الصورة النمطية التي أُخذت عن شخصية إيما بطلة رواية مدام بوفاري للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، بأن قراءتها للروايات جعلتها منحازة للأحلام والخيالات، وأفسدت عليها تلك القراءات التعاطي مع الحياة الواقعية. قد يكون هذا التصور صحيحًا، ولكنه ليس كل شيء في هذا الجانب من شخصيتها؛ لأننا عندما نتأمل وصف فلوبير علاقة إيما بوفاري بالكتب والقراءة، سنجده يتعلق بأكثر من بُعدٍ، مشيرًا إلى تأثرها وانحيازها للخيالات كَجزءٍ من تلك العلاقة. بدأ وصفه لِعلاقتها بالقراءة منذ أن كانت طفلة، إلا أن ورغم صغر سنها آنذاك، لم تكن تعني لها القراءة سوى الأحلام، وهذا التصوّر يظل حاضرًا في الكثير من المشاهد التي تأتي فيها سيرة القراءة، فقد “كانت قدْ قرأتْ قصة بول وفرجيني، فحلمَتْ بالبيتِ الصغيرِ المقام على أعوادِ الغابِ، وبالعبدِ دومينجو، والكلبِ أمين. كما أحسّت -بوجهٍ خاص-بتلك الصداقةِ الرقيقةِ التي نلمسُها في أخٍ صغيرٍ يسعى ليجلبَ لنا فاكهةً ورديّةً من أشجارٍ ضخمةٍ يفوقُ ارتفاعُها أبراجَ الكنائسِ، أو يعدو على الرمالِ حافيًا، وقد حملَ إلينا عشَّ عصفورٍ”. إن أحلام إيما في هذه المرحلة من عمرها، والتي تستقيها من القراءة، ما هي إلا أحلام تناسب عمرها، ولكنها أيضا تنبئ بفتاة قد تتجاوز عالمها الخاص في شغفها بالخيالات والأحلام. ولم تكن إيما في مراهقتها مجرد فترة قارئة بل كانت أيضا “تعير التلميذات الكبيرات -سراً -روايات كانت تحتفظ بها دائماً في جيب مرولتها”. ويصف فلوبير شغفها بقراءة الروايات بأنها “لا تكف عن التهام، فصول طويلة منها” لكن الشيء اللافت الذي كان يثير اهتمام “إيما” هي الروايات التي محورها الحب وظل هذا المحور يثير اهتمامها على مدى حياتها قبل وبعد الزواج “ما كان امثال الروايات ليدور إلا عن الحب والمحبين، ونساء معذبات يغمى عليهن في خلوات منعزلة، وسياس يقتلون في كل رحلة، وخيل تنفق في كل صفحة، وغابات مظلمة، وشجون تفعم القلوب، وعهود، وزفرات، ودموع، وقبلات، وزوارق في ضوء القمر، وبلابل في الخمائل، وسادة في شجاعة الاسود ووداعة الحملان”. ولهذا عندما كانت في الدير هَوَت القراءة، وانحازت للخيالات، متخيّلة أسماء مؤلفي الكتب المجهولين. وفي هذا الوصف نجد أن فلوبير يمنحنا إشارة لمتعةِ التخيّل عند إيما بوفاري، ليس في عالم القراءة فحسب؛ إنما في الحياة بشكلٍ عام: “وكانت بعضُ الزميلاتِ يحملنَ إلى الدّيرِ ما يُهدى إليهنَّ في عيدِ رأسِ السنةِ من كتبٍ أنيقةٍ، كان إخفاؤُها مشكلةً عويصة. وكنَّ يقرأنَها في عنبرِ النّومِ، فكانت إيما تقلّبُ بين يديها -في رفقٍ-تلك الكتبَ المغلفةَ بالحريرِ، ثم تقفُ ببصرهِا عند أسماءِ المؤلفين المجهولين”. لكن الأمر لا يقتصر على خيالاتها مع كتبِ القصص العاطفية؛ بل أن خيالاتها تذهب إلى اتجاهات أخرى عندما تقرأ كتب الدين، “وكانت تشغلُ عن تتبعِ القداسِ، بتأملِ الصورِ الدينيةِ المحوطةِ بإطارٍ سماويّ اللون، في كتابِ الدين، فأحبّتْ الحملَ المريض، والقلبَ المقدّس الذي تخترقُهُ السهامُ، والمسيحَ المسكين الذي يسقطُ، وهو سائرٌ، تحتَ الصليب”. وهذه الخيالات تستمر أيضًا حيث تأخذها نشوة في حالة أخرى، “وكانت الأوصافُ المجازيّةُ التي تتناولُ الخطيبَ، والزوجَ، والعاشقَ الإلهي، والزواج الأبدي، والتي كانت تترددُ في المواعظِ وتثيرُ في أعماقِها نشوةً غريبة”.
ثم يأتي بعد ذلك مشهد آخر، ونجد فلوبير يقرّبنا أكثر إلى عالم خيالات إيما بوفاري، ويذكر عُمر إيما، وقد كانت في عامها السادس عشر، ويستخدم ذات الوصف في المشهد الأول مع مغايرة محدودةٍ، ففي المشهد الأول كانت “تقلبُ بين يديها” وفي المشهد الثاني “تنفضُ بأصابعِها الغبارَ”. وهذه العلاقة المحسوسة لها دلالتها في شخصية إيما بوفاري، ولكن فلوبير يصبح أكثر تركيزًا في دقةِ الوصف؛ فإذا كانت إيما بوفاري قد فُتنت في المشهدِ بأسماء المؤلفين المجهولين، فإنها في هذا المشهد تُعرِّف بالكاتبِ الذي أثّر فيها، وأرشدها على أن تحلم بالأثاث والقصور، والنبيلات والملكات، إنهُ الروائي والشاعر الأسكتلندي والتر سكوت: “وهكذا ظلّت إيما خلالَ أشهرٍ ستةٍ من عامِها السادسَ عشر، تنفضُ بأصابعِها الغبارَ عن تلك الرواياتِ العتيقةِ، ثم أرشدَها والتر سكوت، بعد ذلك إلى التاريخ، فراحت تحلمُ بالأثاثِ والرياشِ، وقاعاتِ الحرسِ، والشعراءِ الذين يُغنّونَ أشعارَهم على القيثارةِ. وكانت تتمنى لو أنّها عاشتْ في أحدِ تلك القصورِ القديمةِ التي كانت تقراُ عنها، كأولئك النبيلاتِ ذواتِ الصدارِ الطويل، اللاتي كنّ يَقضينَ أيامَهنَّ تحتَ الأقواسِ ذاتِ الطرازِ القوطي، وقد اعتمدنَ بمرافقهنَّ على الأحجارِ، وأسْندْنَ ذقونهنَ إلى راحاتِ أيديهن، وسرحنَ البصرَ يرقُبْنَ مَقَدمَ فارسٍ ذي ريشةٍ بيضاءَ يركضُ بينَ الحقولِ على صهوةِ جوادٍ أسودَ! وأنزلت إيما الملكةَ الإنجليزية ماري ستيوارت من نفسِها منزلةَ القداسة، وأكبرت -في حماسٍ-النساءِ الشهيرات”.
وفي مشهدٍ آخر يظلّ تأثير والتر سكوت حاضرا على خيالات إيما. فعندما حضرت مسرحية لوسي دي لامرمور، لا جاردي وجدت نفسها تستدعي قصص والتر سكوت، وكأنها انفصلت عن لحظتها لترتد إلى ما كانت تقرؤه في صباها؛ بل أن تذّكر الرواية ساعدها على فهم المسرحية. ولكن العامل المشترك في الخيالات التي تستجلبها إيما من الروايات غالبًا ما تكون الحياة المخملية: “وشعرت إيما بنفسِها ترتدُّ إلى ما كانت تقرأُ في صِباها، إلى غمارِ قصصِ والتر سكوت، وخُيّل إليها أنها تسمعُ خلالَ الضبابِ أنغامَ موسيقى القربِ الأسكتلندية، تتردّدُ فوقَ المرجِ. ثم ساعدها تذكرُ الروايةِ على أن تفهمَ ما كان يجري على المسرح، فراحت تتتبعُ القصةَ عبارةً بعدَ عبارةٍ، بينما بدّدت الموسيقى في الحال الأفكارَ المبهمةَ التي راوَدتها، وأطلقت نفسَها مع الألحانِ الرخيمةِ، فخُيّل إليها أن كيانهَا يتذبذبُ، كما لو كانت أقواسُ الكمنجات تجري على أعصابِها! ولم تكن عيناها تسعفانِها لتحيطَ بكلِّ الأزياء، والمناظرِ والممثلين، والأشجارِ المرسومةِ التي كانت تهتزُ إذا اقتربَ منها أحدٌ، والقلنسواتِ المخمليةِ، والأوشحةِ، والسيوفِ، وكلّ تلك الأشياءِ الخياليةِ التي راحت تطفو مع الأنغامِ المنسجمةِ وكأنها تحلّقُ في جوّ عالمٍ آخر”.
منذ زواج إيما بـشارل بوفاري وجدت نفسها متورطة في حياة زوجية لا تشبه ما كان في تصورها الحالم عن الزواج، وهنا نجد أن فلوبير يقدّم لنا حضورًا خاطفًا للقراءةِ في حياة إيما بوفاري، وهو يريد أن يشير إلى أن علاقة إيما بالقراءة لم تنقطع بعد زواجها، وأيضا يستخدم القراءة كَدلالة على تنافر الهوايات بين الزوجين، ولكن الأفدح من كل ذلك أنها لم تكن تُحدّثهُ عمّا تقرأ لرغبةٍ في تقريب المسافة بينها وبين زوجها وللمشاركة في الهواية؛ ولكن “لأنه إنسانٌ، له أذنٌ تسمعُ باستمرار”، وأنه في مقامِ “كلبِها، وحطبِ المدفأةِ، وبندولِ الساعة”، التي كانت تبوح لهم بأسرارها. “وكانت تحدّثُهُ أحيانًا عن شيءٍ ممّا تقرأُ، كَفقرةٍ من روايةٍ، أو مشهدٍ من مسرحيةٍ جديدةٍ، أو حادثٍ من أنباءِ الطبقةِ الراقيةِ المنشورةِ في الصحفِ. فقد كانت تَرى أنّه -على أيةِ حال- إنسانٌ، له أذنٌ تسمعُ باستمرارٍ، ولهُ استعدادٌ للموافقةِ دائمًا على ما يُسمعُ.. بل إنها كانت تبوحُ بأسرارِها لكلبِها، ولحطبِ المدفأةِ، وبندولِ الساعة”. وفي مشهدٍ آخر نجد أن فلوبير يضع القراءة حاضرة في المشاهد التي تجمعها بزوجها، ويُسرّبُ لنا مشاعر إيما الدفينة تجاه شارل، وكيف أن القراءة تنقذها من رتابةِ ذلك الكائن، “كانَ شارل يهوى الحديثَ إلى جوارِ المدفأةِ، ولا يكادُ يكفُّ. وكانَ التعجّلُ في انتظارِ نهوضهِ يُفري فؤادَها، ولو واتيت نظراتُها قوةً لرفعتْهُ من مكانِهِ وطوّحت بهِ من النافذة؛ ولكنّها كانت لا تلبثُ أخيراً أن تشرعَ في التأهبِ للنوم، ثم تتناولُ كتابًا وتأخذُ في مطالعتِهِ في هدوءٍ، كأنما هي تستمرئُ القراءةَ”.
لقد كانت “إيما” تبجّل مؤلفي الكتب؛ بل تبجّل من لديه هواية القراءة، ولهذا تساءلت “لماذا لم تحظَ بزوجٍ ولو من أولئك الذين يقضونَ الليلَ بين الكتبِ؟”. وهنا حاولت أن تقرّب وتجذب زوجها شارل إلى عالمها في القراءة؛ ولكن محاولتها فشلت، حتى وإن كانت جعلته يشتركُ في مجلةِ الخليّةِ الطبية؛ لكن شارل لم يكن مخلوقًا للقراءة، “وكان يقرأُ فيها بعضَ الوقتِ عقبَ العشاء، ولكنَّ دفءَ الغرفةِ، والاسترخاءِ الذي يدبُّ في الجسمِ أثناءَ عمليةِ الهضمِ، كانا لا يلبثان أن يسلما إلى النومِ بعدَ خمسِ دقائقَ، فيظلُّ مسترخيًا، وذقنُهُ معتمدةٌ على يديه، وشعرُهُ متهدلٌ كالعُرفِ حتى أسفلِ المصباح، وإيما ترقبُهُ، ثم تهزُّ كتفيْها”. شارل الكسول بدد رغباتها في أن يكون الزوج القارئ، بل إنه بدد ما هو أكبر من ذلك من خيالاتها، فقد كانت تريده أن يكون مؤلف كتاب “تشتهي أن يغدوَ اسمُ بوفاري ذائعًا، وأن تراهُ معروضًا عند باعةِ الكتب، ترددُهُ الصحافةُ، وتعرفُهُ فرنسا بأسرِها”.. “بيْدَ أنّ شارل لم يكنْ يعرفُ الطموحَ أبدًا”.
عندما يتحدّث فلوبير عن خيبات إيما العاطفية، يرى بأنها كانت تعتقدُ قبلَ الزواجِ بأنها قد وقعتْ في الحب، فلمّا لم تحصل على ما كانت تخالُهُ مرتبًا على هذا الحبّ من سعادةٍ، توهمت أنها كانتْ على خطأ. أحال فلوبير هذه الخيبات إلى الكتب التي كانت تقرؤها، وجعلها العامل الرئيسي، فنجده يتسلل الى دواخل إيما، وما كانت تهجسُ به من أسئلةٍ “وأخذت تسألُ نفسَها عمّا تعنيهِ عباراتُ النشوةِ والعاطفةِ والهيامِ التي كانت تقرؤها في الكتبِ”. وهذا التذكر للكتب عند إيما يستحضره فلوبير في أكثر من موقع في الرواية، فـإيما تسترجع ما قرأته في الكتب سواء أكانت سعيدة، أم في حالة من الخذلان، “وأخذت ذرى الأحاسيسِ تومضُ تحتَ أفكارِها، وبدا لها كيانُها العاديُ بعيدًا، منخفضًا في الظلماتِ التي كانت تتخللُ تلك الذرى. إذ ذاك أخذتْ تتذكرُ بطلاتِ الكتبِ التي قرأتْها”. لقد شكّلت الكتب حيزًا مهمًا في حياتها وفي خيالاتها، فهي تقارن بين ما يحدث في واقعها، وبين ما كانت تحلمُ من خلال قراءتها، “في ذاتِ يومٍ، افترقا في ساعةٍ مبكرةٍ، وفيما كانتْ تسيرُ وحدَها في الطريق، لمحتْ جدرانَ الديرِ الذي تعلمتْ فيه، فسارعتْ تجلسُ على مقعدٍ عامٍ تحتَ إحدى شجراتِ الدردار. ما أهدأَ الفترةَ التي قضتهْا في الدير، وما أنعمَها! كم كانتْ تتوقُ إلى تلك العواطفِ الجياشةِ التي كانتْ تحاولُ أن تتصورَها على ضوءِ الكتبِ”. إن علاقة الكتب والأحلام عند إيما بوفاري علاقة وطيدة، وغالبًا ما يجعل فلوبير هذه العلاقة مساحة خصبة للتخيل “وابتاعت أوراقًا للكتابةِ، وأوراقَ نشاف، وريشةً، ومظاريفَ وورقًا للرسائلِ، إن لم يكنْ ثمةَ مَنْ تكتبُ إليه.. وكانت تنفضُ الغبارَ عن الرفِ، وتتطلعُ في المرآة، ثم تتناولُ كتابًا فلا تلبثُ أن تراودَها الأحلامُ بين سطورهِ، فتشغلُ عنه ويسقطُ بين ركبتيها”.
في علاقة إيما بالكتب لم يكتفِ فلوبير بذكر علاقتها بالقراءة فحسب؛ بل وصف هيئتها وطقوسها أثناء القراءة: “واختارت شالًا من إبداعِ شيلان لوريه، واعتادتْ أن تعقدَهُ حولَ خصرِها على الثوبِ الكشميري، ثم تغلقُ النوافذَ، وتستلقي على أريكةٍ، وفي يدِها كتابٌ”، وكذلك فلوبير يذكر أمر استعارتها للكتب: “ومن ثمّ اشتركت في مكتبةٍ تعيرُ الكتبَ. بل إن الصيدليّ هيوميه عرض عليها أن تستفيد من مكتبته فقال: «هل للسيدةِ أن تشرّفنيَ بالإفادةِ من مكتبتي الخاصةِ، إنّ لديَّ -تحتَ تصرفِها-مكتبةً تضمُّ خيرةَ المؤلفينَ، مثل: فولتير، وروسو، ودوليل، وولتر سكوت، وصحيفةِ «صدى الأدب» … إلخ، كما أنّني أتلّقى صحفًا كثيرةً، بينها «منار روان» اليوميةُ”. وذهب فلوبير إلى وصفِ تطوّر حالتها مع القراءة إلى قراءة جادة، تبحث عن المعرفةِ في علوم شتى، مثل التاريخ والفلسفة، وهو تحوّل في نوعية واهتمام إيما، ولكن هذا التحوّل كان رهينة المزاج، وليس الولع الحقيقي بالمعرفة: “وأرادتْ أن تتعلمَ الإيطاليةَ فابتاعتْ معاجمَ، وكتابًا في النحوِ، وكميةً من الورقِ الأبيضِ، وجرّبت القراءةَ الجديةَ في التاريخِ والفلسفة. وكان شارل يستيقظُ مجفلًا أثناءَ الليلِ أحيانًا، ظانًا أن أحدًا يُناديه لإسعافِ مريضٍ، فيُغمغمُ: ها أنا ذا قادمٌ، ثم يفطنُ إلى أنّ ما سمِعَ لمْ يكنْ سوى صوتِ عودٍ من ثقابٍ أشعلتْهُ إيما؛ لتوقدَ المصباحَ”.
وعندما استولت على إيما حالة من التديّن بوفاةِ أمها، تولّعت كَعادتها بإحدى هواياتها، ففي أوقات أزماتها الحياتيّة تخترع لها اهتمامًا جديدًا، ولكن هذه المرة انحازت لقراءةِ الكتب الدينية. وعندما لاحظ القسُّ اهتمامها بقراءةِ ذلك النوع من الكتب خشيَ عليها من فرطِ تحمسِها إلى التخبط بين البدع والمغالاة؛ لأنه يرى بأنها لا تفقه كثيرًا بهذه الأمور، وقد بادر بالكتابةِ إلى السيد بولار -بائع كتب المطران-يسأله أن يوافيه بما “يصلح لِسيدةٍ جمّة الذكاء”، وذلك بحسب تعبير القسُّ عن إيما بأنه يراها جمّة الذكاء. الطريف في الأمر أن فلوبير يصف ردّة فعل البائع، ونوعية الكتب التي أرسلها بهذا الوصف الطريف، “وفي غير اكتراث -كما لو كان يرسل سلعًا لزنوج-حزم المكتبي كل الكتب الدينية التي كانت مقروءة إذ ذاك، دون تمييز، فإذا هي بعض الكتب الموجزة لتعليم الدين عن طريق الأسئلة والإجابات، وبعض النشرات التي كُتبت بأسلوب متجهم على طريقة مسيو دي ميستر، وبعض الروايات ذات أغلفة وردية، وأسلوب معسول، من وضع رجال الأكليروس الشعراء الفرسان، أو التائبين ذوي الجوارب الزرقاء. فكان بينها: فكّر في هذا جيدا، ورجل الدنيا عند قدمي مريم، بقلم السيد…، ومزينا ببعض الدرجات الكهنوتية، وأغلاط فولتير، ليفيد منها الشباب”. لكن فلوبير لا يترك الأمر عند تسمية أسماء الكتب التي أرسلها بائع الكتب؛ بل توغّل في تفاصيل ردّة فعلها وهي تقرأ، “ولم يكن ذهن مدام بوفاري قد صفا إلى الدرجة التي تجعلها تعكف جادة على أي شيء، فضلًا عن أنها بدأت قراءة هذه الكتب في عجلةٍ لا تسمح باستيعابها. فسرعان ما ضايقها فقه أصول الدين، وساءتها حدّة المؤلفات الجدلية؛ لإمعانها في مهاجمة أناس لم تكن تعرف عنهم شيئًا. أما القصص الدنيوية الموضوعة لأغراضٍ دينية، فقد لاح لها أن تأليفها قام على جهل بالدنيا، حتى أنها جعلت تنفر من الحقائق التي وضعت لإثباتها”. ولأن فعل القراءة لدى شخصية إيما هو جزء من شخصيتها ومن ردودِ أفعالها، فإن فلوبير يصف حالتها وهي تختلق الوهم والأسى بتأثرها بالكتب الدينية إلى حد أن الكتاب ينزلق من يدها، “ولكنها -مع ذلك-واظبت على القراءة. وكانت -إذا انزلق الكتاب من يدها-توهم نفسها وقد تملكتها أرق ألوان الأسى الكاثوليكي التي يمكن أن تصل إليها روح متسامية”.
لقد تطوّر أمر القراءة مع إيما إلى حد المنع من القراءة، فحين أصابتها خيبة الأمل من رودلف، الذي أنهى علاقته بها وابتعد عنها، وقد أصابتها خيبة الخذلان تحديدًا عندما قرأت رسالته التي يعتذر فيها عن الوفاء بوعوده وعدم الرحيل معها، حينها تألمت واشتد عليها المرض، ولم ترضَ بالعلاج، فقالت مدام بوفاري الأمّ لابنها شارل: “أتعرفُ ما الذي يلزمُ لزوجتِك؟ إنها تحتاجُ إلى أن تنهمكَ في عملٍ يدويٍ يشغلُها، ولو أنها كانتْ مضطرةً -كثيرًا كغيرها-إلى كسبِ عيْشها، لما راودتْها هذه الأوهامُ التي تُواتيها من كثيرٍ من الأفكارِ التي تحشدُ بها رأسَها، ومن البطالةِ التي تعيشُ فيها”. لكن شارل الزوج الطيب أجابها: “ولكنها دائمًا مشغولة. فقالت مدام بوفاري الأمّ، والتي كانت تفهم دواخل شخصية إيما حق المعرفة، وكأنها على دراية بما تفعله في علاقتها العاطفية: آهٍ، حقًّا؟ مشغولة بماذا؟ قراءةُ الرواياتِ، والكتبُ الرديئة، والمؤلفاتُ الموضوعةُ ضدّ الدين، والتي يسخرُ مؤلفوها من القسسَ بأقوالٍ مقتبسةٍ عن فولتير. كلّ هذا يشتتُ العقلَ يا بنيّ المسكين! أيّ إنسانٍ بلا دينٍ لا بدّ أن ينتهيَ أسوأَ نهاية”، ومن ثم استقرّ الرأيُ على منعِ إيما من قراءةِ الرواياتِ.
ويكرّس فلوبير هواية القراءة عند مدام بوفاري، التي كانت أكثر هواياتها المتعددة حضورًا في الرواية. فقد كانت “إيما” تمتلك عدة هوايات، ولكن لم تكن مخلصة لأي منها: “الحياكة، الرسم، القراءة، طباخة ماهرة، العزف الموسيقي”. ومع كل هذه الامتيازات إلا أنها لم تنجُ من الضجرِ والقلق، والانحياز لما هو بعيد عنها، وكان زادها في ذلك: الأمنيات والخيالات والأحلام. لذا يصف لنا فلوبير هذه المزاجيّة في شخصية إيما مع هواياتها: “ولكن قراءاتِها لمْ تكنْ أسعدَ حظًا من تطريزِها، كلُها لم تحظَ بأكثرَ من الخيوطِ الأولى، ثم كانت تُلقي بها في الصوانِ، وتشرعُ في تطريزِ غيرِها، لتلقيَ بها بدورِها. وهكذا لم تكنْ تشرعُ في قراءةِ كتاب حتى تطرحُهُ جانبًا وتتناولَ سواهْ”.
عندما قال شارل بوفاري إن إيما تفضّل أن تقضي وقتها في القراءة على الحركة وممارسة الرياضة، لم يكن يدور في ذهنه أن ليون سوف يلتقط هذه العبارة ويخلق من تفضليها للقراءة عالمًا خصبًا بينهما، وأن تلك الهواية المشتركة سوف تقودهما إلى ما هو أبعد من ذلك: “إنّ زوجتي لا تحفلُ بهذه الأعمالِ، ومع أنّهُ أُشيرَ عليها بالرياضةِ والحركةِ، إلا أنهّا تُؤْثِرُ أن تقضيَ الوقتَ في غرفتِها تقرأ. فقالَ ليون: إنّها مثلي. فأيُّ شيءٍ أجملُ في الواقعِ من أن يقضيَ المرءُ المساءَ مع كتابٍ إلى جوارِ المدفأةِ، والريحُ تلفحُ زجاجَ النافذةِ، والمصباحُ يشتعل؟ ومضى يقولُ: إنّ المرءَ لا يفكّرُ في شيءٍ إذْ ذلك، والساعاتُ تمرُّ متلاحقة ونحنُ ننتقلُ -دونَ أن نتحركَ من مكانِنا- بينَ بلدانٍ نخالُ أنّنا نراها، وأفكارُكَ تختلطُ بالخيالِ لترسمَ الدقائقَ، ولتوضّحَ لكَ معالمَ المغامراتِ، إنها تندمجُ في الشخصياتِ حتى لتخالُ أنّ قلبَكَ هو الذي يَنبضُ تحتَ ثيابِها”.
وكَعادةِ قرّاء الكتب يدور بينهم الحديث والنقاش في بدايات المعرفة عن المفضلات في عالم القراءة، لهذا نجد أن ليون ينحاز إلى قراءة الشعر ويرى أن كتب النثر “لا تمسُّ القلبَ وتنحرفُ عن الغايةِ الحقيقيةِ للفن”، بينما تميل إيما الى قراءة الروايات، وفي سرِّ تفضليها لقراءةِ القصص نجد أن فلوبير يكشف لنا شيئا من تصوّر إيما عن الحبّ، وأن ما تفضّله في القصصِ تفضّله في الحياة؛ فهي تهيمُ بالقصص التي تُبهر الأنفاس وتثير الخوْفَ، وتكرُهُ الأبطال العاديينَ، والمشاعرَ المعتدلةَ، على نحوِ ما تَرى في الطبيعة. إن هذا التصوّر يتوافق مع ما قاله فلوبير عن شخصية إيما، وكيف كانت نظرتها للطبيعة: “ولما كانت قد ألِفَتْ المناظرَ الهادئةَ، فقد أخذت تتجهُ إلى نقيضِها، إلى المناظرِ المثيرةِ.. ومن ثمّ لم تعدْ تحبُ في البحرِ إلا أنواءَهُ، ولا تعجبُ بالخضرةِ إلا منتشرةً وسط الخرائبِ. كان لا بدّ لها من الحصولِ على منفعةٍ شخصيةٍ من الأشياء، فلم تكنْ ترى نفعًا لما لا تجدُ فيه غذاءً مباشرًا لقلبِها، إذ كان مزاجُها حسّياً عاطفياً، أكثرَ منه فنياً. وبعبارةٍ واحدة: كانت تبحثُ عن العاطفةِ أكثرَ ممّا تبحثُ عن المنظر”. ولهذا جذبها ليون عندما حدّثها بتلك الرومانسية عن قراءة الكتب، “أَوَ لمْ يحدثُ لكِ قطُّ أنْ عثرتِ في كتابٍ على فكرةٍ مبهمةٍ كانتْ قد راودتك، أو على صورةٍ معتمةٍ تعودُ إليكِ من آفاقٍ بعيدةٍ وكأنّها تعبّرُ عن أدقِّ أحاسيسِكِ؟ فأجابت: لقد شعرتُ بهذا فعلًا. قالَ: هذا هو السّرُ في أنّني أحبُّ الشعراءَ، فإنّي أجدُ الشّعرَ أكثرَ رقّة من النثرِ. إنّهُ يُشجي المرءَ بسهولةٍ حتى يُبكيهِ. قالتْ إيما: على أن الشّعرَ لا يلبثُ مع طولِ الوقتِ أن يثيرَ السّأمَ. إنّني الآنَ أَهيمُ -على العكس-بالقصص التي تُبهر الأنفاس وتثير الخوْفَ، وأكرُهُ الأبطالَ العاديّينَ، والمشاعرَ المعتدلةَ، على نحوِ ما نَرى في الطبيعةِ”.
إذا كان منظر المكتبةِ والكتبِ في منزلِ إيما يجعل رودولف يتهكّم ويسخر، “إنّ منظرَ المكتبةِ، والمكتبِ، والغرفةِ بأسرها، كانت لا تلبثُ أن تستثيرَ روحَ الفكاهةِ لديه”، فإن ليون يُمثّل حالة النقيض عند إيما؛ فعندما تعمّقت العلاقة بينهما استحضر فلوبير القراءة كَحالةٍ رومانسية تجمع الطرفين، وكيف كان ليون يقرأ لإيما: “كان يقرأُ لها بصوتٍ مرتفعٍ، وهو عاري الرأسِ، وقد جلسَ فوقَ مقعدٍ من الأغصانِ الجافةِ، وريحُ المروجِ الرقيقةُ تهزُّ صفحاتِ الكتابِ وأزهارَ الخميلة”. وفي مشهدٍ آخر يصف فلوبير هذه الثنائية التي تجمع بينهما لحظة القراءة، ولكن هذه المرة يجعل المشهد أكثر عمقًا، فقد كان دقيقًا في وصفهِ لإيما،وهي تنصت لليون وهو يقرأ “ويخلو إبريقُ الشاي، وليون ماضٍ في القراءة، وإيما تنصتُ إليه، وهي تعبثُ بمظلةِ المصباحِ في حركةٍ آليةٍ، وتحدّقُ في الرسومِ المنقوشةِ عليها، من عصافيرَ في عرباتٍ، إلى راقصين على الحبالِ ممسكينَ بالعصيّ التي يحفظونَ بها توازنَهم. وكانَ ليون لا يلبثُ أن يمسكَ عن القراءةِ ليشيرَ بإيماءةٍ إلى النائمين، وإذ ذاكَ يشرعان في الحديثِ بخفوتٍ، فكان هذا الحديثُ يبدو لها أعذبَ من أيّ حديث؛ لأنّ أحدًا لم يكنْ يسمعُهُ”. ونتاج لهذه الهواية المشتركة اقتربا كثيًرا من بعضهما البعض وعبّر فلوبير عن هذه المرحلة: “وهكذا توثّقت بينهما رابطةٌ من نوعٍ خاص، وأخذا يتبادلان الكتبَ والرواياتِ”.
لكن هذه الرومانسية لا تستمر طويلًا، فتحضر القراءة مرة أخرى، ولكن هذه المرة من خلال شخصية ليون، وهذا الاستحضار لم يكن يريد تعميق حضور القراءة عند ليون بقدر ما كان يرغب أن يربط ما بين القراءة وتذكّر إيما، وتضاؤل هذا التذكر يؤكد بأنه لم يعد قادرًا على تلبيةِ تطلّب إيما العاطفي الشديد؛ لهذا يمنحنا فلوبير هذه الإشارة: “وكثيرًا ما كانَ يمكثُ في غرفتِهِ للقراءةِ، كما كانَ كثيرًا ما يتركُ كتابَ القانون يهوي إلى الأرضِ -وهو جالسٌ في بعضِ الأمسياتِ تحتَ أشجارِ الزيزفونِ في حدائقِ لوكسمبورج- حينَ تعاودُهُ ذكرى إيما.. على أنّ هذا الشعورَ لم يلبثْ أن تضاءَلَ، وأخذتْ تعدو عليهِ شهواتٌ أخرى”. ولا يكتفي فلوبير بوصفِ هذا التضاؤل العاطفي عند ليون في محبتهِ لإيما بوفاري؛ ولكنه يُضيف مشهدًا آخر يعزز فيه هذا التطلب البوفاري، وكَإشارةٍ أخرى تعزز بأن إيما أصبحت باهتة عند ليون، الذي كذب عليها، ونقل لها قصيدة من إحدى الكتب مُدعيًا أنها من نظمه، “وسألتْهُ أن ينظمَ بعضَ الأشعارِ، أشعارًا عنها، «قصيدةَ غرامٍ» تكريمًا لها، ولكنهُ لم يفلحْ قطّ في الوصولِ إلى كلمةٍ للبيتِ الثاني تنسجمُ مع القافيةِ، وانتهى بهِ الأمرُ إلى أن نقلَ قصيدةً من أحدِ الكتب، لا ليرضيَ غرورَهُ؛ وإنما رغبةً في إرضائِها”. بعد هذا الرصدِ والتأمل لحضور القراءةِ في رواية مدام بوفاري، نجد أن فلوبير لا يقدّم فعل القراءة كَواجهةٍ أساسية تُمثّل شخصية إيما، أو أن إيما تلك الشخصية المثقفة؛ وإنما قدّمها في صورة هواية تأنس لها وتمارسها كَأي امرأةٍ في هذه الحياة. وأننا عندما نتأمل الحضور المتناثر للكتب وللقراءة في أحداث الرواية، نجده حضورًا دراميا مرتبطًا بتصاعد الأحداث وممتزج بشخصية إيما. وكذلك نجد سيرة القراءة تحضر في فصولٍ متباعدة من الرواية وليس في فصل محدد، وهذا يمنحنا مدى احترافية فلوبير في رسمِ هذا البعد في شخصية إيما التي لها مزاجها، ورؤيتها في القراءة كَجزءٍ من صميم شخصيتها، التي لا تشبه أي شخصيةٍ روائيةٍ أخرى. ومن هنا نتبين أن فعل القراءة عند إيما لا ينطوي على بعد الخيالات فقط، وهي الصورة النمطية التي استقرت في أذهان الكثير من قرّاء الرواية؛ وإنما يرتبط ببهجتها، وحزنها، وألمها، وتقلّبات مزاجها، ولهذا كانت قراءتها متعددة في أجناس إبداعية مختلفة منها الروايات، وكتب الدين وأيضًا كتب التاريخ والفلسفة، وكان لكل جنسٍ من تلك الأجناس توقيته في القراءة المرتبط بالحدث الدرامي، وقد نختزل ذائقة إيما بوفاري في قراءة الكتب كما وصفها فلوبير: “كان مزاجُها حسّيًا عاطفيًا، أكثرَ منه فنيًا”.