مقابلات وحوارات

فهمُ الترجمة: حديثٌ في سُبلِ الخروج من البئر – حوار مع الفيلسوف وأستاذ الترجمة الكندي شارل لو بلان

حاوره: بسام بركة

لتحميل الحوار [wp-svg-icons icon=”file-pdf” wrap=”i”]: حوار معنى مع شارل لو بلان

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

1- شارل لو بلان، أنت معروف كمفكر وكأستاذ فلسفة. كيف وصلت إلى هذه المرتبة؟ وما كان مسارك الجامعي والأكاديمي؟

ما أعرفه هو أن اهتمامي بالثقافة وبالكتاب لا يعود الفضل الكبير فيه إلا إليّ أنا، ذلك أنني كنت دائمًا مسكونًا بشغف كبير تجاههما. لقد حملت على الدوام، مثل باسكال، فكرة أن كل تعاسة البشر تأتي من أنهم لا يعرفون كيف يجلسون وحدهم في غرفة، أي في مكتبٍ للدراسات، أو في مكتبة، نوعًا ما كما هي الحال في لوحة رامبرانت التي تبين أجمل كتب سبينوزا الفلسفية. فأيُّ شاب يستطيع أن يجد في المكتبة كل ما يسكن قلبه من شغف وأهواء. والتعاسة تأتي من أنه يريد بعد ذلك أن يلقى في العالم مرآة لما يعتوره من عواطف وانفعالات، وذلك يحصل غالبًا على حسابه هو. لا بدّ من أنْ يكون هناك تبعات عندما يبحث المرء في العالم عن مرآةٍ تعكس كل ما في نفسه من جَيَشان وغَلَيان. ولأنني أردت أن أرى ما إذا كان العالم يتأجج بالنار نفسها التي كانت تثور في داخلي، قررّت بعد دراستي الثانوية مغادرة مدينتي في كيبك والاستقرار في فرنسا، في أكس-أن-بروفنس، من أجل المباشرة بالدراسات الفلسفية. هذا ما وَضع أمي في حالةٍ من الغمّ الشديد!

تابعت هناك دروسًا رائعة حول أفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص، ولكن الشباب هو الشباب، متقلب ومتمرد، فقد قررت الذهاب إلى ألمانيا، إلى مدينة غوتنغن، في باس-ساكس، من أجل دراسة الألمانية فيها ومتابعة تكويني الفلسفي. هناك قرأت كيركيغارد واكتشفت ليشتنبرغ. لقد عشقت في هذا الفيلسوف الدانماركي ذلك المزيج الفني البارع؛ بل أقول تلك الطريقة الفريدة في دمج الخيال بالبحث الفلسفي. كما أعجبت لدى ذلك الرياضي الألماني بروحه وسخريته اللاذعة وطريقته في رؤية العالم القريبة جدًا من السريالية. أعتقد أنه يمكنني القول إن الأمر يتعلق هنا، من الناحية الفكرية، بحبّي الأول، ذلك الحب الذي يبقى الإنسان مرتبطًا به ارتباطًا لا فكاك منه. وهذا الحب الأول قوي لدرجة أنه لا يحتاج إلى القسم أو الوعود لإجبار القلب على أنْ يكون وفيًا له إلى الأبد.

«الفيلسوف متأملًا» - رامبرانت
«الفيلسوف متأملًا» – رامبرانت

ثم، لنقل بشكلٍ طبيعي، اهتممت بالكتاب والفلاسفة التابعين للحركة الرومانسية الأولى. والواقع أنني اكتشفت في مدن ألمانيا، وفي مشاهد الطبيعة الخلابة (مرتفعات هارتس)، العديدَ من العناصر التي كانت تذكرني بقصائدهم، وأقاصيصهم، وتَيَهاناتهم الفلسفية. يمكنك أنْ تتصوّر أنه كان من السهل قراءة هذه الأعمال التي كان الرومانسيون يقدّمون فيها أفضل ما في ذاتهم، وكذلك الكثير من الأشياء النابعة من المشاهد الطبيعية والمدن التي كانوا يتأملونها، والتي تأملتها وعشت فيها أنا شخصيًا. لقد كانت هذه مشاهد وأماكن ارتحت فيها للحظة من كل متاعب أسفاري ومن كل فترات الرتابة التي كان يعيشها شبابي المتحمّس الوقاد.

2- هل اهتمامك بالأقاصيص مرده إلى الحركة الرومانسية الألمانية؟

نعم، جزئيًا. في طفولتي، كان هناك رجل طاعن في السنّ وكنت أسمّيه «جدّو» (مع أنه لم يكن هناك من رابط قربى بيننا)، وكان يروي لي أقاصيص البلد والخرافات. وكانت لدي خالة تعشق الأدب العجائبي، في أمسيات الشتاء البارد، كانت تقصّ عليّ بصوتٍ عالٍ، بجانب الموقد، حكايات هوفمان، وأقاصيص فيليه دي ليل أدم القاسية، وكذلك حكايات جان ري. كم كنا نرتعش عندما تدقّ الساعات في برج الكونت. لقد كانت تدلّ على الساعات بطريقة غريبة وفي صمت مُوَقّع. أنت تستطيع أن ترى كيف كان خيالي المُفعم مستعداً لأن يستقبل على الفور الانطباعات العديدة عند الرومانسيين الألمان. وعلينا ألا ننسى أنّ غوتنغن هي أيضًا المدينة التي عمل فيها الأخَوان غريم [مؤلفا القصص الشعبية].

هكذا كنت مُفعمًا بالأدب والفلسفة، وكان من الطبيعي في نظري أنْ أجمع بينهما. وهذا ما فعلته في أبحاثي الجامعية وكذلك، فيما بعد، في أعمالي الأدبية.

3- على فكرة، ما كان موضوع أطروحتك لنيل الدكتوراة؟

كان الموضوع دراسة لفكر الفيلسوف فريدريش شليغل. لا تشمئز نفسكّ! [ضحكات] لقد قدّمت في نهاية أطروحتي ترجمة لأعمال هذا المؤلف، ترجمة جديدة، ولغويًا هي أفضل ترتيبًا. وقد نُشرَت هذه الترجمة مع الهوامش والمقدمة في باريس، في دار النشر المعروفة والمشهورة «جوزي كورتي».

4- هنا برزت الترجمة في مسارك الفكري! حدثنا عن هذه المرحلة.

من وجهة النظر المهنية، هذا صحيح، لأنني انخرطت بعد ذلك في العمل في دار النشر كورتي، ولا أزال أساهم فيها حتى اليوم. إلا أنّ اهتمامي بالترجمة أقدم من ذلك، ويمكن أن يعود إلى أيام إقامتي في إيطاليا، في فلورنسا، حيث قطنت وعملت لما يقارب 15 سنة منذ عام 1988. وقد تابعت هناك دروسًا في الفيلولوجيا الكلاسيكية، وفيها تعمّقتْ معرفتي بالثقافة القديمة، وخصوصًا بثقافة العالَم الروماني [اللاتيني]. فأنا معجب أشدّ الإعجاب ومن دون حدود بالعالم القديم. أنت ترجمت كتابين من كتبي حول الترجمة، ولا بد أنك لاحظت إلى أيّ مدى يُمكن أنْ تصل أهمية الثقافة القديمة في التكوين الفكري لهيكلية أبحاثي.

5- بالفعل، أنت تعود إلى الفلسفة اليونانية في هذه الأعمال. وأنا أودّ أن أطرح عليك السؤال التالي: هل تعتقد أنّ الفكر الغربي خاضع لهذه الفلسفة؟ ألا تعتقد أنه لن يستطيع التحرّر منها أبدًا؟

يبدو لي هذا السؤال غريبًا. في نظري، لا يوجد تمييز بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الغربية، لكون الفلسفة اليونانية غربية ولأن الفلسفة الغربية تستند إلى جذورٍ يونانية ورومانية. من هذا المنظور، ليس عليها أنْ تتحرّر منها. بل على العكس من ذلك، يجب النظر إلى الفلسفة بوصفها حوارًا طويلًا بين مختلف التقاليد ومختلف العصور، أي استعادة دائمة للمسائل التي تشهد نوعًا من التحديث التاريخي والفكري من عصر إلى آخر. ولا شيء في رأيي أبعد عن الصواب في الفكر الفلسفي من اعتبار تاريخ الفلسفة مجرد سلسلةٍ من الفترات المتقطعة. فالمعنى العميق للفلسفة يكمن في هذا الإرث، على ما يبدو لي. ولا وجود للحرية الفكرية الحقيقية إلا في الاعتراف بكل ما ندين به.

على كل حال، هناك عبارة رائعة لسينيكا في مبحثه «في قِصَر الحياة» يتكلم فيها عن هذا الاعتراف؛ فهو يُعرب عن إعجابه بأعمال الفلاسفة من قبله، ويحثنا على الاستحواذ على ثمارها. كما يقول لنا إنّ كل الفلاسفة وكل المفكرين من قبله لم يفعلوا شيئاَ غير «تحضيرنا لأن نعيش». أنت تعلم أنّ هناك شيئًا ما يؤثر فينا عميقًا ويُعدّ إنسانيًا إلى أعمق ما يمكن أن يكون، وهو أنْ نفكر في جميع هؤلاء الرجال الذين كانوا يعيشون في العصور القديمة حياةً ضنكا وقاسية بالمقارنة مع حياتنا اليوم، والذين بدلاً من التكلم عن تعاستهم (ولو فعلوه لكان ذلك من حقهم تمامًا!) فضّلوا أن يحدثونا عن السعادة في الحياة، وعن قيمة الصداقة، وعن الحب الذي لا يُقهر، وبدلاً من أن يلفتوا أنظارنا إلى أوضاعهم التعيسة، دعونا إلى النظر إلى جمال السماء المرصّعة بالنجوم، كما يفعل هزيود. هذا الشاعر اليوناني في أصل الفلسفة، على ما أعتقد. فهو يقرّ بأن الفوضى في أصل العالم. لكن، إذا كان العالم ينبع من الفوضى، والفوضى هي أعلى ما يمكن من الاضطرابات، فإنّ كل ما يأتي بعد هذه اللحظة سيكون أكثر انتظامًا. وهذا يعني بالتالي أنّ عالمنا يتجه نحو المزيد من الانتظام، والمزيد من العقلانية، وأنّ العقل والعلم هما الأداتان اللتان بهما يُفهَم هذا العالم وهذه السماء المرصّعة بالنجوم.

 

6- نعم، ولكن أليس من المفترض الخروج من هذه الدائرة الفلسفية المغلقة والتفكير بطريقةٍ أخرى؟ الفيلسوف الفرنسي فرنسوا جوليان يتسلّح بالفلسفة الصينية لإعادة طرح الأسئلة على الفلسفة الأوروبية «فيما لا تفكر فيه». لقد كان حاضرًا في ذهني عندما طرحتُ عليك سؤالي حول الإرث اليوناني في أوروبا. ما رأيك بموقف جوليان؟

اعتراضك هام جدًا، بما يقوله صراحة وأكثر من ذلك بما يفترضه: أي أن الفلسفة «الأوروبية» قد تكون «مغلقة على ذاتها» إذا صحّ التعبير، وأنه ينقصها بالتالي الانفتاحُ على الآخر، وأنها لا تتوصل نوعًا ما إلى التفكير «بطريقةٍ أخرى»، إلى التفكير بالكونيّ بطريقةٍ صحيحة (ومن هنا يأتي «ما لا تُفكر فيه»). من دون أنْ أطيل الحديث هنا (هذا ليس موضوع لقائنا)، أقول إنّ عمل الفلسفة ذاته، هو الوصول إلى الكونية. لا وجود للفلسفة «الأوروبية» أو «الصينية» أو «العربية» بكل ما في الكلمة من معنى، كما أنه لا وجود للرياضيات الصينية أو الأوروبية أو العربية. ما يجب النظر إليه، هو هذا العمل «المشترك» الذي يهدف إلى بناء معارف «حقيقية»، و«فعليّة»، و«يمكن برهنتها». لكن، من البديهي ملاحظة أنّ الأدوات الكفيلة بفعل ذلك موجودة في الفلسفة اليونانية، وخصوصًا في صياغة المنطق في شكل أداة (هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة «أورغانون» organon في اليونانية) وفي مسألة تعليل عقلانية الواقع الذي يحيط بنا – تعليل أساسه الموضوعي – وذلك من خلال المعارضة بين مفهوم «الكينونة» عند بارمينيدس ومفهوم «الصيرورة» عند هرقليطس، إذا أردنا التعبير عن ذلك بطريقة صورية. كيف يُمكن التوفيق بين تحوّل الأشياء ودوام القوانين التي تُتيح لنا فهمها؟ لقد أعيدت مناقشة هذه المسألة، الموجودة في أساس أيّ علمٍ من العلوم، في أشكالٍ عدة عبر التاريخ، ويمكن التعرف عليها إجمالاً في المناورات بين التجريبية والمثالية. إنّ مسألة أهمية الفلسفة اليونانية (أقول هنا «فلسفة يونانية» بالعودة إلى إطارٍ جغرافي وتاريخي معين) ونجاحاتها تعود، في نظري، إلى انعدام أهمية مسألة الدين في الثقافة اليونانية الرومانية. لم يكن هناك من عقائد في هذا الدين القديم، ولا أشياء من المفروض الإيمان بها، ولا دربًا مستقيمًا يجب السير عليه، ولا حتى كتابًا مقدسًا يتضمن وحيًا يَنطق بما يجب أن نعرفه من ألفه إلى يائه، وبما هو مسموح أن نعرفه أو غير مسموح، إلخ. من هنا جاءت حرية التفكير عند اليونانيين (وكذلك عند الرومان)، وهذه حرية لم تُعرف مرة أخرى إلا في عصر النهضة [الأوروبي]، أي عندما دفع اكتشافُ حضاراتٍ أخرى في أميركا (وفي آسيا كذلك) والقطيعةُ مع العقيدة المسيحية التقليدية إلى التساؤل حول مفهوم الطبيعة البشرية والتشكيك فيه، وفتحتا بذلك أبواب الفكر الحرّ إلى ما لا نهاية. وأنا أرى في إعدام جوردانو برونو (الذي قال بدوران الأرض) وفي تراجع غاليله آخرَ تجسيدٍ للعقبات التي وضعها الدين في الغرب. وإنْ كان هناك ما لم يُفكَّر فيه في مجال الفكر، فيتوجب البحث عنه في العبء الذي تجعل الأديانُ العالمَ والعلوم ترزح تحته: المحرمات، والمحظورات، والخطايا، إنما هي حواجز تقف في وجه انطلاق العلوم والتفكير الحرّ من دون أيّ عائق. ذاك هو بالفعل «ما لم يُفكَّر فيه»: تلك الأنظمة (الدينية أو السياسية، لا يهمّ) التي تمنعنا من إعمال الشكّ في العالم، ومن زَلزلة التقاليد، ومن رؤية العالم على ما هو عليه: إنه شيء يتوجب علينا أن ندركه بالعقل، نعم، يتوجب علينا أن نفعل ذلك «من أجل سعادتنا». والواقع أن الصحة، والرفاهية، والسلام، والمساواة، والازدهار، وطول العمر، والعيش الرغيد؛ كل ذلك هو من آثار العلوم التي في نظرها لا يوجد «ما لا يُفكر فيه».

 

7- وفيما يتعلق بفرنسوا جوليان؟ ماذا تقول؟

بالنسبة إلى فرنسوا جوليان، أنا آخذ حذري دائمًا من هؤلاء الفلاسفة الذين يقولون لنا إنّ كل الفلسفة التي كانت من قبلهم لم تكن سوى سوء فهمٍ كبير: سواء أكان الأمر يتعلق بهايدغر الذي يقول لنا إن الميتافيزيقا تقوم على نسيان الكينونة، وأننا كنا نقع في الأغلاط منذ 2500 عام، أم دريدا الذي يؤكد أنّ الفلسفة قد استسلمت لمركزية الأنا أو أنّ الفلسفة «الأوروبية» يمكن أنْ يكون من ضمن أسُسها ذاتها «ما لم تفكِّر فيه». بصراحة، إذا كنا بعد 2500 سنة لم نفكر بهذا «الذي لم نفكر فيه»؛ فلأنه غير قابل لأنْ يُفكَّر فيه! لنأخذ الأمور بجدية أكثر، من الواضح أنّ الفلسفة تمرّ في أزمة (إنها في أزمة منذ عصر الأنوار)، وأنها تكدّ للعثور على دورها المحرك في تطوير الفكر العلمي. ويبدو لي أنّ هذا الدور قد اضطلعت به اليوم الفيزياء الأساسية أكثر منها، وخصوصًا الفيزياء التي تحاول توحيد الفيزياء الكمية مع نظرية النسبية. فالمسائل المرتبطة بأسس عالمنا، وبطبيعة الواقع، وبوجود الزمن نفسه، باتت تنتمي إلى الفيزياء، وتصبّ بطريقة طبيعية في مسألة «معنى» الطبيعة الحيّة، ودلالة كل ذلك بالنسبة إلى كائنٍ ذكيّ مثل الإنسان. هذه أسئلة كونية ولا تخفي أيَّ أمرٍ لا يُفكر فيه، ولا أيَّ نسيان للكائن، ولا أيَّ مركزية ذاتية. على العكس من ذلك، هي تفرض التفكير. إنها تقودنا مرة أخرى إلى النجوم التي تحدثنا عنها منذ قليل.

8- لنعُد إلى النجوم التي ترصّع السماء. إذا أمعنا النظر طويلاً فيها، كما يفعل طاليس الملطي، ألا نجازف بالوقوع في البئر؟

حتى البئر يُعدّ مكاناً نبيلاً بالنسبة إلى الإنسان الذي يفكر.

 

9- ربما… لكن في الوقت الحاضر، طالما أننا، أنت وأنا، في البئر، إذا أجزت لي القول، حدثني عن «النبع»، عن مصدر تفكيرك في علم الترجمة.

في العام 2003، ومن دون أن يكون ذلك متوقعًا، حصلت على مركز أستاذ الترجمة في الجامعة في كندا. كنت آنذاك أعمل في الترجمة الكتابية والترجمة الفورية في إيطاليا. عدت إذن إلى بلدي الذي كنت قد غادرته في العام 1984. أقول «دون أن يكون ذلك متوقعًا»؛ لأنّ كل شيء لدي كان يُؤهلني لأن أحصل على منصبٍ في الفلسفة. لكن، لما كنت قد نشرت عدة ترجمات أدبية وفلسفية، فإنّ المدرسة العليا للترجمة هي التي اهتمّت بأن أعمل لديها وليس قسم الفلسفة.

أنت تعرف أنّ الأستاذ الجامعي لا يهتم بالتعليم فقط، وأنّ عليه أن يُوسّع أبحاثه في المجال الذي وُظِّف فيه. هكذا، انتهزت الفرصة واستندت إلى تجربتي العملية في الترجمة الأدبية للتفكير في ممارسة الترجمة. ولم أكن قد اطلعت في حينها على ممارسات علماء الترجمة، فيما عدا بيرمان، فقد كنت قرأت كتابه «اختبار الغريب» الذي يُعالج، من بين مواضيع أخرى، موضوع الرومانسيين الألمان، والذي كان يندرج بالتالي في إطار اختصاصي في الدكتوراة. لقد استوقفني أمران اثنان هما: سمة التجريد المُفرط في تفكيرهم حول الترجمة، والمعادلة المقلوبة بين النظرية والتطبيق (علماء الترجمة يُنظّرون في الترجمة ولكنهم لا يترجمون، باستثناء عدد قليل منهم). ولاحظت أنّ جانبًا كبيرًا من أفكارهم حول الترجمة ليس في نهاية الأمر سوى تطبيق النظريات الأدبية والاجتماعية والسياسية على الترجمة. وبذلك، لم تعد الترجمة تظهر كموضوعٍ أساسي في التفكير الترجمي؛ بل كتطبيق من بين تطبيقات أخرى لنظريات سابقة وشاملة لم تتخذها منذ البداية موضوعًا لدراساتها. هكذا، يفكر بيرمان في الوقت نفسه بالغيرية وبالترجمة، وهناك العديد من الأساتذة الذين يُطبقون على الترجمة أطروحات تنبع من دراسات ما بعد الاستعمار، أو من دراسات الأنواع [الأدبية]، أو من الحركة النسوية التجديدية، أو من اللسانيات النفسية؛ إلخ. وكلها نظريات انبثقت من حراك ما بعد الحداثة ومن التفكيكية، ولكن ليس من «ممارسة الترجمة ممارسةً فعلية». لقد تكلمت عن هذه الأشياء في كتابي «عقدة هرمس». أنا أميل إلى القول إنّ هذا الاندهاش النظري كان الينبوع الأول لفكرتي حول الترجمة.

 

10- أنت تقول في نهاية كتابك «الترجمة وتاريخها الطبيعي»: «يبين علمُ الترجمة – مثل التفسير والتوضيح، أي من خلال ممارسة النقل ممارسةً فعلية – من خلال ممارسة الذاتية أمام نصٍّ معيَّن». هذه الجملة تختصر كل الكتاب. لكن أودّ أن أسمع منك مزيدًا من التوضيح عن «الذاتية». في عملية الترجمة، هناك ثلاث ذاتيّات: ذاتية المؤلف، وذاتية المترجم، وذاتية القارئ (لا ننسيَنّ «القارئ في الحكاية» لأمبرتو أيكو). أنت تركز في كتابك على ذاتية المترجم. ماذا تقول بالذاتيتين الأخريين؟

بصفتك مترجمًا، أنت اختبرت جيدًا ماذا يعني قول إنّ الترجمة عملية قراءة في أعلى ما يمكن من مستويات الكمال. ليس هناك في النص الذي نترجمه أيّ شيء ولا أيّ معنى يُمكن أن يُغفل عنه. عندما نقرأ من دون أنْ نترجم، من الممكن المرورُ سريعًا على بعض عناصر النص، أو عدم توضيح بعض التلميحات أو أحد المعاني الخاصة، أو القفز فوق بضعة أسطر؛ إلخ. ومع ذلك، نحن نفهم النص الذي نقرأه. أما في الترجمة، فهذا أمرٌ غير ممكن. الترجمة قراءة كاملة ومتكاملة: إنها تُعيد إنتاج المعنى كما فُهم في قراءة المترجم، وهي بالتالي «نوع من القراءة المكتوبة». لذلك، أنا أقول إنه عندما نقرأ نصًا مترجمًا، لا يكون أمامنا نصُّ المؤلف بل قراءة المترجم [لهذا النص]. إذن، التفكير في الترجمة – وهذا ما يفعله علم الترجمة، أو ما يتوجب عليه أن يفعله – يعني كشف ذاتية القراءة لدى المترجم أو تفسيرها، وهو بكلمة أخرى تبيان لِم وكيف نصٌّ ما قُرأ «بهذه» الطريقة، وكذلك محاولة استخراج الاستنتاجات «من أجل الممارسة» (مبادئ عامة، ومنهجيات، وأدوات عملية؛ إلخ).

أما مسألة ذاتية المؤلف، فإنها مسألة أخرى. في نظر علم الترجمة، لا تكمن القضية في سؤال: «مَن المؤلف؟»، بل «ماذا يريد المؤلف؟»؛ أي تحديد الطريقة التي تمرّ بها ذاتية المؤلف من خلال معنى نصه؛ ذلك لأنّ معنى النص هو ما على المترجم مساءلته. وفيما يتعلق بذاتية القارئ فإنها تهمّ علم الترجمة من خلال نظرية تلقي النص الأدبي، وهذه نظرية وسَّعتها، كما تعلم، مدرسة كونستانس [في جنوب ألمانيا]. وأنا ألمّح إليها في كتابي، ولا أشرح عنها الكثير: إذْ لا يُعاد اختراع الدولاب.

الترجمة وتاريخها الطبيعي
الترجمة وتاريخها الطبيعي

11- لنعُد إلى كتابك، أنت تعلم أن كل ما فيه يهمّني إلى أقصى الحدود. في الفصل الختامي منه، أنت تقدّم أقصوصةً نرويجية عنوانها «المطحنة في قاع البحر». وفق هذه الأقصوصة، يأتي الماء المالح على ما يبدو من مطحنةٍ موجودة في أسفل مياه البحر، فهي تطحن الملح في الليل والنهار، ويومًا بعد يوم. هل من الممكن أنْ نستعير هذه الحكاية لتقديم صورة عن الترجمة: إنها عمل دائم ويتجدد طالما أنَّ العالم موجود؟

الفصل الختامي في كتاب «الترجمة وتاريخها الطبيعي» عبارة عن نقد لأبستمولوجيا العلوم الإنسانية بعد وصول «ما بعد الحداثة». فالفكرة التي تقول بأن «الحكايات الكبرى» قد ماتت، وهي أساسية في التيارات المرتبطة بالتفكيكية، تبدو في نظري فكرة عديمة الفائدة. أنا أعتقد بالأحرى أنه علينا أن «نروي حكايةَ» الواقع من أجل أنْ نفهمه، حتى وإنْ بدت غريبة في بعض الأحيان. نظرياتنا ليست الواقع، علينا ألا ننسى ذلك. إنها تواصيف «ممكنة» للواقع. أنت ترى فيتغنشتاين هنا. هذا صحيحٌ في العلوم، وهذا صحيحٌ على الأخص في ميادين مثل ميداننا. لا بدّ لنا من أنْ نتقدم بتواضعٍ شديد وأنْ نلقي على الواقع نظرة الألق والنضارة التي هي نظرة الأطفال.

هل خرجنا من البئر؟

12- كلا، ولكننا نرى النور في الأعلى… [ضحكات]

هيا، لنتابع! بما أنّ النبع يُكوّن فيما بعد نهرًا، تابعت تفكيري حول الترجمة مع محاولة العثور على الحلّ لما بدا لي أنه المسألة النظرية الأساسية في هذا الميدان، وهي: هل يتوجب ترجمة الحرف أم الروح؟ كيف يمكن وضع نظرية عقلانية لهذا الخيار بالاستناد إلى قاعدة الوقائع والممارسة؟ كان هذا موضوع كتابي «الترجمة وتاريخها الطبيعي» الذي قمتَ بنقله إلى العربية. أنا أبَيّن في هذا المبحث أنّ ممارسة الترجمة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بممارسة القراءة، وأنه كي نفهم كيف ولماذا تُرجم عبر العصور نصٌّ ما بهذه الطريقة أو بتلك (حسب الروح، أو الحرف، أو حسب خليط من الاثنين)، لا بد من معرفة «كيف قُرأ هذا النص». فكيفية القراءة وكيفية الترجمة مرتبطتان في التاريخ. لقد عبّرتُ عن ذلك باللاتينية: Ut legis, ita vertis ! (كما تَقرأ، كذلك تُترجِم!). وأنا أتناول فيه مسائل شيخوخة الترجمات (هذه ظاهرة لا تحصل مع النصوص الإبداعية)، وموقف التبعية لدى المترجم تجاه المؤلف، والقوة التخريبية عند القارئ، وهو الذي بمقدوره أن يُحوّر معنى النص المؤلَّف، بوعي أو بغير وعي (وهو يستطيع بالتالي أن يستولي على معنى النص الخاصّ بالمؤلف). أنا أقوم بكل ذلك بالاستعانة بالحكايات أو بالكتب العجائبية، من أقصوصة هانسل وغريتل إلى ذي اللحية الزرقاء، ومن أوسكار وايلد إلى أندرسون.

13- ها نحن قد خرجنا من البئر، نحن نرى الآن حقيقة علاقاتك مع هؤلاء المؤلفين؛ فهي تعود إلى فترات إقامتك في ألمانيا، وكذلك إلى خالتك التي كانت تقرأ لك الروايات العجائبية!

تمامًا، أصبت كبد الحقيقة. في الأساس، كل أعمالنا، على ما أعتقد، ليست سوى طريقة معقدة نعيد بها تفسير طفولتنا، ونُحييها، ونخفف من آلامها، ونقدّم لها بالفكر الخلاص الذي لم تحصل عليه بالقلب.

14- يا لهذه الخلاصة الحزينة الحالمة، على طريقة كيركيغارد! على كل، هل تنتمي إلى تيار كيركيغارد الفلسفي؟

لا ننتمي بتاتًا إلى تيار، التيار هو الذي ينتمي إلينا. إن أحد أهداف الفلسفة لا يكمن في أن تكون تابعًا مخلصًا لفكرةٍ معينة، كما يُمكن أنْ تكون تابعًا لدينٍ معين؛ بل في أنْ تُروّض هذه الفكرة كي تنسجم أفضل ما يمكن مع منحنيات شخصيتك. فالمرء لا يفكر «حسب» أفكار فلسفة محددة، بل «مع» هذه الأفكار. وهذا ما أتمناه نوعًا ما من قارئي أبحاثي باللغة العربية حول الترجمة: نعم، أنا أتمنى أنْ يتوصلوا إلى آرائهم «هم» الخاصة بهم «مع» الآراء التي أقدمها لهم. في هذه الحال، أعتبر أنني قد شغلت وقتي بطريقةٍ جيدة، وأنني أستطيع الإجابة بكل ثقة عندما يسألونني: «ماذا فعلت بالموهبة التي لديك؟».

15- أنا كذلك أستطيع قول الشيء نفسه فيما يتعلق بالوقت الذي قضيته في ترجمة كتابيك. لكن، بانتظار الجواب على هذا السؤال، بعد فترة طويلة، هل تعمل الآن على مبحثٍ آخر عن الترجمة؟

كلا. أعتقد أنني قلت كل ما كان لدي لأقوله حول هذا الموضوع. ولا أريد أنْ أقضي السنوات القليلة التي تفصلني عن التقاعد (أنا في سن الثامنة والخمسين) في إعادة التكلم عن الأشياء نفسها بطريقةٍ مختلفة. فالأساتذة الذين يقومون بذلك يكون لهم وقعُ من يعزف على آلات العصر الموسيقية سوناتات باروكية: إنهم يقدمّون موسيقى نشاز على ألحان معروفة.

أنا أقضي بالأحرى وقتي في متابعة عملٍ أدبيّ يتألف من أقاصيص وخرافات (مستقاة من تقاليد كيبيك التراثية)، ومن قصص صغيرة وروايات. على فكرة، كان من المفروض أنْ تُترجَم روايتي الأخيرة، «الآخر»، إلى العربية في دار نشرٍ جزائرية. لكن، للأسف، لم يصل هذا المشروع إلى التنفيذ. في نهاية الأمر، أنا لا أعتقد أنني سأكتب شيئًا عن الترجمة بعد الآن. أنْ يعرف المرء كيف يصمت لباقةٌ أصبحت أمرًا نادرًا في زمننا الحاضر.

 

16- نعم، في الواقع فكرة السكوت هي التي تختتم بها كتابك «عقدة هرمس». بالإضافة إلى أن الفصل الأخير فيه يحمل العنوان: Favete linguis ! «الزم الصمت»، أنت تؤكد فيه أنّ «مجموع كل القضايا الحقيقية لا يُمكن تحويله إلى مُسلَّمات». ماذا تقصد بذلك؟ هل تريد أنْ تؤكد أنّ الحقيقة غير موجودة وأنه علينا دائمًا إعادة ابتداعها؟

أنا أقصد أننا لا نستطيع أن نضع لامحدوديةَ الممكن في قضيةٍ محدودة. وهذا يعني أنّ الحقيقة المطلقة غير موجودة، بل هي بالأحرى مجموعة من الحقائق النسبية في حقلٍ ما وفي حقل آخر، حقائق يؤثر بعضها في بعض وتكوّن إجمالاً نسيج الواقع. إذا أتى أحدهم وقال لك إنه يعرف كل الأجوبة أو إن هناك كتابًا يحتوي عليها كلها، فاعلم أنه امرؤ مزوّر. الكذبة حقيقة الكذاب.

من الأفضل أن نصمت.

 

17- الصمت، كلمة رائعة في نهاية هذا الحديث. إذن، خلاصة القول، ماذا تريد أن يُقال عن فلسفتك في الترجمة؟

إنها كانت نورًا يلقي بضوئه على ظلال الشك … ربما.

18- شارل لو بلان، أنا أشكرك جزيل الشكر على هذا الحوار الجميل.

أنا من يشكرك على اهتمامك وعلى كونك صوتي بالعربية يا صديقي العزيز.

19- ألن تأتي لزيارتنا؟

Inch’Allah !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى