مقالات

الحُبّ كتجربة وجوديّة، وبعيدة عن الأسطورة الفنيّة

أحمد بادغيش

«الحُبّ في الوقع اعتياديّ تمامًا، وهو لا يصل إلى مرتبة أن يكون كونيًا، وليس جوابًا لمشكلات الحياة كافّة، كما أنّه مفجعٌ أحيانًا».

–روبرت سي. سولومون.

في العالم الاستهلاكي الرقمي اليوم، يتم تسويق الحُبّ بشكل كبير ومتكرر على مختلف المجالات الإنتاجية من أفلام ومسلسلات وأغاني بمختلف اللغات والتصنيفات الفنية، كما يتم أيضًا تسويق المحبوب والقابلية للحبّ من الجهة المقابلة. الأمر الذي ينعكس بشكل كبير على علاقاتنا العاطفية في حياتنا الواقعية، ويجعل مفهوم الحبّ أكثر سطحية وابتعادًا عن ماهية الحبّ نفسها؛ فعلى أحد الطرفين أن يكون ناجحًا جديرًا بالحبّ، وينعكس ذلك على عمله وملابسه وممتلكاته وبعض صفاته، وللطرف الآخر أن يكون جميلًا جذابًا ومواكبًا لآخر صرخات الموضة. ربما يكون هذا النموذج واضحًا في فيلم «Don Jon» الذي جعل تركيز شخصية «دون» في العلاقة على بنيته الجسمانية وتدينه وملابسه وترتيب منزله، ولهذا كانت علاقته مع «باربرا» مبنية على المنافع المادية مثل الهدايا، والمنافع الاجتماعية لظهوره مع امرأة جميلة، وأخيرًا في المنافع الحميمية الخاصة.

بلا شك أن الجميع يبحث عن الحبّ ويتوقع أن يصادفه بمعناه النقي في حياته، بعيدًا عن شكله التراجيدي الذي نقرؤه أو نشاهده، بل بالشكل الذي يساعد الإنسان ليحقّق أفضل ما بكينونته ويفجّر طاقات الحياة بداخله. وفي هذه المقالة أحاول أن أسلّط الضوء على هذا المفهوم فلسفيًا، وبعيدًا عن كل ما يلتصق بهذا المفهوم من آراء شائعة وخاطئة والتي من شأنها أن تعقّد مفهومنا تجاهه، فلا ننسى مقولة فيرناندو بيسوا، بأن: «الشخص الذي لا يتخذ الحبّ نقطة بداية له، لن يعرف أبدًا ما هي الفلسفة». فأن تحبّ يعني أن تناضل في ما وراء العزلة، مع كل ما يمكن له أن ينعش وجودك في هذه الحياة؛ فترى ينبوعًا للسعادة وللأمان يفيض بك، وبالآخر، وعليكما معًا.

الحُبّ في اليوم والأثر

الحبّ هو أحد المفاهيم التي شغلت البشرية ولازمت آثارها المدونة من حضاراتها المختلفة؛ وقد يدفع ببعض البشر إلى الجنون أو المهانة أحيانًا، مثلما حصل مع قيس بن الملوح، أو ابن زيدون في التراث العربي، أو قد يدفع بآخرين إلى الموت والدمار مثلما حصل في حرب طروادة التي رواها هوميروس في «الإلياذة» بالتراث الإغريقي، أو حتى في رواية «آنا كارنينا» في الإرث الأدبي الروسي. لقد استوحى الشعراء والموسيقيون والفنانون من هذا الشعور أعظم أعمالهم، وتنافسوا في وصف حالات شدّة الحبّ التي تعتبر علامات فارقة في حياة المرء دون الوقوع في الابتذال.

ونادرًا ما تكون قصص الحبّ سعيدة، إذ إن أعظم قصص الحبّ تنتهي بأبشع طريقة ممكنة؛ الموت من جهة أولى هو أحد أشكال النهايات الدارجة، فالموت «هو ما يعطي للحبّ شكله، مثلما يعطي للحياة شكلها»، كما كتب ألبير كامو في مذكراته، ومن جهة أخرى فالزواج في هذه القصص أيضًا هو ضرب من النهايات والموت ضمنيًا، ليس معنيًا بموت المحبين أو حبّهم بالضرورة، بل نهاية قصة الحبّ نفسها.

لكن الحقيقة، وفي الحياة الواقعية، يندر أن تصل حالات الحبّ إلى مثل تلك الحالات الاستثنائية من الموت والمهانة والحرب في القصص والقصائد، ويظهر بأن نموذج الحبّ الواقعي مختلف تمامًا عمّا حكاه الأوائل في آثارهم. فلربما يُصاب المرء به مرّة أو مرّتين؛ رعشة الحبّ المتبادل أو الزهو الخفيّ لحالات الإعجاب أو الحبّ من طرف واحد، ولكن وكما يلاحظ الفرد بأنه وفي كثير من المواقف المشابهة التي تواجهها الشخصيات الأساسية في قصص الحبّ التاريخية، يجد بأنه يتخذ قرارات مختلفة تمامًا وكأن القصص التاريخية -كخبرة بشرية مشتركة ومتوارثة- لا تمت للواقع بصلة.

وبالرغم من أن ما يقوله القديس أغسطينوس عن الزمن ينطبق تمامًا على الحبّ؛ فكلما قللنا من التفكّر فيه تبدّى لنا أكثر بداهة، وكلما أمعنا في التفكير فيه نتوه في تشعباته ومعانيه. فالشعراء كما هو معروف لا يكتبون عمّا يعرفونه حق المعرفة، بل عمّا لا يعرفونه، ولأسباب قد يجهلونها أيضًا. فحالة عدم المعرفة هذه وما تجرّه معها من مشاعر هي الحافز الأساسي للإمساك بالقلم أو الريشة أو الآلة الموسيقية؛ الغضب والحزن والعاطفة الفياضة والمال وغيرها كلها تأتي بدرجة ثانية أمام الحبّ. ولو كان الوضع مختلفًا، لما وُجدت كل تلك القصائد والرسائل والروايات والمسرحيات.

كما لا ينبغي أن نغفل عن طبيعة الفعل والعمل الفني، كحالة من القبض على الزمن بما يحمله من مشاعر ورغبات وانهزامات. وبغض النظر عن كون هذا الفعل انتقائي جدًا، قد يلغي من الصورة بعض الظروف التاريخية والنفسية بكل تبعاتها وآثارها، أو الأحداث التي لا تمت للقصة الأساسية بصِلة، ولهذا تبدو تجليات الحبّ أو تعبيراته في القصص التاريخية حادة جدًا، أو متماهية في حالاتها القصوى.

ومن جهة أخرى فالحبّ في عالمنا اليوم يواجه تحديات مختلفة تمامًا عن تلك التي حملها إلينا الوعي الإنساني، فباستطاعة الفرد المعاصر أن يخطط لزواج جيد يحقق كل المتع الاستهلاكية والترتيبات الجنسية المبهجة دون أن يشعر بحالة الحبّ هذه، بالتالي ومن هذا المنظور، يظل «الحبّ في عالم اليوم أسير هذه الحلقة المفرغة، وعليه فهو تحت التهديد»، كما يعبّر الفيلسوف آلان باديو: «إن عالم اليوم مليء بما هو جديد، ويجب أن يكتسب الحبّ هذا التجديد».

 

مخاطرة قصديّة، وبدون غرض

عندما كتب الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عن مقوّمات السعادة في العصر الحديث، كتب بأنه: «كلما ازدادت الأمور التي يهتم بها الشخص؛ كثرت فرص كونه سعيدًا، وتقلّصت فرصة كونه تحت رحمة الحياة»، مع الأخذ بالاعتبار أن العمر المحدود للبشر يجعل الاهتمام بكل شيء في هذه الحياة ضربًا من الجنون والتشتيت. يتطرّق راسل في وصفة السعادة إلى موضوع الحبّ، فيقول: «يُعد الحبّ بمدلول الاهتمام الحقيقي المتبادل لفردين أحدهما في الآخر، ليس كوسيلة لخير كل منهما فحسب، وإنما توليفة تشتمل على أمر طيب بصفةٍ عامة، واحدًا من أهم عناصر السعادة الحقيقية».

لتحليل مفهوم الحبّ فلسفيًا؛ يمكن الاتفاق بأن «الحبّ هو حبّ شيء ما»، كما جاء في استجوابات سقراط لآغاثون، فهو حالة قصدية في بادئ الأمر [intentional state]، وتحيل إلى حالة ذهنية تتعلق بشيء ما، قد يكون له وجود أو لا يكون له وجود. وعلى هذا النحو فالحبّ ليس مزاجًا متقلبًا؛ إذ لا يتعلق المزاج بشيء خارجي محدد، بل هو رغبة واضحة ومستمرة مهما واجهت من تحديات. ولهذه الرغبة -في الحال القصدية- هدف، لكن ليس لها غرض، ولهذا يعبّر عنها آلان باديو بأنها «مخاطرة عديمة الغرض»، أما الهدف فهو الخبرة المتبادلة بين طرفي الحب والمتعة التي تجمعهما، «والشيء الذي يضفي المعنى والكثافة على حياة كل شخص تقريبًا»، ولهذا لا يمكن للحبّ أن يتكوّن في غياب تام للمخاطرة. كما أن الحبّ منفصل تمامًا عن الألم، مهما ارتبط المفهومين ببعضهما، إذ إن الألم لا يتعلق بأي شيء آخر، ويبقى ألمًا سواءً عرفنا أسبابه أو لم نعرفها.

فالبذرة الكليّة للحبّ مغروسة في زَخم الحبّ، ولذا فإن «خبرة الحبّ هي الزخم الذي يتحرك» تجاه ما يطلق عليه أفلاطون «الفكرة» أو الشيء. يقول آلان باديو: «يشمل الحبّ خبرة عبور فردية إلى عنصر يحمل قيمة الكليّة. فإذا يبدأ من شيء ما، هو ببساطة لقاء، تتعلم أنك تستطيع أن تختبر العالم على أساس الاختلاف وليس وفقًا للهوية الفردية فقط». هو اتفاق ضمني بأننا يمكن أن نواجه بعض المصاعب والامتحانات، ونتقبّل كل تلك المعاناة في سبيل ما بيننا. أو كما يكمل باديو في تعليقه على فكرة أفلاطون: «إن الحبّ يأخذنا إلى مناطق رئيسية من خبرة ما إلى الاختلاف، ويقودنا أساسًا إلى فكرة أننا نستطيع أن نجرّب العالم من منظور الاختلاف بين الطرفين. في هذا السياق، هو يتمتع بآثار كليّة، وهو خبرة فردية لكليّة محتملة، وهو عنصر أساسي فلسفيًا على مستوى الحدس الأولي الذي أدركه أفلاطون فيه».

أما دورُ الأسباب في الحبّ مربكٌ، فلا يمكن الخروج بإجابة شافية ووافية له من منظور علمي وحيد، لكن تأمل المسألة من ثلاث وجهات نظر قد يساعد في بناء صورة واضحة عنه؛ من وجهة نظر المُحب والمراقب الموضوعي والمحبوب. فبوصف الإنسان المحب قد ترجع أسباب الحبّ إلى مجموع الأفكار والتصورات الممتعة عند استحضار المحبوب في ذهنه؛ تلك اللقطات الذهنية بوصفها تصويرًا للصفات أو المواقف والصفات التي كانت سببًا في هذا الحبّ وتناميه. قد يكتشف المراقب الموضوعي بأن أسباب الحبّ الحقيقية تظل غامضة بالنسبة للمحب؛ قد يحكي عنها لسان الراوي في روايته أو يرتاب بوجودها عالم النفس، وقد يكون لكل مراقب موضوعي رأيه الخاص في ذلك أيضًا.

عمومًا، أيًا كان الرأي الأكثر صحة عن تلك الأسباب، فالمدى الذي يعتمد فيه الحبّ على صفات المحبوب أو ميول المُحب يحدد سلسلة من الاحتمالات تتراوح بين الموضوعية والذاتية. من الجانب الموضوعي قد يكون الحبّ مدفوعًا بتطلّعنا الفطري إلى كل ما هو جميل وصالح، ومن الجانب الآخر، فالحظ في أن يتم اللقاء الأول على ما يرام.

من وجهة نظر المحبوب، قد تبدو الإجابة الأكثر شيوعًا هي الرغبة في أن نكون محبوبين لما نحن عليه. ويمكن توضيح هذه الإجابة بطريقتين؛ الأولى هي الرغبة بأن نكون محبوبين «لأجل أنفسنا» من دون قيد أو شرط، ويفترض ذلك ضمنًا بأن موقف المُحب لن يتغير بتغير الظروف: «الحبّ لا يكون حبًّا إذا تغيّر حين تجد التغييرات سبيلها إليه» [شكسبير: السونيت ١١٦]. تحيل عبارة «لأجل نفسي» بالطريقة الثانية إلى الصفات الجوهرية في ماهيتي كشرط أساسي، وفي تلك الحالة لا يمكن أن يظل الحبّ ثابتًا إلا باستمرار تلك الصفات، وبهذا يكون هذا الاستيعاب لمفهوم الحب مشروطًا بشكل أساسي.

 

اللقاء على طريق بناء الحُريّة

تأسيسًا على أن الحبّ هو لشخص ما، كما جاء في استجواب سقراط لآغاثون، فالحبّ ينطوي على الرغبة فيما لا يملكه المرء، أو كما يقول أرنولد بيرنيس: «الحبّ هو شدّة إدراك استحالة التملّك». يرتكز الحب أساسًا على دافع الرغبة، والرغبة تكون عادة فيما يفقده المرء، كما تحمل مفردة «الرغبة» كل معاني الفقد والحاجة. إن رغبت بشيء فأنت «بحاجة له»، مما يعني أنك لا تملكه، وهو أيضًا افتقاد لما ترغب فيه مما لا تملك. وهذا ما يجعل بناء الحبّ بتعبير باديو هو: «مشروع وجودي؛ بناء العالم من وجهة نظر تبتعد عن مركزية دافعي البسيط للبقاء على قيد الحياة ومصالحي المباشرة».

«فالذات شديدة البأس عبارة عن سجن يجب على المرء أن يهرب منه إذا أراد الاستمتاع بالعالم استمتاعًا كاملًا، والقدرة على الحبّ الحقيقي تعد من علامات الإنسان الذي تحرّر من سجن الذات»، كما كتب الفيلسوف برتراند راسل، «واستقبالك للحبّ ليس كافيًا، فالحبّ الذي يُستقبل يجب أن يحرّر الحب الذي سيُمنح، وعندما يتواجد كلاهما بمعايير متساوية، هنا فقط يصل الحبّ إلى أسمى حالاته».

الحبّ هو «بناء الحريّة» كما يصفه باديو. فبدايةً، قرار مثل الحبّ لا يمكن أن يتخذه أحد بدلًا عنك، فالإرادة الحرّة هي شرط أساسي لبناء الحبّ، ولا يمكن بناؤه عن طريق قوة أو إرادة خارجيتين. حتى وإن سلّمنا بأن الرغبات والتفضيلات الشخصية هي وليدة الموروثات والتنشئة التي لم يكن لنا قوة على التحكم بها أو تغييرها، فحريّ بالإنسان الحرّ المستقل أن يتملك رغباته الخاصة، أيًا كان مصدرها. وعلى هذا المنوال، فإن أحببت بصدق رغبات الطرف الآخر، فستكون جزءًا من رغباتك الخاصة بعد ذلك.

يمكن الاقتراب من سؤال الحبّ من نقطتين أساسيتين تتوافقان مع خبرة الغالبية؛ أولهما هي أن الحبّ يتسم بالانفصام أو «الانفصال». أي أن الحبّ يشترط على من يتقابلان أن يكونا شخصين مختلفين، ويحافظان على هذا الاختلاف فيما بينهما، وتأويلهما الفريد للحظات التي يختبرانها سوية. أو كما يتكرر في كتابات باديو عن ذلك بقوله: «يحتوي الحبّ على عنصر مبدئي هو الانفصام أو الانفصال، أو الاختلاف. لديك اثنان. فالحبّ -في البداية- اثنان». النقطة الثانية وبما أن الحبّ ينطوي على الانفصام تحديدًا -اللحظة التي يظهر فيها الطرفان على الساحة ويختبران العالم بطريقة مختلفة في «اللقاء» الأول- فلن يتخذ الحبّ إلا شكلًا خطرًا أو اتفاقيًا.

يمثل اللقاء نقطة بداية الحبّ، ولدينا أمثلة كثيرة ومختلفة من الفن والأدب تصف هذا اللقاء، وترتكّز الكثير منها على حالات يكون فيها الطرفان مختلفين شدة الاختلاف؛ فلا ينتميان إلى الدين أو الطبقة الاجتماعية أو العشيرة ذاتها، مما يشكّل تحديًا بالنسبة لهما. وتوجد الكثير من المفاهيم الرومانسية والمغلوطة التي تختزل الحبّ في هذا اللقاء. صحيحٌ بأن الحبّ يُلهب ويَستهلك ويُستهلك في لحظات سحرية خارجة عن العالم، لكن «حين تحدث الأشياء بهذه الطريقة لا نشهد [مشهدًا من اثنين]» كما يعقب باديو على هذه النقطة، «بل يكون [مشهدًا من طرف واحد]». وهذا المفهوم الرومانسي راديكالي جدًا، وينبغي رفضه جملة وتفصيلًا، وإن كان مفهومًا فنيًا جميلًا جدًا. قد نقبله كأسطورة فنية قوية، لكنه أمام الحياة الواقعية ليس إلا عيبًا وجوديًا خطيرًا، ولا يمكن الاعتماد عليه كفلسفة أصيلة عن الحبّ. يقول باديو عن دور اللقاء الأول في بناء الحبّ:

«لا يمكن اختصار الحبّ في اللقاء الأول لأن الحبّ عملية بناء. إن اللغز في التفكير حول الحبّ هو قضية المدة الزمنية الضرورية التي يحتاجها ليزدهر. في الحقيقة، إن النقطة الأهم، أساسًا، ليس قضية نشوء البدايات. بالطبع توجد نشوة في البداية، لكن الحبّ فوق كل شيء بناء يبقى. نستطيع أن نقول بأن الحب مغامرة متماسكة. الجانب المغامر منه ضروري، لكن لا يقل عنه ضرورة الحاجة إلى التماسك. إن التخلي عنه مع أول حاجز، مع أول اختلاف جاد، مع أول شجار، يعني تشويه الحبّ. الحبّ الحقيقي هو الحبّ الذي ينتصر باستمرار، أحيانًا بألم، فوق العوائق التي تقف حاجزًا عبر الزمن والمكان والعالم».

 

الاستمرارية وإعادة ابتكار الحياة

في علاقات المرء الاجتماعية كافّة، يبحث الإنسان ويبادل الآخرين أمورًا كثيرة: الثقة والاهتمام والتجاوب والصحبة وغيرها، وهي أمور مشتركة في كل أشكال العاطفة والصداقة. لكن تختلف حالة الحبّ بدرجة الرغبة بتلك الأمور من الطرف الآخر، وفي زيادتها إلى رغبتين أساسيتين هما «الإتمام» [Consummation]، و«الديمومة» [Perpetuation] أو الاستمرارية. المشكلة في هاتين الرغبتين أنهما عرضة للنزاع، لأن الإتمام هو انتهاء أيضًا.

مقارنة بسيطة بين الصداقة والحبّ يمكن أن تميّز بينهما بالتواصل الجسدي، أو أية أصداء للذّة الجسدية، ولذا يعتبر باديو الحبّ بأنه «عاطفة فكرية أكثر» من الصداقة. بغض النظر عن التسطيح المنتشر اليوم لهذا التواصل الجسدي واختزاله بأوصاف جسمانية مختلفة في الأدب والسينما مثلًا. تتطلب هذه اللذة الجسدية رابطة أقوى من العلاقات الاجتماعية الأخرى؛ فتسليم الجسد، وخلع الملابس للوصول إلى العريّ الكامل، وما يتبعه من الأداء البدني (الأصوات وغيره من علامات التورط الجسدي) كل ذلك ما هو إلا دليل على الاستسلام للحبّ. أو كما يعبّر باديو عن ذلك بقوله: «إن الحبّ، خاصة مع استمراريته، يضم كل الأوجه الإيجابية للصداقة. لكن الحبّ يرتبط بكليّة وجود الآخر، ويصبح استسلام الجسد هو الرمز المادي على تلك الكليّة».

بطبيعة الحال، يختلف المقصود بالإتمام في الحبّ عنه في التواصل الجسدي؛ ففي الحبّ قد يُفترض أن الزواج هو الإتمام باعتباره نوعًا من التملّك، لكن الحبّ يتعارض بشكل كبير مع مفهوم التملّك؛ إذ إن المملوك لا يكون ذاتًا فاعلة تمنح حبّها بحرية. التملّك هو علاقة سيّد بعبده، وبحسب إشارة هيغل فالعبودية لا تحدّ من حريّة العبد فحسب، بل من قوة السيّد كذلك. لأن شرط العبودية هو تسليم العبد بتفوق سيّده، فالخضوع يفقد قيمته إن كان إكراهيًا، وهذه الحقيقة تتجلى بأوضح صورها في الحبّ؛ فما لم يُمنح الحبّ بحريّة، لا يمكن اعتباره حبًّا. بعبارة أخرى، وكما يعبّر عنها باديو: «إن الحبّ على ركبتين راكعتين ليس حبًّا على الإطلاق بقدر علمي، حتى ولو أنه يبعث عاطفة داخلنا تجعلنا نذعن لمن نحبّ».

لا يمكن للحبّ، كعقد اجتماعي أو كعاطفة قوية، أن يلغي السمة الأساسية له بالانفصام أو الانفصال، وحقيقة أن كلًا من طرفي العلاقة يحافظ على استقلاليته. بل إن الأمر يتعدى ذلك لأن تكون استقلالية المرء شرطًا نفسيًا للقدرة على بناء الحبّ، كما يقول عالم النفس إيريك فروم: «المفارقة هي أن القدرة على الوحدة هي شرطٌ للقدرة على الحبّ». وإلغاء أحد أطراف العلاقة يعني أنها مبنية على «مشهد من طرف واحد»، وتتنافى مع المفهوم الأساسي للحبّ، وتكون الرغبة المسيّرة له تقوده في الاتجاه الخاطئ، أو كما يعبّر عنها إيريك فروم: «الحبّ الجاهل سيقول؛ أنا أحبّك لأنني بحاجة إليك. على النقيض سيقول الحبّ العاقل؛ أنا أحتاجك لأنني أحبّك».

عمومًا، لا يجب أن يُفهم من «استمرارية الحبّ» أن الحبّ يدوم أو أن الطرفين سيحافظان على مشاعرهم دائمًا وإلى الأبد وعلى درجة واحدة أو متزايدة من المشاعر. ولهذا يعبّر إيريك فروم عن الحبّ بأنه «نشاط»، وليس مجرد مشاعر. فبطبيعة الحال، سيواجه الطرفين الكثير من التحديات التي تجدد حبهم وتغير تفاصيله حتى يتواءم مع الحال الجديدة وتنمو شخصيته باتجاه شخصية الآخر، ويستمر بالحياة. وكما يقول باديو: «يواجه وجود كل شخص، حين يتعرض لخبرة الحبّ، مفهومًا جديدًا للزمن. وطبعًا لو أننا أردنا صوت الشاعر، فالحبّ هو أيضًا “الرغبة الدائمة في الدوام”. لكن فوق هذا، هو رغبة في دوام مجهول. ذلك أن الحبّ – كما نعرف جميعًا – هو إعادة ابتكار الحياة. إن ابتكار الحبّ من جديد يعني إعادة ابتكار ذلك الابتكار الجديد للحياة».

الحُبّ والحقيقة الأبدية

إن إعلان الحبّ هو انتقال من الصدفة إلى القدر، محملًا بكل هيبة الاختيار وما يحمل خلفه من تبعات ومسؤوليات. وهذا الإعلان لا يحصل بالضرورة مرّة واحدة، بل قد يمتد ويرتبك ويغدو أكثر تعقيدًا، ويُعلن مرّة تلو الأخرى، وهذه هي اللحظات التي ترسخ فيها الصدفة وتغدو أكثر ثباتًا في كلمات تشبه «أحبّك».  وليس من السهل أبدًا نطق هذه الأحرف الأربعة، إن سلّمنا بصفاء نية قائلها وصدقه، أو حتى أي من العبارات الأكثر شاعرية والأقل شيوعًا منها. عمومًا، ومهما كانت الكلمات المستخدمة لإعلان الحبّ، فهي دائمًا ما تعني بأن من يقولها مستعد للانتقال من محض الصدفة إلى العالم الأكثر ثباتًا ورسوخًا، مستخلصًا باستمرارية وعناد وارتباط، والولاء في الانتقال من اللقاء الاتفاقي إلى البناء الصلب.

في قاموس آلان باديو الفلسفي، يُصنف الحبّ على أنه نوع من «إجراء الحقيقة»، ويقصد بأنه هو الخبرة المشتركة التي يصنعها اختلاف الطرفين يومًا فيوم ليشكّل تعريفًا متجددًا للحياة والحقيقة، نتيجة للحوار والتفاهم الذي حصل للتعامل مع هذا الاختلاف، أو لتأويل الأحداث التي حصلت بذهن كلا الاثنين. فالحبّ الذي يقبل على المخاطرة ويقاوم ظروف الحياة لأجل استمراريته مستوعبًا خبرة هذا العالم ومساره التاريخي، سيُنتج من وجهة نظر الاختلاف أو الانفصال حقيقةً جديدة حول الاختلاف. أو كما يقول (باديو): «أعتقد بأن الحبّ هو فعليًا ما أسميه في قاموسي الفلسفي “إجراء الحقيقة”، بمعنى، الخبرة التي من خلالها يشيّد نوعٌ معين من الحقيقة. هذه الحقيقة هي ببساطة شديدة حقيقة الاثنين. حقيقة الاختلاف كما هي. وأعتقد بأن الحبّ -الذي أسميه “مشهدًا من اثنين” – هو هذه الخبرة».

فإذا ما تقلّبت الأيام، وأضحت السماء رمادية جدًا على أحد الطرفين، سيبقى الحبّ قوةً شخصيةً يستمد منها المرء رغبته في الاستمرارية. فيبقى الحبّ هو أحد الخبرات النادرة التي «تختبر فيها عرض السرمدية»، كما يقول باديو، «انطلاقًا من الصدفة المنقوشة في لحظة ما»، إشارة إلى اللقاء. فلطالما اعتمد المحبين على لغة السرمدية في وعودهم؛ «دائمًا» و«أبدًا» على سبيل المثال هما بعض الكلمات التي تتكرر كثيرًا في وعود الحبّ ولغته. «لكن لكي توجد السرمدية داخل الزمن كما توجد داخل الحياة فهذا هو ما يثبته الحبّ، الذي جوهره هو الولاء بالمعنى الذي أعطيته لهذه الكلمة»، كما يعقب باديو.

ولهذا يظل الحبّ أحد المفاهيم التي حظيت باهتمام الإنسانية عبر تاريخها، وحتى في أيامنا التي نعاصرها، كم نعرف من الناس الذين انجرفوا بقصص الحبّ أو تجاربه. فالحبّ يقدّم خبرة جديدة للحقيقة، مبنية على اختلاف اثنين وطريقتين مختلفتين للنظر على مختلف شؤون الحياة. فضلًا عن القوة الشخصية التي يستمد منها المرء رغبته بالاستمرار وبناء جانب من الثبات في هذا العالم المتقلب، وهو أيضًا موقف تجاه الحياة كما يقول الرسام الهولندي فان كوخ: «إذا ما استمررنا في الحبّ بإخلاص تجاه كل ما هو جدير بالحبّ، ولم نهدر مشاعرنا على ما هو سخيف وتافه وغير ممتع، سنحيا -نتاجًا لذلك- في النَّور ونصبح أكثر قوة». فأيًا كان الحبّ، فمن المسلّم بأنه يعطينا دليلًا جديدًا على أننا نستطيع أن نقف أمام هذا العالم ونختبره بوعيٍ متكامل، عوضًا عن الوعي المنعزل. ولهذا نحبُ الحبّ، ونحبُ أن نحبّ، لأننا وببساطة نحبّ السكينة والثبات التي يصنعها في دواخلنا، أو كما يعبّر عن ذلك برتراند راسل بقوله إن «الحياة الجيدة هي تلك التي يلهمها الحبّ، وتقودها المعرفة».

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

المراجع

  • آلان باديو (٢٠١٤)، في مدح الحب، (ترجمة: د. غادة الحلواني)، الجمهورية اللبنانية، دار التنوير للطباعة والنشر.
  • إيريش فروم (٢٠١٣)، الحب أصل الحياة، (ترجمة: ناصر الناصر)، الجمهورية العربية السورية، دار الحوار للنشر والتوزيع.
  • باتريك زوسكيند (٢٠١٧)، عن الحب والموت، (ترجمة: نبيل الحفار)، جمهورية العراق، دار المدى.
  • رونالد دي سوزا (٢٠١٨)، الحب مقدمة وجيزة، (ترجمة: رندة بعث)، مملكة البحرين، هيئة البحرين للثقافة والآثار.
  • برتراند راسل (٢٠٠٩)، انتصار السعادة، (ترجمة: محمد عمارة)، جمهورية مصر العربية، المركز القومي للترجمة.
  • أفلاطون (٢٠١٤)، محاورتا ثياتيتوس وفايدروس أو عن العلم والجمال، (ترجمة: أميرة حلمي مطر)، الجمهورية اللبنانية، دار التنوير للطباعة والنشر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى