ترجمة: محمد حسين
أنفك هو أفضل مُستشعِر حيويّ على وجه الأرض.
يبدو هذا القول غيرَ مُتوقَّع حقًّا؛ ذلك أن حاسة الشمّ أحاطتها سُمعة بائسة إلى حدٍّ كبير في غضون القرون الماضية. كما أن الفلاسفة والعلماء، على حدٍّ سواء، لم يُفرِدوها بالدراسة والفحص من كَثَب إلا قليلًا. ففي عام 1754، أورد فيلسوف التنوير إتين بونو دي كوندياك ملاحظة جامدة لاذعة يقول فيها إن “من بين كل الحواسّ، يظهر أن حاسة الشمّ هي الأقلّ إسهامًا في معارف العقل البشري وإدراكاته”. ومن بين العلماء، لم ينفرد تشارلز داروين في اعتبار الشم نظامًا بدائيًّا بدرجة أقلّ من التطور لدى البشر. ولكن هل هذه الأفكار تقف على أرض صلبة، أم أنها مجرد تحيّزات مناهضة لحاسة الشمّ انتقلت من جيل إلى جيل؟
لقد كشفت أحدث التطورات العلمية زيفَ كثير من الخرافات حول الشمّ. أولًا، ليس التركيب الفسيولوجي لحاسة الشمّ لدى البشر على درجة منقوصة من التطور. في عام 2017، نشرت دورية “ساينس/العلم” ورقة علمية نقدية وضعت الأمور في نصابها أخيرًا بإجراء تحليل للأبحاث المعاصِرة المتعلقة بالشمّ. فبرغم صغر حجم البصلة الشمّية olfactory bulb مقارنةً بكتلة الجسم إجمالًا، إلا أن هذه البصلة الشمّية لدى البشر (أول بنية عصبية في قشرة الدماغ في مسار حاسة الشم) بها وفرة من العصبونات بالقدر ذاته كما في القوارض. فضلًا عن ذلك، فهذه البصلة الشمّية إحدى أكثر أجزاء الدماغ امتلاءً بالخلايا العصبية بكثافة. وهكذا، فالأمر يعتمد على كيفية تقديرك للحجم وتعريفك للأبعاد والنِّسَب.
ثانيًا، لا تزال حاسة الشمّ مُهمَّة بالنسبة إلى إدراك البشر ومعارفهم وثقافتهم. فقد بيّنت الدراسات العابرة للثقافات حول استعمال اللغة أن هناك مجتمعات أخرى غيرنا، مثل الجاهاي والمانيق في جنوب شرق آسيا، لديها وفرة من المفردات والطقوس المتعلقة بالروائح. وفي نصف الكرة الغربي، لا تزال صناعة العطور تتوسّع بنجاح. وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، تُدِرُّ المنتجات العطرية أكثر من 25 مليار دولار سنويًّا (تتراوح هذه المنتجات ما بين العطور والمنظفات، وجميع أنواع الكريمات ومنتجات العناية بالجسم، وصولًا إلى الأكياس المعطِّرة المخصَّصة لجمع القمامة).
وعلى نحو متزايد، يجري اعتبار فَقْد حاسة الشمّ كعَرَض مَرَضي خطير في الأوساط الطبية. فضلًا عن ذلك، فحاسة الشمّ أمر أساسي للتذوق وإدراك الطعم. في واقع الأمر، معظم ما تُدرِكه باعتباره مذاقًا للطعام والشراب ليس إلا رائحة ناشئة عن عناصر كيميائية متطايرة تنتقل من تجويف فمك وتمرّ عبر فتحة البلعوم حتى تصل إلى النسيج الطلائي الشمّي epithelium في أنفك. ولا مفرَّ من القول بأن تجارة التوابل، مع ازدهارها بعد اكتشاف طريق الحرير، قد شكَّلت مشهد الاقتصاد السياسي العالمي الحديث بقدر ما شكّله الجدل الفلسفي حول العقل والأخلاق، إن لم يكن أكثر من ذلك. ومن المؤكَّد أنه قد حان الوقت الآن لإعادة النظر في فرضيّاتنا المتعلِّقة بحاسّة الشم، ومضامينها السيكولوجية والفلسفية. ليس الشمّ أفضل ممّا نظن فحسب، بل أيضًا يُمكِّننا من إعادة النظر في العلاقة بين العالَم الخارجي وحواسِّنا، لا أنه مختلف و”خارج السرب”.
ما مدى كفاءة حاسّة الشمّ لديك؟ لقد وُجدت حاسّة الشمّ بقَدْر محسوب لتكشف مقادير ضئيلةً للغاية ودقيقةً من الجُزَيئات الموجودة في المركبات الكيميائية. بالشمّ، يستطيع البشر أن يُدركوا وجود مكوِّنات عطرية (جُزَيئات ذات رائحة) منتشرة في الهواء ومُخفَّفة لدرجة أقل من نسبة واحد إلى عدة مليارات من جُزَيئات الهواء. فلننظر إلى حالة الخمر الفاسدة المُنتِنة التي تنشأ في المقام الأول بسبب مُركّب 2، 4، 6-ثلاثي كلورو أنيزول، سنشير إليه اختصارًا بـ TCA. ورغم اختلاف حساسية إدراك هذا المُرَكّب من فرد إلى آخر، إلا أن عتبة إدراكه واكتشافه تقع بين عشرة إلى واحد لكل تريليون (أي بين عشرة جزيئات إلى جزيء واحد لكل تريليون جزيء). ولتقريب الأمر، فإن مقدارًا ضئيلًا مثل أونصة واحدة (29.5 مل) من مُركّب TCA يُفسِد 7.5 مليار غالون من الخمر، وهو إنتاج العالم كله من الخمر عام 2018. ليست حاسّة الشمّ لديك رديئة ضعيفة، وإنما مُتقَنة ومضبوطة إلى حدٍّ مُذهل. إذن، لماذا يغيب عنا هذا الأمر؟
أنت منغمس في عوالِم متعددة من المُرَكّبات الكيميائية؟ حقًّا، لكل شيء رائحة. الغرفة التي تسكنها الآن ذات رائحة. زميلك ذو رائحة (لا أقصد الإهانة!). ملابسك ذات رائحة، وكذلك أنت، نعم أنت، ذو رائحة. تنشأ هذه الروائح جميعًا بفعل مئات الجزيئات المتطايرة المنتشرة في الجو. وسبب أنك نادرًا ما تعي هذه العاصفة الكيميائية من المُعطَيات والمعلومات المحيطة بك سببٌ بسيط واضح: أنفك يُؤدّي وظيفته بكفاءة تامّة حقًّا بالقدر الكافي الذي يستطيع المُخّ معالجته. ولو كان عقلك يعالِج بشكل واعٍ كل ما يلتقطه أنفك من معطيات جُزَيئية دون أيّ توقُّف عن الإدراك الواعي، فسرعان ما ستَقبَل بإجراء جراحة في الفصِّ الجَبْهي من المُخّ ليستريح عقلك ويَسكُن قليلا.
لماذا وصل الأنف إلى هذه الدرجة من الحساسية العالية؟ لعلّ أكثر الجزيئات التي تشمُّها تقتُلك حال وجودها بتركيزات عالية، هذا بالإضافة إلى بيئتك الكيميائية المتغيرة باستمرار. فالبشر، على وجه الخصوص، كثيرًا ما يُغيِّرون مواطنهم وأماكن إقامتهم. ولذلك لا بدّ لحاسة الشمّ لديهم أن تكون على قدر كافٍ من الحساسية والمرونة لتكتشف المُكوِّنات والعناصر الكيميائية الجديدة المتغيّرة بدرجة كبيرة بتغَيُّر البيئات والمَواطن. ومن ثَمّ، فإنه لأمر حسن ومفيد أن يكون لدينا مثل هذه الأداة ذات الضبط الدقيق والمُعايرة المُتقَنة التي ترصد التركيزات الكيميائية المُتقلِّبة في كل ما يُحيط بنا، ولكن من غير المفيد أن الانتباه إليها طوال الوقت في أثناء عملها وأداء وظيفتها. ولأن حاسة الشمّ تأخذ موقعًا ثانويًّا في عملية الانتباه الواعي، فنحن لا نُولِي كثيرَ انتباهٍ لما يدركه الأنف. كما أن الشمّ لا يأخذ مكانته الجدير بها في طرائق الفهم التقليديّة لطبيعة الإدراك الحسّي، وهي طرائق تتمركز حول حاسّة الإبصار.
يَشيع اعتقادٌ أن الشمّ إحساس ذاتيّ، خصوصًا عند مقارنته بالبصر. فنحن غالبًا لا نصل إلى توافق حول طبيعةِ رائحةٍ ما؛ أي ماهيّتها وصفتها، وذلك بخلاف الأشياء التي نراها. فقد تُسبِّب الرائحة الواحدة ذاتها ردودَ أفعال مُتبايِنة من شخص إلى آخر، وتُثير توصيفات نوعية مختلفة، وكذلك آراء متنوعة حولها؛ هل هي رائحة طيبة جذابة أم منفّرة كريهة؟ غير أن الرائحة ليست مسألة ذاتية كما نعتقد. بطبيعة الحال تختلف استجابات الناس للروائح وتَتنوّع بدرجات متفاوتة للغاية، حتى إن الشخص ذاته كثيرًا ما يُدرِك الرائحة ذاتها على أنها رائحة أخرى مختلفة بشكلٍ واضح بحسب السياق.
غير أن هذا التنوُّع ليس هو الذاتيّة عينُها؛ فالذاتية تنطوي على أن سبب الخبرة ليس قائمًا في عِلل العالم الخارجي وأحداثه وإنما يقوم في عقل المرء فحسب. أي إن الإدراك الحسي الذاتي لا يملك أيّ حقيقة تُجاوِز خبرة الذات، ولا تقع شروط صِدقه في الواقع المادي الموضوعي للعالم الخارجي. أما في حالة الشمّ، فثَمَّة أساس موضوعي يقوم عليه التنوُّع والاختلاف بصورة ما. ولا تبدو الروائح ذاتية إلا من جهة أن المثير المادي ذاته قد يثير تأويلات إدراكية كثيرة مختلفة، ولكن هذه التفسيرات والتعبيرات الفردية في ظاهر الأمر يُمكِن تفسيرها بحقائق واقعية وآليّات سببية مادية.
وما تحمله على أنه رائحة لجُزَيء بعينه هو أمر مُحتمَل يتوقَّف على عوامل عديدة، وأن نَصِفَ هذا الأمر بأنه “ذاتي” فهذا يَحجُب تركيب تلك العوامل السببية المادية وتعقيدها.
أحد هذه العوامل هو سياق التعرُّض؛ وهو ما يُطلِق أحيانًا “الحالة الذهنية”، فأنت لا تكتشف الروائح وتدركها في عزلة إدراكية. فهذه الإشارات المُرتَبطة بالسياق تُهيّئ حساسيتك وتُحفزّها نحو سماتٍ بعينها في الإدراك الشمّي. فعندما تشمّ مزيجًا من حمض الأيزوفاليريك (3 ـ ميثيل حمض بيوتانويك)، على سبيل المثال، فالأمر يختلف إذا ما أخبرتك بأن ما تشمُّه هي رائحة جبن البارميزان أو أنها رائحة قيء. وقد دُرِسَ تأثير الإشارات اللفظية اللغوية على إدراك الروائح من خلال سلسلة من الموادّ العطرية. وبوجه عام، فالروائح المتطابقة التي قُدِّمت مع وسوم لفظية مختلفة جرى إدراكها واكتشافها على أنها متفاوتة من حيث نوعيتها وطبيعتها. ولا تَكشِف هذه التغيرات المفاهيمية في عملية الإدراك الحسّي عن خللٍ في أنفك، فهذا النوع من التحوّل أمر وارد؛ لأن كُلًّا من جبن البارميزان والقيء يحتوي على حمض الأيزوفاليريك. وهكذا، فالمُثير المتعلِّق بحاسة الشم في هذه الحالة يكون ظرفيًّا وغير منتظم بشكل جوهري، بمعنى أن المواد المتطايرة ذاتها قد تنبعث من أصنافٍ شتى من الموضوعات والأشياء وقد تدخُل في تكوين العديد من المخاليط ذات الروائح المُركَّبة. ومن ثَمّ، قد تتشكّل لديك ارتباطات عديدة مُتبايِنة لنفس المثير المادي. ولذلك لا مفرّ من أن السياق الذي تستقبل فيه الرائحة يُحدِّد ماهية “ذلك الشيء” الذي ستكتشف رائحته وتدركها.
ثَمَّة عامل آخر وهو وضعيّتك الفيسيولوجية حين تكتشف إحدى الروائح؛ هل أنت جائع أم ثَمِل، مُنهَك أم مُتحمِّس؟ فحالة بدنك الفيسيولوجية والوجدانية تُحدِّد في نهاية المطاف كيفية إدراكك شيئًا ذا رائحة. خذ مثلًا رائحة القهوة، تلك الرائحة التي تحتوي على بضع مئات من المواد المتطايرة، وما من مُكوّن من هذه المكوّنات معزوًلا على حدة يُعطي رائحة القهوة؛ إنه إحساس متراكِب نتيجة لتوليفة بعينها. أحد المكوّنات الموجودة في رائحة القهوة هو الإندول. إذا ما وُجد الإندول بمفرده، فله رائحة قويّة ومميَّزة تشبه رائحة البراز. ومع ذلك، فلن تُدرِك هذه الرائحة في رائحة القهوة ككل؛ إلا إذا كنتِ امرأة حاملًا. فالحَمْل يُغيِّر حساسيتكِ لمكوّنات محدَّدة قد تعمل كملوثات ضارّة محتملة. الحمل، إذن، مثالٌ واضح حيث تتفاوت الحساسية للروائح بين الناس. كذلك، توجد حالات أخرى، أقل وضوحًا وأقل ظهورًا. خذ مثلًا الأندروستينون، أحد الفيرومونات الموجودة في لحم الخنزير، الذي يُدرِكه الناس بدرجات متفاوتة إلى حدّ كبير. فالبعض يعتبر رائحته أقرب إلى رائحة البول، والبعض الآخر يعتبره أقرب إلى رائحة الجسم (كرائحة كريهة في الغالب). وهناك آخرون يعتبرونه ذا رائحة خشبيّة أو حتى زهريّة أو حتى أشبه بالفانيلّا (الاكتشافات والخبرات هنا تُعتَبر لطيفة وأكثر جاذبية). هذا التنوع المدهش في إدراك طبيعة الشيء نفسه الذي تَنبعِث منه الرائحة يعكس بشكل عمليّ أوجه الاختلاف في حساسية المستقبلات الشمية لديك.
وعلى نحو ملحوظ، تم الربط بين درجات الحساسية المتباينة للأشياء التي تنبعث منها الروائح، بما فيها الأندروستينون، والفروق الجينية في تكوين المُستقبِل الخاصّ بحاسّة الشمّ لدى الناس (وبشكل أكثر وضوحًا في سلسلة من الدراسات المنشورة مؤخرًا). ومن المؤكَّد أن تنوُّع التركيب الجينيّ في المستقبِل الخاصّ بحاسّة الشمّ ليس العامل السبَبيّ الوحيد المُفسِّر لدرجات التباين والتنوع في الحساسية للأشياء ذات الروائح. أحد العوامل الأخرى هو اعتيادُ الشخص وأُلفَته لرائحة محددة، وكذلك عُمره ومدى تمرُّس حساسيته ودُربتها. ومع ذلك، فالتنوُّع الجيني سبب أساسيّ لتنوع الإدراك واختلافه بين الناس. فضلًا عن ذلك، فهو سبب مُنفصِل يُمكِن تمييزه في كل حالة. فعلى سبيل المثال، ثبت أن طفرة جينية واحدة بالقرب من جين حاسّة الشمّ OR6A2 هي المسئولة عن نفور بعض الناس من الكُزبَرة (ذلك النوع من التوابل)؛ فمَن لديه هذه الطفرة بعينها يُدركون عُشب الكُزْبرة على أنه شيء حادُّ النكهة وأشبهُ برائحة الصابون بدلًا من كونه أشبه بالفاكهة والنباتات الخضراء. هذه القابلية للتنوع في إدراك الناس للروائح ليست مجرد شيء قائم في رؤوسهم، وإنما هي شيء موجود في جيناتهم أيضًا.
هذه ليست إلا بعض أمثلة لتعقيد الأسباب الواقعيّة الحقيقية التي تَعضُد التفاوت في كيفية اكتشاف الناس للروائح وإدراكها. وهكذا، فيما يتعلّق بالشم لدى البشر، ما من شيء مُلغِز أو غامِض، لا شيء يقع جُزافًا بلا مبرر أو اعتباطًا. ويُمكِن إيضاح وتفسير جميع هذه الاختلافات في إدراك الروائح بين الناس لتقوم على مبادئ أو آليّات قابلة للتعميم.
تُقدِّم حاسّة الشمّ إمكانية موثوقة للوصول إلى الواقع؛ لأن آليّاتها البيولوجية والسيكولوجية تسمح لاستجاباتها الإدراكية أن تكون قابلة للتنوّع والتكيّف بدرجة كبيرة للغاية. إن أنفك مُصَمَّمٌ حتى يقيس العالم كما هو مُعايَر ومضبوط بحياتك الذهنية وأحوالك السيكولوجية. أما ما تتَّسم به ردود الأفعال الإدراكيّة تجاه الجُزَيئات ذوات الروائح من تنوُّع واختلاف فهذا ليس بسبب رَغَبات وميول ذاتية، وإنما لأن التغيُّرات الطفيفة في التركيب الكيميائي للبيئة المحيطة هي ما نشأ الجهاز الشمّي من أجل تقييمه بطريقة موضوعية، وموثوقة أيضًا إلى حدّ كبير.
والحال، تُقدِّم حاسة الشمّ الآن فرصة ممتازة لإصلاح الأفكار الخاصة بالموضوعية والذاتية فيما يتعلَّق بالإدراك الحسي. فقد تأسست النظريّات التقليديّة المتعلِّقة بالحواس على نموذج الإبصار. فإدراك الموضوع أو الشيء بصريًّا ينقل انطباعًا بأننا ينبغي أن نكتشف وندرك الواقع المادي من خلال العدسة ذاتها وعلى أنه الشيء ذاته دون اختلاف، بصرف النظر عن منظور الشخص أو الذات. وأي تنوّع أو اختلاف في الخبرة في هذه الحالة يجري الحكم عليه غالبًا بأنه مجرد انحرافات. ومن ثَمّ، كيف لهذا الفهم لطريقة الوصول الإدراكي الحسّي إلى الواقع وتمثيله أن يتغير ما لم يُعتبَر الإبصار هو النظام النموذجي المهيمن؟
يختلف الشمّ والإبصار جوهريًّا في طريقة ترميز المثير المادي وكيف يجري حساب وتقدير تمثيلاتهما الإدراكية بواسطة منظومتَيْ الإحساس في كل منهما. وتفسِّر هذه الاختلافات في طريقة المعالجة سبب ظهور تنوّع أكبر في التفسير الإدراكي للمثير المادّي في حالة الشمّ. وقد يتساءل البعض: كيف يمكن للشمّ عند البشر أن يمدّنا بإمكانية وصول موضوعي إلى الواقع رغم وجود مثل هذا التنوّع الغالب في عملية الإدراك الحسي؟ والإجابة، التي تُمثِّل الخيار البديل، هي أن هذا التنوّع هو البرهان على أن الشمّ يمكننا من الوصول إلى الواقع. في واقع الأمر، لعلَّ خداع عينيك أسهل من خداع أنفك!
لماذا نثق بوجه عامّ في عيوننا؟ يبدو من البَدَهي أن التعرف على الشيء بصريًّا أكثر موضوعية من إدراكه شميًّا؛ إذ إنه يقوم على ثبات منظور الرؤية وعدم تغيُّره. فبصرف النظر عن زاوية مواجَهتك للشيء، يمكنك إدراكه والتعرُّف عليه باعتباره الشيء ذاته ومن نفس الفئة. فعادة لا تتغيّر الكُرة فجأة لتتحول إلى مُربّع أو مُثلّث حين تُواجِهها من الجانب الأيسر بدلًا من الجانب الأيمن. وبالمثل، ستظل الكُرة كُرة إذا ما غيرتَ لونها أو قمت برشِّ أيّ رائحة عليها. ولا يُمكِننا بالضرورة قول الشيء ذاته عن الفكرة الشمّيّة من حيث ظهورها العابر المؤقَّت والمتقلِّب. فالإشارات المتعلِّقة بالسياق (مثل كلمة أو صورة) قد تُغيِّر تمامًا المحتوى المفاهيمي لإحدى الروائح في أحد المواقف؛ على سبيل المثال من كون الرائحة رائحة جُبْن البارميزان إلى كونها رائحة قيء، والعكس. أمّا في حالة الصور والتخييلات المتعلِّقة بالإبصار، فلا تحدث عادة إلا في حالات الخداع البصري والصور الملغِزة المحيِّرة مثل صورة البطة-الأرنب حيث تقع مثل هذه التغيرات الجذرية في الإدراك.
والآن، فالنقطة المخادِعة والتي تمثِّل مفارقة مبدئية فيما يتعلق بثبات المنظور في حالة الإبصار هي أن هذا الأمر يجعل جهاز الإبصار كله عُرضة لعمليّات الخداع الموجّهة. فبإمكانك أن تخدع جهاز الإبصار بصورة منهجية بناء على معماريّته السببيّة المادية ذاتها.
إن إدراك الشيء بصريًّا هو نتيجة لعمليّات متخصِّصة للغاية بداية من الشبكية وصولًا إلى الموضع الخاصّ بالإبصار في القشرة الدماغية. تقوم هذه العمليّات، كجزء مما يُطلَق عليه مسار كشف الحوافّ، بترميز خصائص متعلِّقة بالحيِّز أو المكان، مثل الحوافّ والحدود، والهيئة، والاتجاه، والامتداد. هذه الخصائص، في حقيقة الأمر، هي نِتاج للتكامُل التراتُبي المميِّز للإشارات العصبية خلال مراحل متعددة في مسار عملية الإبصار. وبناء على المعمارية السببية المادية لجهاز الإبصار، تُصبِح هذه الخصائص في نهاية الأمر عمليّات تجميع وتركيب لنقاط غير مرتبطة بموضع الرؤية، مثل نقاط الارتباط على شكل حرف T (وهي التي تُحدِّد حدود الأشياء)، ونقاط الارتباط على شكل حرف Y (وهي التي توضِّح المساحات التي تلتقي عندها الأسطح). ويَسمَح الحساب العصبي للخصائص غير المرتبطة بموضع الرؤية، مثل تلك الموضَّحة في الشكل رقم 1 أدناه، يَسمَح لجهاز الإبصار لديك بتثبيت درجات من الاطّراد والانتظام والاتّساق بحسب المنظور. ويشمل أحد هذه الاطّرادات تركيبَ البنى المتوازية.
الشكل 1: إدراك الشيء على نحو ثابت مُستقرّ من خلال ترميز نقاط الارتباط غير المرتبِطة بموضع الرؤية في جهاز الإبصار.
يَستنِد الخداع البصري عادة إلى استقلال موضع الرؤية عن الخصائص المكانية الفراغية خلال عملية المعالَجة البصرية. خذ مثلًا غرفة إيمز كما في الشكل 2 أدناه، حيث يحدث خِداع بصري فراغي بناء على قيام جهاز الإبصار بتركيب بنًى متوازية مألوفة له. تتكوّن غرفة إيمز على شكل بناء مُحدَّب متعدِّد الأوجه يبدو كأنه مُكعَّب عند النظر إليه من ثقب الباب. وهنا يجري الحكم خطأ على موقع إحدى زوايا الغرفة، ففي حين أنها تقع على مسافة بعيدة عن الشخص الراصد إلا أنها لا تظهر له كذلك. فإذا كان هناك شخص يقف في الزاوية البعيدة (الشخص أ) فإنه يظهر قِزمًا بالنسبة إلى شخص آخر، بنفس طوله ولكنه يظهر عملاقًا، يقف في الزاوية الأقرب (الشخص ب). تَحدُث هذه الخدعة بسبب تداخل الإدراك الوهمي المخادِع والأبعاد الحقيقية عند تحديد جهاز الإبصار للمَساقِط الفراغية المكانية.
الشكل 2: الخداع البصري في غرفة إيمز. الصورة من ويكيبيديا.
يمكن تكرار إحداث حالات الخداع البصري كما في غرفة إيمز، إذ إن هذه التأثيرات هي نتيجة مُترتِّبة على آليّات الإحساس الضمنيّة. ففي وقت سابق، خلال القرن التاسع عشر، لاحظ الفيزيائي الألماني هرمان فون هلمهولتز أن سبب الخداع البصري هو أن حالتَيْنِ من الواقع المادي تُحدِثان أنماطًا متطابقة في شبكية العين.
وهكذا، تُقدِّم لنا حالات الخداع هذه أمثلة تُبيِّن كيف يُمكِن خداع جهاز الإبصار لدينا بناءً على طريقة تكوينه السببية المُميّزة. وفي المقابل، من الصعب للغاية أن تخدع أنفك. والشمُّ، بالتأكيد، أكثر تنوعًا بدرجة كبيرة من حيث التعبير الإدراكي من الإبصار، إلا أن هذا التنوُّع لا يعني أنه جرى خِداع الأنف وتضليله. فالشمّ ببساطة لا يعمل بطريقة مناظِرة مماثِلة لجهاز الإبصار. وبشكل حاسم، فعملية ترميز خصائص الروائح ليست مستقلّة عن موضع الرؤية. وإنما على العكس، تعمل المبادئ السببية لجهاز الشمّ على إتاحة وتيسير تفسير مُعتمِد على السياق والتلميحات في عملية التكامل والدمج الحسابي للإشارات العصبية. هذه القابلية للتنوّع والتغيّر المتأصِّلة ذات فائدة هائلة في حالة الحكم على مثير بعيد يتقلَّب بدرجة كبيرة ويتغيَّر بتغيُّر السياق ولا يُمكِن التنبؤ بطبيعته. وكذلك، قد يتغير معنى ودلالة نفس المكوّن ذي الرائحة في أوساط كيميائية مختلفة لأنك لم تَشمَّ من قبل مادة كيميائية منفردة. فأنت، بدلًا من ذلك، تلتقي بمُرَكّبات كيميائية غير متجانِسة. (وما تحدثه المُركّبات الكيميائية من نشاط عصبي في النسيج الطلائي لم يعد ممكنًا فصل مكوناتها كلًّا على حِدة بمجرد وصولها إلى المستقبِلات على هذا النسيج الطلائي. غير أن هذه قصة سببية آسرة لها مقام آخر).
في نهاية الأمر، ليست قابلية التنوع في الإدراك الشمّي مسألة ذاتية غامضة وغريبة الأطوار. وفي هذا المقال، تعرّضنا لاثنتَيْنِ من القُدرات الأساسيّة التي يتميز بها أنفك بوصفه أفضل مُستشعِر كيميائي حيوي كفء وموثوق. القدرة الأولى هي دقته الواضحة. فأنفك حساس ودقيق للغاية في تحديد وتمييز أقلّ المقادير من المواد الكيميائية الذائبة في المحاليل (مثل آثار مركب TCA في الخمر المتعفِّن الفاسد). القدرة الثانية هي ذخيرته المرنة من التصنيفات وطاقته الاستجابية حين يَتطلَّبها سياق التعرُّض للمثيرات. تتضمن هذه الذخيرة أيضًا التعرُّف على نوعية الرائحة وطبيعتها. وهكذا، تُعنى مهمة الشمّ بتقييم مثير يتغيَّر بتغيُّر السياق بناء على مجموع التفسيرات الإدراكية. ومن ثَمّ فوظيفة الشمّ ليست مستقلّة عن الموضوع أو الشيء كما هو الحال في الإبصار. فأن يكون لنفس المكوِّن ذي الرائحة أكثر من تفسير إدراكيّ واحد ليس دليلًا على أن ثَمَّة خللًا في جهازك الشمّي. وبالأحرى، فنفس المكوِّن ذي الرائحة حين يوجد في ظروف كيميائية مُختلِفة يميل إلى اكتساب خصائص سلوكية متنوعة متباينة.
وللمفارقة، فإن القابلية للتنوع والارتباط بالموقف السياقي هما غالبًا ما يجعل خداع الأنف أصعب من خداع العينَيْنِ. فكِّر في الأمر. لماذا التسليم بأنّ عدم الارتباط بالمنظور هو معيار الموضوعية؟ فما يُميِّز الموضوعية كعلامة مُميِّزة للواقع ليس مظهر الأشياء، فهو عُرضة للتغيُّر، وبالأحرى، فنحن بحاجة إلى فهم المبادئ السببية المادية الضمنية التي ينشأ عنها هذا المظهر وما يتسم به من قابلية للتنوع والتغير. ولا تبدو الرائحة متقلِّبة متغيِّرة إلا في غياب الفهم الكافي لآليّاتها السببية المادية.
إن الدراسة العلمية للحواسّ، نزولًا إلى مستوى الجُزَيئات والخلايا، يدعونا إلى إعادة النظر في أسس فرضيّاتنا الفلسفية المترسِّخة فيما يتعلَّق بالإدراك الحسّي. فالتحليل الفلسفي المتعارَف عليه عمومًا فيما يتعلَّق بموضوعية الحواسّ (إدراك واحد موافِق لمثير واحد) أثبت وجود خداع مبهم غير واضح في ثنايا تقليدٍ فكريٍّ سابقٍ على العلم الحديث. وهذا أمر يحول دون فهمنا لعملية الشمّ حقّ الفهم؛ إذ يتجاهل الكثير من الإحساسات الأخرى، بما في ذلك الإحساسات الخفيّة مثل استقبال الحسّ العميق proprioception والحسّ الداخلي interoception. بل إنه يحول دون فهم حقيقي أصيل للإبصار. وفي حقيقة الأمر، فالمبادئ والآليّات السببية المادية للحواسّ -وليس مجرد الربط السطحي بين المُدخَلات والمُخرَجات الذي ينظر إلى منظومة الإحساس كصندوق أسود مبهم- هي ما يُحدِّد كيف تمدّنا حواسّنا بإمكانية الوصول إلى الواقع الخارجي. وحتى نفهم الإدراك في ضوء الحواسّ جميعًا، بما في ذلك كلٌّ من ثباتِ الإدراك وتنوعه على حدّ سواء، فهذا أمر يقتضي نظرة أكثر تدقيقًا وتفصيلًا على العمليّات الفعلية التي تربط بين عقلنا والعالَم. ولعلَّنا بهذه الطريقة وحدها نَصل إلى فهم كل منهما على حدٍّ سواء؛ العقل والعالَم.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.