إن عملية الفن مهمة فكرية تثبت حقيقتها من خلال الوعي العميق بالذات والنشاط التأملي والتفكير التجاوزي الذي يؤثر في تبعات المنجز الإبداعي ومضامينه وتفرد هويته، كما يؤسس عمقًا استثنائيًا في الفعل الإبداعي، إذ إنها تعد من أهم لوازم فعل الفن وهي مقدرات شخصية يؤثر في عمقها مكتسبات الخبرة الذاتية المصاحبة لمسيرة المبدع.
لكن ما الذي يربط الذات بالفعل الفني؟
من الطبيعي لغير ممارسي الفن أن يتحلوا بفهم ذواتهم وتقدير هوياتهم الخاصة غير أن المبدع يعد هذا المكتسب الذاتي أداته الأساسية الخاصة للحفر في أعماق الوجود، والتي تمكنّه من إدراك الحقيقة المرتبطة بهويته وثقافته وذاكرته وعلاقة كل ذلك بالعالم المرتبط به. ولهذا عندما نقول إن العمل الفني ينطلق من أرضية الذات فهذا لأنها الأقدر على التقاط وتفكيك أكثر الأشياء لغزًا في الوجود. فالذات خاصية متفردة في الإنسان تجعل منه كائنًا متطفلًا ومنجذبًا نحو المعرفة التي تساعده على الفكر المتجاوز للموجود الظاهر. ومن أجل ذلك يفشل قيام العمل الفني عند فشل فهم الذات لذاتها، إذ إنها تتطلب إدراكًا شخصيًا لوجوديتها في بادئ الأمر، غير أن للتفكير التجاوزي والتأمل العميق ورفع لياقة المعرفة في الذات الدور الأهم في النشاط الإبداعي في كل عملياته وحيثياته. وكيفما تحقق ذلك تصبح فرصة بروز حقيقة العمل الفني أقرب للبلوغ. في حين أن ذلك يعد أساسًا أوليًّا في تكوين الذهنية المعرفية التي تقود الفنان نحو بلاغة التقاطه للأفكار الأصيلة، إلا أن ذلك لا يعني حتمية قيام العمل الفني بالمعنى الذي يمكن أن يحفظ لنا شيئًا ما يبقى ونتذكره دائمًا بوصفه عملًا فنيًا أصيلًا. إذ إن عملية خلق العمل الفني ملتزمة بأدوار وعوامل أخرى مفعمة بالقوة الوجودية التي تؤدي إلى حدوث حقيقي للعمل الفني.
كشف الوجود
عندما فسر هايدغر العمل الفني في كتابه (أصل العمل الفني)1، فقد ركز على نموذجي الرسم والشعر على وجه الخصوص، إلا أن تفسيراته وتحليلاته تطابق الفعل الفني بشكل عام، إذ حرص على شمولية التحليل لفهم ما ينبغي أن ينتج عن أي عمل إبداعي، كما أن تحليلاته لأصل العمل الفني مرتبطة أساسًا بالوعي بالذات التي تقوم بدورها القلِقْ والمتطفل لفهم الوجود، حيث تنطلق من هنا عملية الإدراك الوجودي. إن العمل الفني حين يحقق إدراكًا ما للوجود فهو يعني قد أدرك حقيقة الجوهر في كينونة الموجود أي ذلك الشيئي المجرد أمامنا. والشيئية بمعنى الشيء الحامل لخصائصه وسماته، غير إن الشيء الموجود في شكله المجرد لا يقوم منه العمل الفني، لأن العمل الفني يتجاوز الشيئية التي صنعت بواسطته، حيث يحيله شيء آخر غير الشيء المجرد في حد ذاته، وذلك عبر المجاز الذي يقدم تصوراته الرمز. فقد وضع هايدغر حجر أساس فهم جوهر العمل الفني باعتباره شيء يلازمه شيء آخر. وهو ما يعني أن العمل الفني جوهره ليس الشيئية الظاهرة لكنه المجاز الملازم له. إن العمل الفني بوصفه رمزًا يعد شكلاً من أشكال التعرف على المعنى المتجاوز للمعنى الظاهر، وإذا أخدنا هذا نحو الشعر سنجد الصور المجازية تقيم المعنى البلاغي فيه، وتؤدي دورًا نزاعيًا بين ظهور المعنى واخفائه فيما يتجلى الجوهر بينهما، ففي الصورة الفيزيائية لشعر السياب حين يقول:
أصيح بالخليج: “يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ، والمحار، والردى!”
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ:
“يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى …”
ما يؤكد بأن الإخفاء خاصية أشد كشفًا من الظاهر المحض للموجود، وبالتالي فإن القبض على المعنى المتجاوز بصفته وجودًا للشيء الموجود ممكن جدًا عبر اعجاز الفن الكاشف عن وجود الحقيقة. في قراءة جادامر لكتاب (أصل العمل الفني) يصف كيف يرى هايدغر وجود العمل الفني بوصفه حدوثًا للكشف من الخفاء، أي إن الحقيقة والمعرفة تتحقق بالنظر إلى وجودها، فهي ليس طلوعًا للنور وإنما هي أيضًا اختفاء، فالوجود الذي يشير له هايدغر يُدرك عن طريق وجود تناقضه في الكشف والخفاء. فهايدغر هنا يشير إلى فجوة الوجود باعتبارها فلسفة ميتافيزيقية تتسع عبر الكشف والإخفاء وكأنها عمليات الكينونة والصيرورة التي تشكل الشيء ذاته، لذا يؤكد جادامر بأن صراع الكشف والخفاء ليس حقيقة العمل فقط، بل هو حقيقة كل ما هو موجود. ذلك أن الحقيقة بوصفها كشفًا هي دائمًا صدام الكشف والخفاء بعضهما ببعض.
إن الأمر إذن لا يتعلق بتقليد الموجود ووصفه كواقع محض بحيث يحقق التطابق مع الموجود، وإنما يتعلق الأمر على العكس من ذلك في التعبير عن جوهر الأشياء. وهذا التحليل يحقق تطابقًا أيضًا مع مفهوم تحصيل الفكر والمعرفة عبر التفكير التجاوزي للموجود المحض للأفكار. فعملية التقليد والتطابق من خصائص صناعة البضائع التي تنتج من أجل أن تؤدي غرضًا نفعيًا ما، غير أن العمل الفني صناعة يكون فيها مكتفيًا بذاته بوصفه حدوثًا للحقيقة، فعندما يفتح الموجود على وجوده تبرز الحقيقة وهي جوهر ما هو موجود عند كشفه، وأصل الجوهر أو الحقيقة في الموجود تكون في النزاع القائم بين الظاهر والمتخفي فيه، وهذا التضاد الأصيل القائم بينهما هو الأساس الذي ينكشف منه الموجود بوصفه وجودًا. من هذا المنطلق لا يؤمن هايدغر في العمل الفني إلا أن يكون ذو مضمون موضوعي يأخذنا إلى جوهره، فهو من جانب آخر يفسر ما يعمله الجميل من فاعلية ساحرة في إيجاد طريق الحقيقة في العمل، حيث يرى أن الجميل لا يعمل وحدَه في ظهور الحقيقة لكنه ينتمي لحدوثها، إذ يصعب أن يُدرك الجوهر من الجمال إذا ما أُخذ مستقلا باعتباره عملًا في حد ذاته. وهو ما يؤكده كذلك جادامر بأن الدور الذي يفعله الجميل يكون دورًا ثانويًا لبلوغ المضمون الموضوعي في العمل الفني، رافضًا مفهوم الجميل بصفته الكلي الممثل للحقيقة، حيث يتطابق هذا المفهوم مع تفسير هايدغر لأصل العمل الفني.
جعفر العريبي – زيت على قماش 221 C 191 سم – 2013 (منشور بإذن من الفنان)
يتقاطع بشكل بسيط تفسير هايدجر لحدوث الحقيقة في العمل الفني بوصفه كشفًا للموجود الآني مع نظرية التطور في علم الإجتماع عبر الصراع بين الخير والشر، غير أن هايدغر يعزو مفهوم أصل العمل الفني إلى إدراك الجوهر من نزاع الشيئي الموجود ذاته، النزاع الذي يقبض فيه الوعي العميق بالذات على الفجوة أو الوميض الذي تشي بها خصائص الكشف والتخفي في الموجود، إذ تعتبر خاصية التخفي والتنكر بوصفها رفضًا في الموجود الظاهر السحرَ الذي يبرز به وجود الموجود والمراد التدبر في وجوده، لكن استحالة القبض عليه يعني أنه ما زلنا غير قادرين على كشفه، ومن ثم كشف جوهر الحقيقة، وذلك نتيجة إخفاق تأملنا القاصر نحو الأشياء وغياب الألفة والمعرفة الأولية بالموجود. والأشياء تلك تشمل أيضًا الأفكار بوصفها شيئًا موجودًا، لأنها مرتبطة بشيء أرضي وكوني وفي آنٍ معًا تخفي وميضها المتنكر الذي تكشفه قدرتنا على التفكير التجاوزي فيه.
كشف الوجود وبداية تاريخ
إن عملية العمل الفني باعتبارها خلقًا متفردًا يجدر التفريق بينها وبين صناعة بضاعة المصنع، لهذا فالعمل مخلوق من نوع آخر لا يُدرك إلا من عملية الخلق نفسها، إذ يحفز ذلك على إثارة معرفتنا بنشاط الفنان المترتب عليه إنتاج العمل الفني، والذي يمكن أن يعرفنا على كينونته. فهايدغر ينسب خلق العمل الفني إلى الصناعة، غير أنها صناعةٌ متفردة يحددهها جوهر العمل الفني ويحفظها في ذاته. إن جوهر الخلق – أي عمليات حدوث العمل الفني- يُحدد من جوهر العمل الفني نفسه، ولأن وجود الفنان له علاقة بالخلق فإنه يجب مع ذلك أن تُحدد كينونة الفنان والخلق من كينونة العمل الفني. حيث تكشف تلك الكينونة عن أصل خلق العمل الفني ودواعيه المرتبطة بخبرة الفنان مع الوجود وما ينتج عنه من جوهر. فالكينونة هي أصل الموجود المتجاوز لظاهره الملموس وبإدراكها يكون الوجود، إذ توجد الكينونة في بداية الزمن وهي الوجود الأول للشيء قبل بدء صيرورته، وهو ما يعني أن الكينونة انتقالية ومتغيرة بفعل الصيرورة، بيد أن انتقال الكينونة أو الوجود هنا مرتبطٌ بوساطة الزمن، إذ يتوقف الوجود بانقضاء تحديده زمنيًا. وهو ما يفسر أهمية وجودية الأفكار من حيث ارتباطها زمنيًا مع الخبرة الذاتية المتزامنة معها، إذ تؤكد على كينونتها ووجوديتها في زمن اختبارها، فالفنان يتتبع صيرورة الموجود لتقوده نحو كينونته التي ينفتح من خلالها العمل الفني، وكلما انفتح بشكل أكثر أهمية أصبحت فرديته أكثر ألقًا لأنه صار موجودًا كما يصف هايدغر. ولهذا يعزو هايدغر حدوث الحقيقة في العمل الفني إلى الطريقة التي يعمل بها الفنان العمل الفني. أي أن دور نشاط الفنان العبقري لذاته المقتدرة في كيفية قيامه بالعمل الفني يؤدي إلى تأثير حدوث الحقيقة من عدمها.
يلخص هايدغر معنى الفن بأنه من جهة يعمل على ملاحظة إقامة الحقيقة نفسها في الشكل. ومن جهة أخرى يقوم بتحريك كينونة العمل الفني وإحداثها، إذ يحدث ذلك بوصفه المحافظة الخالقة للحقيقة في العمل الفني التي تحفظ بقاءه واستمراريته، وهو صيرورة الحقيقة وحدوثها. إذ يتطابق هذا المفهوم الهايدغري الأخير مع رأي ويسلي كري (Wesley Cray) البروفيسور المساعد في قسم الفلسفة في Grand Valley State University في بحثه الفلسفي الذي نشره عام 2014 في مجلة الجماليات والنقد الفني (The Journal of Aesthetics and Art Criticism) بعنوان “الفن المفاهيمي والأفكار والأنطولوجيا” (Conceptual Art, Ideas, and Ontology). الذي يؤكد فيه حقيقة مبدأ “الأعمال المفعمة بالمعنى”، والتي تعكس تفسيرًا فاعلًا لدور العمل الفني من خلال إيجاد المعنى في الشكل الذي يعزز حفظ واستمرارية العمل الفني، في مقابل مبدأ “فكرة الفكرة” التي تضع الشكل في دور ثانوي من أجل أن تبقى الفكرة وحدها مركزية العمل الفني بينما يحميها النص اللغوي بشكل جلي. 2
من خلال هذا المعنى الأخير يجهز هايدجر تفسير الفن من حيث كونه تاريخًا، إذ يتلقى التاريخ دفعة تكون بداية له عند حدوث الفن، والتاريخ هنا كما يصفه هايدغر ليس تتابع أحداث ما في الزمن حتى لو كانت أحداثًا بالغة الأهمية، إذ يعبّر عن التاريخ الذي يحدثه الفن على أنه خروج شعبٍ عما تخلى عنه ودخوله إلى ما تم إعطاؤه إياه. ولهذا فإن هايدغر يرى الفن بأنه تاريخي من حيث المحافظة الخالقة على الحقيقة التي تحفظ بقاءه واستمراره ليقول لنا شيئًا دائمًا. وهو بوصفه وقفًا وحافظًا يعد تاريخيًا من حيث الجوهر. وإذا ما عرفنا الكيفية التي يصبح بها الفن تاريخًا فإنه يصعب القول إن مهمته توثيقية بالمعنى الاختصاصي لمهنة التوثيق، لأن الفن لا يحدث من كون أصله توثيقًا، فالفن تاريخ من حيث هو جوهري ينشئ التاريخ، وهذا يعني أن التاريخ ينشأ بكشف الجوهر وهو أصل العمل الفني الذي يجعل بروز العمل من ناحية توثيقية ممكنًا بعد ذلك. إذ لا يصح أن يخلق الفنان العملَ الفني من منطلق العمل التوثيقي المحض كمرجعية لنشاطه الأصلي في كيفية إيجاده لعمله الفني. ولكن على العكس من ذلك فإن إمكانية اعتبار العمل الفني مصدرًا توثيقيًا هو نتيجة كشف الجوهر الذي يحفظه العمل الفني باعتباره تاريخًا.
مصادر:
1- أصل العمل الفني لمارتن هايدغر – ترجمة د. أبو العيد دودو
2- Conceptual Art, Ideas, and Ontology by WESLEY D. CRAY published by The Journal of Aesthetics and Art Criticism on 2014