بالرغم من أن اللسانيين والسيميائيين تعرضوا للتواصل الجسدي إلا أنهم سعوا دائمًا، خاصة البنيويين منهم، إلى إخضاع التواصل الإشاري والحركي للجسد إلى القواعد التي ينبني عليه التواصل اللساني الشفهي. وهذا المقال هو إعادة النظر من منظور أنثروبولوجي في مركزية اللغة في التواصل وتحليل أنثروبولوجي لطابعهما التفاعلي في بناء التفاعل الاجتماعي (المترجم).
إن الحركات المتعددة للجسد خلال التفاعل بين الأفراد (من حركات وإيماءات ووِضعات، ومن مسافة وتنقل…)، هي طقوس متجذرة في البنية العاطفية للأفراد. فهي، كما الكلام المنطوق أو الصمت المتخلل لمحادثة، ليست محايدة البتة أو تتسم باللامبالاة، إذ هي تفصح عن سلوك أخلاقي إزاء العالم، وتمنح للخطاب وللقاء هيئة تزيد من دلالتها. من الأكيد أن هذه السيرورة تتطلب أيضًا الصوت والإيقاع والإلقاء[1]، ولعبة النظرات…، فلا يفلت أي جزيْء من الذات المتكلمة أو الصامتة من توكيد بنيته العاطفية. إننا نولي الاهتمام هنا للمقطوعة الحركية والإيمائية التي تجسّد العلاقة مع الناس الآخرين. فبداهة حضور الغير في التفاعل ليست فقط حضور الكلام، وإنما أولًا حضور جسده ومواقفه ووِضْعاته وسلوكه… يقول ميرلوبونتي: «يُقال بأن التسجيل الدقيق لمحادثة بدت لنا رائعة يمنحنا في ما بعد الانطباع بفقرها. فما ينقصها هو حضور من كانوا يتحدثون، والحركات والهيئات والإحساس بحدث ينساب أمامنا وبارتجال مستمر»[2]. فما بقي من المبادلات الكلامية ليس سوى كلام بلا لحم ودم ومن غير وجه، ورياح العالم انمحت لصالح خطاطة. من ثمّ، فإن فهم التواصل، يعني أيضًا فهم الطريقة التي تساهم بها الذات فيها بكامل جسدها وحسب مزاج اللحظة.
اشتقت الكلمة اللاتينية «gestus» من الجذر «gerer»، الذي يعني «عمل» و«حمل». وحين نقول عن شخص في الفرنسية «il a fait un geste» (قام بعمل) لصالح خصم أو لصالح قضية معينة، فإننا نعني بذلك أن ذلك العمل ليس فقط حركة جسدية اعتباطية لا معنى لها، بل إنها حركة أو عمل يقوم بوظيفة دالة ويساهم في فعالية رمزية تتحكم في كل عمل، أي تحريك العالم بالعلامات. الحركة هي صورة كل فعل أو عمل، وهي لذلك ليست مُصاحَبة زُخرفية للكلام. تشكل التربية الجسد، وتُنمْذِج الحركات وشكل الوجه، وتعلمنا الطرائق الجسمانية للتلفظ باللغة. هذه العمليات تعادل التصريح بالمعنى الموجه للذات كما للغير. إنها تفترض بداهة ما هو مع ذلك مبني اجتماعيًا. ينسى الفرد، في حركات التواصل، أن الكلام والحركات التي تنتج بشكل غير واعٍ قد تنمذجت في علاقته بالغير. فهو فورًا يوحد جسده مع كلامه وحركاته، ويمسك بكلام الغير وحركاتهم إذا ما هم كانوا ينتمون إلى جماعته، حتى وإن لم يكن قادرًا دومًا على أخذ المسافة مع حركاته نفسها ولا تحليلها، أو تفسير لماذا أحس لدى الغير بعدم التوافق بين كلامه وتعبيره الجسدي. من الأكيد أنه يحصل له أن يخطئ بهذا الصدد، وأن يصادف سوء التفاهم، فالتواصل لا يكون أبدًا هو الشفافية المحقَّقة، إذ هو يقتضي أيضًا الغموض واللَّبس.
كل نظام رمزي يربط لدى الفرد بين ملكة فهم العالم وملكة الفعل فيه. فالأنظمة الرمزية للمجتمع نفسه تتمازج وتمنح معنى وقيمة للعمل البشري، كما للأحداث اليومية في وسط اجتماعي معين. وهي أنظمة تجعل الإنسان في موقع الفاعل من خلال مكان وزمان محمليْن بالدلالة. الإيماءات والحركات والهيئات والبعد عن الناس الآخرين وطريقة لمسهم أو تفادي ذلك حين الحديث إليهم، والنظرات، هي كلها مواد للغة تُكتب في الفضاء والزمن. إنها تحيل إلى نظام للدلالات. وهي تمدّد بحركيتها الثمينة الإشارات التي يمنحها الصوت مسبقًا. وحتى حين يلزم الصوت الصمتَ تظل حركات الوجه والجسد موجودة، لتشهد على الدلالات التي من صميم وضعية المواجهة. إنها تنتمي لنظام رمزي، وهي علامات تعبيرية تمنح نفسها للنظر والفهم، أو تنصاع للافتراض ما دامت ليست أبدًا شفافة لدلالتها. تتمتع حركات الجسد بالتباس يحولها أحياًنا إلى شاشة لعرض المتخيل القابل للكشف عن استيهامات الناس. والفاعلون الاجتماعيون يتوفرون، في قلب الجماعة الثقافية نفسها، على سجل جسدي مشترك يمزج بين الإدراكات الحسية والإدراكات الحركية، وبين الإيماءات ووِضْعات الجسد. ثمّة بنية رمزية جسدية تترجم خصوصية العلاقة بالعالم التي تعيشها جماعة ما أو قرابات خصوصية، تكون غير محسوسة غير أنها متجذرة فيها بعمق، وتتسم بتلوينات لا تُحصى، تبعًا للانتماء الاجتماعي والثقافي والجهوي وحسب الأجيال وغير ذلك. يسكن الفرد جسده تبعًا للتوجهات الاجتماعية والثقافية التي تخترقه، غير أنه يؤديها بطريقته وحسب مزاجه وقصته الشخصية.
يفترض التواصل مع الغير المقدار نفسه من الكلام وحركات الجسد، كما يحتاج إلى استعمال الفاعلين الاجتماعيين للمكان والزمن. والمطالبة السائدة برِفْعة «اللالفطي»، في التفاعل بين الناس أمر عبثي مثله مثل إنكاره. يقول ر. بوردوستيل ساخرًا: «الحديث عن التواصل غير اللفظي يكون له معنى بمقدار حديثنا عن فسيولوجيا غير قلبية». وحين نعينّ هكذا مجموع السيرورات الرمزية المستقلة عن الكلام في المبادلات الاجتماعية، فإن ذلك يكون صارمًا مقدار صرامة أن نسمي ما ليس سمكة حمراء مجموع السمك أو الطيور التي ليس لها ذلك اللون. فهذا التحديد لا معنى له لأنه يصف موضوعه بما هو ليس عليه، وهو مجال شاسع، لا بما هو عليه. ثمّة مع ذلك حكم قيمة يعبر عن نفسه في ذلك، يتعلق باعتبار الرمزية الجسدية شيئًا تابعًا، بجعلها فقط شرحًا سطحيًا للكلام المنطوق، الذي يُفترض فيه أن يكون الأول في تراتبية المعنى. واصطلاح «التواصل غير اللفظي»، يفقد قيمته بتباين وتعدد الأبعاد التي يزعم أنه يجمع بينها مسبقا، من كتابة ولغة وعلامات ووِضْعات وحركات وإيماءات وصوت وقرب وغير ذلك[3]. الجسد ليس الجانب التابع الخدوم للغة وإنما شريكها الكامل في حركية المعنى الدائمة الذي يضفي طابع المعقولية على الروابط الاجتماعية. يقول مَثَلٌ للطوارق: «الحركات هي طبول ماء الكلام».
حركات الوجه والجسد تجعل الفرد يولد في العالم، غير أنها تجاوزه دومًا، لأنها أيضًا ما تتقاسمه فئة اجتماعية ما. ثمّة مجال تعبير شاسع يكون قابلًا لاستقبال صنف من العواطف وترجمتها في أعين الغير، جاعلًا منها أمورًا مفهومة وقابلة للتواصل. حركات الوجه والجسد هي ميدان التحولات الكبرى والدائمة مع أنها حركات لا تتغير في انتظامها إلاّ بشكل طفيف. إنها تغدو بسهولة مشهدًا بما أنها تجعلنا نقرأ العلامات التي تفصح عن العاطفة وعن الحصة التي تندرج منها في التفاعل بين الأفراد. وهي حركات تنصاع للالتباس بما أن الذات لا تكون أبدًا تعبيرًا عن الكوجيطو الخاص بها. ليس ثمّة من طبيعة تغشى الذات لتعبر عن نفسها من خلالها، وإنما ثمّة طريقة معينة تكشف بها عن نفسها وتنفلت بها من خلال لعبة العلامات والإشارات.
وما دامت الذات منقسمة بفعل اللاوعي، فهي لا تتحكم كليًا في ما تعبر عنه بملامحها أو بسلوكها ومواقفها. ونظرة الغير ليست أيضًا طبيعة تأتي لفرز الحبوب من تبنِ حقيقةٍ تعبيريةٍ تكون قد أفلتت من الفرد. فهذا الأخير يتعرض للغموض واللبس ولحالات سوء الفهم الناجمة عن الإسقاط المتخيل للغير على المشاعر التي يُفترض فيه أن يكون قد أبان عنها من غير قصد أو رغب في إخفائها. يقول ميرلوبونتي: «إن معنى الحركات ليس معطىً مسبقًا وإنما معطىً مفهومًا، أي يمسك به المتفرج من خلال فعله (…). وتوصيل حركات الجسد أو فهمها يتمّ بتبادلية مقاصد وحركات جسد الغير، وحركات جسدي والمقاصد البيّنة في سلوك الغير (…). إن حركة الجسد تكون أمامي مثل سؤال، فهي تشير لي ببعض النقط المحسوسة من العالم، وتدعوني إلى مسايرته»[4].
والاستيهام الذي يريد للجسد أن يعبر عن حقيقة تنفلت من تحكم الفرد وتكشف عنه في عرائه، هو وهم شائع عن القوة العظيمة التي تمارَس على الغير، وتكون ملائمة للتلاعب به[5]. ثمّة متخيل يتخلل إيماءات الجسد وحركاته، ويمنح كثافته للحياة الاجتماعية، كما يملأ أيضًا مشهد الدلالات الخاصة بالمتفرج. تعبر الحركات والإيماءات والوِضْعات عن العواطف وتنجز الأفعال وتشدّد على عبارات معينة أو تغني معناها، إذ هي تبرز دومًا شحنة المعنى للذات وللناس الآخرين. والوجه والجسد يثيران التفكير لدى من يدركونهما، من خلال الإشارات.
لقد كان الافتتان كبيرًا بمقارنة الرمزية الجسدية والرمزية اللغوية. فقد سعى بعض الباحثين بصرامة وعناد إلى التنطُّع لهذه المهمة. والرمزية الجسدية كما اللغوية توجد إزاء العالم في علاقة قريبة من الناحية البنيوية، ولا يمكن الفصل بينهما خلال عملية التفاعل بين الأفراد، لأنهما تشكلان نظامين من العلامات تساهمان بشكل متزامن في تمرير المعنى. كل خطاب يعبئ الجسد واللغة بشكل ضروري متبادل، ويفترض بالأخص عروة وثقى وتواضعية بين تدخّل الواحد منهما والآخر، حتى لو كانت تدقيقات الصوت العديدة إضافة لكثافة المعنى الذي يبتغى تمريره.
حين تكون اللغة قد اكتُسبت، تُستعمل بوعي غير متشدّد، وفي نسيانٍ لقواعد النحو أو التركيب والصرف. إنها تنساب من مَعينها. تتتابع الكلمات والجمل بشكل منطقي لبناء المعاني المأمولة بهذا القدر أو ذاك من السعادة والفرح. الأمر نفسه يسري على الجسد الذي ينفلت من الانتباه ويستجيب لمظاهر المحيط بنوع من البداهة. ثمة ذكاء للجسد كما ثمة جسدانية للفكر ليسا سوى نتاج لوجود الذات الفردية التي تنتمي إلى بدنها كما ينتمي بدنها لها، في علاقة ملتبسة، غير أنها تشكل بالضبط القدر البشري[6].
حين تسير الذات الإنسانية في العالم، لا تكون وعيًا خالصًا، فجسدها يكون دومًا عبارة عن وجيهة، وهو يختلط بها من غير أن ينفصل عنها لحظة. الجسد هو «العادة الأولية، تلك التي توجه كافة العادات الأخرى والتي بواسطتها تتفاهم كافة العوائد»[7]. إنه «مشروع عن الألم»، إذ إن الحركة تكون قبْلًا معرفة وحسًا واقعيًا. والإدراك، كما القصد والفعل عمليات تتشابك في العلاقات العادية مع الناس الآخرين في بداهة لا يلزم أن تنسينا التربية التي تكون مصدرًا لها والألفة التي توجهها. الجسد ليس إذن مادة سكونية، خاضعة لتحكم الإرادة، وعائق أمام التواصل، بل هو يكون فورًا، وبآلياته الخاصة، ذكاء للعالم، ونظرية حية تنطبق على محيطه الاجتماعي.
تدرج هذه المعرفة المحسوسة الجسد في استمرارية مقاصد الفرد الذي يواجه العالم المحيط به؛ وهي توجه مبدئيًا حركاته وأعماله من غير ضرورةٍ لتفكير مسبق. والعدد الهائل من الحركات والأفعال التي تنسج ديمومة اليوم في الحياة اليومية، تتم من غير التفكّر العميق للكوجيطو، إذ هي تتسلسل طبيعيًا في بداهة العلاقة بالعالم. ثمّة ضرب من الاستمرارية بين الجسد والعالم، والتواطؤ يستمر طالما لم تأت حركة عشوائية أو سوء تفاهم أو عدم تفاهم ليعكر صفو التواصل. ذلك هو الطابع الأحدي monisme للحياة اليومية. بالمقابل، فإن الذات إذا كانت في مكان غريب، أو أحست بأنها مراقبة أو خشيت من القيام بخطأ أو أن تكون عرضة لسوء الفهم، فإنها تكون في مواجهة أمر ذي طابع ثنائي. فهي تتحكم في حركاتها بانتباه بالغ، وتمرّ من الفكر إلى الانعكاسية. الأمر نفسه حينما يجهد المرء في التكلم بلغة لا يتحكم في معطياتها. فكل عبارة ينطق بها تتطلب منه مجهودًا كبيرًا، وانتباهًا مسبقًا. بيد أن الشخص المتأثر في الحياة العادية لا يتساءل عن تأثره وعاطفته، حتى ولو سعى إلى التحكم فيها، فتلك العاطفة تكون مجسدة فيه، والناس الآخرون قد يقرؤونها في سلوكه. وإذا ما مدّ أحدهم يده للتحية، لا تتبدّد تلك العاطفة في التخمين في السلوك الواجب اتباعه، إلا إذا كان الأمر يتعلق بسلوك خصمه اللدود.
إذا كانت الرمزية الجسدية ترسم نظامًا للتواصل، ورابطا بين الذات والعالم، فهي تتميز عن اللغة بكون اشتغالها لا يتطلب التمفصل المزدوج الذي يسم اللغة[8]. اللغة تنبني من خلال تشابك منهجي بين الصوت والمعنى تبعًا لقواعد دقيقة من التأليفات سواءً في بلورة الشكل أو التلفُّظ. فالوحدات اللغوية (المونيمات)، تشكل في نسيجها الأولي وحدة في الشكل والمعنى يمكن استبدالها بوحدات لغوية أخرى. فكل وحدة صغرى دالة تكون قابلة بشكل منهجي للتعارض مع وحدة أخرى، وتبني بذلك فهما للرسالة لدى المخاطب، وبناءً لفكر المحاور الذي يجد بذلك وسائله الخاصة لبناء علاقته بالعالم. يأتي التمفصل الثاني للغة من المادة الصوتية التي تنبثق منها الوحدات اللغوية. فالوحدات الصوتية (الفونيمات)، تعتبر الوحدات الأصغر من الصوت، يمكن بالقوة المعارضة بينها صوتيًا وبين سلسلة وحدات صوتية أخرى ليست منطوقة بعد. فخلال تفاعل بين شخصين، ينبني المعنى تبعًا للسياق، مع التقدم في التلفظ بالجملة، ومن خلال العلاقات الاختلافية القائمة بينها وبين الوحدات اللغوية والصوتية، وحسب قواعد النحو، وبتعقد متزايد من اللفظ إلى الجملة إلى الخطاب، لكن بتنويعات عديدة تأتي مع تغير الصوت والإيماءات والحركات ولحظات الصمت… تجعل العناصر الدلالية والصوتية المميِّزة من اللغة نظامَ تواصل خصوصي، يكون حتى لو أخفق أحيانا في قول التعقّد أو اللبس في العلاقة بالعالم، مخصوصًا مع ذلك بالدقة وبالقدرة على التواتر وبالوفاء للمضمون الناقص بالنظر للرمزية الاجتماعية.
لا تتمثل المادة الدلالية للجسد في الصوت، فهي تتطلب الحركة والإيماءة والوِضعة والبصر والتنقل والبعد عن الغير أو عن الشيء، أي مظاهر موسومة بالغموض. والمشابهة بين اشتغال اللغة واشتغال الجسد هي منظور خاطئ ناجم عن كون الجسد واللغة نظاميْن رمزييْن. بيد أن طبيعتهما تختلف من الواحد منهما للآخر لأنهما لا يمارسان الدلالة بالطريقة نفسها. الجسد ليس لغة بشكل كامل. فإذا كانت اللغة نظامًا رمزيًا، فالأمر يسري أيضًا على حركات الجسد، لكن بقدر أكبر من التقريبية. ومسير الفرد خلال تعرجات حياته، والعلاقات المتعددة مع الناس الآخرين ومع محيطه، يقوم على القدرات الدالة لجسده مقدار قيامه على قدرات اللغة.
كل لغة تجرف في ممارستها الحركات والإيماءات، والتنظيم الدقيق للمكان والمدة الزمنية، التي تجعلها حية ومفهومة بشكل فوري ممن يمارسونها. وطقسية التواصل هي أيضًا طقسية لحركات الوجه[9] والجسد. إضافة إلى ذلك فإن حركات الجسد لا تختلف فقط بالنظر إلى الظروف الاجتماعية والثقافية، فهي موسومة بالوضعية التي تمنح للمذكر والمؤنث حسب الجماعات ومع تمييزٍ يعود في الغالب للعمر. وقد بيّن راي بوردويستيل[10] بالأخص الولاء الذي تدين به اللغة للإيماءات والحركات التي تتخلل التفاعل وتصاحبه أو تعدل من فحوى الكلمات الملفوظة. يعمد هنود الكوتندي في جنوب شرق كندا إلى تغيير حركاتهم الجسدية متى ما تركوا لغتهم الأم للتعبير باللغة الإنجليزية. وحين شاهد بوردويستيل فلمًا خاصًا بأحد رجال السياسة، وهو ف. لاغوارديا، العمدة السابق لمدينة نيويورك الذي يتحدث بطلاقة لغة اليديش واللغة الأمريكية، لاحظ أن هذا الرجل يغير إيماءاته وحركات جسده حسب كونه يتحدث هذه اللغة أو تلك. وحين يقطع الصوت عن الفلم ويرصد فقط الطريقة التي يستعمل بها الرجل جسده، يتعرف بسهولة على اللغة التي يتحدث بها لاغوارديا[11]. بل إن الاختلاف في تفعيل هذا النسيج الرمزي هو ما يثير انتباه الجماعة إلى الشخص الغريب عنها حتى لو كان يتكلم لغتها بطلاقة. فهو في امتداد حركاته وشكلها والمسافة التي تفصله عن محادثيه حين يتكلم، والطريقة التي بها يعبر عن عواطفه وفي وضعاته، تظهر بطرق عديدة علامات ولائه الأول لرمزية جسدية أخرى.
إن هذا التضامن الثقافي بين اللغة واستعمال الجسد، وهذا التشابك بين الكلمة والحركة، الدقيق (المقنّن) والغامض (الغني بسوء الفهم الممكن)، يبيّن أن تعلم لغة ما لا يتطلب فقط الذاكرة اللسانية أو القدرة على توليد الجمل، وإنما أيضًا وفي الآن ذاته تفعيلًا للكلام يستوجب الإيقاع ونبر الصوت وحركات الجسد والوجه وهيئات جسدية خاصة… يفرض امتلاك لغة منا على المرء أن يلج أيضًا الطرائق الجسدية للتلفظ بها أو سماعها[12]، وإلا فإن نبرة جسدية ما، وحركة غريبة نابعة من الفرق بين الجسد واللغة، سوف تكشف عن الأجنبي. لكن من الأكيد أن التمكن من الدقة الخاصة بنطق لغة أجنبية أمر أبسط من التمكّن من الدقة التي تصاحب حركات الجسد. فاللغة الأمّ تكون دومًا مضاعفة بجسد أمّ، ذلك الجسد الذي تعودت به الذات على عيش علاقتها الجسمانية بالعالم.
مع علم الحركية[13] ينطلق بوردويستيل من فرضية أن الحركات المتواترة والمختلفة التي تصاحب التبادل اللفظي تتوزع بشكل منتظم في داخل نظام من التعارض، حيث كل حركة وكل إيماءة تمتح دلالتها من اختلافها عن الحركات والإيماءات الأخرى التي قد تدخل في ذلك التبادل اللفظي. ففي لغة ما أو نظام حركات ما للمجتمع نفسه كل شيء يكون مناسبًا. هكذا فإن منهج اللسانيات البنيوية يقوم على تحليل حركات الجسد خلال التفاعل بين الأفراد باعتباره شكلًا آخر من اللغة يتطلب استعمالًا مفاهيميًا مغايرًا قائمًا مع ذلك على خلفية مشتركة: أي حركات الجسد باعتبارها شكلًا جسمانيًا للكلام. يدفع بوردويستيل بفرضية العمل هذه إلى حدودها القصوى، بقوله: «حين بدأنا في بحثنا الجماعي نتناول دراسة مشاهد التفاعل، يغدو من البديهي أن سلسلة من الحركات التي كانت من قبل تُلحَق بالجهد في التلفّظ، تفصح عن خصائص النظام والانتظام والتوقع. فكان من الممكن حينئذ أن نعزل من الدَّفَق الحركي، الذي كان يشملها، حركات للرأس أفقية وعمودية، ورفرفة الهدبين، وحركات خفيفة للذقن والشفتين، وتغيرات في وضعية الكتفين والصدر، ونشاطًا معينًا لليدين والساعدين والأصابع، وأخيرًا، حركات عمودية للرجلين والقدمين»[14].
هكذا يعتقد بوردويستيل بذلك العثور في سلسلة الحركات والإيماءات في المبادلات التواصلية على مقابل للتمفصل المزدوج للغة تختص به حركات الجسد. وكما أن اللسانيات البنيوية تعتبر الوحدات الصوتية فئات خاصة من الأصوات المتصلة بلغة ما، ووحدات شكلية للغة، يقترح بوردويستيل وجود الوحدة الحركية (الكينيم) باعتبارها الوحدة الدنيا التي تكون قادرة على تغيير شكل الجسد كله في التفاعل بين الأفراد. تتوفر الوحدات الحركية على ملامح متعددة يسميها بوردويستيل[15] «معيِّنات الحركة». وهو يقدم وصفًا لثلاث منها: تترجم التغيرات الحركية في الحدة درجةَ التوتر العضلي الذي يتدخل في تفعيل الوحدة الحركية (متوتر جدًا، متوتر، عادي، مسترخ، مسترخٍ جدًا)؛ والتغيرات الحركية في المدى، المتعلقة بمدى الحركة (ضيقة، محدودة، عادية، ممتدة، شاسعة)؛ وبسرعتها؛ والتغيرات الحركية حسب مدة الإنجاز (متقطعة، عادية، بطيئة). والوحدات الحركية، باعتبارها حركات طفيفة، لا معنى لها إذا ما نظرنا إليها معزولة، تتآلف على طريقة الوحدات الصوتية اللغوية. وتشكل الوحدة الصغرى الحركية الدالة (هشة رأس، غمزة مثلًا)، «الكينيمورفيم». تقوم الوحدات الصوتية في لغة معينة بالاختيار من بين آلاف الأصوات كان من الممكن استخدامها، وتقوم الوحدات الحركية باختيار من النوع نفسه من بين آلاف الحركات الممكنة للجسد والوجه. يعدّد بوردويستيل منها في الولايات المتحدة ستين وحدة[16]. فالوحدات الصوتية والوحدات الحركية هي في نظره المواد الأساس التي يرسم تأليفها في وحدات لسانية دالة في اللغة، وفي وحدات حركية دالة في الجسد، وهي تقدّم المعنى الذي يطرح للتقدير المتبادل للمتحاورين في سياق المبادلات بين الأفراد. تتشابه الوحدات الحركية الدالة مع الكلمات، والتشكيلات الحركية الدالة والمركبة مع العبارات والجمل والفقرات. فصياغتها الجسمانية تمتزج امتزاجًا باللغة.
درس بوردويستيل خلال سنوات عديدة مقطعًا من تسع ثوانٍ مأخوذ من فيلم فيديو عن علاج نفسي عائلي قام به جورج باتيسون. وفيه نرى هذا الأخير يشعل سيجارة امرأة شابة. وبفضل تدخل التقنيات (كقطع الصوت، وتسريع الصور وتبطيئها…)، وبفضل البيانات، يقترح بورويستيل تحليلًا حركيًا خليقًا براهب بندقي. وهو يوضح تشابك سلوك المرأة الشابة وباتيسون، والكوريغرافية الدقيقة لحركاتهما في قلب نظام تفاعلي يدمج المشاركين فيه باعتبارهم عناصر مستقلة. وكل فعل من أحدهما يغدو «سياقًا للشخص الآخر»، مندمجًا في سياق طقوسي. يميز بورويستيل ثلاثة طرائق مختلفة من المقاطع الجسدية: السلوك الأداتي: عقد رباط الحذاء، إشعال سيجارة، إلخ. وباعتبارها لحظات تسلية فهي تمنح لصاحبها مضمونًا معينًا، وتكون طريقة لاستعادة النفس والاسترخاء وتوسيع راحة العلاقة. وهي بالموازاة مع ذلك تمكّن من لحظة توقف سريعة عن المحادثة. والسلوك الاستعراضي/التوضيحي الذي يوضح بالحركات نشاط إصلاح شيء ما والصيد والرياضة وما شابه ذلك. والسلوك التفاعلي الذي يشابه ذلك الذي يدرسه إدوارد ت. هال في نظريته عن القرب، وهي حركات تقدم وتراجع أو حفاظ على البعد في العلاقة مع الشخص الآخر… ترسم السمات الحركية سلسلة أخرى من الحركات خاصة بتوافق الفرد مع عملية التفاعل، كأخذ كأس ووضعه على الطاولة والتلاعب به باليدين، وتمديد الرجل وغير ذلك. ثمّة حركات أخرى (بوردويستيل يعني بالحركة «أشكالًا مترابطة»)، تمنح الإيقاع والتوقف أو تزيد من حدّة الخطاب (وحدات حركية أو عَطْفية). ذلك هو الحال مثلًا في نهاية جملة حيث يتوقف المتكلم برهة كي يستعيد نفَسه، واستعادة خطابه…؛ وحينئذ يقوم بحركة نحو الأسفل (بالرأس والعينين واليدين). والانتقال من مقطع كلامي إلى آخر (الرابط) لا يتعلق فقط بالشفهية وإنما أيضًا بحركية الجسد، وهو لا يُسمع فقط وإنما يُرى أيضًا.
لا يمكننا في التحليل الحركي أن نعزل الحركات والإيماءات ووضعات التنقل عن النظام الشامل للتواصل الذي يتضمن أيضًا اللغة ولحظات الصمت، ونبرة الصوت ومسافة التفاعل والعلاقة بالمكان والزمن، وغير ذلك. فليس ثمّة دلالات خاصة بإشارة أو حركة ما. وليس الفرد هو من يجسّد مبدأ التحليل وإنما العلاقة بالغير، أي التواصل باعتباره نظامًا يساهم فيه كل فرد من غير أن يكون أحد الأفراد قابلًا للفهم بشكل منعزل. التواصل سيرورة ذات قنوات متعددة ليست حكرًا على اللغة. فإذا كانت اللغة تحمل أكثر مقاصد المعنى، وإذا ما حظيت باهتمام الفاعل، فإن حركات الجسد تساهم بدورها في المبادلات بشكل أساس.
ثمّة بالتأكيد تناظرات تظهر بين هذين النظامين الكبيرين من العلامات اللذين هما اللغة والرمزية الجسدية، بيد أن الاختلافات بينهما تظل جوهرية. فالعلامات التي يرسمها الجسد تظل أقل دقة ومتعددة الدلالة وأشدّ غموضًا من اللغة المنطوقة. وكما يلاحظ ذلك فيريسين وجولانوي، لا وجود في مستوى حركات الجسد التفاعلية مرادفات دقيقة للفونيم (الوحدة الصوتية). فهذا الأخير خال من المعنى، ولا يحيا إلا بالتمفصل مع وحدات صوتية أخرى كي يشكل كلمة. بيد أن حركة دنيا، تؤدي إلى الاختلاف في النظام العام للحركات. فهز الكتفين أو الغمز مثلًا، يملك بالتأكيد دلالة في ذاته حتى لو حافظ على لَبسه. لا يمكن تطبيق التمفصل المزدوج لنظام شكلي ونظام صارم من الأصوات في بنيتهما المشتركة من غير رتوش أو تبسيط أو سوء فهم. ذلك هو المأزق الذي يواجهه بوردويستيل في طريقه. ففرضياته تصطدم بمصاعب تؤدي به في نهاية المطاف إلى تعديل مواقفه الأولى التي كانت تماهي بشكل ضيق جدًا بين حركات الجسد واللغة. فإذا ما نحن محونا خصوصية الجسد لنختزله في اللغة، فلا يبقى لنا إلا ظل للغة أبعد ما يكون عن منعرجات الحياة اليومية، ومن ثم لا يبقى بين أيدينا سوى أنموذج صوري لا جدوى منه في اختراق ألغاز الوجود. من اللازم إذن التوقف عن متابعة الطريق كما قام بذلك بوردويستيل بشكل ناجح. «لقد أمَلْت طوال سنوات في أن يتمكن البحث المنهجي في توضيح تطور تراتبي صارم تكون فيه الوحدات الحركية مشتقة من التمفصلات، والوحدات الحركية الصغرى مبنية في صلب نحو يعتبر جملة حركية. وبالرغم مما تحقّق من تقدم مشجع، يلزمني القول بأني لحد الآن لم أنجح في اكتشاف هذا الضرب من النحو. كما أنني لم أنجح في عزل هذه التراتبية البسيطة التي كنت أبحث عنها»[17]. فسيميائيات حركة الجسد والوجه أو الوِضْعات لا يمكن أن ترتهن بطرائق المقاربة اللسانية البنيوية. وتحليل السياق الذي يفرض نفسه دومًا، حين يتعلق الأمر بالرمزية الجسدية، يتعارض مع تقاليد التحليل اللساني الذي يركز على مضمون لفظي يطفو في الغالب فوق الشروط الملموسة للمبادلات.
كل فرد، حتى لو كان وحيدًا، يبث في كل لحظة معلومات قابلة للتلقي والتحليل. من المتعذّر علينا ألا نتواصل، أي ألا ننتج علامات لها معنى لدى من يتلقونها، حتى ونحن نلزم الصمت ونشيح بالنظر ونتظاهر بأننا لم نسمع دعوة[18]. يسجل الوجه والجسد إيماءات الحنق والملل والمقت والغضب، كما حركات نفاد الصبر، وغير ذلك من الحركات. وهي ذات معنى لدى المخاطب الحساس والمنتبه حتى من غير تبادلٍ للكلام. فما إن يتوجه شخص لشخص آخر، حتى نراه يستعمل عددًا هائلًا من العلامات والإشارات والشفرات تجسده: من استخدام صحيح للغة، ولجوء أسلوب لغوي يمكن للمحاور أن يفهمه، ومن انتباه لما يمكن قوله وما يلزم السكوت عنه، واستعمالٍ لخطاب مطابق للمقام ومن تناوب في وقت الكلام، واستعمالٍ للحظات الصمت، وغير ذلك. ثمّة قواعد ليست بأقل صرامة تنظم السلوك الجسماني للأفراد خلال تبادلهم للكلام، من حركات وإيماءات وإشارات ونظرات ومسافة، وغيرها. فحين يجد المتكلمون نفسهم في صلب تفاعل ما يسعون جميعهم إلى التوافق المتبادل مع نسيج من القواعد. فثمة نحو للسلوك يشير لهم بالطريقة التي عليهم سلوكها إزاء الغير.
هكذا ليس من الممكن عزل مكوّن من مكونات النظام العام للتواصل قصد الحديث بشكل مطلق عن «مفاتيح للحركات والإشارات»، أو عن «لغة للجسد»، خارج أي سياق وأي علاقة، وباقتراح لوحات بيانية للترادف بين دلالة ما وحركة أو إشارة، وبين نفسية وسلوك ما، وبين مزاج وإيماءات أو شكل ما للوجه. ففي مجتمعاتنا الغربية، تكون لحركة اليد من اليسار إلى اليمين أو رفع الحاجبين مثلًا، دلالة مختلفة حسبما أن الفرد يتمشى بطمأنينة مع صديقه أو أنه يجادل بحماس خصمًا له، وحسبما أنه يفكر أو يتحدث. فهو حسب الأحوال يترجم حينئذ حيرته أو غضبه وتأمله أو أي شيء آخر. فهزّ الرأس قد يحيل إلى استياء وريبة كما إلى توكيد ملفوظ ما، وهو يشير إلى الاهتمام بالمحاوَر كما قد يكون دعوة لمتابعة الحديث أو الشرح، أو رد فعل على قول مفاجئ («حقًا؟ لم أكن لأصدق ذلك»).
ليس ثمّة حركة أو إشارة أو إيماءة تحيل إلى دلالة بسيطة وثابتة يمنحها التاريخ الطبيعي علّة وجودها. يأخذ هنا الاختلاف في الأسلوب من شخص لآخر أهمية حاسمة، بعيدًا عن التغيرات الاجتماعية.
تُستنبط دلالة حركة أو وِضْعة جسدية ما من السياق الدقيق لعملية التفاعل بين الأفراد. وحتى في هذه الظروف تكون عملية الفهم أحيانا عسيرة لأن المظاهر الجسدية لا تكون أبدا شفافة (مقدار ما أن الكلام قد يكون أيضًا كذلك، فيكون تآمرًا أو فلتة لسان أو كلامًا لا مباليًا أو صادقًا). تحيل تلك الدلالة إلى قصة الشخص ونواياه في المبادلات وعلاقته باللاوعي، كما تشهد على ذلك العديد من حالات سوء الفهم في الحياة اليومية. هكذا فإن اعتباطية العلامة التي تسم اللغة في علاقة الصوت والدلالة فيها، تُستعاد هنا باعتبار أن الحركة أو الإيماءة نفسها، بعيدًا عن التباسها الممكن، تترجم دلالات أو بالأحرى إشارات للمعنى حسب كل مجتمع من المجتمعات البشرية. لكن، ثمّة في جماعة واحدة، «شفرة سرية»، لم تسجل في أي مكان، ولا يعلمها أحد، ويتفق عليها الجميع «لا صلة لها بالعضوي»[19]، تتحكم في التفاهم بين بني البشر وفي التشابك المتجانس والأليف لتفعيل الجسد.
إن الحركات الدالة للجسد ليست طبعًا متجذرة في مادة طبيعية. إنها واسمات marqueurs اجتماعية في مجملها كما في إطار الجماعة نفسها، فهي تكشف عن انتماء ثقافي أو عن الرغبة في الاندماج. العلامة لا تحيل إلى دلالة إلا من خلال اعتباطية ثقافية. هكذا فإن خُوار البقر أو نباح الكلب يترجَم بشكل مختلف من ثقافة لأخرى. وأصوات اللغة وحركات الجسد وإيماءاته وإشاراته تربط علاقة مواضعة بالدلالات ولا تضمن أبدًا تفادي سوء الفهم حتى لدى من اعتاد استعمالها. اللغة نظام من الدلالة يصعب على من يجهله أن يستخدمه. وتبرز التجربة أن العائق الذي تطرحه يُتغلب عليه أحيانا برسائل بسيطة أو باللجوء إلى الحركات والإشارات والإيماءات. فحركات الجسد غالبًا ما تكون مفهومة خارج الحدود الثقافية، فهي تتمتع بمدى للفهم أوسع من كافة اللغات الشفهية، من خلال القرب الجغرافي لتلك المجتمعات كما من خلال المبادلات الثقافية بينها وإشاعة ضرب من اللغة المشتركة الحركية بواسطة السياحة أو وسائل الإعلام.
لنتذكر بهذا الصدد زوربا وهو يقوم بمرافعة (قد تكون بالغة البساطة)، أمام صديقه بأن الرقص باعتباره لغة يجاوز كافة الحواجز: «لوكنتَ استطعت أن ترى كيف كان الروسي ينصت إليّ وكيف كان يفهم كل شيء. كنت أصف له وأنا أرقص، مصائبي وأسفاري، وكم من مرّة تزوجت، والمهن التي تعلّمت: حجّار ومنجميّ وحمّال وفخّار وبائع متجول ومقاوم للأتراك ولاعب آلة السنتوري، ومهرج وحداد ومهرّب؛ وكيف رُمي بي في السجن، وكيف هربت منه، وكيف أتيت إلى روسيا (…). كل شيء. كان يفهم كل شيء رغم أنه كان منغلقًا على نفسه. كانت رجلاي ويداي تتحدث، ومعها أيضًا شَعري ولباسي. والسكين الصغيرة التي كانت معلقة بنطاقي كانت هي أيضًا، تتكلّم»[20].
[1] Cf. D. Le Breton, Éclats de voix. Une anthropologie des voix, Paris, Métailié, 2011.
[2] M. Merleau-Ponty, Signes, Paris, Gallimard, 1960, p. 70.
[3] Cf. D. Le Breton, Éclats de voix, op. cit.
[4] M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de l’expression, Paris, Gallimard, 1945, p. 216.
[5] لقد استنكرنا هذه الأوهام حين حديثنا عن الفراسة أو السيكولوجيا المرفلوجية في كتابنا: أنثربولوجيا الوجوه.
[6] D. Le Breton, Anthropologie du corps et modernité, op. cit.
[7] M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de l’expression, op. cit., p. 107.
[8] التمفصل المزدوج مفهوم لساني مخصوص باللغة الإنسانية. فكل اللغات البشرية عبارة عن نظام للتواصل متفصل بشكل مزدوج. التمفصل الأول يتم بين الوحدات الصغرى الحاملة للمعنى (المونيمات) التي تستخدم في خلق ملفوظ له معنى. والتمفصل الثاني هو تمفصل وحدات أصغر في هذه المونيمات، هي الوحات الصوتية (الفونيمات) لها وظيفة التمييز بين الوحدات اللغوية (المترجم).
[9] D. Le Breton, Anthropologie des visages, op. cit.
[10] يستعرض ي. وينكين في كتابه التواصل الجديد (1981) أطروحات بوردويستيل (ص. 61 وما يليها). ويحتوي هذا الكتاب نفسه، أيضًا على ترجمة لإحدى مقالاته بعنوان: «تمرين في علم الحركية واللسانيات/ مشهد السيجارة».
[11] R. Birdwhistell, Kinesics and Context, Harmondsworth, Penguin Books, 1973.
[12] A. S. Hayes, « Paralinguistics and kinesics. A pedagogical perspective », in T. A. Sebeok, A. S. Hayes, M. C. Bateson, Approaches to semiotics, La Haye, Mouton, 1964.
[13] لتمديد النقاش حول التقريب بين الجسد واللغة، انظر مثلاً:
- Efron, Gesture and Environment, New York, King’s Crown Press, 1941 ; les articles de A. Greimas, J. Kristeva, B. Koechlin, R. Cresswell dans Langages, no10, 1968 ; P. Eckman, W. Friesen, « The repertoir of non-verbal behavior. Categories, origins, usages and coting », Semiotica, no 1, 1969 ; G. Calame-Griaule, « Pour une étude des gestes narratifs », Langages et cultures africaines, Paris, Maspero, 1977 ; M. Argyle, Bodily Communication, Londres, Methuen, 1975 ; P. Feyreisen, J. D. De Lannoy, Psychologie du geste, Bruxelles, Mardaga, 1985 ; J. Cosnier, A. Berrendoner, J. Coulon, C. Orecchioni, Décrire la conversation, Lyon, Presses universitaires de Lyon, 1987 ; B. Koechlin, « La réalité gestuelle des sociétés humaines », in Histoires des mœurs, t. 2, Paris, Gallimard, coll. « La Pléiade », 1991, etc.
[14] R. Birdwhistell, « L’analyse kinésique », Langages, no 10, 1968, p. 103.
[15] Ibid., p. 106.
[16] R. Birdwhistell, « Un exercice de kinésique et de linguistique : la scène de la cigarette », in Y. Winkin, La Nouvelle Communication, Paris, Seuil, 1981, p. 259.
[17] R. Birdwhistell, « Un exercice de kinésique et de linguistique », op. cit., p. 197.
[18] D. Le Breton, Du silence, Paris, Métailié, 1997.
[19] E. Sapir, Anthropologie, Paris, Seuil, coll. « Points », 1967, p. 46.
[20] N. Kazantzakis, Alexis Zorba, Paris Le Livre de poche, p. 107.