
«بما أنّنا لا نفكر إلاّ من خلال الصور، فإذا أردت أن تكون فيلسوفًا، فاكتبْ رواية». – ألبير كامو
يُعتبر خوزيه ساراماغو أحد أهم الروائيين المعاصرين؛ إذ حاز في عام 1998، على جائزة نوبل للآداب عن روايته الأشهر «العمى»، كما أن له العديد من الروايات التي تخلق عوالمًا وشخصيات تواجه أحداثًا فريدة. قد يكون هذا تعريفًا ناقصًا أو مجحفًا بحق ساراماغو المتوفى عام 2010، وهو القائل: «بعد موتي قد يذكرون في الصحف أني كنت كاتبًا ونلت جائزة نوبل للآداب، ولكن إذا كان من الممكن أن يضيفوا إلى هذه المعلومة أني ساهمت بشكلٍ ما في تعزيز السلام على هذه الأرض، فأتمنى أن يوردوا هذه الجملة قبل خبر جائزة نوبل».
في هذه المقالة أحاول تقديم قراءة تحليلية لرواية «الكهف»، ومدى ارتباطها بنظرية الكهف لدى أفلاطون الفيلسوف، فما كان ارتباطهما في عنوان الرواية فقط، بل في الأفكار والبُنى السردية التي تقدمها الرواية عن عالم سيبريانوا ألغور وعائلته الصغيرة التي تسكن بأرياف أحد المدن، وكعادة ساراماغو لم يسمِّ في روايته مدينة ما بالتحديد؛ بل اكتفى بصورةٍ عامة يمكن إسقاطها على كل المدن الكبرى في عصرنا الحالي، خاصة على أشهر المدن في قارتيّ أوروبا وأمريكا الشمالية.
عن حكايات ساراماغو وأسلوبها
قبل البدء في قراءة أعمال خوزيه ساراماغو، تجب مراعاة أسلوب الكاتب في كتاباته. فمن الملاحظ في كتابات ساراماغو أنها متصلة، سواءً انتهت الجملة في آخر السطر أو قبل ذلك، فإن الكاتب لا يبدأ من السطر الجديد إلا في بدايات الفصول التي لا تحمل أرقامًا أو عناوين. الأمر الذي قد يجعل من أول تجربة لقراءة أعماله مستصعبة بعض الشيء، لكن الاعتياد عليها حقيقة يسير وبسيط بعد بضع صفحات من الرواية وبمعرفة سبب هذا الأسلوب في الكتابة.
من جهةٍ أخرى، فإن الكاتب أيضًا لا يستخدم علامات التعجب أو الاستفهام ولا أيّة علامات مميزة للجمل الاعتراضية، أو الجمل التفسيرية، أو العلامات الدالة على الاقتباس والتضمين، فلا يستخدم من علامات الترقيم غير النقطة والفاصلة، وللأمانة فإن هذا الأسلوب قد يبدو واضحًا أكثر باللغة اللاتينية، إذ إن الكاتب يبدأ كلام المتحاور عادة بالأحرف الكبيرة (Capital Letters)، ولكن لاستحالة ترجمة مثل هذه التصرفات اللغوية إلى اللغة العربية، فإن المترجمين قد فضّلوا وضع علامة نقطة للإشارة إلى بداية كلام المتحاور أو للفصل بين مداخلات المتحاورين. يمكن أن يكون الحوار التالي بين سيبريانوا ألغور، الشخصية الرئيسية في رواية «الكهف»، مع معاون المدير في المركز مثالًا واضحًا على هذا الأسلوب:
«فسأله سيبريانوا ألغور لمجرد السؤال، وعندما يحدث هذا، ماذا تفعلون، فردّ معاون المدير بنبرةٍ متنازلة، سيدي العزيز، لا أظنك تنتظر أن أكشف لك هنا عن سرّ النحلة، لقد سمعت على الدوام أن سرّ النحلة شيء لا وجود له، وأنه مجرد خدعة، مجرد سرّ زائف، خرافة لم ينهوا اختراعها، قصة كان يمكن لها أن توجد ولم توجد، معك حق، سرّ النحلة لا وجود له، ولكننا نعرفه. فكبح سيبريانوا ألغور نفسه كمن وقع ضحية عدوان غير متوقع».
ومن شأن هذا الأسلوب في الكتابة أن يتميز بـ«شفافية الكتابة»، كما يطلق عليها المترجم علي عبدالرؤوف البمبي: «أيّ أنها مكتوبة لكي يرويها حكّاء أو مُنشد على أسماع الناس المتحلقين حوله، سواءً في سوق أو ميدان عام؛ على غرار ما كان يفعله الشعراء الجوالون (Juglares) في المجتمعات الغربية خلال العصور الوسطى، وعلى غرار ما كتبه أول شاعر غنائي في اللغة الإسبانية خوان رويت، أو خوان جويتيسولو في عصرنا الحالي».
ومن شأن هذا النوع من السرد -فضلًا عن تجاهل العلامات الكتابية وعن التنغيم الذي يقع على عاتق الحكواتي أو الراوي- أن يقف في حكاية الحدث عند نقطة الذروة فيه ثم العودة إليها لاحقًا، بالإضافة إلى الحرية المطلقة التي تمنحها للكاتب في استخدام الأزمنة الفعلية والتحوّل من زمنٍ إلى آخر في الجملة نفسها، والنهاية المفتوحة للقصة مما يترك للقارئ -أو السامع- مجالًا للتأويل الشخصي للرواية.
أحد أهم أفكار ساراماغو التي تتكرر في أعماله السردية هي حتمية هشاشة المدينة الحديثة التي طورها الإنسان المعاصر؛ فهي قابلة للدمار بسبب تعطل بسيط في الحالة المعتادة، مثل أن يتفشى بين الناس وباء العمى فيعطّل الحياة مباشرة في روايته «العمى»، أو توقف الموت المفاجئ الذي يحيّر قيادات المدينة، ويغير موازين الحياة في رواية «انقطاعات الموت»، أو حتى عندما يشتكي من هذا التطور الذي يمحي فرادة المدن فيقول عن مدينة لشبونة التي قضى فيها معظم حياته: «في الأعوام الأخيرة تحولت لشبونة، لقد نجحت في أن تعيد في ضمائر مواطنيها إحياء القوة التي انتشلتها من المستنقع الذي سقطت فيه. باسم الحداثة، رُفعت الجدران الإسمنتية فوق الجدران القديمة، وشُوّهت معالم التلال، وعُدلت خطوط الرؤية. لكن روح لشبونة ما زالت حية، والروح هي التي تجعل المدينة خالدة».
وها هو يؤكد في روايته «الكهف» بأن الحضارة البشرية الحالية تنازع وتشارف نهايتها؛ «فتاريخ الإنسانية سلسلة من حضارات تبدأ وتموت. هذه ليست الحضارة الأولى التي تختفي، ولن تكون الأخيرة؛ إذْ اختفت حضارات وإمبراطوريات كثيرة على مرّ الزمن»، يقول ساراماغو معلّقًا على الرواية في لقاءٍ صحفي، «لا يعني ذلك أننا نتجه نحو لحظة أبوكاليتية مهولة، فالأمور ليست راديكالية إلى هذه الدرجة. جُلّ ما في الأمر أن قيم حضارتنا، حضارة الإشعاع الإنساني، تختفي إلى غير رجعة. ولست أتكلم هنا عن الشرق الأوسط أو عن إفريقيا، بل تحديدًا عن قيم الغرب. إننا نلج زمنًا ماديًا تسود فيه قيم المصلحة الشخصية والمكاسب والبيع والشراء». بالطبع لطالما كانت قيم التجارة والبيع والشراء والمقايضة موجودة في الفصيل البشري منذ فجر التاريخ، فالخطأ والضرر ليسا في عملية المتاجرة لذاتها، «ولكننا أدركنا مرحلة بات فيها البيع والشراء الغاية القصوى والوحيدة من الحياة. بتنا نعيش لنتاجر، لم نعد نتاجر لنعيش. وذلك في رأيي سيكون له تأثيرات قوية جدًا في طريقة التفكير والذهنية وأسلوب عيش الإنسان حياته في المستقبل».
سيبريانوا ألغور بين الخوف والقلق
ترتكز القصة في رواية «الكهف» على ثلاثة شخصيات رئيسية: سيبريانوا ألغور، وابنته مارتا، وصهره مرسيال غاتشو، ولا ننسى الكلب لقية، أو كما يفتتح ساراماغو الرواية، «الرجل الذي يقود الشاحنة الصغيرة المغلقة يدعى سيبريانوا ألغور، مهمته صانع خزف، وله من العمر أربع وستون سنة، مع إن مظهره يوحي للوهلة الأولى بأنه أصغر سنًا. والرجل الجالس إلى جواره هو صهره، ويدعى ميرسيال غاتشو، لم يبلغ الثلاثين بعد. ومع ذلك، فإن ملامح وجهه لا تسمح لأحد بأن يقدّر أن له من العمر كل تلك السنوات. تلتصق باسم كل منهما، مثلما لاحظنا كنية غريبة، يجهلان أصلها ومعناها وسببها».
تدور القصة حول هذه العائلة الصغيرة التي تسكن خارج المدينة الكبيرة التي حملت اسم «المركز» في الرواية، وقد صف ساراماغو بشاعتها مقارنة بالطبيعة المحيطة بها: «جرّب سيبريانوا ألغور أن يوجّه اهتمامه نحو المشهد الطبيعي، […] يعرف جيدًا أنه لا وجود لما يمكن أن يطمئنه في المشهد الكئيب للدفيئات البلاستيكية الممتدة إلى أبعد مما يبلغه البصر، على هذا الجانب وذاك، حتى الأفق، مثلما يمكن تمييز ذلك بصورة أفضل من أعلى المرتفع الصغير الذي تصعده الشاحنة في هذه اللحظة بالذات»، وليس نقد ساراماغو للمدن الحديثة مقتصرًا على بشاعتها وبُعدها عن المشاهد الطبيعية في الأرض؛ فلا يمكن نكران المنفعة الاقتصادية وحياة الرفاهية التي تجلبها المدن لسكانها بل ويمتد أثرها إلى من حولها من الحرفيين، إلا أنه وخلال فترة اعتماد سيبريانوا ألغور على هذا المركز في شراء الأواني الفخارية التي يصنعها، طلب منه المركز التوقف عن إمدادهم بهذه الأواني نظرًا لاعتماد الزبائن المتزايد على الأواني البلاستيكية بدلًا عنها.
ربما تكون أحد منافع الفن الأساسية هي أن تلفت انتباه الإنسان المعاصر إلى تلك المناطق التي لا تستدعي انتباهه خلال أيامه المتسارعة، أو كما يقول الشاعر سركون بولص: «إن الكاتب شاهد على عصره، وعليه أن يكون واعيًا، في خضم كل هذه الفوضى والجنون، والحروب والمذابح، وأن يكون مدركًا لتلك الأصوات الباهتة التي تحدّثنا عن الزمن الماضي، عن حيوات أخرى مدفونة في بطن الحوت الذي يُطلق عليه التاريخ»، وفي هذه الرواية ينطلق ساراماغو في رحلةٍ قلقة عاصرها سيبريانوا ألغور بعد أن استغنت عن خدماته المدينة الحديثة، فهو لا يملك من مهارة سوى صناعة الخزف التي لم تعد بدورها كافية لأن تعيله في عمره المتأخر، «هناك مهن كثيرة اختفت، ولم يعد هناك اليوم من يعرف ما الذي كان يفعله أولئك الأشخاص، وما كانت فائدتهم».
«إنه تبدل الأزمنة، إنهم المسنون الذين يهرمون يومًا مع كل ساعة تنقضي، إنه العمل الذي يتخلى عن أن يكون ما كان عليه، وأن نكون ضروريين في هذا العالم -هذا إذا كنا ضروريين فيه يومًا- ولكن الاعتقاد بأننا كنا ضروريين كافٍ، أو يبدو كافيًا، وكان أبديًا بطريقةٍ ما، خلال الوقت الذي تدوم فيه الحياة، لأن هذه هي الأبدية، ولا شيء سوى هذا». تم نشر هذه الرواية في عام 2000، لتكتب عن معاناة أولئك الذين سبقتهم الحياة اليومية من بدايات القرن الماضي مرورًا بفترة اختراع الكمبيوتر الشخصي في عام 1997، وانتشاره الكبير في كل مجالات العمل خصوصًا بعدما أصبح الإنترنت ضروريًا لسير الأعمال ابتداءً من 1997، وابتدأ بعدها عصر جديد للتقنية وصل بنا إلى هذا التطور الذي نشهده في أيامنا.
سيبريانوا ألغور هو شخصية بسيطة جدًا، في آخر أيامه المهنية كصانع خزف، ينتظر هو وابنته وصهره خبر ترقية الأخير لينال منزلًا في المركز يقضون فيه المرحلة المقبلة من حياتهم، وكان لخبر استغناء المركز عن خدماته وقعًا قويًا على سيبريانوا نظرًا لعمره المتقدم، أو كما يقول لصهره حين وعده بالانتقال معه ومارتا إلى المركز فور حصوله على الترقية الموعودة: «لم أعد في سن تسمح لي بانتظار الآمال يا مرسيال، أريد أمورًا يقينية، وأن تكون يقينية فورية، لا تنتظر إلى غدٍ قد لا يكون لي». وعي سيبريانوا بتقدمه في العمر وخوفه من أن يكون عالة على ابنته وصهره في المستقبل، فضلًا عن شعوره بأنه هامشي في الأيام المقبلة من الحياة بعدما تغيرت كل الحياة التي يعرفها، كل هذا تسبب في دخوله إلى حالةٍ من القلق والتساؤل المستمر عن حياته وقيمتها ومعناها وعن القيم الأساسية التي يدافع عنها وأحلامه الصغيرة التي التقطها في مسيرته في الحياة، وذلك ما بدا واضحًا عليه خلال القصة، «كما لو أنه يحلم بأن يتحرر من نفسه ويصطدم طوال الوقت بجسده».
وكان ذلك واضحًا حتى في حواراته مع ابنته وصهره التي بدت أكثر من مرة وكأنها حالة من تأجيل انفجار وشيك. فلتقدمه في العمر آثاره السلبية على قوته البدنية والتي لا يحتملها الأخير؛ فهو يعي تمامًا بأن «الشباب لا يعرف ما يمكنه تحقيقه، والشيخوخة لا تتمكن من تحقيق ما تعرفه». بينما كانت حالته النفسية التي قدمها ساراماغو مضطربة وتتطلب التضحيات الكثيرة ممن يعاشرونه، مثل ابنته مارتا التي تعاطفت معه وحاولت تخيّل ما يعانيه أبيها نتيجة لبقائه دون عمل فجأة، وابتعاده عن البيت ومشغل الفخار وعن الفرن وكل الحياة التي يعرفها. وهذا أيضًا ما يقرّ به سيبريانوا إذ يقول: «من المحتمل جدًا أن يكون عدم التعقل وقلة الحكمة واجبًا على الشباب، ولكنهما حق للشيوخ يجب احترامه بالمطلق».
ولكن «من الأفضل لنا أن نجازف بالصعود إلى شجرة التين في محاولةٍ للوصول إلى الثمرة»، يقول ساراماغو، «بدل الاستلقاء في ظل الشجرة وانتظار أن تسقط ثمرة التين في فمنا». وما يغيب عن الإنسان في الحالات الصادمة لنفسه، وفي حالات القلق هو أنه «مهما كانت الاحتمالات كثيرة ومتنوعة إلا أنها ليست نهائية، والمسألة كما في كل شؤون الحياة، هي مسألة وقت وصبر»، وأن النتيجة الأخيرة بعد التغلب على ما نواجهه ستكون مُرضية مهما كانت عصيّة على مخيلاتنا الآن، وهذا ما تكشفه القصة في تطوراتها السردية بعد ذلك، لكني سأتفادى كل ذلك لأتطرق بشكلٍ أكبر للسبب الرئيسي في عنوان الرواية؛ الكهف.
نظرية كهف أفلاطون
«نحن لم نكن قريبين من كهف أفلاطون كما نحن اليوم»، يقول ساراماغو عن رواية «الكهف» في لقاءٍ صحفي، «أفلاطون وصف كهفنا هذا منذ نحو 2300 أو 2400 عامًا، كما لو أنه نبي، وها نحن قد وصلنا إليه وبتنا نعيش فيه». يرجع عنوان الرواية إلى المشهد الرئيسي في حبكتها، وهو دخول سيبريانوا ألغور إلى الكهف الذي استدلّ عليه بطريقةٍ ما تشرحها الأحداث، ليجد داخل الكهف عدّة مقاعدٍ حجرية عليها بعض الأقمشة الباهتة، وستة أجساد بشرية تجلس منتصبة الجذع كما لو أن وتدًا حديديًا قد ثبتها في جلوسها على المقاعد، «كان جدار صدر المغارة الأملس على بُعد عشرة أشبار من محاجر العيون الغائرة؛ حيث كرات العيون قد اختُزلت إلى حبةٍ من غبار». وتجدر الإشارة أن هذه هي الصورة التي صوّرتها جمهورية أفلاطون في ما يُطلق عليه اسم؛ نظرية الكهف، إذ يقول أفلاطون على لسان سقراط:
«تخيل كائنات بشرية قبَعوا في كهف تحت الأرض، له ممرّ طويل باتجاه النور، ظَلّ هؤلاء الناس هناك منذ نعومة أظافرهم، وقُيّدت أرجلهم وأعناقهم بأغلال؛ حيث لا يستطيعون التحرك من أماكنهم أو رؤية أي شيء سوى ما يقع أمام أنظارهم؛ لأن السلاسل منعتهم من إدارة رؤوسهم. ومن ورائهم تضيء نار اشتعلت عن بُعد في موضع عالٍ، وبين النار والسجناء طريق مرتفع. ولتتخيل على طول هذا الطريق جدارًا صغيرًا، مشابهًا لتلك الحواجز التي يضعها أمامهم لاعبوّ الدمى المتحركة، والتي تخفي اللاعبين وهم يعرضون ألعابهم».
كما وجد سيبريانوا بقايا أربطة يبدو أنها استخدمت لتثبيت أعناقهم ومنعها من الحركة، وأربطة أخرى تتدلى من أرجلهم أيضًا امتثالًا للصورة المتخيلة في حوار أفلاطون، وهذا ما أدركه سيبريانوا أيضًا في نقاشه مع صهره بعدها؛ إذْ «سأله، أتعرف ما هو كل ذلك، نعم، فقد قرأت شيئًا منذ زمن، أجاب مرسيال، وأنت تعرف أيضًا أن ما هو هناك، بالرغم مما هو عليه، ليس فيه شيء من الواقع، لا يمكن أن يكون حقيقيًا، أعرف ومع ذلك، لمستُ بيدي هذه جبهة إحدى أولئك النساء، لم تكن وهمًا، لم يكن حلمًا، وإذا ما رجعت الآن فسوف أجد الرجال الثلاثة والنساء الثلاث أنفسهن، وحبال التقييد نفسها، والمقعد الحجري نفسه، والجدار الذي أمامهم نفسه».
تشرح نظرية أفلاطون مشهد الحياة داخل الكهف، فسكان الكهف لا يرون من كل الحياة الواسعة خارج الكهف سوى بعض الصور والظلال التي تلقيها النار على الجدار المواجه لهم من الكهف، وهذا فقط هو نصيبهم من تجربة الحياة وهو أيضًا ما يشكّل وعيهم وأفكارهم عن الحياة وكل ما فيها.
يفترض سقراط بعد ذلك في حوار أفلاطون أن أحدًا منهم قد أفلت من قيوده بطريقةٍ ما، وخرج فجأة من ذلك الوضع الغريب داخل الكهف ليكون حرًّا في تحريك رأسه كما يريد، حرًّا في السير داخل الكهف كما يريد؛ بل وحتى الخروج من الكهف إلى النور أيضًا.
بالطبع سيعاني ذلك الشخص في بداية الأمر من آلامٍ حادة من الحركات المفاجئة والجديدة على جسده، وربما يعاني صداعًا وقلقًا وانزعاجًا شديدًا من التوهج الشديد لما حوله في الحياة خارج ذلك الكهف، وسوف ينبهر أشد الانبهار بهذه الحياة بمعناها الرحب والواسع، وربما تذهله تلك الاكتشافات المتتالية فجأة إلى حدّ الجنون. لكن من جهة أخرى فإنه لدى عودته إلى الكهف ليخبر رفقته الخمسة عمّا اكتشفه، وعن حقيقة الظلال التي تعكسها النار على الجدار أمامهم وأنها وهمٌ باطل؛ «فغالبًا ما ستكون الحيرة هي ردة فعلهم الوحيد، بل وربما اعتقادهم المستمر بأن الظلال التي ترسمها النار أمامهم “أقرب إلى الحقيقة” من تلك التي يخبرهم عنها زميلهم، وربما تمتد ردة فعلهم إلى السخرية منه حيث “يقولون بأنه لم يصعد إلى الأعلى، إلا لكي يفسد أبصارهم، وأن الصعود أمرٌ لا يستحق منا عناء التفكير فيه».
ولكم أخبرنا التاريخ عن الفظائع التي واجهها أولئك الذين وصلوا إلى عالم المعقول وحاولوا تغيير العالم المنظور إلى ما يعقلون، يكفي أن نذكر بأن سقراط لم يتخلَ عن فلسفته إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة حين حُكم عليه بالإعدام عام 404 ق.م، وأن يوهان فريدريش ستروينسي أيضًا قد أُعدم في الرابعة والثلاثين من عمره نتيجة لمحاولاته في إجراء العديد من الإصلاحات واسعة النطاق في الدنمارك عام 1772، «فالسذاجة والبراءة، مثلما حدث في مرات كثيرة، كانتا الجذر الخبيث للأخطاء الأخرى»، كما كتب ساراماغو في روايته، ومن البديهي أيضًا أن سلامة النية لا تعني بالضرورة الوصول إلى أهدافنا الخاصة والعامة، فالطريق إلى الجحيم محفوف بالنوايا الحسنة، كما يُقال في الأثر. الجدير بالذكر أن ساراماغو هو الآخر قد تسببت له بعض أفكاره وأعماله الروائية الأولى بالكثير من المتاعب في عدّة وظائف شغلها خلال مسيرته العملية. تمثل هذه النظرية أو هذا المثال بالتحديد شرطًا بالنسبة إلى أفلاطون في سلوك البحث عن الحكمة وطريقها، سواءً كان ذلك على مستوى حياتنا الخاصة أو في الشؤون العامة؛ فالسجن يواجه العالم المنظور، ووهج النار الذي كان يضيء الكهف هو ضوء الشمس، «أما رحلة الصعود لرؤية الأشياء في العالم الأعلى فتمثل صعود النفس إلى عالم المعقول».
تعتمد نظرية أفلاطون على التفرقة بين العالم المنظور أو العالم المادي الظاهري الذي نعيش فيه وندركه من خلال حواسنا، وبين العالم المعقول أو عالم الحقيقة الذي توجد فيه كل الأشياء الحقيقية التي تتصف بالكمال، ولهذه الأشياء مثيلاتها المشابهة أو المستنسخة بطريقة غير كاملة في عالمنا المحسوس. «فآخر ما يُدرك في العالم المعقول بعد عناءٍ شديد هو مثال الخير، ولكن المرء ما إن يدركه حتى يستنتج حتمًا أنه عِلّة كل ما هو خير وجميل في الأشياء جميعًا، وأن العالم المنظور هو خالق النور وموزعه، وفي العالم المعقول هو مصدر الحقيقة والعقل»، يعقب أرسطو على لسان سقراط في حواره، “فبدون تأمل هذا المثال لا يستطيع أحد أن يسلك بحكمة، لا في حياته الخاصة ولا في شؤون الدولة”».
تميل منظومة ساراماغو الفكرية إلى حالةٍ من العالم المعقول -بتعبيرات أفلاطون- يمكن إسقاطها على العالم المحسوس وتكون أكثر مساواة بين البشر. من سوء الحظ بأنه لم يملك نموذجًا أكثر تكاملًا ليقدمه كمخرج أو حلّ للمعضلة لكنه اكتفى بالإشارة إلى الخطأ؛ «فالعولمة الاقتصادية وحقوق الإنسان عنصران غير منسجمين، بل متنافران إلى أقصى الحدود» يقول ساراماغو، «نحن نعيش عصرًا تبدو فيه حقوق الإنسان، من وجهة النظر الرسمية، راسخة ومحترمة ومُطالبًا بها ومُدافعًا عنها، لكن الواقع غير ذلك؛ وهذا قد يحملنا إلى ديكتاتورية من نوعٍ جديد، مختلفة عن سابقتها في أنها ليست مثلها بيّنة وواضحة، سهلة الرصد مما يتيح لنا الكفاح ضدها، بل هي مستترة كسرطان خبيث لن نستطيع أن نرصد هول خرابه إلا بعد فوات الأوان».
بالرغم مما تبدو عليه هذه النظرة من تشاؤم، وتصريح ساراماغو بأنه يرى هذه النظرة التشاؤمية هي فرصة خلاصنا من العالم المشؤوم بحيث يبدو فيه التفاؤل كأنه ينمّ عن انعدام أي إحساس أو بلاهة فظيعة؛ إلا أنه أيضًا وإن كان يقرّ بتشاؤمه إلا أن تشاؤمه هو «تشاؤم قائم على هذه الفكرة: لأن الواقع بهذا السوء، سأحاول ضمن إطار قدرتي تغييره»، وإن لم يكن بمقدورنا تغييره فعلى الأقل يمكن أن يشير بإصبعه ويقول: «انظروا، هذا سيء»، كما يفعل هو مع العولمة والنظام الاقتصادي المعاصر. ففي النهاية؛ هو يسلّم بأن «المتفائلين غير الأغبياء جيدون بقدر المتشائمين غير اليائسين، وبأن هاتين الفئتين يجب أن تتكاتفا وتعملا معًا لكي تحاولا الذهاب بواقعنا إلى مكان أرقى وأفضل».
عمومًا، وبغض النظر عن أفضلية التفاؤل أو التشاؤم، فالنقطة الأهم بين نظرية كهف أفلاطون، وتجربة كهف ساراماغو، هي المجاز الواقعي للحياة وتأثير الواقع على رؤيتنا للأمور التي قد تكون محدودة وتفتقر إلى الحقيقة الكاملة؛ فالفكرة الجوهرية في الكهف هي أن ما نراه أو اعتدنا على رؤيته قد لا يكون الحقيقة بل مجرد ظلال خادعة عن الحقيقة وافتراضات صوّرها عقل المرء لما لا يدرك، ولذلك فالحواس عند أفلاطون تخدع كما خُدِع سيبريانوا ألغور بالخيارات المحدودة في حياته وكفاحه للتماسك بعد التوقف عن كونه صانع خزف. ربما علينا أن نتساءل أحيانًا: هل كانت أفكارنا الخاصة هي نتاج البيئة المحدودة التي نشأنا عليها، وتبنينا افتراضات غير حقيقية بسبب ذلك؟ أم أنها جزء أصيل من رحلة الإنسان في البحث عن الحقيقة عند أفلاطون، وفي الحياة الكريمة لسيبريانوا ألغور في عالم ساراماغو؟
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
المراجع:
- خوسيه ساراماغو (2010)، قصة حصار لشبونة، (ترجمة: علي عبدالرؤوف البمبي)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للثقافة والترجمة (كلمة).
- خوسيه ساراماغو (2014)، المفكرة، (ترجمة: عدنان حسن)، الجمهورية العربية السورية، دال للنشر والتوزيع.
- خوسيه ساراماغو (2018)، الكهف، (ترجمة: صالح علماني)، جمهورية العراق، منشورات الجمل.
- أحمد المنياوي (2010)، جمهورية أفلاطون، جمهورية مصر العربية، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع.
- جمانة حداد (2007)، صحبة لصوص النار، الجمهورية اللبنانية، دار النهار للنشر.