مقالات

المرأة والفلسفة: هل هناك فيلسوفات؟

رسلان عامر

أولًا- مقدمة

من ينظر بشكل عام إلى تاريخ الفلسفة، يرى طغيانًا واضحًا للرجال عليه، حتى يكاد يعتقد أن الفلسفة هي ميدان خاص للرجال، ولا دور للنساء فيه، وهذا ليس غريبًا، فليس هناك في هذا الميدان أسماء كبيرة مشهورة مثل: سقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين، أو لا تزو وكونفوشيوس ومو تزو، أو الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل وسواهم، ولا يقتصر الأمر على الحضارات القديمة، فحتى في حضارتنا الحديثة لا نجد في الفلسفة أسماء نسائية تضاهي رينيه ديكارت وجان جاك روسو وفولتير وفرنسيس بيكون وباروخ سبينوزا وجون لوك وديفيد هيوم وإيمانويل كانط وهيغل وكارل ماركس وتوماس هوبز وغوتيفريد لايبنتز وفريدريك نيتشه وغيرهم، ووفقًا لاستطلاع «أكبر الفلاسفة»، الذي أجرته إذاعة «راديو 4» (Radio 4)، التابعة لـ «هيئة الإذاعة البريطانية- بي بي سي»، في صيف عام 2005، فقد جاء الفلاسفة العشرون الأوائل كلهم من الذكور([1]).

وهكذا يصبح لا مفرّ من طرح السؤال عن سبب غياب النساء عن المشهد الفلسفي، وهل هذا الغياب هو غياب أم تغييب، وهل السبب يعود إلى هيمنة الرجال وإقصائهم للنساء، أم أن السبب هو في عدم قدرة المرأة على مجاراة الرجل في الفلسفة، أم هو في اختلاف طبيعة المرأة عن طبيعة الرجل وتفضيلها أمورًا مختلفة عمّا يفضله هو، أم سوى ذلك؟ الإجابات والآراء على هذه الأسئلة تختلف، وهذا ما سنراه في الفقرات التالية.

ثانيًا – المرأة في تاريخ الفكر

عند البحث الجاد والتعمق في مسألة العلاقة بين المرأة والفلسفة، تبدأ الصورة بالتغيّر، ولاسيما إذا اعتمدنا مقاربة موسعة لمفهوم الفلسفة، لا تتأطر فيها ضمن حدود المنظور الأكاديمي الصارم، وبالأخص أن الفلسفة لم تتخذ هذا السياق إلا حديثًا في القرن السابع عشر، فيما لم تكن قبل ذلك على مرّ تاريخها منفصلة عن العلوم، واللاهوت، والسياسة؛ وغيرها من الميادين، وهكذا قد نجد العديد من الأسماء النسائية البارزة في مختلف الحضارات والعصور، والتي تتقاطع أنشطتهن بشكل فاعل بدرجة أو بأخرى مع الفلسفة.

1- المرأة والفكر في الحضارات القديمة

في اليونان القديمة نجد مثلًا شخصيات معروفة مثل: ثيانو الكروتونية (Theano of Crotone)، التي عاشت في القرن السادس ق.م. ويعتقد البعض أنها كانت زوجة أو طالبة فيثاغورث، كما يعتبرها البعض أول امرأة معروفة في مجال الرياضيات؛ وأريتا القورينية (Arete of  Cyrene)، ابنة الفيلسوف أريستبوس التي نشطت بين القرنين الخامس والرابع ق.م. وعاشت في قورينا في ليبيا([2])؛ وأسباسيا الميليتية (Aspasia of Miletus) التي عاشت بين عامي 470-400 ق. م. والتي تظهر في كتابات أفلاطون وكزينوفون وأنتيسِتنيس وسواهم، ويعتقد بعض العلماء بأن أفلاطون أعجب بذكائها واستوحى منها شخصيته ديوتيما المانتينية  (Diotima of Mantinea)في «المأدبة»([3])، والتي يقول سقراط إنه تعلّم منها فلسفة الحُبّ في شبابه، كما يذكر أفلاطون في «المأدبة»، أيضًا([4])؛ كما نجد كذلك،هيباركيا المارونية Hipparchia of Maroneia تلميذة وزوجة الفيلسوف أقراطيس الطيبي وأخت الفيلسوف ميتروكليس التي نشطت في القرن الرابع، ق.م.

أما في الهند القديمة فتتحدث أقدم نصوص الأوبانيشادات (Upanishads)، التي تعود إلى حوالي 700 سنة، ق.م. عن الحكيمتين غارغي (Gargi)، ومايتري (Maitreyi ) اللتين كانتا في حوارات فلسفية مع الحكيم ياجنافالكيا (Yajnavalkya)، وهناك أيضًا الحكيمتان الهنديتان أوبهايا بهاراتي (Ubhaya Bharati) (800 م. تقريبًا)، وأكّا ماهاديفي (Akka Mahadevi) (1130-1160م) ([5]).

وفي الصين القديمة، تميزت في القرن الخامس ق.م جينغ جيانغ (Jing Jiang of Lu) تلميذة كونفوشيوس التي أشاد بحمكتها واعتبرها من أفضل تلاميذه، وبان جاو (Ban_Zhao)، التي عاشت بين عامي 45-116م تقريبًا، والتي كتبت العديد من النصوص التاريخية والفلسفية الهامة.

وفي الحضارة العربية الإسلامية برزت متصوفات مثل: رابعة العدوية من البصرة التي عاشت بين عامي 714-801 م، وعائشة الباعونية من دمشق التي توفيت عام1517م، وسواهما([6]).

2- الفكر النسائي في بدايات الفترة البيزنطية([7])

في هذه الفترة نجد هيباتيا (Hypatia)، التي عاشت في الإسكندرية المصرية، والمرجح أنها ولدت عام 370م، وتوفيت عام 415 م. وقد برزت في الفلسفة والرياضيات والفلك أيضًا، وقـُتلت بسبب ذلك على أيدي المتعصبين المسيحيين بشكل وحشي. وإيديسيا (Aedesia of Alexandria)، وهي فيلسوفة عاشت في الإسكندرية في القرن الخامس الميلادي، وكانت قريبة للفيلسوف سوريانوس وزوجة الفيلسوف هيرمياس.

3- الفكر النسائي في القرون الوسطى([8])

أما في القرون الوسطى فنجد:

إلواز، (Heloïse of Argenteuil)، (حوالي 1100-1164م)، وهي أديبة وفيلسوفة فرنسية مشهورة، بالإضافة إلى كونها رئيسة دير رفيعة المستوى في الكنيسة الكاثوليكية. وهيلدغارد من بينغن (Hildegard von Bingen،  (1098-1179م)، وهي قديسة مسيحية ألمانية، وروحانية باطنية، وفيلسوفة، وملحنة موسيقية، يعتبرها الكثيرون في أوروبا مؤسسة التاريخ الطبيعي العلمي في ألمانيا، وقد كتبت أعمالًا لاهوتية ونباتية وطبية. وكاثرين السييناوية Catherine of Siena) (1347-1380م)، التي حازت على لقب «دكتور في الكنيسة»، الذي يُمنح لأصحاب وصاحبات الإنجازات المميزة في ميدان اللاهوت، والتي كان لها تأثير كبير على الأدب الإيطالي أيضًا. كريستين دي بيزان (Christine de Pizan) (1364-1430م)، وهي شاعرة ومؤلفة إيطالية، ويمكن اعتبارها أول كاتبة محترفة في أوروبا، ومن أشهر أعمالها «كتاب مدينة السيدات»، الذي تتخيل فيه مدينة فاضلة تضم مجموعة كبيرة من النساء المشهورات عبر التاريخ.

4- دور المرأة في الفكر الغربي الحديث

أما الفيلسوفات في العصر الحديث فمن أبرزهن([9]):

توليا دراجونا (Tullia d’Aragona)، وهي شاعرة ومؤلفة وفيلسوفة إيطالية، ولدت بين عامي 1501 و1505م، وتوفيت عام 1556م، وكانت واحدة من أفضل كاتبات وشاعرات ومفكرات عصرها، وقد أثّرت أعمالها على العديد من أشهر الفلاسفة الذكور. ماري وولستونكرافت (Mary Wollstonecraft) (1759-1797م)، وهي كاتبة وفيلسوفة ومدافعة عن حقوق المرأة وتعتبر اليوم أحد الفلاسفة المؤسسين للنسوية. سارة مارغريت فولر (Sarah Margaret Fuller) (1810-1850م)، وهي صحفية وناقدة وفيلسوفة أمريكية ومدافعة عن حقوق المرأة، ويعتبر كتابها «المرأة في القرن التاسع عشر»، أول عمل نسوي رئيسي في الولايات المتحدة.

روزا لوكسمبورغ  (Rosa Luxemburg) (1871-1919م)، وهي منظِّرة ماركسية وفيلسوفة واقتصادية واشتراكية ثورية ومناهضة للحرب؛ ولدت في بولونيا، ثم حصلت على الجنسية الألمانية عام 1897م، واغتيلت بشكل مأساوي بسبب نشاطها السياسي. سوزان لانغر (Susanne Langer) (1895-1985م)، وهي واحدة من أوائل النساء اللاتي حصلن على مهنة أكاديمية في الفلسفة، وأول امرأة يتمّ الاعتراف بها على المستوى الشعبي والمهني كفيلسوفة أمريكية. آين راند (Ayn Rand) (1905-1982م)، وهي فيلسوفة أمريكية روسية الأصل، وقد طوّرت نظامًا فلسفيًا أطلقت عليه اسم «الموضوعية».

حنة آرندت (Hannah Arendt) (1906-1975م)، وهي فيلسوفة ومنظِّرة سياسية ألمانية المولد، درست في جامعة ماربورغ تحت إشراف مارتن هايدجر، وحصلت على الدكتوراة في الفلسفة من جامعة هايدلبرغ عام 1929م. تحت إشراف كارل ياسبرز. سيمون دي بوفوار (Simone de Beauvoir) (1908-1986م) وهي كاتبة ومفكرة وفيلسوفة وروائية فرنسية، وناشطة سياسية ونسوية، ومنظِّرة اجتماعية، ومن أشهر أعمالها كتاب «الجنس الآخر»، عام 1949م. الذي تحلّل فيه اضطهاد النساء بشكل تفصيلي.

إليزابيث أنسكومب (Elizabeth Anscombe) (1919-2001م)، وهي فيلسوفة تحليلية بريطانية، كان لها تأثير أساسي على أخلاقيات الفضيلة المعاصرة، ويعتبرها البعض أكبر النساء الفيلسوفات. ماري ميدجلي (Mary Midgley) (1919-2018م)، وهي فيلسوفة أخلاقية إنجليزية، ومحاضرة أولى في الفلسفة في جامعة نيوكاسيل، ومعروفة بعملها في العلوم والأخلاق.

فيليبا فوت (Philippa Foot) (1920-2010م)، وهي فيلسوفة بريطانية، أبرز أعمالها في الأخلاق، وتعتبر أحد مؤسسي مدرسة أخلاقيات الفضيلة المعاصرة، المستوحاة من أخلاقيات أرسطو. هيلين ماري وارنوك (Helen Mary Warnock) (1924-2019م)، وهي فيلسوفة بريطانية عملت في مجال الأخلاق وفلسفة التعليم وفلسفة العقل، كما كتبت عن الوجودية، وعملت رئيسةً لكلية غيرتون في كامبريدج من 1984 إلى 1991م.

جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) ( ولدت 1941م)، وهي فيلسوفة فرنسية بلغارية الأصل، وناقدة أدبية، ومحلِّلة نفسية، ونسوية، وروائية، وأستاذة فخرية في جامعة باريس ديدرو، وقد ألفت أكثر30 كتابًا، وحصلت على العديد من الجوائز الدولية. باتريسيا تشيرتشلاند (Patricia Churchland)، أستاذة الفلسفة الفخرية في جامعة كاليفورنيا، وهي فيلسوفة أمريكية كندية من مواليد عام 1943م، اشتهرت بإسهاماتها في فلسفة العقل. سوزان هاك (Susan Haack) (مواليد 1945م)، وهي أستاذة العلوم الإنسانية والفلسفة والقانون بجامعة ميامي، كتبت عن المنطق وفلسفة اللغة ونظرية المعرفة والميتافيزيقيا، وكانت مساهمتها الرئيسة في الفلسفة هي نظريتها المعرفية المسماة «التأسيسية التماسكية».

5- ناشطات اجتماعيات في مناطق أخرى من العالم

يوجد كذلك العديد من النساء اللاتي برزن فكريًا واجتماعيًا في مناطق أخرى من العالم الحديث، منهن:

سور خوانا إينيس دي لا كروز (Sor Juana Inés de la Cruz) ،(1648-1695م)، التي كانت شاعرة وكاتبة وفيلسوفة وموسيقية ذاتية التعلم، برزت في المكسيك في بدايات استعمارها، وسميت باسم «عنقاء أمريكا.» إيم يونجيدانغ (Im Yunjidang) ،(1721- 1793م)، الكاتبة والفيلسوفة الكونفوشيوسية الجديدة، التي برزت في كوريا، وأكدت على أن الرجال والنساء لا يختلفون في الطبيعة الإنسانية([10]). نانا أسماء (Nana Asma’u) ،(1793-1864م)، بنت المجدّد وعالم الدين عثمان فودي مؤسس دولة «خلافة صُكُتُو»، في نيجيريا، والتي كانت معلمة، وشاعرة، وكاتِبة، وفنانة.

وبالطبع فالأسماء المذكورة أعلاه لا تستنفد كل مشاهير النساء في عالم الفكر تاريخيًا وعالمًيا، هناك الكثيرات غيرهن في كل الحضارات والعصور المختلفة.

ثالثًا- لماذا ليس هناك شخصيات نسائية مشهور في الفلسفة كالرجال؟

مع ذلك ورغم أن هناك عددًا غير قليل من النساء اللواتي كان لهن أدوارا مميزة في المعرفة والثقافة والفكر والأدب وسواها في مراحل مختلفة من التاريخ ومناطق مختلفة من العالم، تبقى ثمّة حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها، وهي أن نسبة تمثيل المرأة في ميدان الفلسفة قليلة جدًا مقارنةً مع نسبة تمثيل الرجل، وهذا ما يقتضي التفسير. والتفاسير التي سنتطرق إليها هنا، هي فقط تلك التفاسير الحديثة الجادة، التي تعتمد على أسس علمية، ولا تأتي من خلفيات منحازة ذكوريًا وتنتقص سلفًا من قدر ومكانة وقدرات وإمكانيات المرأة.

وهذه التفاسير هي:

1- تغييب وإقصاء النساء من قبل الرجال المسيطرين في المجتمع

وهذا الرأي يأخذ به العديد من المفكرين والباحثين من الرجال والنساء، وهو لا يقتصر فقط على ميدان الفلسفة وحده، بل يعمم على سواه من الميادين، التي ليس للنساء فيها حضور ودور يضاهيان حضور ودور الرجل، وممن يأخذ بهذا الرأي الكاتبة والمفكرة الفرنسية الشهيرة سيمون دي بوفوار التي ترى «بأن النساء قد تمت إعاقتهن عبر التاريخ بسبب تصور أنهن «انحرفن» عن القاعدة الذكورية»([11])؛ والكاتبة والمفكرة الإنجليزية ماري وولستونكرافت التي كانت ترى أن  النساء لسن أدنى مرتبة من الرجال بشكل طبيعي، ولكن السبب في أنهن يبدين كذلك هو افتقارهن إلى التعليم فقط، ولذا كانت تطالب بوجوب معاملة كل من الرجال والنساء على أنهم كائنات عقلانية، وكانت تتخيل نظامًا اجتماعيًا يقوم على العقل([12]).

ولكن رغم وجاهة هذا الرأي والاعتراف العام بوجود تمييز وإقصاء كبيرين بحق المرأة في التاريخ، فهناك اعتراض هام على هذا التفسير يقوم على معطيات راهنة، حيث لم تظهر مثلًا فيلسوفات كبيرات في العالم المعاصر، حتى في الدول المتقدمة التي أقرّت فيها بشكل كامل قوانين المساواة بين الجنسين، وفتحت فيها كل الأبواب أمام النساء.

2- اهتمامات المرأة تختلف عن اهتمامات الرجل

في تعليقها على الرأي السابق تقول كاميل باليا (Camille Paglia)، وهي ناقدة أكاديمية واجتماعية نسوية أمريكية الجنسية، وتشغل منصب أستاذة في جامعة الفنون في فيلادلفيا في بنسلفانيا: «لقد أصبح من المتعب إلقاء اللوم باستمرار في كل عيب في حياة النساء على التحيز الجنسي والتمييز من قبل الرجال»، وترى باليا أن النساء لا تفتقرن إلى القدرة على النجاح في مجالات مثل الفلسفة والرياضيات، ولكنهن لا يفضلنها بشكل عام لأنهن ينجذبن أكثر إلى الأمور العملية والشخصية، وتقول عن هذا: «أشعر أن النساء بشكل عام أقل راحة من الرجال في العيش في مساحة تحليلية شديدة التقشف وباردة، مثل تلك التي تنطوي عليها الفلسفة، ولا يعني ذلك أنهن يفتقرن بطبيعتهن إلى الموهبة أو الكفاءة في الفلسفة أو الرياضيات العليا، بل إنهن غير مستعدات أكثر من الرجال لتكريس حياتهن في فضاء متجمد تم فيه إبعاد الطبيعة والإنسان»[13]. ورأي باليا هذا قد يحيلنا إلى مسألة جد هامة في العلم المعاصر، وهي الاختلاف بين طبيعتي عقل الذكر وعقل الأنثى.

3- الاختلاف بين طبيعتي عقلي الرجل والمرأة

هذه القضية تثير اليوم جدالات حساسة أبطالها هم العلماء هذه المرّة وليس الفلاسفة أو السياسيون أو الناشطون الاجتماعيون، حيث أثبتت البيولوجيا في العقود الأخيرة وجود اختلافات في بنيتي دماغي الرجل والمرأة، لها انعكاسات على طرائق التفكير لدى كل منهما، وينشأ عنها اختلافات سلوكية مرتبطة بذلك، وبهذا الصدد يقول د. سيمون بارون كوهين، أستاذ علم النفس والأمراض النفسية بجامعة كامبردج: «خلاصة الأمر أن هناك بالفعل نوعين من العقول، الأول خاص بالإناث أطلق عليه اسم العقل التعاطفي، والثاني خاص بالذكور أطلق عليه اسم العقل التنظيمي…»([14])، وبهذا الشأن يضيف د.عمرو شريف، أستاذ ورئيس قسم الجراحة العامة السابق في كلية الطب في جامعة عين شمس المصرية، أن العقل الأنثوي التعاطفي، يهتم عادة بالعلاقات مع الأشخاص وبالتواصل والحميمية، وبأنه يتفهم مشاعر الآخرين بشكل أفضل ويحرص عليها، لكنه أقل ميلًا للنشاط العقلي التحليلي والتصنيفي والإنشائي ([15])؛ أما العقل الذكوري التنظيمي فيهتم بالتركيز على الهدف الأساسي والتفاصيل المهمة، ولا يتأثر كثيرًا بالعوامل النفسية والشعورية عند إصدار أحكامه واتخاذ قراراته، ويرجع ذلك إلى تميزه في القدرات التحليلية والتصنيفية والإنشائية([16]).

وبناءً على ذلك يصح القول بوجود اختلافات في اهتمامات وتفضيلات الرجال والنساء ترتبط بأسباب فطرية مرتبطة بحد ذاتها بالجنس البيولوجي لكل منهما. لكن ورغم أن هذه النظرة اليوم هي الراجحة في الأوساط العلمية، إلا أنها تثير جدلًا كبيرًا حول مدى تأثير هذه الاختلافات البيولوجية الدماغية نفسها، وهناك من يرى دورها ثانويًا وهامشيًا كالبروفسورة والنسوية البريطانية جينا ريبون (Gina Rippon)([17])، الأستاذة الفخرية في تصوير الأعصاب الإدراكي في مركز أستون برين، في جامعة أستون في برمنغهام، التي تسعى لدحض هذه الفكرة في كتابها «الدماغ المجنسن: علم الأعصاب الجديد الذي يدحض أسطورة دماغ الأنثى»([18])، ومختصر رأي البروفيسورة ريبون هو أن الفكرة القائلة بوجود عقل المرأة وعقل الرجل لغوٌ لا أساس له في الواقع، وسلوكنا ومواقفنا لا ترتبط بالتربية والتوعية بدلًا من الجنس فحسب، بل ترتبط بالحياة نفسها، بكل ما نفعله ونختبره في سنوات العمر([19]). وبدوره أيضًا، لا يعول عالم الأعصاب الألماني جيرالد هوتر (Gerald Hüther)، كثيرًا على الاختلافات البيولوجية بين دماغي الرجل والمرأة، ويرى في كتابه «الرجل والمرأة: أيهما الجنس الأضعف»،([20]) أنه رغم وجود مثل هذه الاختلافات، فالدماغ البشري يتمتع بدرجة هائلة من اللدونة الفطرية، تجعله ينمو ويتكيف بطرائق جد مختلفة تستجيب وتتوافق مع مؤثرات وظروف البيئة الاجتماعية التي يحيا فيها.

لكن المسألة لا تنتهي هنا، وهناك أيضًا، المزيد من التفسيرات.

4- انحسار دور الفلسفة في العالم الحديث

هذا الرأي تتبناه أيضًا، الأستاذة كاميل باليا السابقة الذكر، ومفاده أننا لا نرى فيلسوفات كبيرات في عالمنا المعاصر، لأن سمعة الفلسفة ومكانتها  قد تقلصتا، و«مجال الفلسفة ليس مزدهرًا في الوقت الحالي، ولم يعد التفكير المنهجي يتمتع بالهيبة أو القيمة الثقافية التي كان يتمتع بها من قبل …  والفلاسفة الآن، على الهامش»،([21]) ولذا فاليوم وبشكل عام لا يقتصر عدم وجود فلاسفة كبار على النساء وحدهن، إذ ليس هناك أيضًا فلاسفة رجال كبار، وانسجامًا مع هذا الرأي لا تعتبر باليا سيمون دي بوفوار «فيلسوفة»، وإنما «مفكرة». وهذا الرأي في الفلسفة لا يقتصر على كاميل باليا وحسب، فالعديد من العلماء يتبنونه، ومنهم الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنغ صاحب مقولة موت الفلسفة([22]).

5- استمرار التربية التقليدية حتى في البلدان المتقدمة

وهنا يتم التركيز على أنه حتى في البلدان المتقدمة التي تم فيها إقرار المساواة بين الجنسين بشكل تام رسمياً، ففي واقع الحال ما تزال التقاليد الاجتماعية تلعب لعبتها التقليدية بدرجة مؤثرة، ويتم فيها بشكل عفوي تنشئة كل من الرجل والمرأة وفق أطر مختلفة، ماتزال فيها بصمات الماضي قوية، وهذا ما يؤدي في المحصلة إلى نمو اهتمامات وقدرات مختلفة بشكل عام عند الجنسين، وهذا ما ينعكس على نسبة مساهمة المرأة في العلم والفلسفة، وبهذا الصدد تقول البيولوجية الروسية آنا خازينا (Anna Khazina): «إن نقص مشاركة المرأة في العلوم، حتى في البلدان التي يبدو للوهلة الأولى أن جميع الظروف فيها قد تم تهيئتها لإنجاحهن، لا يزال مسألة اجتماعية»([23]).

رابعًا- خلاصة

لا أحد في عالمنا المعاصر يستطيع أن ينفي قدرة النساء على أن يكن عالمات. ورغم أن العلم والفلسفة ميدانان مختلفان، إلا أنهما يشتركان بكونهما ميدانين من ميادين نشاط العقل المعتمد على قدراته، وبالتالي يمكن القول من حيث المبدأ العام: بما أن المرأة تمتلك ما يكفي من الكفاءة العقلية لأن تكون عالمة، فهي بنفس هذه الكفاءة تستطيع أن تكون فيلسوفة، وهذا الكلام المنطقي يؤكده الواقع التاريخي الذي يثبت وجود الكثير من النسوة اللاتي امتلكن مثل هذه الكفاءة كما رأينا.

أما بخصوص قلة حضور المرأة في ميدان الفلسفة مقارنة بالرجل، فيمكن إلى حدٍّ كبير عزوه إلى حالة الإقصاء والتغييب العامة التي تعرضت لها المرأة عبر التاريخ بشكل عام، وما تزال مستمرة حتى اليوم في الكثير من المجتمعات الراهنة، وهذا ما ينعكس ليس على نشاط المرأة الفلسفي وحسب، بل يتعداه إلى مجالات العلم والأدب والسياسة وسواها من المجالات وإن اختلفت الدرجات.

وفيما يتعلق بالفلسفة، وقلة حضور المرأة فيها، فكما رأينا، لا يقتصر الأمر على التمييز الجندري، ولاسيما في العالم المعاصر، كما أن الأطروحات الأخرى لا يمكن إنكار أهميتها، وبالتالي يمكن القول إن وجود اختلاف في اهتمامات المرأة عن اهتمامات الرجل، وتقلص دور الفلسفة في العالم المعاصر، واستمرار جوانب من الثقافة التقليدية حتى في المجتمعات المتقدمة، هي الأخرى تؤدي بدرجة أو بأخرى أدوارًا مهمة في قلة نشاط النساء الفلسفي المعاصر.

ولكن وماذا عن المستقبل؟

الجواب عن هذا السؤال بسيط نظريًا، فمسارات تطور المجتمعات نحو المستقبل، والشكل الذي سيتخذه المستقبل في هذه المجتمعات، هي ما سيحدد ويحكم العلاقة بين المرأة والفلسفة، فإن دعت الحاجة سيكون هناك فلسفة وحضور نسائي في الفلسفة -كيفًا وكمًا- بقدر ما تقتضي هذه الحاجة.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

[1] – BBC – Press Office – Marx wins In Our Time’s Greatest Philosopher vote, https://cutt.us/qy0Dm

[2] – Aspasia – Wikipedia, https://cutt.us/Aspasia

[3] – Women in philosophy, Ancient philosophy – Wikipedia, https://cutt.us/Ancient_western_philosophy

[4] – Diotima of Mantinea, Role in Symposium – Wikipedia, https://cutt.us/Diotima

[5] – Women in philosophy, Ancient eastrern philosophy– Wikipedia, https://cutt.us/Women_in_Ancient_western_philosophy

[6] – المرجع السابق.

[7] – Women in philosophy, Medieval philosophy– Wikipedia, https://cutt.us/Medieval-philosophy

[8] – المرجع السابق.

[9] – Women in philosophy, Modern philosophy – Wikipedia, https://cutt.us/Modern_philosophy

[10]-المرجع السابق.

[11]-Camille Paglia, Ten great female philosophers , The Independent , https://cutt.us/ten-great-female-philosophers

[12] – Women in philosophy, Modern philosophy – Wikipedia, https://cutt.us/Modern_philosophy

[13]– Camille Paglia, Ten great female philosophers , The Independent , https://cutt.us/ten-great-female-philosophers

[14] -، عمرو شريف، أنا تتحدث عن نفسها،  مكتبة الشروق الدولية، القاهرة 2013-، ص 64، https://cutt.us/fIhrX

[15] -المرجع السابق، ص 68

[16] -المرجع السابق، ص 65

[17] -Gina Rippon – Gina Barstad – Wikipedia, https://emirate.wiki/wiki/Gina_Rippon

[18] -الدماغ المجنسن: علم الأعصاب الجديد الذي يدحض أسطورة دماغ الأنثى، منصة الكتب العالمية، https://cutt.us/The_Gendered_Brain

[19] -المرجع السابق.

[20] – جيرالد هوتر، الرجل والمرأة أيهما الجنس الأضعف؟ ترجمة علا عادل، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 2011.

[21]– Camille Paglia, Ten great female philosophers , The Independent , https://cutt.us/ten-great-female-philosophers

[22] – غراهام هارفن، حول زعم ستيفن هوكينغ أن الفلسفة ماتت،  موقع مبادرة سؤال، https://cutt.us/1eRjN

[23] -Ольга Орлова&Анна Хазина, Гены, гендер, феминизм и вопросы этики, Теории и практики, https://cutt.us/pol-mozga

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى