مقالات

الفلسفة: مساءلةٌ للرّاهِن – عثمان لكعشمي

 

ما يهمّ ليس القراءة في حدّ ذاتها، وإنّما إعادة القراءة.

                         خ. ل. بورخيس

 

سؤال الراهن، أنطولوجيا وجودنا المشترك، أنطولوجيا حاضرنا الراهن: هذا هو السؤال الذي سيتحدد بصدده الاختيار الفلسفي المعاصر، بغض النظر عن سؤال الحقيقة ومفعولاته الإبستمولوجية، وأهم مهام الفلسفة التي توصف بالمعاصرة، منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى اليوم. إنّنا في حاجة ماسة إلى الفلسفة، في حاجة إلى أيّة فلسفة؟ في حاجة إلى الفلسفة بوصفها مساءلة للراهن، أنطولوجيا حاضرنا الراهن.

دأبت العادة في كلّ تعامل مع التراث الفلسفيّ، من حيث هو تراث، أو الفلسفة باعتبارها تراثاً، تعاملاً تأريخيّاً كرونولوجيّاً، التعامل مع التراث تراثيّاً. عادة ما يُطرح سؤال: ما الفلسفة؟ في نهاية مسار الفيلسوف، لا يطرح إلاّ في اللّحظة التي يتحسَّس فيها الفيلسوف بالحنين إلى قبره، حينما تحين ساعة موته، أو قبلها بقليل [1].

لهذا لم يكن ممكناً إلى وقت قريب للفيلسوف والحالة هذه أنْ يُمارس الفلسفة ويجعل من ممارسته هذه موضوعاً لنفسها في نفس الآن. فلا أفلاطون كان أفلاطونياً، ولا كانط كان كانطياً، ولا هيغل كان هيغيلياً، ولا ماركس كان ماركسياً، ولا فوكو كان فوكوياً… إلخ. فالتأويلات اللاحِقة لفلسفات من هذا القبيل، هي التي جعلت مِنها نزعات فلسفيّة. لذلك فإنّ المفعولات الفلسفية، لفيلسوف أو مفكِّر في آخر، أو لحقبة في أخرى، أو لسياق في آخر، أو لِلَحظة في أخرى، لا تكون تحقيبيّة، أو من السابق فيها إلى اللاحق، فحسب، وإنّما هي مفعولات معاكسة أيضاً، يفعل فيها اللاحق فِعله في السابق بل يَصنعه ويخلقه ويعيد صياغته باستمرار. أوَلسنا مَن نخلق أسلافنا، كما يُنبهنا المفكر و الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس(Jorge Luis Borges) ؟ بهذا المعنى سيغدو ماركس ألتوسيرياً مثلًا… ألا يجعل هذا مِن كانط فوكوياً، نظراً لتأويل فوكو لتعامل كانط مع التنوير، لنص كانط المتعلق بالتنوير، في لحظة التنوير التاريخية نفسها؟

لا ينبغي التعامل مع التنوير في هذا المقام بكونه مجرد لحظة تاريخية، في دروب تاريخ الفلسفة ومشاربها، بل ينبغي التعامل معه كلحظة فلسفية في ذاتها من ناحية وفي مفعولاتها السابقة منها واللاحِقة من ناحية ثانية. فأيّة قراءة أو بالأحرى إعادة قراءة للحظة فلسفية ما، لمفعول فيلسوف ما، هي بمثابة إعادة صياغة سؤال الفلسفة، وتحديد مهمة الفلسفة في عصر بعينه، وفي لحظة تاريخية بعينها، كما هو الشأن بالنسبة للتنوير، أو ليكن مع سؤال التنوير: ما التنوير؟

في مقاله الموسوم بـ “جواباً عن سؤال: ما التنوير؟”( Réponse à la question «Qu’est-ce que les Lumières ?») [2]، يحاول فيلسوف التنوير، كانط، التفكير أو بالأحرى صياغة الإجابة عن سؤال ما التنوير؟ التفكير في التنوير بكلّ تنوير.

يُحدِّد كانط التنوير بكونه: «سعي الإنسان المستمر للتحرُّر من حالة الوِصاية التي يتحمل هو نفسه مسؤولية الخضوع لها. وتتجسّد هذه الحالة باعتبارها تمثل قصوراً وعجزاً عن إعمال الفرد لقدرته على التفكير والفهم بدون خضوعه لتوجيه وسلطة الغير. وهكذا فإنّ الإنسان يتحمل كامل المسؤولية عن وضعية الوصاية هذه، عندما لا يتعلق الأمر بقصور في القدرة على التفكير أو بضعف في ملكة الفهم، بقدر ما يتعلق بالتردد وعدم توفر الجرأة لإعمال تلك القدرة متحرراً من وصاية الغير. من هنا يتضح أن الشعار المعبّر أكثر من غيره عن عصر التنوير هو بمثابة دعوة صريحة لكي يتحمل الإنسان مسؤولية إعمال ملكة فهمه بكلّ جرأة وشجاعة».

بهذا يكون سؤال التنوير، بمعنى أو بآخر هو سؤال الفلسفة: ما الفلسفة؟ ويكون الجواب عن السؤال الثاني رهيناً بالجواب عن السؤال الأول. إنّه الدياليكتيك عينه، دياليكتيك لا ينفكّ عن الحركة. بما أنّ التنوير يتمثل في السعي الدؤوب للتحرر من وصاية الغير، فإنّ عملية التحرُّر تلك لا تكون ممكنة إلاّ بالإعمال الحر للعقل أو بلغة كانط، بواسطة الإعمال الحرّ لملكة الفهم. وهذه هي مهمة الفيلسوف والفلسفة إلى حدّ ما. إذا ما أعدنا صياغة السؤال: ما الفلسفة؟ سيكون الجواب هو: الفلسفة.. تنويراً؛ الفلسفة هي فعل التنوير ذاته.

لكن ما يهمنّا من هذا النص أو هذه الديباجة التي استهل بها كانط مقاله المعني، بالدرجة الأولى ليس هو تعريف أو تحديد معنى التنوير، أو مهمة الفلسفة باعتبارها تنويراً، وإنّما ما يهمنا في المقام الأول مِن سؤال التنوير هذا، هو مفعولاته الفلسفية الراهنية: أيْ استراتيجية التفكير التي تتعين في الإعمال التنويريّ للعقل أو لملكة الفهم في التنوير نفسه، في راهنيته. ما يهمنا في هذا المقام هو: التفكير الفلسفيّ في الرّاهن ذاته. وهذا بالضبط ما نبهنا إليه ميشال فوكو.

ينبِّهنا فوكو، في محاضرة ألقاها بكوليج دو فرانس (Collège de France)[3]، محاولاً قراءة أو بالأحرى إعادة قراءة النص الكانطي المعني بالتنوير و تأويله على ضوء الفلسفة المعاصرة، إلى كون أنّنا أمام نموذج جديد من السؤال و التساؤل في مجال التفكير الفلسفيّ. أين يكمن هذا النموذج من التساؤل، وأين تكمن جِدَّته ومفعوله الفلسفي والإبداعي؟

لا يمثل نصّ كانط الآنف الذكر أولى المحاولات التي تطرح مسألة الأصل والبدايات أو مسألة التاريخ، في علاقة الفلسفة بسياقها التاريخي، سواءً بالنسبة للنصوص التي كتبها كانط ذاته أو غيره طوال تاريخ الفكر الفلسفي ومجراه. غير أنّ ما يحسب لنصِّنا هذا هو سؤال: «الحاضر الراهن: ماذا يجري راهناً؟ وما هو هذا الراهن الذي نحياه الآن والذي يحدد طبيعة اللحظة التي أكتب فيها وفكر بها؟». في هذا المضمار كتب فوكو: «يبدو لي أنه انطلاقاً من النص الكانطي عن التنوير، تقوم الفلسفة ولأول مرة بصياغة الأشكال المتعلقة براهنيّتها كبناء عقلي، تسائِل تلك الراهنية بوصفها حدثاً ينبغي تحديد دلالاته وقيمته و تميزه الفلسفي من جهة، وبوصفها تأسيساً للقول الفلسفي وأهم مبرراته من جهة أخرى».

ليست هذه هي المرة الأولى، حسب فوكو، التي يقوم بها تفكير فلسفي ما بالإحالة إلى الحاضر بوصفه وضعية تاريخية معينة تشكل مكانة خاصة بالنسبة للتفكير الفلسفي. لقد شهد تاريخ الفلسفة نماذج عديدة من هذا الشأن، لكنها لم ترقَ إلى المفعول الكانطي. فعلى الرغم من المحاولات العديدة لروني ديكارت على سبيل المثال لا الحصر، خاصة في كتابه: “خطاب في المنهج” ( Discours de la méthode)، لإحالة فلسفته إلى الحاضر من خلال رسم قراراته و اختياراته الفلسفية المتعالقة بمساره و بحاضره الراهن، فإنها ظلت تُحيل الحاضر إلى إطار تاريخي عام. إذ، لم ترقى تلك المحاولات إلى سؤال الراهن في حد ذاته كما هو الشأن عند كانط: «ما هو هذا الحاضر الراهن الذي أنتمي إليه وما طبيعته؟». وهذا يبدو لنا جليا من خلال تساؤل فيلسوفنا، صاحب سؤال الراهن، كانط، فيما إذا كان العصر الذي يحياه عصراً مستنيراً بالفعل. ويجيب بالنفي نسبياً، نظراً لكون عصره هذا، مستحدث العهد بظهور فكر الأنوار وحركة التنوير. لكنه سرعان ما سيستدرك ذلك، بعد رصده لجملة من المؤشرات التي توحي بفسح مجال أوسع للتنوير في الأفق، بقوله بمشروعية وصف العصر الذي يحياه بكونه عصراً تنويرياً بالفعل.

سؤال الراهن، أنطولوجيا وجودنا المشترك، أنطولوجيا حاضرنا الراهن: هذا هو السؤال الذي سيتحدد بصدده الاختيار الفلسفي المعاصر، بغض النظر عن سؤال الحقيقة ومفعولاته الإبستمولوجية، وأهم وظائف الفلسفة التي توصف بالمعاصرة، منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى اليوم. مما جعلنا أمام خيارين فلسفييْن لا ثالث لهما. بهذا الصدد، يقول صاحب “أركيوولوجيا المعرفة”: «الخيار الفلسفي الذي نواجهه حالياً يتعين في خيارين إذ يمكننا أنْ ننحو نحو فلسفة نقدية تهتم بتحليل مسألة الحقيقة أو نحو تفكير نقدي يتخذ شكل أنطولوجيا وجودنا المشترك، أنطولوجيا حاضرنا الراهن». هنا بالضبط يكمن المفعول الفلسفي للنص الكانطي، وجدّته، وإبداعه.

وعلى هذا النحو، فإنّ الفلسفة.. ليست تنويراً فحسب، وإنّما هي سؤال للرّاهن. وإنْ كانت الفلسفة تنويراً، فإنها لا تكون كذلك إلاّ بمفعولاته- مفعولات التنوير- أيْ بوصفها أنطولوجيا الحاضر الراهن. إنّ الفلسفة أولاً، وقبل أيّ شيء آخر، مساءلة لا متناهية للرّاهن الذي نعيشه ونحياه ونتنفسه، في وجوده واختلافه. فلنعلنها مساءلة للراهن: مساءلة للكائن والوجود معاً، للنص والحياة اليومية المعيشة. مساءلة لا تنفكّ عن التوقّف. كفيلة بفتح آفاق جديدة للكائن، وحفر دروب جديدة في الوجود، وتوسيع مجالات تفكيرنا. فكما يقول هايدغر: إنّ ما يفسح مجالاً أوسع لتفكيرنا هو كوننا لم نفكر بعد.

 

________________

[1] للتوسع أكثر في هذه الفكرة، يمكن قراءة موقف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بهذا الشأن، فهو يؤكد على نفس الأمر.. خاصة في كتابه الموسوم ب: “ما الفلسفة؟”(بمشاركة مع زميله فليكس جوتاري):

– Qu’est-ce que la philosophie ? Les Éditions de Minuit (coll. « Critique »), Paris, 1991.

[2] نُشر هذا النص لأول مرة في دورية Berlinische Monatsschrift، في دجنبر 1784. لقد اعتمدنا في هذا الصدد على الترجمة الفرنسية لكل من دونيك بوريل وستيفان بيوبيتا، عن دار النشر الفرنسية Mille et un nuits، في شتنبر 2006. كما اعتمدنا على نسختها العربية، ضمن نصوص أعدها وترجمها كل من عبد الله البلغيتي العلوي وحسن العمراني، في كتاب بعنوان: “التنوير والحداثة”، عن مركز الأزمنة الحديثة، سنة 2015.

[3] هذه المحاضرة، هي بمثابة قراءة تأويلية لنص كانط المتعلق بالتنوير. لقد نشرت لاحقاً في المجلة الأدبية وبعدها في كتاب “أقوال وكتابات” لصاحب المحاضرة:

– « Qu’est-ce que les Lumières ? », Magazine littéraire, no 207, mai 1984, pp. 35-39. (Extrait du cours du 5 janvier 1983, au Collège de France.) Dits et Ecrits tome IV texte n°351.

كما يمكن الرجوع إلى النسخة- الترجمة العربية الآنفة الذكر.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى