مقالات

هيجل ومعضلة المعرفة

مارك شوفاني

يطرح جورج فيلهلم فريدريش هيجل (1770 – 1831) في مقدمة كتابه «فينومينولوجيا الروح» (The Phenomenology of Spirit) معضلة المعرفة أو الأبستمولوجيا. ينتقد في هذه المقدمة الأبستمولوجيا التقليدية التي لم تقدّم حلًّا للمعضلة، تحديدًا معضلة معرفة الذات (subject) للشيء (object). إنّ هذه المعضلة تقوم على الفصل ما بين الذات المعرفية والشيء المعرفي، مما يسمح للأبستمولوجيا التقليدية بالشّك في معرفة الذات للشيء، وهذا ما يُعرف بالشكوكية (skepticism)، أو بتقديم معيارٍ عامٍّ للمعرفة يعيد الثقة بصحّة معرفة الذات للشيء. الحلّ الهيجلي يقوم على اتخاذ المعرفة بحدّ ذاتها كشيءٍ معرفيٍ، والفينومينولوجيا تعني وصف مسار هذا الشيء المعرفي كما يُظهر ذاته. الملفت في موقف هيجل هو أن الأبستمولوجيا لا يمكنها أن تسبق المعرفة، بمعنى أننا لسنا بحاجةٍ لمعيارٍ قبليٍّ (a priori) يسبق الاختبار المعرفي كما هو الحال مثلًا مع أبستمولوجيا إيمانويل كانط (1724 – 1804). ينطلق المسار الهيجلي من وصف المعرفة كنشاطٍ يقوم به الوعي في علاقته مع الشيء كما يَظهر له، ونشاط الوعي يكون بتقديم مفهومٍ متناسبٍ مع الشيء وباختبار التطابق بينهما. إنّ مفهوم الشيء الذي يقدّمه الوعي هو بذاته معيار معرفة الذات للشيء، وهو ليس معيارًا عامًّا خارجيًا لمعرفة الذات للشيء كما عند كانط، ولكنه داخليٌ وملازمٌ لعلاقة الوعي بالشيء المعرفي. طامحًا لهذا التطابق بين المفهوم والشيء، يقدّم الوعي سلسلةً من المفاهيم الجديدة للشيء في مسارٍ جدليٍّ نهايته المعرفة المطلقة للشيء من قبَل الذات المعرفية، حيث نصل إلى الوحدة بين الذات والشيء.

في هذا المقال، سوف أقدّم الأبستمولوجيا الهيجلية كحلٍّ لمعضلة المعرفة والفصل بين الذات والشيء، بالإضافة الى توضيح موقف هيجل من المعيار الأبستمولوجي العام للمعرفة. ثم سأنتقل إلى نقد هيجل مستندًا إلى كتابات لودفيغ فويرباخ (1804 – 1872) وكارل ماركس (1818 – 1883). سوف نرى فويرباخ كناقدٍ للشيء الهيجلي وماركس كناقدٍ للذات الهيجلية، وذلك لاستنتاج أن الوحدة بين الذات والشيء عند هيجل ليست واقعيةً من الطرفين، أي الذات والشيء. من جهة، إنّ نقد فويرباخ لهيجل يجعلنا نرى أن الوحدة التي يحققها هيجل ليست هي وحدة الذات مع الشيء، بل وحدة الذات مع الشيء غير الواقعي الذي يُنتجه الوعي الإنساني، وهو تجريدٌ للشيء من واقعيته. من جهة أخرى، النقد الماركسي لهيجل، المتأثر بفويرباخ، يوضح بأن الذات عند هيجل ليست هي الذات الواقعية، بل هي تجريدٌ للإنسان من واقعيته. إنّ هيجل تخطّى كانط عبر إعطاء الذات المعرفية البعد الجماعي والاجتماعي، وهذا أمرٌ أساسيٌ للوصول الى المعرفة المطلقة والوحدة بين الذات والشيء. لكن النقد الماركسي للذات الهيجلية يضع البعد الاجتماعي عند هيجل في إطار العقل الاجتماعي، وهو تجريدٌ للإنسان الاجتماعي كفكرٍ اجتماعيٍ مجردٍ (abstract). أي أن هيجل يقوم بتحويل الإنسان إلى وعيٍ اجتماعيٍ مجردٍ وغير واقعيٍ، وذلك بدلًا من اتخاذ الإنسان ككائنٍ اجتماعيٍ واقعيٍ يتمتع بالوعي.

معضلة المعرفة في الأبستمولوجيا التقليدية

«في مقدمته (ويجب عدم الخلط بينها وبين التمهيد الأكثر شهرةً)، يجادل هيجل بأن الأبستمولوجيا التقليدية، التي تُقلق ذاتها بشأن معيار المعرفة الحقيقية، تنغمس في تناقضاتٍ غير قابلةٍ للحل» (Arthur, 47). يبدأ هيجل في الفقرة الأولى من المقدمة (Hegel 2018, 53)، وتحديدًا في جملته الأولى، بالتأكيد على أولوية الأبستمولوجيا في المجال الفلسفي. فقبل مناقشة الواقع بما هو عليه، علينا مناقشة كيفية معرفة الإنسان للواقع، أي البحث الأبستمولوجي. ثم يتطرّق في الفقرة ذاتها إلى معضلة المعرفة بقوله إن الأبستمولوجيا التي سبقته انقسمت ما بين تعريف المعرفة كأداةٍ (instrument) أو كوسيطٍ سلبيٍّ أو غير فاعِلٍ (passive medium) بين الذات والشيء. من الواضح أنه يقصد كانط في قوله عن المعرفة كأداةٍ، ولكن هذا يشمل الفلسفة العقلانية (rationalism) بشكلٍ عام التي تضع في العقل الإنساني مقوّمات ومعايير المعرفة. إنّ معيار المعرفة والحقيقة عند كانط هو الاستعمال الصحيح لقوانين العقل، مما يجعل المعرفة أداةً تستخدمها الذات لمعرفة الشيء. أما ما يقصده بالمعرفة كوسيطٍ سلبيٍّ، فهو الفلسفة التجريبية (empiricism) التي تأخذ المعرفة كعلاقةٍ بين الذات والشيء تعتمد بشكلٍ أساسيٍ على الحواس التي تستقبل بطريقةٍ سلبيةٍ المعطيات الحسّيّة الخارجية. في الحالتين، لا يمكن للذات معرفة الشيء أو الواقع كما هو، ما يوصلنا إلى الشكوكية في بناء المعرفة. في الحالة الأولى، وتحديدًا عند كانط، العقل النشيط يقوم بإنتاج الظواهر، ما يعني أنه يقوم بتغيير الشيء المعرفي، مما يمنع الذات من معرفة الشيء كما هو بحدّ ذاته. في الحالة الثانية، حيث معرفة الذات للشيء تقوم على الاختبار الحسّي كوسيطٍ بين الذات والشيء، إنّ واقعية الشيء محدودةٌ بما يقدّمه هذا الوسيط للذات، مما يجعل الذات غير قادرةٍ على معرفة الشيء كما هو في الوقع. طبعًا، في الحالتين نرى أن المشكلة تكمن في فصل الذات عن الشيء.

الفلسفة أو الأبستمولوجيا التقليدية، في الإطار الهيجلي، تشمل الفلاسفة من رينيه ديكارت (1596 – 1650) إلى كانط، مرورًا بديفيد هيوم (1711 – 1776). بالنسبة لديكارت، معيار المعرفة هو أن تكون المعرفة بالشيء واضحةً ومتميزةً (clear and distinct)، هذا ما يجعلنا نثق بأن معرفتنا بالشيء صحيحةٌ. إذا أردنا أن نثبت بأن هذا المعيار صحيحٌ، فإما أن نقول بأن هذا المعيار يثبت ذاته بذاته، أو أن هناك معتقدًا أو معيارًا آخرًا يثبته. في الحالة الأولى نكون قد قدّمنا حجّةً دائريةً (circular argument) عادةً ما توصف بالدوغمائية[1]، وفي الحالة الثانية إما أن نقع في حجة دائرية أخرى أو أن نواصل في تقديم سلسلةٍ لامتناهيةٍ من المعايير أو الاعتقادات، مما يجعلها حجة تسلسل لانهائيٍ (infinite regress). «إما أن تكون الحجة دائريةً، أو أن هناك أسبابًا مسبقةً للتأكيد على أن كل ما أدركه بوضوحٍ وتمايزٍ هو صحيحٌ، وفي هذه الحالة يتم الوصول الى تسلسل لانهائيٍ» (Norman, 12). والأمر ذاته يتكرّر إذا اتخذنا المعيار التجريبي، أي أن المعرفة الصحيحة تكون من خلال التجربة الحسّية. فإذا أردنا أن نثبت هذا المعيار، فإما أن نجعله يثبت ذاته ونقع في الحجة الدائرية أو أن نقدّم سلسلةً لامتناهيةً من المعايير أو المعتقدات ونقع في التسلسل اللانهائي. وهذا ما يجعل معضلة المعرفة تظهر كمعضلة الخروج من الدائرة المغلقة ما بين الفلسفة التجريبية والعقلانية.

النقد الهيجلي لكانط ومسألة المعيار

من البديهي أن نستغرب إدخال كانط في إطار الفلسفة التقليدية والمعضلة الكامنة بين الأبستمولوجيا التجريبية والعقلانية، بما أن المعروف عن كانط أنه جمع بين هاتين المدرستين الفلسفيتين وتخطى المصاعب الفلسفية التي واجهها الفلاسفة قبله في الأبستمولوجيا. إلّا أنّ الأبستمولوجيا الكانطية لم تتخطّ الشكوكية لأن الذات لا يمكنها معرفة الشيء بحدّ ذاته، ولا تزال تقدّم المعرفة كأداةٍ من خلال المعيار المعرفي الكانطي. لنرى النقد الهيجلي لكانط:

«تعهّد كانط بفحص إلى أي مدى كانت أشكال الفكر قادرةً على أن تؤدّي إلى معرفة الحقيقة. وطالب على وجه الخصوص بنقد كليّة الإدراك كأولويةٍ لممارستها. هذا مطلبٌ عادلٌ إذا كان يعني أنه حتى أشكال التفكير يجب أن تكون موضوعًا للتحقيق والفحص. لكن لسوء الحظ، سرعان ما يتسلل الاعتقاد الخاطئ بأنك تعرف قبل أن تعرف بالفعل، وهو خطأ رفض دخول الماء حتى تتعلم السباحة. صحيحٌ، بالفعل، يجب أن تخضع أشكال الفكر للتدقيق والفحص قبل استخدامها: ولكن ما هو هذا التدقيق غير أنه بحكم الواقع إدراكٌ ومعرفةٌ؟ لذا فإن ما نريده هو أن نجمع في عمليتنا الاستقصائية عمل أشكال الفكر مع نقدٍ لها. يجب دراسة أشكال التفكير بطبيعتها الأساسية وتطورها الكامل: فهي في الوقت نفسه موضوع البحث وعمل هذا الموضوع. ومن ثم فإنهم يفحصون أنفسهم: يجب أن يقوموا في عملهم بترسيم حدودهم، وبالاشارة إلى عيوبهم» (Hegel 1892, 84).

إنّ خطأ الأبستمولوجيا الكانطية بالنسبة لهيجل هو أنها تضع المعيار للمعرفة الصحيحة قبل أن تختبر المعرفة. فكما أنه لا يمكننا تعلّم السباحة قبل أن ندخل الماء، فهكذا لا يمكننا أن نضع معيارًا للمعرفة من دون أن نبدأ بالمعرفة. وحتى إذا وضعنا معيارًا عامًا للمعرفة، أليس هذا المعيار بحدّ ذاته معرفةً؟ مثلاً، أليس المعيار التجريبي العام للمعرفة اعتقادًا معرفيًا بأن التجربة الحسّية تضمن صحّة المعرفة؟ مما يضعنا أمام استحالة تقديم معيارٍ خارج المعرفة وسابقٍ لها. لهذا السبب، يدعو هيجل إلى أن يكون المعيار ملازمًا للمعرفة وفي داخلها. لذلك لا يكون المعيار عامًّا ليشمل المعرفة ككل، لكنه يكون خاصًّا بالشيء المعرفي المحدّد. «بسبب هذا الاختلاف عن كانط، يبدأ هيجل من نقطةٍ مختلفةٍ في نظريته المعرفية. من أجل بناء المعرفة، لا يفحص المرء أولاً أدوات المعرفة» (Livergood, 16). إنّ مسار المعرفة عند هيجل يبدأ من دون معيارٍ مسبقٍ، فالمعيار عند كانط هو نتيجة فحصه لأدوات المعرفة، أي أشكال الفهم، قبل البدء بالمعرفة. إنّ أشكال الفهم الكانطية، كالسببية مثلاً، عليها أن تُخضع ذاتها للفحص والتصحيح خلال عملية المعرفة، وهذا يمكن أن يحصل في جدلية الأبستمولوجيا الهيجلية.

جدلية الأبستمولوجيا الهيجلية

بالنسبة لهيجل، المعرفة ليست أداةً أو وسيطًا، بل هي مسار. المعرفة هي مسار نشاط الوعي الإنساني بارتباطه بالشيء المعرفي. لكن قبل أن يبدأ بطرح المعرفة كنشاطٍ جدليٍّ بين الوعي والشيء كما يظهر للوعي، يرفض هيجل أن يكون العلم (science) هو المعيار المعرفي، بما أنه لا يمكن أن يُثبت ذاته كمعرفةٍ صحيحةٍ ويميّز ذاته عن أنواع المعرفة الأخرى ويرفضها. بكلمات هيجل، «فيما يتعلق بالمعرفة غير الصحيحة، لا يمكن للعلم أن يرفضها ببساطةٍ على أنها مجرد وجهة نظرٍ عامةٍ للأشياء بالتزامن مع إعطاء التأكيد على أنه، أي العلم، بحدّ ذاته نوعٌ مختلفٌ تمامًا من المعرفة، وأن المعرفة الأخرى لا تعتبر شيئًا على الإطلاق بالمقارنة مع العلم» (Hegel 2018, 55). لهذا السبب، علينا أن نصف مسار المعرفة كما تُظهر ذاتها، ليس فقط في العلم، بل في التاريخ ككل.

يجادل هيجل في مقدمة كتابه «فينومينولوجيا الروح» بأن معيار معرفة الشيء هو مفهوم الشيء، أي جوهر الشيء، أو ما يسمّيه كانط «الشيء بحد ذاته». ويفسّر في القسم الأول من الكتاب (Hegel 2018, 64 – 69) أن الوعي يدرك الشيء العام (general) أو الكلّي (universal) وليس الخاص (particular)، أي أننا لا ندرك هذه الطاولة بشكلٍ خاص، بل ندرك الطاولة بشكلٍ عام، وهو إدراكٌ لما يربط مجموعةٌ من الطاولات أو جميع أشكال الطاولات. إنّ النشاط المعرفي للوعي يهدف إلى المطابقة بين إدراك الذات للشيء من جهة، أي ما يتلقاه الوعي عن الشيء، ومفهوم الشيء من جهة أخرى، أي ما يقدّمه الوعي كجوهر الشيء ومعيار معرفته. هذا ما يقصده هيجل حين يبحث عن تحقيق تطابق الشيء والمفهوم، فالشيء ليس هو الشيء الخاص، بل الشيء العام أو الكلّي، أي إدراكنا للشيء. هذه هي الخطوة الأولى في المسار الوصفي للمعرفة حيث لا يأخذ هيجل الشيء الخاص ليفحص صحة معرفة الوعي به، بل يأخذ إدراك الوعي العام والكلّي للشيء. «لا يمكنني أبدًا مقارنة وعيي للطاولة مع الطاولة ذاتها، فهذا ما يعطي الشّك المعرفي» (Norman, 19). لتفادي الشكوكية، علينا مقارنة مفهوم الطاولة الصادر عن الوعي من جهة، مع الإدراك العام والكلّي للطاولة من جهة أخرى. مع العلم أن المفهوم والشيء، كلاهما داخل الوعي، ما يحصر المعرفة كجدليةِ تفاعلٍ بين المفهوم والشيء في نشاطٍ داخليٍ للوعي. مما يجعل التطابق المنشود عند هيجل هو تطابقٌ بين المفهوم والشيء العام والكلّي، وليس تطابقًا بين المفهوم والشيء الخاص. وبهذا، يكون قد تعامل هيجل مع المعرفة كظاهرةٍ (phenomenon) يجب وصفها في مسارٍ فينومينولوجيٍّ، بدلاً من وصف معرفة الذات للأشياء الخاصة (particular objects) باعتبارها ظواهر (phenomena). فهيجل يأخذ معرفة الشيء كظاهرةٍ، بدلًا من الشيء الخاص.

يشرح هيجل في الفقرة (Hegel 2018, 59) من المقدمة أن الوعي يفحص تطابق المفهوم مع الشيء من دون معيارٍ خارجيٍ، لأن المفهوم والشيء يكمنان داخل الوعي، لذا يكفي للوعي أن يراقب ويلاحظ عدم المطابقة بينهما. ولتصحيح عدم المطابقة، يقدّم الوعي مفهومًا جديدًا للشيء بهدف التطابق بينهما. ويتكرّر هذا النشاط التصحيحي للمفهوم إلى أن يصل إلى التطابق التام في المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة المعرفة المطلقة. يبدأ النشاط المعرفي في مرحلة الوعي، ثم تنتقل إلى مرحلة الوعي الذاتي (self-consciousness)، ثم مرحلة العقل، يليها مرحلة الروح، ومن بعدها الديانة، وأخيرًا الفكرة المطلقة. هذه المراحل هي عناوين أقسام الكتاب، وفي داخل كل قسمٍ لدينا مراحل عدّة. يفسّر المرجع (Norman, 24) أن الوعي، الوعي الذاتي، والعقل هي المراحل التي تأخذ الذات الفردية، أما الروح، الديانة، والفكرة المطلقة هي مراحل الذات الاجتماعية. إنّ المعرفة هي نشاط الوعي الذي ينتقل من مرحلةٍ لأخرى عبر إعطاء مفهومٍ جديدٍ للشيء المعرفي يصحّح من خلاله المفهوم السابق، ما يرسم المسار الجدلي للمعرفة. تجدر الإشارة الى أن الأبستمولوجيا الكانطية تشترط أن يكون هناك معرفةٌ ذاتيةٌ، أي معرفة الذات الفردية لذاتها، لكي تكون معرفة الذات للشيء ممكنةً. لكن هيجل يضيف أن المعرفة الذاتية، التي تقوم على معرفة الذات الفردية للذات الفردية الأخرى، مشروطةٌ بالمعرفة الذاتية الجماعية الاجتماعية. مما يجعل معرفة الذات للشيء مشروطة بالروح كذاتٍ اجتماعيةٍ تتوَّج بالمعرفة المطلقة للشيء في مرحلتها الأخيرة من الجدلية.

نقد فويرباخ لهيجل

يعبّر فويرباخ عن الفصل بين الذات والشيء على أنه الفصل بين الفكر (thought) والوجود (being). أستعمل هنا «وجود» كترجمةٍ لكلمة «being» التي يمكن ترجمتها «الكون» أيضًا، لكن يصعب ترجمتها للغة العربية بدقّةٍ. يجادل فويرباخ بأن هذه الكلمة، من الناحية الأبستمولوجية، يمكن أن تعني ما تعنيه كلمة «وجود» (existence) وغيرها من الكلمات في هذا الاقتباس:

«ما يفهمه الإنسان بالوجود (being) – على نحوٍ ملائمٍ ووفقًا للعقل – هو الوجود (existence)، والوجود لذاته (being-for-itself)، والواقع (reality)، والواقعية (actuality)، والموضوعية (objectivity). كل هذه التعريفات أو المصطلحات تعبّر عن الشيء ذاته، ولكن من وجهات نظرٍ مختلفةٍ.» (Feuerbach, 182)

إنّ الفكر يمثّل الذات المعرفية، والوجود يمثّل الشيء المعرفي. يؤكد فويرباخ أن «الفلسفة الهيجلية بقيت غير قادرةٍ على التغلّب على تناقض الفكر والوجود. […] الخاص ينتمي إلى الوجود، ولكن العام ينتمي إلى الفكر» (Feuerbach, 183). مما يعني أن بالنسبة لفويرباخ، الفصل بين الذات والشيء يعود إلى الفصل بين الخاص والعام. إذ إنّ معرفة العام عند هيجل هي المعرفة الممكنة للذات بالشيء، أما معرفة الشيء الخاص فهي تستحيل على الذات المعرفية. الشيء الخاص هو الشيء الموجود في الواقع، أما الشيء العام الذي تعرفه الذات الهيجلية ليس هو الشيء الواقعي، بل الشيء المجرد من الواقعية.

يربط هيجل بين اللغة ومعرفة الوعي أو الذات للشيء. يجادل في (Hegel 2018, 65, 70) أن اللغة تنتمي للوعي، وأنها غير قادرةٍ على التعبير عن الشيء الخاص الحسّي. اللغة بطبيعتها عامةٌ وكلّيةٌ، ويمكنها فقط التعبير عن الشيء العام والكلّي. فويرباخ لا يرفض هذه الفكرة، لكنه يقول بأن الواقع أو الحقيقة تكمن في الخاص، أي في ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه. يخاطب هيجل بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ مصرّحًا التالي: «إنّ الخصوصية التي نعنيها في سياق الإدراك الحسّي شيءٌ لا يمكننا حتى التعبير عنه. […] كفّ عن الكلام، انزل إلى مستوى الأشياء الواقعية! أرني ما الذي تتحدث عنه! بالنسبة للوعي الحسّي، اللغة بالذات غير واقعية، لا شيء» (Feuerbach, 71). إنّ الشيء العام والكلّي الذي تعبّر عنه اللغة ليس هو الشيء الواقعي. لذلك، يدعو فويرباخ هيجل إلى التفكير بكيفية معرفة الشيء الواقعي الخاص بدلاً من الهروب نحو معرفة الشيء العام والكلّي غير الواقعي والادعاء بأن هذا الأخير واقعي وحقيقي. إنّ جواب هيجل على هذا الاعتراض هو أن إدراك الشيء العام يحتوي على الواقعية، أما معرفة الواقعية بشكلٍ مطلقٍ تكون في نهاية الجدلية الفينومينولوجية الأبستمولوجية. ولكن اعتراض فويرباخ يكمن في العودة للشيء الخاص لبناء المعرفة، أما الابتعاد عنه في جدليةٍ محصورةٍ بالوعي المجرّد فلا يمكن أن توصلنا إلى معرفة الواقع.

هذا ما يجعل فويرباخ يؤكد بأن الشيء الهيجلي ليس هو الشيء الواقعي، بل هو من نتاج الوعي. فما يقول عنه هيجل بأنه «الآخر»، بمعنى أنه الكيان المختلف عن الوعي، ويعني به الشيء الموضوعي الذي يختلف عن الوعي، هو ليس بالحقيقة مختلفًا عن الوعي لأنه من نتاجه. لذلك، يرى فويرباخ أن الموضوعية أو الواقعية التي ينسبها هيجل للشيء المعرفي، ليست هي واقعية إنما هي فقط نظرية أو خيال. «لا تخلق الفكرة المطلقة ولا تثبت نفسها من خلال شيءٍ آخرٍ حقيقي وواقعي – فذلك يمكن أن يكون فقط الإدراك التجريبي والملموس. بدلًا من ذلك، فإنها تخلق ذاتها من نقيضٍ صُوَريٍّ وظاهري. الوجود في حدّ ذاته هو الفكرة المطلقة» (Feuerbach, 70). يفترض هيجل أن الوجود هو نتاج الوعي والفكرة المطلقة، وأن الشيء الموضوعي الواقعي هو كذلك لأنه من نتاج الوعي، أي أن الشيء يأخذ صفته الموضوعية والواقعية من الوعي. مما يجعل فويرباخ يرى بأن هيجل يرى مسبقًا بأن الواقع بوحدةٍ مع الوعي، ويقوم بمسارٍ جدليٍ ليصل إلى وحدتهما. فإذا كان الوعي قادرًا على إنتاج الموضوعية وتقديمها لمعرفته بالشيء العام والكلّي، فما علاقة الموضوعية والواقعية بالشيء الخاص المعزول عن الوعي واللغة؟ «إن وحدة الفكر والوجود التي يُزعَم بأنها قد تحققت، لم تكن سوى وحدة الفكر والخيال» (Feuerbach, 77).

نقد ماركس لهيجل

يصف كارل ماركس الإنسان في الفلسفة الهيجلية على الشكل التالي: «يُنظر إلى الكائن البشري على أنه كائنٌ مفكرٌ مجردٌ فقط، يُنظر إليه على أنه مجرّد وعيٍ ذاتيٍ» (Marx, 141). إنّ الذات المعرفية هي الكائن الذي يتمتع بالوعي والذي يسعى لمعرفة الشيء، ولكن من غير الضروري أن نجرّد هذا الكائن من جميع خصائصه الأخرى ونختزله بالوعي الذي يتمتع به ليصبح الكائن مجرد وعيٍ. وهذا هو خطأ الأبستمولوجيا الهيجلية بالنسبة لماركس. إنّ هذه النظرة الماركسية متأثرةٌ بنقد فويرباخ الذي يشدّد على الجهة المادية للإنسان الذي يأكل ويشرب ويشعر ويحب، لكن النقد الماركسي يتخطى فويرباخ في البعد الاجتماعي الإنساني. يستفيد ماركس من النقد الفويرباخيّ ليرى أن الذات الهيجلية مجردةٌ، وعملها مجردٌ (abstract labor). «العمل الوحيد الذي يعرفه هيجل ويعترف به هو العمل العقلي المجرّد» (Marx, 131). العمل عند هيجل هو نشاط الوعي، أي النشاط المعرفي، وهذا النشاط مجردٌ من المادة[2].

إنّ النشاط الإنساني بالنسبة لماركس هو نشاطٌ ماديٌ يتضمّن النشاط المعرفي، أي أن نشاط الوعي ليس منفصلاً عن النشاط اليدوي العملي. والنشاط الإنساني هو عملٌ اجتماعيٌ، فليس هناك من عملٍ إنسانيٍ من دون علاقاتٍ اجتماعيةٍ. هناك تفاعلٌ جدليٌ ما بين المجتمع والعمل الإنساني أو النشاط الإنتاجي. التفاعل يكمن في أنّ طبيعة العمل الاجتماعية تجعله يتأثر بالإطار الاجتماعي الذي يتحقق فيه، أما العمل والنشاط الإنساني فبدوره يعطي شكلًا للحياة الاجتماعية بحسب نمط الإنتاج. وهذا يضع الأبستمولوجيا، أو النشاط المعرفي، في إطارٍ اجتماعيٍ ماديٍ. أي أن الذات المعرفية ليست وعيًا ذاتيًا مجردًا من المادة، بل إنها ذاتٌ حسّيةٌ اجتماعيةٌ تقوم بنشاطها المعرفي. وهذا يجعلنا نرى أن اجتماعية الروح الهيجلية مجردةٌ من المجتمع الواقعي، أي أن هيجل لم يحقق اجتماعية الذات المعرفية الواقعية، لكنه حقق اجتماعية العقل المجردة. لقد جرّد المجتمع من ماديته وواقعيّته ورفعه إلى مستوى العقل والوعي المجرد.

الخاتمة

إنّ النقد المادّي لهيجل من قبَل فويرباخ وماركس يفيد بأن الوحدة الهيجلية بين الشيء المعرفي والذات المعرفية ليست واقعيةً، بل مجردةٌ من الواقع. نقد فويرباخ يجعلنا نرى الشيء الهيجلي غير واقعي من جهة، ونقد ماركس يوضح بأن الذات الهيجلية ليست واقعيةً من جهةٍ أخرى، وخاصةً فيما يتعلق بالواقع الاجتماعي للذات. ولكن، إذا كان هذا النقد المادّي صائبًا، فما مصير الأبستمولوجيا؟ هل علينا تحويلها إلى أبستمولوجيا اجتماعية، وإلّا تكون الأبستمولوجيا غير الاجتماعية وغير المادية، بالمعنى الماركسي، بحثًا مجردًا من الواقع؟ وما هو الحل لمعضلة المعرفة؟ وهل هناك مصدرٌ ماديٌ لوحدة الذات والشيء؟ هل من الأفضل رفض النقد المادي والعودة لما قبل كانط، كما يفعل الآن الكثير من روّاد الفلسفة التحليلية[3] الذين يطرحون معضلة المعرفة كأنها صراعٌ قائمٌ بين الأبستمولوجيا العقلانية والتجريبية؟ هذه الأسئلة مشروعةٌ وتفتح أمامنا الكثير من الاحتمالات، إلّا أنني اقترح أولًا تأويل فلسفة ماركس[4] والبحث فيها عن حلولٍ ماديةٍ للمعضلة. مع الإشارة إلى أن ماركس لم يكتب نصًا أبستمولوجيًا بحتًا لأن الأبستمولوجيا تأتي ضمن البحث الاجتماعي العملي بالنسبة اليه، وغير منفصلةٍ عنه.

المراجع:

Arthur, Chris. Dialectics of Labour: Marx and His Relation to Hegel. B. Blackwell, Oxford, 1986.

Feuerbach, Ludwig. The Fiery Brook: Selected Writings. Translated by Zawar Hanfi, Verso, London, 2012.

Hegel, Georg W. F. Georg Wilhelm Friedrich Hegel: The Phenomenology of Spirit. vol. 55, Ed. & trans. by Terry P. Pinkard, Cambridge University Press, Cambridge, United Kingdom, 2017; 2018;.

Hegel, Georg W. F. The Logic of Hegel. Oxford: Oxford University Press, 1892.

Livergood, Norman D., and SpringerLink (Online service). Activity in Marx’s Philosophy. Springer Netherlands, Dordrecht, 1967, doi:10.1007/978-94-017-5059-2.

Marx, Karl. Economic and Philosophic Manuscripts of 1844. Progress Publishers, Moscow, 1974.

Norman, Richard J. Hegel’s Phenomenology: A Philosophical Introduction. St. Martin’s Press, New York, 1976.

Suchting, W. A. Marx and Philosophy: Three Studies. Macmillan, 1986.

[1]  للمزيد عن هذا الموضوع يمكن الاطلاع على المرجع (Suchting, 10) حيث يربط سوختينغ بين الدوغمائية والحجة الدائرية من جهة، وبين الشكوكية والتسلسل اللانهائي من جهة أخرى.

[2]  يختلف مفهوم المادة عند ماركس عن فويرباخ بأن المادية الماركسية تشمل النشاط الإنساني اليدوي والفكري، وتتخذه كأساسٍ لها.

[3] على سبيل المثال المرجع التالي:

Chisholm, Roderick, “The Problem of the Criterion,” in Epistemology: Contemporary Readings. Michael Huemer and Robert Audi. London: Routledge, 2002. 590 – 601.

[4] هذا ما سوف أقوم به في المقال التالي، حيث سأحاول تقديم الحل الماركسي لمعضلة المعرفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى