يُذهَل المحللون في الصحافة البريطانية على الدوام بعدم تأثر شعبية بوريس جونسون في الانتخابات بالنظر إلى أكاذيبه الجسيمة التي يسهل إبطالها. بالنسبة لهم، فإنَّ الجاذبية المُطردة لرئيس الوزراء بالنظر إلى أكاذيبه تعد لغزًا يُخفق أمام كل اختبار للنزاهة الأخلاقية. أخلاقيًّا، أليس الكذب -كما اشتُهر عن كانط في تفكيره القطعي- خطأ في جميع الأحوال؟ وعلى أية حال، ألا يلقى الكذَّابون عقابهم دائمًا، مثلما يحدث للأطفال المشاغبين في حكايات هيلاير بيلو وإرنست هوفمان التحذيرية؟
في حين لا أرغب في شيء أكثر من رؤية بوريس جونسون يجري في شارع داونينغ والنار تستعر في بنطاله، إلا أنَّ جزءًا مني يرغب في إخبار أولئك المحللين أن يُسيطروا على مشاعرهم.
لقد تخلَّص الكذب من وصمة العار الأخلاقية تمامًا مؤخرًا، والاندهاش من انعدام تأثير الكذب على المصوتين المخدوعين يعني تفويت نقطة أهم؛ إذ يندُر الآن أن تخدِم الأكاذيب العامة حقائق أعمق قد تجعلها مقبولة أخلاقيًّا، مثل الطبيب الذي يخبر مريضةَ سرطان دماغ مُستشر وغير قابل للعلاج، أنَّ لديها آمالًا عالية في علاج جديد. بدلًا من ذلك، فإنَّ الأكاذيب العامة الآن تخدم معتقدات خاصة، وهذا يعني إطلاق سراحها تمامًا من عالم الحقائق القابلة للتثبُّت.
ربما يتطلب الأمر إضافة فئة جديدة للكذب إلى جانب «الأكاذيب المقصودة» التي تنطوي على نية الخداع عند النطق بها، و«أكاذيب الإغفال» التي تنطوي على إخفاء معلومات يتوجب الإفصاح عنها لتجنيب الشخص من اعتقاد أمر ليس صحيحًا.
ماذا عن «أكاذيب الثقة»؟ هذا قد يضمُّ الأكاذيب التي تُقال لخدمة مآرب أكاذيب أعمق، كتبرير توني بلير لشنِّ الحرب على العراق باعتقاداته التي يعتنقها بشغف رغم العلم بافتقاره إلى سبب مقنع للحرب، أو صرح الأكاذيب الذي بُني عليه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي الأكاذيب التي أطلقها دونالد ترمب لتعزيز واقع بديل.
وفقًا لعالِمَيِ السياسة إيفان كراستيف وستيفن هولمز اللذين اشتركا في كتابة: «الأنوار التي فشلت» على أمل تفسير التراجع العالمي عن الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي، فإنَّ القادة الشعبويين كترمب وجونسون مخلصون في مشاعرهم حين يقدمون أكاذيب وقائعية. أو قل: إنَّ أكاذيبهم تُعبِّر عن حقيقة داخلية.
نحن على دراية بهذا المفهوم عن طريق تقديرنا -وإطرائنا بالطبع- للأعمال الخيالية؛ فنحن نعي أنَّ الروائيين يفتعلون عوالم كاملة مأهولة بشخصيات غير حقيقية تفعل وتقول أمورًا مختلقة، وهذه الخرافات تخدم «حقيقةً عاطفيةً» أسمى. هكذا ندخل إلى العالم المُخترع للرواية بالتوافق، لكنَّ الأكاذيب السياسية خلافية وليست اتفاقية؛ لأنَّ الحقائق العاطفية التي تخاطبها سرًّا -كالأحاسيس السياسية الكامنة والمعتقدات العميقة- ذات صفة حزبية.
أتساءل ما إن كان النرجسي هو المكافئ السيكولوجي للمستبد السياسي؟ فالنرجسيون مستبدون في فرض عالمهم الداخلي على العالم الخارجي، وعدم قبول شيء إلا ما يتطابق مع طريقة رؤيتهم للأمور. أبي كان شخصية من هذا النوع؛ فقد كان يكذب بلا مجهود وبشراهة عن كل شيء في العالم، ويتلاعب بالحقائق الكبيرة والصغيرة التي لا تستحق أن يُكذَب بشأنها. كان يملؤني الغضب وأنا طفلة حين كنت أراه يدعي أنَّ الأسود أبيض، وأحرص على تصحيح أخطائه أمام العائلة والأصدقاء. كان يقول: «إننا قضينا إجازة مدتها ثلاثة أسابيع» في حين أنها أسبوعان، أو أنَّ شيئًا ما كلفه مبلغًا مُعينًا في حين أنه كلفه مبلغًا آخر، لكنه غالبًا كان يتفوه بالأكاذيب التي تجعله يبدو أعظم وأغنى وأهم مما هو عليه في الحقيقة، وهو ما كان يُحرجني للغاية.
حين تُصحَّح الوقائع، يُعرب والدي عن الحيرة لا عن الندم؛ بسبب -كما أرى الآن- أنه يعتقد أنه صادق عندما يكذب؛ أي: إنَّ ذلك صادق بالنسبة لفكرته عن نفسه.
لقد فشل أيضًا في رؤية أنَّ نرجسيته جعلته بنظري غير جدير بالثقة؛ إذا كان يكذب تجاه كل شيء؛ فليس باستطاعتي تصديق أي شيء؛ وهو الأمر الذي أفقد عالمي توازنه. قد يكون والدي كاذبًا بارعًا، لكنني غير فخورة بهذا الإنجاز.
بالنسبة لوالدي، بدأت أعتقد أنه كان يكذب غالبًا؛ ليبدو مُحبوبًا فحسب، كأنما الكذب مرهم اجتماعي. لو حدث وسأله أحد عن معرفته بشيء ماـ، أو ما إذا قرأ كتابًا، أو زار دولةً، كان يجيب دائمًا أن نعم، ثم يخوض في الحديث بلا مبالاة، حتى يتجلى للجميع -إلا هو- أنَّ كذبته مفضوحة.
لست أدافع عن والدي، لكنني بسهولة أعترف أنَّ دوافعه لم تكن خبيثة ولا شريرة. وقد يزعم بعض علماء الاجتماع أنَّ أكاذيبه كانت إيجابية من الناحية الاجتماعية، لكنني أعتقد أنها جبانة.
ما يحزنني الآن -بعد رحيله- أن إرثه مبهم؛ فلن يتسنّى لي معرفة بعض الأمور عن حياته أبدًا؛ لأنه أخفى مسلكه بالأكاذيب، فلا أعرف مثلًا إن كان حقًّا عمل لدى كريستيان ديور حين انتقل إلى باريس؛ ليتدرب كمصمم عام 1946م. لقد كانت هذه الأسطورة المؤسسة لطفولتي، والركيزة التي بُنيت عليها سمعته وهوية عائلتي. لم أصدق أنه قد يكذب بشأن أمر جسيم للغاية كهذا.
لكن كان عليَّ الشعور بالشك حين نشر بين الناس أنَّ علامته التجارية كانت تُدعى ساسون، وكانوا يجيبونه: «أُوهْ. بيلفيل ساسون. تلك علامة عظيمة». وهي حقًّا كذلك، بليندا بيلفيل وديفيد ساسون صمَّما للأميرة ديانا، رغم أنَّ والدي لم يكن صاحب العلامة، لكن لم يتجشَّم عناء توضيح الخطأ للناس. يا للسخرية، لقد كان مُصمِّمًا في المهنة ومن حيث الميول، وكأنَّ (إعادة) اختلاق الذات هي ما ينير طريق حياته.
بلغ والدي سن الرشد خلال حقبة نزوح جماعي بعد الحرب، حين غادرت أعداد هائلة من البشر مسقط رأسها، وغيَّرتْ أسماءها، ومحت ماضيها الملتبس، وحاولت اصطناع البطولات -سجلات الحرب المزيفة هي أسطع مثال، أو ادعاء كل قروي فرنسي تقريبًا بأنه شارك في المقاومة، وبنت حياة جديدة كاملة؛ فلقد كان الكذب وسيلة نجاة.
بوجود وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، فإنَّ اختلاق الذات هو الأساس؛ إذ إنك تتبنى شخصية على الإنترنت تماثلك قليلًا، لكنها مصممة بوعي، ويسمى هذا: «انتقاء الذات». لا أَنْفَكُّ عن اعتقاد أنَّ ذلك يبدو كذبة من أكاذيب الإغفال. ألا تبدو «التصفية» -تحليل الحقيقة حرفيًّا وماديًّا- كنسخة ألطف من نوع الأكاذيب الآخر؟ أي: إنها كذبة «ناعمة» من الأكاذيب المرتكبة بنية الخداع.