مقالات

سِرُّ الصُّورَة ولُغْز الأيْقُونَة: التُّرَاث الدِّيني ورهَانَاتُه

تبيَّن بأن الصورة ليست فحسب موضوع الدراسة عندما تكون مبحثًا كغيرها من المباحث التي تثير الفضول والاهتمام. إنها منهج إذا وضعناها في رؤية أو معقولية تستعين بوسائل معجمية أو مفهومية تستجلي المجالات التي تنطبق عليها (الفلسفة، الدين، الفن، التقنية) وتُولِّدُ فيها التصوُّرات والأفكار. الصورة موضوعًا، الصورة منهجًا، كذلك الصورة «دافعًا». الصورة هي دافع بتأثيرٍ من الرغبة التي تجعل الإنسان في مقام الكائن الأيقوني الذي وُجد على الصورة. تُدعِّم آية سِفْر التكوين هذا المنحى «فخلَقَ اللهُ الإنْسَانَ عَلَى صُورَتِه». الإنسان-المخلوق-على-الصورة هو كذلك الإنسان المجعول-لأجل-الخلق. مخلوقٌ على الصورة، يريد الإنسان، بدافعٍ أيقوني أو برغبةٍ في التصوير، لأن يخلق بدوره، فتنطلي عليه مهام الصناعة والابتكار والإبداع لكي يُثبت كائنه «الصَّنائعي» (poïesis). أن يكون صانعًا أو صائغًا، هو مدعوٌ لأن يُباشر جدلًا صاعدًا ينتقل بموجبه إلى الأشكال الخالصة، إلى «النموذج أو المثال» (exemplar)، ليستلهم منه وليُجسِّد في القوالب المادية حُسن (جمال) الأشكال المفارقة، بأن يستحضرها، بأن يجعلها حاضرة.

يقوم هذا الإجراء على فكرة «المحاكاة» بأن يكون الإنسان الصَّانع «على شاكلة» الإله الخالق. ليس غريبًا إذًا أن يطغى التشبيه على أنه مرادف الصورة بامتياز، خصوصًا في العالم اللاتيني تحت وطأة المسيحية. كيف أصبح التشبيه مرادفًا للصورة في التصوُّر الديني؟ ما هي تصاريف التشبيه في هذه الأنثروبولوجيا الدينية؟ لماذا عمدت المسيحية إلى تعويض التشبيه (mimesis) بالنسبة (genesis) في بلورتها لعقيدة التثليث؟ ما موقع الصورة في «سجال الأيقونات» الذي هزَّ التاريخ الديني بدءًا من الفضاء البيزنطي وإلى غاية الانتصار النهائي للصورة في الثقافة المسيحية انطلاقًا من مجمَّع نيقية الثاني؟ هل انحصرت مشكلة الصورة في السجال المذهبي فحسب أم كانت لها خلفيات سياسية وإقليمية؟ تطرح هذه الأسئلة إشكالية رئيسة حول موقع الصورة في الأنثروبولوجيا الدينية بناءً على تناقض داخلي بين الأخذ والرد، بين القبول والرفض، الذي انجرَّ عنه انقسام مذهبي بين عُشَّاق الصورة («الأيقونوفيليون» Iconophiles) ومدمِّري الصورة («الأيقونكلستيون» Iconoclastes).

سيتبيَّن أن هذا «الانقسام المذهبي»، بناءً على تصوُّر ديني طبع تاريخ الذهنيات والمجتمعات، هو في الحقيقة عبارة عن «تقسيم إدراكي» طال التصوُّر النفسي والأنطولوجي للوجود الإنساني في العالم، بين «الملاء» (ترجمته النفسية في «العُصاب» عند فرويد) و«الخلاء» (ترجمته النفسية في «الذُّهان» عند فرويد)، بين الرغبة في الزخرفة والتنميق والتركيب والدهشة والحرارة والانفعال، والعزوف نحو البساطة والتفرُّد والتوحُّد والزهد واليُسر والبرودة. تُبرز نماذج فكرية عبر التاريخ الديني والمذهبي هذا الفاصل شبه الكوني، مثلًا في الثقافة الإسلامية، بين ابن قدامة وابن تيمية في مقام «هدم الصورة»، وبين ابن عربي وابن سبعين في مقام «عشق الصورة»؛ وفي الفلسفة، بين فتغنشتاين في مقام «رهاب الصورة» ودريدا في مقام «الولع بالصورة». غير أن المسألة ليست ثنائية آلية أو مانوية أصلية، بل هي تشكُّلات ثقافية وتقاطعات تاريخية بين الدين والفن والفلسفة طبعت الرؤوس العالمة بهذا التوجُّه أو ذاك.

  1. الرُّكْن الأسَاس للصُّورَة

يُعدُّ أغسطين من بين المفكرين الأوائل في تعريف الصورة من وجهة نظر لاهوتية، كما كانت تمليه العقيدة وقتها، وفي الوقت نفسه التفكير الفلسفي حول الصورة. تعريفه للصورة هو كذلك احتراز من وطأتها الصنمية. جاء التعريف في السؤال 74 تحت عنوان «ما هي الصورة؟». والتعريف هو جواب عن سؤال القديس بولس حول الإنسان على صورة الإله المتواري. يتساءل أغسطين إذا كانت الصورة هي الصورة الحسيَّة أم يمكن الحديث عن الصور الخفيَّة، وهل هي صور عندما تكون متوارية؟ في تعليله، يُميّز أسقف هيبون (عنابة) بين الصورة والمساواة والمشابهة (Augustin, 1869, Question 74, p.97). (1) تستلزم الصورة المشابهة، لكنها لا تستلزم المساواة: مثال المرآة حيث تُشبه الصورة المنعكسة الصورة الحقيقية للشخص، لكن لا تساويها بافتقاد خصائص عديدة؛ (2) تستلزم المساواة المشابهة، لكنها لا تستلزم الصورة: مثال بيضتين متساويتين هما متشابهتان، لكن لا تُستمَد إحداهما من الأخرى؛ (3) وأخيرًا، لا تستلزم المشابهة الصورة، ولا تستلزم المساواة: مثال البيضة التي تشبه كل بيضة، لكن بيضة الحجلة لا تُستمدُّ من بيضة الدجاجة، ولا تساويها لأنها أصغر من حيث الحجم.

وإن كان تعليل أغسطين منطقيًا، لأنه مبني على استدلالات، إلا أن القيمة الأنطولوجية بارزة من حيث أنه يناقش طبيعة المشابهة والمساواة والصورة التي غالبًا ما تأتي مرادفة في مجالٍ ينفر بطبعه من الأشباه والنظائر، خصوصًا في المجال اللاهوتي الذي يضع حدودًا معلومة وحاسمة بين البشرية والألوهية. حتى عندما يناقش التصوُّر المسيحي النسبة بين الابن والأب، فمن باب الفاصل بين وجه التعالي ووجه المحايثة؛ ويستخدم «التجسيد» (لطافة الجسد) الذي لا علاقة له بـ«التجسيم» (كثافة الجسم)، لأن الجسد، كما يُوضِّح ابن عربي نفسه (الفتوحات المكية، 3، 186)، ينطلي كذلك على الأرواح والأشباح، فنقول بأن الروح يتجسَّد (ميكائيل أو جبريل في السردية الدينية الملائكية) ولا نقول عنه بأنه يتجسَّم. يناقش توما الأكويني في المبحث الثاني والأربعون من «الخلاصة اللاهوتية» التمييز الذي أقرَّه أغسطين، وتساءل إذا كان التمييز ينطبق على الكيانات الروحية مثل الأقانيم: «فإذًا يَجبُ أن يُقَال إنَّ في الأقَانيم الإلهيَّة مُشَابَهَة لا مُسَاوَاة» (توما الأكويني، 1، مب42، 504).

الكيانات الروحية هي إذًا «صُوَر» لأنها تتَّسم بالمشابهة ولا تتَّصف بالمساواة. عندما يصف أغسطين الصورة فهو ينعتها بأنها ما يُعبَّر عنها (expressum)، ولأن الكلمة اللاتينية تعني ما يُستمدُّ من حقيقةٍ ما. يمكن فقه المسألة في اللسان العربي عندما نتأمَّل في الفعل الرباعي «عَبَّر» على أساس الفعل الثلاثي «عَبَرَ»، ندرك أن التعبير هو العبور، هو الانتقال من حالة إلى أخرى، وبشكل بلاغي هو النقل والانتقال، أي الاستعارة التي هي صورة بيانية المراد بها نقل الدلالة من لفظ إلى لفظ للمشاركة بينهما (ابن الأثير، العسكري). هل يمكن القول بأن التصوُّر المسيحي للصورة يقوم على أساس الاستعارة؟ يمكن استشفاف ذلك من الفينومينولوجي جان لوك ماريون الذي يرى بأن أيَّة «عقلنة» للقول الديني (التثليث، الأب والابن، التجسيد)، إنما هي مصراع على المج والاشمئزاز، لأن المراد منها وضع الحقائق المفارقة في أفق المعطيات المادية، بينما العلاقة بينهما لا يمكن تعقُّلها سببيًا. لأن، من جهة، لا يوجد علاقة سببية بين الحقائق الروحية والحقائق المادية؛ ومن جهة أخرى، ما ينطبق على العالم الجلي لا ينطبق على العالم الخفي، ولا يمكن اللجوء إلى قياس الغائب على الشاهد. الوسيلة الوحيدة في الربط هي «رمزية» لما ينطوي عليه الرمز من قيمة فاصلة/واصلة، يربط بينهما (على أساس المشابهة)، لكن لا يخلط بينهما (على أساس المساواة).

لكن ما هو معيار الوصل وما هو معيار الفصل في الصورة من وجهة نظر التصوُّر الديني؟ هنا بالضبط احتدم النقاش العارم داخل المسيحية في عدَّة مجمَّعات دينية بين الرفض (مجمَّع هيريَّة، 754م) والقبول (مجمَّع نيقيَّة الثاني، 787م)، والبحث الحثيث عن الخيط الفاصل بين البشرية والألوهية، بين ما يُعدُّ صورة وما يُعدُّ صنمًا. لفهم هذا النقاش اللاهوتي ووضعه في إطار بحث فلسفي حول الصورة، يمكن استعادة الثنائية المهمَّة والحاسمة التي طبعت تاريخ الفلسفة والتي لا تزال تُحدث ردود فعل معاصرة حول طبيعة الصورة في المجالات الأخرى مثل الفن والتقنية. الثنائية المعنية هي «الأيقونة» و«الأيدولة» التي ستتَّخذ دلالة لاهوتية تختلف عن الدلالة الفلسفية سليلة التقسيم الأفلاطوني بين الأصل والنسخة، وإن كانت تُمثِّل الترجمة والإزاحة. يتمثَّل الفاصل في جعل الأيقونة نسخة جليَّة (البشرية) من الصورة الخفيَّة (الألوهية)، في جعلها مشابهة لها، لكن غير مساوية لها. تُعوِّل الأيقونة على «المشابهة» بدرء «الاشتباه» الذي تُلوِّح به الأيدولة، لأن الأولى تتميَّز عن الأصل وإن كانت تُجسِّده، بينما الثانية توهم بالاتِّحاد به، ولا أصالة لها (Mondzain, 1996, p.96).

في الأيقونة، الأشياءُ هي «رموزٌ»، تُعبِّر في الحقيقة الحسيَّة اللطيفة (الجسد) عن الحقيقة المتعالية والمفارقة؛ وفي الأيدولة، الأشياءُ هي «أشياءٌ»، تسجن في الحقيقة الحسيَّة الخشنة (الجسم) الحقائق المتوارية، ولا تحيل في نهاية المطاف سوى إلى ذاتها، في محض مادِّيتها وصنميتها. لذا، تُعوِّل الأيقونة على الرؤية الخالصة، فيما تبقى الأيدولة في حدود الشيئيَّة المادِّية، لأن الأيقونة تعتمد على الحركة، والرؤية هي حركة في نسيج المرئيات، بينما تستقر الأيدولة على السكون، ما دام الأصل الاشتقاقي للأيدولة هو الموت، هو إذًا افتقاد الحركة والحياة، وتعطُّل الكينونة. الصنم هو السكون المطلق فيما هو يوهم بالحركة. هذا بالضبط عمل الأيدولة: الإيهام. الإيهام بالحركة والحياة في وثنٍ منتصب تنتفي فيه هذه المقوِّمات: «لا يَنْفَصل تَاريخ الأيْدُولة عن القَتْل، وبالتَّعْريف ليْسَت الأيْدُولة دِينَاميَّة مُجرَّدة للعَلَامَة، ولا تَدْبيرًا حَيًّا للرُّمُوز، بل هيَ وُجُود مُضْطَرب وبَاطِل للأجْسَاد القَابلة للهَلَاك والتَّضْحِيَّة» (Mondzain, 1996, p.220). عدم انفصال تاريخ الأيدولة عن القتل هو عدم انفكاكها عن كل ما يؤدِّي للحتف والموت: التعصُّب، التمركز، العنف، الأيديولوجيا، الإرهاب.

  1. «سجَال الأيْقُونَات»: الصُّورَة في قَفَص الاتِّهَام

منذ التمييز الأغسطيني، مرَّت الصورة بمراحل عصيبة قبل أن يستتبَّ أمرها. في الواقع، التمييز الذي أجراه أغسطين هو «نظرية أيقونية» على شاكلة «نظرية المعرفة» التي أقرَّ بها، والتي تخصُّ الجسم والنفس والروح وفق خريطة ثلاثية: «رؤية مادِّية» (visio corporalis) وهي الرؤية بعين الحس لأشياء حسيَّة؛ «رؤية عقلية» (visio intellectualis) وهي الرؤية التأمُّلية للنفس في الحقائق المتعالية؛ «رؤية روحية» (visio spiritalis) وهي الرؤيا بعين القلب والبصيرة. هذه الثلاثية التراتبية من الأدنى وهو الحس إلى الأعلى وهو الروح مرورًا بالوسيط وهو النفس/العقل، هي التي تُبيِّن لعبة المواقع بين الأيقونة والأيدولة. لأن كلتا الحقيقتين هما مادِّيتان، لكن فيما تحمل الأيقونة قيم الجسد اللطيف، ومن ثمَّ إمكانية أن يتجسَّد الروح فيها، فإن الأيدولة تعتدُّ بالجسم الكثيف وهو مسقط النفس بالشهوات ومسقط العقل بالقياسات. كذلك، تندرج نظريته الأيقونية في إطار «نظرية التأويل» التي تقوم هي الأخرى على خريطة ثلاثية في مقاربة النص: «الحرف» الذي يُمثِّل العلامة، بالقدرة على فك شيفرته واستخلاص دلالته؛ «المعنى» الذي يُمثِّل العبارة، بالقدرة على الولوج عقليًا في طيَّاتها لاستخلاص معرفة ذاتية؛ «الفهم» الذي يُمثِّل الإشارة، بالقدرة على الإدراك الروحي لمغزاها. هناك تدرُّج في الانتقال من المدلول الحرفي للعلامة إلى الانكشاف الروحي للحقيقة مرورًا بالاكتشاف العقلي للذات.

معرفة كيف تتجلَّى الصورة في مجلى الأيقونة وكيف تتمظهر في صنم الأيدولة، هي مرهونة بمعرفة التاريخ الديني الذي شهد نقاشًا لاهوتيًا حول المغزى من الصورة، وخصوصًا حول استحالة رؤية الإله أو قياس العالم العلوي بخصائص العالم السفلي. على منوال هذه الاستحالة (رؤية الإله والمساواة بين الغيب والشهادة) حصل السجال الأيقوني ومن ثمَّ تحطيم الأيقونات التي كانت تزدان بها الكنائس في الإقليم البيزنطي الواسع. يُعدُّ غريغوري الأول (540-604) أحد الأحبار الذي حبَّذ الموقف الوسط برفض الوثنية من جهة، وبشجب هدم الصورة من جهة أخرى. لكن النقاش الذي بدأ يحتدم في المسيحية، انتهى بمواجهة فريقين، أحدهما يحتفي بالصورة بالإقرار بشعيرة الأيقونة وبقايا القديسين، والآخر يُنفي الصورة بجعل شعيرة الأيقونة وثنية تتنكَّر لذاتها. يتراءى ذلك في مجمَّع هيريَّة الذي استدعاه الإمبراطور قسطنطين الخامس عام 754م ليُندِّد فيه بتفشِّي شعائر الأيقونة والانصراف عن التعبُّد الخالص.

في تسويغه لرفض الصورة، قدَّم المجمَّع مجموعة من الحجج: (1) إذا كانت الأيقونة مشابهة للنموذج، فهي تشبهه في الجوهر والطبيعة. لكن الأيقونة هي شيء مادِّي، والنموذج هو عُنصر روحي. إذًا، الأيقونة مرفوضة؛ (2) إذا كانت الأيقونة تزعم أنها تُشبه الشكل الحسِّي للنموذج، فهي تُقسِّم النموذج بأن تفصل شكله الحسِّي عن جوهره الخفي. إذًا، تسقط الأيقونة في الإثم لأنها تُقسِّم ما يفلت بطبعه من التقسيم وهو متوارٍ وراء الحُجُب؛ (3) إذا قامت الأيقونة برسم صورة الإله، فإنها تسجن اللامتناهي في رسمها المتناهي، وهذا مستحيل. إذًا، تقوم الأيقونة بسجن الباطل والزائف؛ (4) إذا كانت الأيقونة معبودة لما تكشف عنه، فهي معبودة في مادِّيتها. إذًا، الأيقونة هي أيدولة، وعُشَّاق الصورة هم وثنيون. بهذه الحجج، عبَّر المجمَّع عن رفضه للأيقونة التي تزعم، في نظره، التعبير عن المتعالي والخفي، بينما هي مجرَّد شيء حسِّي أو مادِّي. ولا يمكن للحسِّي أو المادِّي أن يستقطب الروحي، لأنه لا يتخلَّص من الحسيَّة أو الماديَّة الملتصقة به. على منوال هذا الرفض، تحوَّل الإقليم البيزنطي إلى إقليم مهدِّم للصورة الحسيَّة المسمَّاة «الأيقونة». حتى قبل قسطنطين الخامس، قام والده ليون الثالث بتطهير الإمبراطورية من شوائب الأيقونة ومحاربة الهرطقة.

يرى أندري غرابار (Grabar, 1984, p.197) بأن الأيقونكلستية الشائعة في عهد ليون الثالث، ثم في عهد ابنه قسطنطين الخامس، جاءت من الروح الأيقونكلستية لليهودية والإسلام. عندما اطَّلع ليون الثالث على مرسوم الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك (720-724م) القاضي بمحاربة الصور والتصوير في الخلافة، عمد هو الآخر إلى تحريم الأيقونة في الكنائس. غير أنه تبيَّن للبطريرك نيقوفوروس (ولد بالقسطنطينية عام 758م) أن مرسوم الخليفة الأموي كان يستهدف المسلمين بمنع الصورة والتصوير، وليس المسحيين الذين كانوا يعيشون في كنف الخلافة. الدليل على ذلك هو أن يوحنا الدمشقي، المعروف باسم منصور بن سرجون (675-749م)، كان مقرَّبًا من الخلفاء ومستشارهم، ولا يمكن أن يكون مرسوم يزيد الثاني موجَّهًا ضدًّ المسيحيين. بل إن الهجمة التي تعرَّض لها من طرف المناهضين للصورة، كانت تُعيِّر فيه قربهم من المسلمين: «اللَّعْنَة على المنْصُور [يُوحَنا الدِّمَشْقي] الذي له اسْم يُوحِي بالخرَاب والذي يُؤْمِن بعَقَائِد مُحمَّدية [إسْلَاميَّة]! اللَّعْنَة على المنْصُور الذِي خَانَ المسِيح! اللَّعْنَة على عَدُو الإمْبرَاطُوريَّة [البيزَنْطِيَّة]، فَقِيه الكُفْر والإلْحَاد، عَبْد الصُّوَر!» (Pop-Cursu, 2010, p. 49).

يُوحي هذا التكفير بدرجة التشنُّج بين الفريقين حول الموقف من الصورة. وإن كانت للروح الأيقونكلستية للخلافة الإسلامية دور في تفشِّي الكراهية ضدَّ الصورة في الإمبراطورية البيزنطية، إلا أن سجال الأيقونات هو نابع من الحركة الجدلية داخل المسيحية نفسها ومن الأزمة السياسية للإمبراطورية. لأن في حقيقة الأمر، لم يكن تحريم الأيقونات بدوافع دينية محضة عبر مجمَّع هيريَّة، بل كانت له دوافع سياسية، هي في أصل الصراع بين السلطات العليا: السلطة السياسية للإمبراطور، والسلطة الدينية للبابا والأحبار. كلما حارب الإمبراطور الأيقونات، قلَّت سلطة القساوسة، واستقطب التبجيل في شخصه. كذلك، لا يمكن استبعاد بعض الظواهر الطبيعية الحاصلة وقتها التي كانت حاسمة في تحريم الأيقونة، ومنها زلزال القسطنطينية عام 740م، ثم انتشار مرض الطاعون الذي انطلق من صقلية ووصل إلى القسطنطينية عام 747م، وأخيرًا البرد والصقيع الذي ضرب البحر الأسود إلى غاية تجمُّد مضيق البوسفور. كانت الإمبراطورية ترى في هذه الظواهر الطبيعية القصوى علامات إلهية في تحريم الأيقونة وتجريم التعاطي معها بوصفها مرتع الصنمية. يُضاف إلى ذلك الغزوات التي قادها العرب عدَّة مرَّات ضد الإمبراطورية، آخرها غزوة هارون الرشيد بالقرب من القسطنطينية عام 782م.

مسوِّغ المناهضين للصورة هو أن النصوص الأصلية للأناجيل حذَّرت من التعاطي مع الصورة، كما ينبري ذلك من سِفْر الخروج: «لا تَصْنَعُ لَكَ تمثَالًا مَنْحُوتًا، وَلا صُورَةً مَا ممَّا في السَّمَاء وَمَا فَوْقَ الأرْض مِنْ تَحْت، وَمَا في الماء مِنْ تَحْت الأرْض» (الإصحاح20، 4). غير أن التحذير في السردية الإنجيلية غير الممارسات الدينية والاجتماعية في استعمال الأيقونة. ثمَّ إن النبرة الواردة في الأناجيل (التحذير) هي غير النبرة الواردة في التوراة (التهديد) كما شرحها دوبريه: «لقد جاء في التوراة “إنَّهُم لَضَالُّون أوْلَئِكَ الذِينَ يَخْدُمُون الصُّوَر، اللَّعْنَة عَلَى مَنْ صَنَعَ صُورَةً مَنْحُوتَةً، أحْرِقُوا بالنَّار الصُّوَر المنْحُوتَة”. إن الإلحاح بالحظر جعلنا نحس بحضور الخطر. فثمة على ما يبدو تهيُّج في العقاب الذاتي. وما لا يوجد بالممارسة ليس بحاجة إلى التحريم. ونحن نعرف أن معبد سليمان كان يحتوي على تماثيل للثيران والأسود. ولقد تمَّ العثور على الأشكال الهندسية والتزيينية المباحة، على تصاوير يهودية ذات تأثيرات إغريقية وشرقية تخرق مبدأ التحريم، وذلك في القرون الأولى من التاريخ» (دوبريه، 2007، ص60). تحريم الأيقونة هو من أجل سد باب الحس الذي تلج منه المحرَّمات الأخرى مثل الجنس.

بما أن الجنس يتسرَّب من الحس، فإن المحسوس ممقوت لذاته، والمعقول محبوب لذاته. وبما أن الأيقونة تُمثِّل شيئًا حسيًّا، فهي ما يثير الغرائز ويحول دون التوصُّل بالمعقول عبر التأمُّل والتعبُّد الخالص. يتَّضح ذلك من الرابط الذي تمَّ إجراؤه بين الصورة والأنوثة: «ثمة أنوثة أكيدة في الصورة الماديَّة […] فالاضطهاد الطهراني للصور، الذي يثوي وراء رفض عبادتها، لا يمكن إلا أن يترافق بقمع جنسي معلن إلى هذا الحد أو ذاك، وبالتهميش الاجتماعي للنساء» (دوبريه، ص61). ومن ثمَّ فإن تحطيم الأيقونة هو كبح جماح النزوات، هو ممارسة خالصة للزهد والتعبُّد. يتبيَّن من هذه الشذرات التاريخية الموجزة كيف أن النزوع الأيقونكلستي (المناهض للصورة) لم يكن دينيًا محضًا حول استحالة تمثُّل الألوهية، بل انخرط في مجموعة من العوامل الداخلة في تحريم الصورة، وهي عوامل سياسية في الصراع على السلطة بين رأس المؤسسة الدينية وهرم المؤسسة السياسية؛ وعوامل نفسية في تأويل الظواهر الطبيعية على أنها علامات إلهية في الإنذار والعقاب؛ وأخيرًا، عوامل أخلاقية في تطهير المجتمع من إغواء الصورة وفتنتها.

  1. «سجَال الأيْقُونَات»: الصُّورَة في قَلْب الاهْتِمَام

لم يدم النزوع الأيقونكلستي طويلًا، أو يمكن القول بأن عودته الدورية كانت تُرسِّم تلاشيه ونهايته. مثلًا، عودته القصيرة بعد مجمَّع نيقية الثاني (787م) الذي أقرَّ بالصورة وتبجيل الأيقونة. مجمَّع نيقية الثاني هو من استدعاء الإمبراطورة إيرينا الأثينية التي شهدت تمزُّق بيزنطة حول مسألة الصورة. غير أن استدعاء المجمَّع لم يكن لأغراض لاهوتية أو كلامية فحسب، بل كان أيضًا كرد فعل على التوسُّع الإسلامي، الأيقونكلستي في جوهره. ومن ثمَّ، كانت المسألة بالنسبة لبيزنطة عبارة عن مسألة وجودية، ومسألة وجود ككيان سياسي. تصدِّيًا للتوسُّع الإسلامي وللغزوات التي كانت القسطنطينية عُرضة لها، فإن بيزنطة راجعت استراتيجيتها بشأن الصورة وأجازت الأيقونة. يمكن القول بأن إجازة الأيقونة من طرف المجمَّع هي مقاومة لاهوتية وسياسية للغارات التي كانت تتعرَّض لها بيزنطة جنوبًا من التوسُّع الإسلامي، وشمالًا من الحروب مع بلغاريا. فيما وراء هذه الاعتبارات السياسية، ما هي مسوِّغات النزوع الأيقونوفيلي في إجازة الأيقونة والدِّفاع عن الصورة؟ يمكن الانطلاق من أطروحة أساسية وهي أن الصورة هي مفهوم أنطولوجي يتميَّز بالتعالي والتواري، والأيقونة هي مفهوم تاريخي تُجسِّد الصورة وفق إجراء يجمع بين الدَّنْيَوَة والقدَاسة: «التَّدبير» (oikonomia). الرهان هو العلاقة بين الصورة الطبيعية والصورة الاصطناعية التي هي الأيقونة.

مسوِّغ النزوع الأيقونوفيلي هو «الرسالة إلى أهل كولوسي» للقديس بولس: «المسِيحُ هُوَ صُورَة الإله المسْتُور» (كولوسي، 1، 1-3). تصبح الصورة هنا في مقام «النَّسَب» (filiation) أو العلاقة المباشرة، لا في مقام «الخلق» (creation) أو العلاقة السببية. العلاقة المباشرة هي «الرابط» (religio) بين الصورة والأيقونة. وفي الكلمة اللاتينية (religio) استُنبطت كلمة «دين». الدين هو الرابطة الأساسية بين الإلهي والبشري، بين الصورة والأيقونة. يُعدُّ لكتانتيوس (وُلد حوالي 250م بهنشير قصيبة، الجزائر) من بين المفكرين اللاتين في التوكيد على سؤال الرابطة في الدين. يقول في «التشريعات الإلهية»: «الوَاجبُ الوَثيق والضَّرُوري الذي يَرْبطُنا بالإله، ومن هُنَا أتَتْ كلمة الدِّين. فهيَ لا تَأتي من الفِعْل relegere كما أوَّل شيشْرُون […] يأتي اسْم الدِّين مِنَ الصِّلة التي تَرْبطُنا بالإله» (Lactance, 28, §3-5, p.233). فيما أخذ شيشرون بالفعل (relegere) وهو مراقبة الشعائر، أخذ لكتانتيوس بالفعل (religare) وهو الرابط الذي يصل الإنسان بالإله. في مفهوم شيشرون، نلمس «الشريعة»، وفي مفهوم لكتانتيوس نلمس «الحقيقة».

ليس غريبًا أن يطغى مفهوم «التدبير» في التصوُّر المسيحي على أنه المفصل بين الصورة والأيقونة، الرابط بين الخفي والجلي، ويكتسي دلالة رئيسة بالنسبة لسياسة الأيقونات وسياسة فكرة الخلاص ككل: «الصورة خفيَّة، والأيقونة جليَّة. كان التدبير المفهوم الحي لترابطهما. الصورة هي سر، الأيقونة هي لغز. كان التدبير مفهوم علاقتهما ولقائهما الحميمي. الصورة هي تماثل أزلي، والأيقونة هي تشابه زمني. كان التدبير مفهوم التحوُّل التاريخي» (Mondzain, 1996, p.15). يربط التدبير (الذي هو في مقام الدين أو الحقيقة) بين الخفي والجلي من جهة، وبين السر واللغز من جهة ثانية، وأخيرًا، بين الأزلي والزمني. يُؤدِّي التدبير هنا دور الحامي على العلاقة الوطيدة بين الصورة والأيقونة ضدَّ الأيدولة بصفتها الدَّخيل في الاقتصاد الروحي للإنسان في تجارته مع الألوهية، لأن الأيدولة في منزلة «التملُّك» (to have) على الخلاف من الأيقونة التي هي في مقام «الكينونة» (to be): «تُحاول الأيدولة تقريبنا من الإلهي وتملُّكنا له» (Marion, 2001, p.7). فهي تستأثر بالأصل بنفي كل مسافة بينهما. على الخلاف من ذلك، التدبير هو مسافة جوهرية مع الألوهية، ويُحقق «الوثاق» ومشتقاته: الثقة (الإيمان)، الوثيقة (الكتاب)، الميثاق (العهد). فهو يُجسِّد جوهر الدين.

في الأصل، استحضر أرسطو «تدبير المنزل» للدلالة على إدارة الشؤون الخاصة، على الخلاف من «السياسة» التي هي إدارة الشؤون العامة. جعلت الكلمة اللاتينية (oikonomia) ممكنًا كلمة «الاقتصاد» (economics)، ليس بالمعنى الحصري في الإنتاج والتبادل، بل بالمعنى العام في «التدبير» الذي استعمله بعض المفكرين في الإسلام (مثلًا، «تدبير المتوحِّد» لابن باجة، «التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية» لابن عربي). التدبير هو أساسًا العلاقة والرابطة، ويدل على الوظيفة أو المهمَّة في إدارة أو سياسة منظومةٍ ما. جاء التدبير في إطار التصوُّر المسيحي ليدل على تدبير الإنسان لشؤون الحياة على شاكلة الإله الذي يُدبِّر شؤون الخليقة. الإنسان «على صورة» الحق في الخلق، هو كذلك الإنسان على صورة الحق في التخلُّق والتحقُّق، أي في تدبير الشؤون. على عاتقه ترجمة المتعالي في المحايث أو تجسيد المثال في التاريخ. تُمثِّل الأيقونة هذه الترجمة بوساطة التدبير، لأن الأيقونة هي تجسيد الصورة في الزمن، إنها التدبير الزمني للحقيقة المتعالية.

من شأن الأيقونة أن تُدبِّر سر الصورة في الحياة، و«علم الصورة هو علم الإنسان» تقول موندزان (Mondzain, p.45)، من حيث أن التدبير هو جعل الصورة عبارة عن أنثروبولوجيا روحية تتمظهر بموجبها الحقيقة في حياة الإنسان، يتجلَّى بموجبها الإلهي في البشري. معنى ذلك أن الأيقونة تُحقق بوساطة التدبير مبدأ المشابهة: الإنسان «على صورة» الإله. لكن، فيما وراء هذه الفكرة التي يكون فيها الإنسان على صورة من أوجده، يؤدِّي التدبير فكرة «العناية»، من حيث أن الإله يحل في العالم بمنَّته، ولا يكتفي الإنسان بالتوجُّه إليه بالشعائر أو القرابين. العناية هي الإرادة الإلهية في التاريخ، الفعل الذي يتدخَّل في توجيه مسار أو إنقاذ مصير. غير أن هذا التدخُّل لا يُعرَف ولا يُفقه. إنه من قبيل المستعصي على الإحاطة. دور التدبير هو إعطاء مرئية نسبية لهذا التدخُّل: «ينقلنا التدبير من نظام السر إلى نظام اللغز» (Mondzain, p.55)، من نظام الصورة المستغلق على الفهم إلى نظام الأيقونة المطروح على الفكر والنظر. الأيقونة هي إعادة الاشتغال على الصورة وفق طاقة الإنسان في التوصُّل بالحقائق المفارقة، وفق إرادته في الفهم وتنظيم حياته عمليًا.

الغرض من الأيقونة بوساطة التدبير هو الخلاص الروحي ودرء ما يُفسد على الإنسان توصُّله المباشر بالمنبع الذي صدر عنه. لذا، من شأن التدبير أن «يربط»، بأن يتوقَّى من الفك والفسخ (نقض العهد)، وبشكل أوسع المسخ والشيطان. الشيطان (diabolon) هو اسم البُعد والتباعُد (الفعل «شَطَنَ»)، مثل الفعل اللاتيني (diaballô) يعني «ما يُقسِّم، ما يُفرِّق»، وبشكل أخص ما يُدخل الشِّقاق والانفصال. مخطط العناية هو تدبير العالم وفق ما يدرأ الشقاق والفراق، هو إحلال الخير في مكان الشر. إلا أن الشر لا ينتفي والشقاق لا ينقضي. ومن ثمَّ فإن مخطط العناية بوساطة التدبير هو مطاردة العتمة بالنور. تتوارى العتمة بوجود النور، لكنها لا تزول. فمن باب العناية وشيوع الخير عبر الأيقونة سوَّغ يوحنا الدمشقي دفاعه المستميت عن الصورة. في نظره، ذيوع الشر في العالم من الافتقار إلى الصورة التي هي المدخل الأساس إلى الحقيقة الروحية، لأن الشر يفصل ويُبعد، والخير يَصِل ويُقرِّب. ولا يجد الإنسان عزاءه وخلاصه سوى في الاتصال والوصول، وفي الاقتراب والقربة. إذا كان الدمشقي يُعرِّف الصورة على أنها المشابهة (على منوال أغسطين)، غير أنه يُحدِّد بأن الشبيه والمشبَّه به لا يقتسمان الهوية عينها ولا الطبيعة نفسها. جاء ذلك حرصًا من الدمشقي في تفادي الصنمية التي تُؤسس طبيعة الأيدولة، وفي الرد على مناهضي الصورة الذين كفَّروه.

بعد أن حدَّد الصورة في المشابهة (Damascène, 1994, p.76)، بيَّن دورها في الإظهار، بأن تكشف عن الحقائق المتخفيَّة. الصورة هي «مَجْلَى» هذه الحقائق ويأتي انجلاؤها في الأيقونة التي تلعب دور الجسد في تمثُّل تلك الحقائق ولتجعلها في متناول الإنسان الذي لا يُدركها مباشرةً، وإنما بوساطة الأيقونة التي هي في مقام الرمز أو التعبير. إدراك السر (الصورة) وفك اللغز (الأيقونة) وفهم طبيعة العلاقة بينهما (التدبير) هي كلها في متناول الإنسان لأنها تأتي على قدر حدوده العقلية وانصباغ ذاته بالصورة التي وُجد عليها. ثم فصَّل الدمشقي أصناف الصورة: 1. الصورة الطبيعية وهي وجود الإنسان على الصورة، بالعلاقة التي تربطه بها، وبالقياس النسبة بين الابن والأب عضويًا من جهة، وروحيًا من جهة أخرى (تبعاً للعقيدة المسيحية)؛ 2. الصورة المثالية وهي صور الكائنات الموجودة في علم الله، يُحيط بها ويحدِّد قَدَرها ومصيرها؛ وصور الكائنات موجودة في «الثبوت» قبل «الوجود» بمفهوم ابن عربي؛ 3. الصورة المقلَّدة وهي الإنسان على صورة الحق: العقل الكوني (الأب) والكلمة المتجسِّدة (الابن) وروح القُدس (الملاك) تعادل في الإنسان العقل والقول والنَّفَس؛ 4. الصورة المتمثَّلة وهي ما تنطوي عليه الكتابات المقدَّسة من أشياء وأحداث قابلة لأن تتحوَّل إلى رموز يُدركها الإنسان بالتماثل والقياس، ويراها رموزًا مجرَّدةً لا أشياءً حسية؛ 5. الصورة النَّبوية وهي استباق الأحداث وتفرُّسها بالبصيرة، مثل الأحداث المقدَّسة؛ 6. الصورة المتذكَّرة وهي الصورة التي تستحضر حدثًا أو شخصًا بتمجيد الأفعال الحسنة وتشنيع الأعمال القبيحة. تأتي هذه الصورة-الذاكرة في صيغتين: الكلمات المكتوبة في كتاب يستحضر الوقائع المقدَّسة (الإنجيل مثلًا)؛ الأشياء المتأمَّلة في الكلمات المكتوبة.

تُلخِّص هذه الأصناف أساسيات فلسفة الصورة: الحس، المثال، الخيال، الأمثولة، النبوة، الذاكرة. أو تبعًا للتقسيم المعرفي، يمكن القول بأن الدمشقي طرح الصورة من وجهة نظر فلسفة الطبيعة، والوجود، والمعرفة، والأخلاق، والدين، والتاريخ. وُجد الدمشقي في بيئة صعبة ومعادية للصورة في بيزنطة، معه أنه عاش في كنف الخلافة الأموية. جاء ردُّ فعله على تنامي النزعات المناهضة للصورة والمحاربة للنزعات التي وصمتها بالهرطقات الصنمية. كان الرهان عند الدمشقي هو نقض المزاعم الأيقونكلستية في كون الأيقونة عبارة عن شيء مادِّي. في نظره، لا نرى الشيءُ شيئًا عندما نكون في حضرة الصورة، بل نراه رمزًا، يُحيل إلى حقائق خفيَّة ويستحضر حقائق متعالية. ومن ثمَّ فإن الأيقونة هي مسقط النور ومحط الخير. نفي الأيقونة هو هدم الصورة بابتعاث الشر والكراهية ونبذ التسامح والمحبة. فلسفة الصورة عند الدمشقي هي في الوقت نفسه نظرية في المعرفة ونظرية في الأخلاق، لأنها تُقرِّب الإنسان من أصله بأن يتعرَّف عن مصدر وجوده، وتُعلِّمه بذل الخير والتخلُّق بالتسامح. كذلك، يُدرج الدمشقي فارقًا دلاليًا (سيمانطيقيًا) حاسمًا، عندما يُبيِّن أن السلوك إزاء الأيقونة هو «التبجيل» وليس «التعبُّد». فهي تُوقَّر لأنها تعكس شيئًا عظيمًا ونفيسًا ولا تُعبد، بل موضوع العبادة هو الإله الذي تحيل إليه.

  1. الميراث الأيقوني في التصوف الفلسفي

بعد انتصار الصورة بفضل أطروحات الدمشقي ومجمَّع نيقية الثاني، شهدت الثقافة الغربية حركة ثورية نعتها باشيه بـ«ثَوْرَة الصُّوَر» (Baschet, 2008, p.9) ابتداءً من منتصف القرن التاسع الميلادي (843م) وتعزَّزت في غضون القرنين العاشر والحادي عشر. يُفسِّر هذا الأمر انتقال الهندسة المعمارية من الكنائس إلى الكاتدرائيات، من المباني الصغيرة إلى الأبنية الكبرى، أتاحت البدايات الأولى للتنميق الفني وظهور الأساليب الفنية (الروماني، القوطي)، كما أبرز معالمها المؤرخ جورج دوبي في كتابه العُمدة «زمن الكاتدرائيات: الفن والمجتمع (980-1420م)». أصبحت الصورة بمثابة «بَارَادَايْم» العصر آنذاك، ليس على صعيد الاهتمام الديني فحسب بعودة الأيقونات وذخائر القديسين في الكنائس، بل كذلك على مستوى الاهتمام الفني تحت إمرة السلطة الكنسية، والاهتمام الفكري بجعل الصورة دليل القراءة العلمية والسياسية والهندسية لنظام العالم وأسوار المدينة. إذا لجأنا إلى تحوُّلات الصورة في الخطاب الفلسفي والصوفي، نرى فيضًا من النصوص حول المسألة. لم يهتم الفلاسفة بسؤال الصورة مثلما قام به الصوفية من الثقافتين الإسلامية والمسيحية، لسبب بسيط وهو أن الصورة، مرتع التناقض والبلاغة، لم تستهو الفلاسفة الذين كانوا تحت وطأة العقلانية الأرسطية. لذا، ارتحلت الصورة إلى الحقل الذي استضافها وهو الحقل الصوفي العرفاني. نماذج ابن عربي والمايستر إكهرت ونيكولا الكوزي مهمَّة وملهمة في هذا المضمار.

إذا كانت الثقافة الإسلامية مناهضة للصورة (أيقونكلستية)، فإن الاستثناء هو التصوُّف الذي عرف نسبيًا الاهتمام بالصورة التي تختلف دلالتها باختلاف الإطار المذهبي الذي احتواها وهو العقيدة الإسلامية. وعليه، نجد أن مقام الصورة عند ابن عربي (1165-1240م) يختلف في جوهره عن مفهوم الصورة عند المتصوفة المسحيين في الفضاء الريناني الألماني (إكهرت، الكوزي). استحضر ابن عربي الصورة في الفص الأول من «فصوص الحكم»: «فص حكمة إلهية في كلمة آدمية». يقول في هذا الفص الأول: «لما شَاءَ الحقُّ سُبْحَانه مِنْ حَيْثُ أسْمَاؤُه الحُسْنى التي لا يَبْلُغُها الإحْصَاء أن يَرَى أعْيَانَها، وإن شِئْتَ أن يَرَى عَيْنَه، في كَوْنٍ جَامِع يحْصُر الأمْرَ كله، لكَوْنه مُتَّصِفاً بالوُجُود، ويَظْهر به سِرُّه إليه: فإن رُؤْيَة الشَّيْء نَفْسَه بنَفْسِه مَا هِيَ مِثْل رُؤْيَته نَفْسَه في أمْر آخَر يَكُون له كالمرآة؛ فإنه يَظْهر له نَفْسَه في صُورَة يُعْطِيها المحل المنْظُور فيه مما لم يَكُن يَظْهَر له مِنْ غَيْر وُجُود هَذَا المحَل ولا تَجلِّيه له. وقَدْ كان الحقُّ سُبْحَانه أوْجَد العَالَم كله وُجُود شَبَح مُسَوَّى لا رُوحَ فيه، فكَانَ كمرْآة غَيْر مَجْلُوَّة. ومن شَأنِ الحُكْم الإلهي أنه مَا سَوَّى محلًّا وإلا وَيَقْبَل رُوحًا إلهيًا عبَّر عَنْه بالنَّفْخ فيه؛ ومَا هُو إلا حُصُول الاسْتِعْدَاد من تِلْك الصُّورَة المسَوَّاة لقَبُول الفَيْض التَّجَلي الدَّائم الذي لم يَزَل ولا يَزَال. ومَا بقيَ إلا قَابلٌ، والقَابِل لا يَكُون إلا مِنْ فَيْضِه الأقْدَس» (ابن عربي، الفصوص، 2، 49).

يمكن حصر الشبكة الاصطلاحية التي تؤسِّس لفلسفة الصورة عند ابن عربي في «الأسماء الحسنى» التي هي نسب وعلاقات، وتُحقق بذلك نظام الصورة؛ «المرآة» التي هي محل التجلي عندما تستعيد بريقها؛ «القبول» وهو الاستعداد في تلقي التجليَّات الإلهية. الفكرة الأولى حول مقام الصورة عند ابن عربي هي «العلاقة» التي تصل الإنسان بالإله، الأسفل بالأعلى، المحسوس بالمعقول، إلخ. يمكن القول بأن العلاقة هي إحدى مسمَّيات الصورة لما تُحققه العلاقة من نسبة وصِلة ورابطة بالمعنى المشار إليه من قبل؛ ثم «التجلّي» وهو المسمَّى الآخر للصورة إذا نظرنا إليه من باب الخلق الدائم، والخلق الدائم هو خلق الصور التي لا تفتر ولا تنتهي: «خَلْق الممْكِنات لا يَتَنَاهَى» (ابن عربي، الفتوحات، 2، 671)؛ و«المرآة» هي المسمَّى الآخر للصورة وتعني محط الرؤية الإلهية على القابل الذي يتلقى النفخ ويُولِّد الصورة، أيًّا كان شكلها، صورة حسيَّة أم خيالية أم روحية. تنكشف الصورة باقتران العناصر الثلاثة وهي العلاقة التي تنشأ بين المتجلِّي والمجلى الذي يستقبله، والتجلَّي في حدِّ ذاته، والمرآة التي تكشف الصورة بفعل التجلي الذي يصقلها والمتلقي الذي ينعكس فيها. بصقل المرآة تنجلي الصورة وتظهر أعيان الأسماء الحسنى في العالم أي مجموع الخلق من أشخاص وأشياء وكائنات.

يضيف ابن عربي: «فاقْتَضَى الأمْرُ جَلَاء مِرْآة العَالَم، فَكَانَ آدَم عَيْن جَلَاء تِلْكَ المرآة ورُوح تِلْكَ الصُّورَة، وكَانَت الملائكة مِنْ بَعْض قِوَى تلك الصُّورَة التي هيَ صُورَة العَالَم المعبَّر عَنْه في اصْطِلَاح القَوْم “بالإنْسَان الكَبير”. فكانَت الملائكة له كالقِوَى الرُّوحَانيَّة والحسيَّة التي في النَشْأة الإنْسَانيَّة. فكل قُوَّة مِنْها مَحْجُوبَة بنَفْسِها لا تَرَى أفْضَل مِنْ ذَاتِهَا، وأنَّ فيهَا، فيمَا تَزْعُم الأهْليَّة لكل مَنْصِب عَالٍ ومَنْزلة رَفِيعَة عِنْد الله، لما عِنْدَها مِنَ الجمْعيَّة الإلهيَّة مما يَرْجع مِنْ ذَلِك إلى الجنَاب الإلهي، وإلى جَانِب حَقِيقَة الحقَائِق، وإلى جَانِب حَقِيقَة الحَقَائق، وفي النشْأة الحامِلة لهذِه الأوْصَاف، إلى مَا تَقْتَضيه الطَّبيعَة الكلية التي حَصَرَت قَوَابل العَالَم كله أعْلَاه وأسْفَله. وهَذَا لا يَعْرفه عَقْل بطَريق فِكْر نَظَري، بل هَذَا الفَن مِنْ الإدْرَاك لا يَكُون إلا عَنْ كَشْف إلهي يُعْرَف مَا أصْل صُوَر العَالم القَابلة لأرْوَاحِه». الصورة هي كذلك تداخل الأنثروبولوجي (الإنسان) بالكوسمولوجي (العالم) إلى غاية تبديل أحدهما بالآخر «الإنسان عالم صغير» و«العالم إنسان كبير» منذ نميسيوس في «طبيعة الأشياء» وإخوان الصفا في «الرسائل». تنبري الصورة من هذه العلاقة المتداخلة بين الإنسان والعالم، ولأن العلاقة الجامعة بين الحدَّين هي صورة، فإن الحدَّين هما كذلك صورة. كونية الصورة عند ابن عربي من كونية الوحدة الجامعة بين المُتجلي والمجلى والمتجلى له.

يختلف مفهوم الصورة في التصوُّف المسيحي حيث يُمثِّل المايستر إكهرت (1260-1328م) أهم محطَّة في انتصار الصورة في التاريخ الديني. كتب إكهرت باللغتين اللاتينية والألمانية وعمل على تقريب المفهوم اللاتيني للصورة (imago) من المفهوم الألماني (Bild) عبر مفهوم «الشكل الخالص» (Forma). إذ عبر الشكل الخالص يتحقَّق الخلق على الصورة، لتكون الصورة مماثلة للنموذج الذي تصدر عنه وتكتسب كينونتها منه. يُشدِّد إكهرت على الهوية والاختلاف أو على التشابه والتباين بين الحقيقة البشرية والحقيقة الإلهية. فالإنسان يُشبه الإله («عَلَى صُورَتِنَا كشَبَهِنَا»، سِفر التكوين) لكن الإله لا يُشبه الإنسان («لَيْسَ كمثْلِهِ شَيْء»، الشورى، الآية 11). الإضافة الأساسية عند إكهرت هي ميلاد صورة الحق في النفس وليس فقط أن تكون النفس على صورة الحق: «قُلْتُ ذَاتَ يَوْم في إحْدَى الدِّير: إنَّ الصُّورَة الخاصَّة بالنَّفْس لا يَتَشَكَّل فيهَا خَارج وَلا دَاخِل إنْ لَمْ يَكُن الحقُّ نَفْسُه» (Eckhart, 1998, Sermon10). هكذا تتجرَّد النفس من علائق الحس لتتأمَّل المبدأ الأول الثاوي فيها بمبدأ مساوق له هو «العقل المحض» (intellect) في اختلاف عن «العقل النَّظري» (reason)، وهو فارق أخذه إكهرت عن توما الأكويني: «يخْتَلف العَقْل المحْض (intellectus) والعَقْل النَّظَري (ratio) في نَمَط المعْرفَة، لأنَّ العَقْل المحْض يَعْرف بالحَدْس، بيْنَمَا يَنْتَقِل العَقْل النَّظَري بشَكْل بُرْهَاني مِنْ شَكْل إلى آخَر» (الأكويني، 1881، 2، 59). نجد فارقًا مشابهًا عند ابن عربي بين «العقل القابل» في اختلاف عن «العقل المفكِّر» (ابن عربي، الفتوحات، 3، 7).

إذا تأمَّلنا جيِّدًا في هذا الفارق المهم والحاسم، نجد بأن العقل النَّظري يساوي «المشابهة» (similitudo) وإن العقل المحض يساوي «الصورة» (imago). وحده العقل المحض الذي يُدرك الحق الثاوي في النفس، وليس للعقل النظري سبيل إلى ذلك لأنه عقل برهاني ويتَّخذ من التفكير وسيلة، وهو حجاب عن التوصُّل بالمبدأ الأول. زيادة على ذلك، عندما يتأمَّل العقل الخالص صورة الحق الثاوي في النفس، فهو يرى الحق بالحق، أي بوسيلة روحية لا تخضع للتفكير أو الحساب. بهذا المعنى تُحقِّق الصورة المشابهة أو المماثلة مع الحقائق المتعالية: «تَحْمِل النَّفْس صُورَة الحق وهي مَثِيلَة الحق» (Eckhart, Sermon 16b). تتحقَّق هذه المماثلة في الشكل الخالص وبالعقل المحض. ثم يضيف: «لا تَأخُذ الصُّورَة الحق بوَصْفه خَالقًا، لكن بوَصْفِه كَائنًا مُتَعَقَّلًا، وأنْبَل مَا في الطَّبيعَة يَنْتُج بشَكْل خَالِص في الصُّورَة». يُفسِّر إكهرت المسألة من حيث أن «الحق بوصفه خالقًا» هو من مهام العقل النظري الذي يتفكَّر في الخلق ويتدبَّر في آياته وعلاماته، ومن حيث أن «الحق بوصفه كائنًا متعقَّلًا» هو من استعداد العقل المحض الذي يتأمَّل الحق مباشرةً وبالحق نفسه، باختصاصه ومنَّته. إذا كانت الحالة الأولى تُشير إلى الخلق في العالم، فإن الحالة الثانية تحيل إلى الجعل في النفس: ميلاد الحق في النفس. في الحالة الأولى يتَّصف الإنسان بالتخلُّق، وفي الحالة الثانية يتحلَّى بالتحقُّق؛ الأولى أخلاقية، والثانية روحية.

أخيرًا، يُعدُّ نيكولا الكوزي (1401-1464م) أحد المفكرين غير المعروفين الذي جمع بين الفلسفة والتصوف، من جهة الفلسفة السكولائية ومن جهة أخرى التصوف الريناني. وُجد هذه المفكِّر المخضرم في فجر النهضة، بين العصر الوسيط في شموليته اللاهوتية والعصر النهضوي في إرهاصاته الإنسيَّة. الغرض من استحضار الكوزي هو لتبيان مسار الصورة ومصيرها في الغرب بعد الانتصار الذي أنجزته قبل ستة قرون على مستوى السجالات اللاهوتية. ما موقف الكوزي من الصورة؟ وهل تتبع فكرته حول الصورة فكرة ابن عربي وإكهرت؟ ينطلق الكوزي من أطروحة أساسية وهي «الجَهْل العَالم»، الكيفية التي يعرف بها الإنسان الحقائق في صُلب جهله. كيف يعرف في الجهل مثلما يجهل في المعرفة؟ المسألة دقيقة بالنسبة للكوزي، تقوم أساسًا على مبدأ «تواقُت النقيضين» (coincidentia oppositorum)، بين الجهل والعلم، بين الإنسان المحدود والإله اللامحدود. جاءته هذه الفكرة من حدسٍ وهو يتأمَّل في البحر لدى عودته من اليونان ولخَّصها في الاختصار والتطوير، من جهة المتناهي في الكبر (العالم) «مختصرًا» في المتناهي في الصغر (الإنسان)، وهذا الأخير «متطوِّرًا» في الأول؛ مثلما تكون النبتة «مختصرة» في البذرة، والبذرة «متطوِّرة» في النبتة. إذا كان هنالك «تواقُت» بين الحقائق، إلا أن هذه الحقائق تتباين، مثلما يتباين البشري والإلهي، النسبي والمطلق، إلخ.

إذا حصل التواقت، فبإجراء استثنائي وبوسيلة أخرى غير العقل البرهاني، وهذه الوسيلة هي العقل المحض. يقول الكوزي: «لا تُسمِّي عَقْلَانيَّةً طَبيعَة العَقْل المحْض، لَكِن تَصَوَّر العَقْلَاني بوَصْفِهِ مُشَابَهَة مُتَدَهْوِرَة للطَّبيعَة العَقْليَّة المحْضَة» (De Cues, 2012, §134). نرى بأن الكوزي يصطف إلى جانب ابن عربي وإكهرت في التمييز بين العقل المحض الذي يتوصَّل بالحقائق المتعالية عبر الصورة، والعقل النظري الذي يُدرك الحقائق الحسيَّة عبر المشابهة التي هي متدهورة بالمقارنة مع الصورة. نُدرك هنا أثر أغسطين، حيث تستلزم الصورة المشابهة، لكن لا تستلزم المشابهة الصورة، وغالبًا ما تأتي المشابهة في أدنى السُلَّم بالمقارنة مع الصورة، لأن الأولى من إدراك العقل النظري وتكون سببية، والثانية من استعداد العقل المحض وهي ليست سببية مثل وجود صورة الحق في النفس التي دعَّمها إكهرت. لكن لا يتنكَّر الكوزي إلى العقل النظري ودوره في اكتساب معرفة دنيا. لأن الغرض هو تجاوز العقل النظري نحو العقل المحض وتجاوز الإطار الحسِّي نحو البُعد العقلي المحض، ومن ثمَّ مجاوزة المشابهة نحو الصورة. لأجل ذلك، ينطلق الكوزي من أمثلة حسيَّة بسيطة ينتقل فيها بالتدريج نحو المثالات العُليا والمتعالية. مثلًا، المقارنة التي يُجريها بين بلورة بيريل (Beryl) التي تشغل دور العَدَسة العاكسة، والعقل الذي يشغل دور العدسة المجرَّدة التي تنعكس فيها الحقائق الإلهية والروحية.

فضلًا عن ذلك، يحتكم العقل النظري إلى مبدأ عدم التناقض عندما يُميِّز بين الأشياء ويضع بينه وبينها مسافة معرفية هي في أصل نظرية المعرفة، بينما يشتغل العقل المحض في مبدأ تواقت النقيضين، لأن في العقل المحض تجتمع الحقائق المتباينة، وفي ثناياه تتحقق وحدة المتجلَّي والمجلى والمتجلَّى له. غير أن الكوزي يستدل على تواقت النقيضين في الحس قبل العقل. لأجل ذلك، يدعو بعض الرهبان للجلوس حول لوحة زيتية عليها وجه يُحدِّق نحو المشاهد. يُدرك الرهبان أن الوجه يراهم أيًّا كان الموضع الذي يجلسون فيه: على يمين اللوحة أو على يسارها؛ وحتى عندما يتحركون من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، فإن الوجه يراهم. بهذه المثال الحسي، يريد الكوزي تبيان تواقت رؤية الوجه للمشاهدين جميعًا، ورؤيته لكل مشاهد على حدة؛ زيادة على كون الوجه يتحرَّك في عين ثبوته، عندما يتنقل المشاهدون يمينًا ويسارًا (تمامًا مثل السيارة التي نتجاوزها، فهي تتقدَّم بسرعتها، وفي الوقت نفسه تتأخَّر بالمقارنة مع سرعتنا). بالقياس مع الوجه المحدِّق، يُبيِّن الكوزي كيف أن وجه الحق يرى الخلق بعنايته ويرى كل فرد من الخلق، يحيط بالكل وبالجزء، يجمع الآفاق والأعماق. وعلى نحو مماثل، يسعى الإنسان لأن يتشبَّه بفعل الخلق عبر الصورة، فتتقلَّص المسافات عنده ويُدرك القاصي والداني، المحسوس والمعقول. لأجل ذلك، يُقدِّم الكوزي مثال فن الرسم عندما يكون الإنسان رسَّام ذاته ومصيره، خالق شرطه المعرفي والوجودي. فهو فن الرسم يشتغل على ذاته: «فكْرُنا هُوَ صُورَة هَذَا الفَن الأعْلَى المسَمَّى الفَن الإلهي المطْلَق» (نقلًا عن: Cassirer, 1983, p.292). وعليه، ما ينطبق على الصورة الإلهية ينطلي على المشابهة الإنسانية؛ والمشابهة الإنسانية تشتمل على شيءٍ من الحكمة الإلهية المتجليَّة.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

المراجع

ابن عربي (د. ت)، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت.

الأكويني توما (1881)، كتاب الخلاصة اللاهوتية، المجلد الأول، ترجمة الخوري بولس عواد، المطبعة الأدبية، بيروت.

دوبريه ريجيس (2007)، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء.

Augustin (1869), Œuvres complètes, 21, trad. Fr., Paris, éd. Louis Vivès.

Barasch Moshe (1992), Icon: Studies in the History of an Idea, New York University Press: New York & London.

Barber Charles (2002), Figure and Likeness: On the Limits of Representation in Byzantine Iconoclasm, Princeton University Press: Princeton & Oxford.

Baschet Jérôme (2008), L’iconographie médiévale, Paris, Gallimard, folio/histoire.

Grabar André (1984, 2011), L’iconoclasme byzantin, Paris, Flammarion, coll. « Champs/Arts ».

Cassirer Ernst (1983), Individu et Cosmos dans la pensée de la Renaissance, Paris, Minuit.

Cost John E., (2005), “Images, Icons, and Idols”, p.4388-4393, in Jones Lindsay, ed. (2005), Encyclopedia of Religion, 7, Second Edition, MacMillan/Thompson: Drake.

Damascène Jean (1994), Le visage de l’invisible, trad. Anne-Lise Darras-Worms, Paris, Migne, coll. « Les Pères dans la foi, 57 ».

De Cues Nicolas (2012), Anthologie (Livre II, Chap. XIII), éd. Marie-Anne Vannier, Paris, Cerf.

Eckhart Johannes (1998), Sermons I à XXX, trad. G. Jarczyk et P.-J. Labarrière, Paris, Albin Michel.

Lactance (1992), Institutions divines, Livre IV, trad. Pierre Monat, Paris, Les éditions du Cerf, coll. « Sources Chrétiennes, 377 ».

Marion Jean-Luc (2001), The Idol and Distance: Five Studies, trans. Thomas A. Carlson, Fordham University Press: New York.

Mondzain Marie-José (1996), Image, icône, économie. Les sources byzantines de l’imaginaire contemporain, Paris, Seuil, coll. « L’Ordre philosophique ».

Pop-Curseu Stefana (2010), « L’iconoclasme et son revers : naissance d’une philosophie de l’image à Byzance », Ekphrasis, n°2.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى