقدمها للقارئ كما لو أنه يراها لأول مرة، وتؤكد الحياة المستفادة من هذه الشعرية بأن التفاصيل اليومية الصغيرة هي أشياء الحياة الحقيقية، وأن خصوصية حياتك بقدر التقاطك لما لا يتوقف إزاءه الآخرون، وبقدر رؤيتك لما يشيح عنه العابرون.
الشعر ابن الشغف والدهشة المستمرة والعيش تحت وطأة الجمال الذي يدخل من حواس الإنسان ليخرج من فمه عذبًا زلالًا، والحياة الشعرية هي المتمسكة بالدهشة الأبدية النافرة من الروتين القاتل للإحساس. التجديد الشعري يستلزم معرفة القديم للانطلاق منه نحو الجديد، والحياة الشعرية تتطلب المعرفة الجيدة بالقواعد قبل كسرها، فالشعر أسبق من القواعد، متعالٍ عليها، متحرر من القيود النقدية، القصيدة ثراء لا ينفد، تغذي أخيلة النقاد وتملأ دلاء المترجمين، منفلتةٌ من كل تأويل نهائي. الشعر لا استقرار فيه، إنه تحديث لا يفتأ يَحدث، لا يؤمن بالكامل والنهائي. رحلة القصيدة تبدو في كثير من الأحيان أكثر جمالًا من القصيدة، ومعاناة الكاتب تبدو كثيرًا أقوى جذبًا من نتاجه المكتوب، ولكن لا تُلهِيَّنّك متعة الطريق عن شغف الوصول.