لم يأبه الإغريق بغير لغتهم. لم يريدوا معرفة لغة أخرى غير «لوغوس»ـهم. لقد كانوا يفتخرون بأُحاديتهم اللغوية. وهم لم يكونوا يميزون بين أن تتحدث باليونانية، وأن تعبّر التعبير الصحيح. هذا ما يعبر عنه الفعل هيلينيزيين hellênizein. أما غيرهم، فلم يكن يتكلم، إنه كان «يبربر». مقابل الفعل الذي يقومون به (هيلينيزيين)، هناك الفعل بارباريزين Barbarizein الذي ليس بعيدًا عن الأصل اللاتيني بلْبوس balbus الذي ستتولّد عنه الكلمة الفرنسيةbègue التي تطلق على من يتّسم نطقه بالتأتأة. «الباربار» هو الأجنبي الغريب الذي يتكلم كلامًا لا يُفهم، كلامًا بعيدًا عن «لوغوس».
لكل هذه الأسباب لم يطوّر الإغريق أيّ نظرية في الترجمة؛ بل إن اللفظ حتى في الأشكال التي اتخذها فيما بعد، لم يكن ليدخل ضمن تداولهم. ولن يُؤبه بالأمر إلا عندما اقتضت الحاجة، في الإسكندرية وبعيدًا عن أثينا، نقل العهد القديم إلى اللغة الإغريقية. ومع ذلك فإن اللفظ الذي أطلق على العملية لم يكن هو الترجمة، وإنما هو هيرمونيون hermêneuein أي التأويل. ليس التأويل هنا هو ما نعنيه اليوم بالترجمة. فعندما يُنقل كتاب أرسطو بيري هيرمينياس Peri hermêneias إلى لغة أخرى فإنه لم يكن يقال: «في الترجمة»، وإنما «في العبارة» أو «في التأويل».
لا تشكّل ترجمة العهد القديم إلى الإغريقية خروجًا عن قاعدة أحادية اللغة التي اعتمدها الإغريق؛ لأن هذه الترجمة كانت من استلهامٍ يهودي وليس من أجل دافع يوناني، وقد كانت نتيجة الاعتقاد بأن اليونانية لغة الثقافة؛ فهي المؤهلة بالتالي لنقل كتاب مقدس. حوالي سنة 180 قبل الميلاد أكد الفيلسوف أرسطوبول أن «مجموع ترجمة (hermêneia) الشريعة» قد أنجزه بطليموس فيلاديلف، وكان هدفه إشاعة الاعتقاد بأن موسى، الذي كان يعتبر أب الثقافة العالمية، كان معلم مفكري الإغريق، أفلاطون وفيتاغوراس أساسًا، اللذين تتلمذا في نظره على المصادر الإغريقية للشريعة. كان أرسطوبول هذا هو أول من رسّخ استعمال لفظ هيرمونيا دلالة على المعنى التقني للترجمة.
لا عجب إذًا ألا يوجد فعل إغريقي يدل بالضبط على الترجمة. عند تلقي الثقافة اللاتينية للثقافة الإغريقية، سترتبط الترجمة بنقل المعنى vis وليس بنقل اللفظ verba. وهكذا سيقول شيشرون عن فارون إنه حاكى مينيبوس وقلّده. وعند حديثه عن نفسه سيقول إنه اتبع sequi بانيتيوس Panétius. الفعل نفسه سيطلق على الحركة التأويلية للحكايات الأسطورية عند الرواقيين، مثلما سيطلق على تأويل المذاهب الفلسفية أو الآداب الإغريقية. كتب شيشرون: «حتى إن أنا اقتصرت على نقل ( vertere ) أفلاطون أو أرسطو، مثلما نقل شعراؤنا المسرحيات اليونانية، فلن يكون في نظري من قبيل الخدمة غير المجدية التي يمكن أن تُسدى إلى مواطنينا أن نُمكّنهم من الاطّلاع على هؤلاء العباقرة الإلهيين وذلك بأن ننقلهم transferre إليهم حتى يبلغوهم … هناك مقاطع سأنقلها بالطريقة التي تلائمني، وبالأخص عند الفلاسفة الذين أشرت إليهم، كلما تأتى القيام بذلك بشكل منسجم متناسق، على غرار ما كان يفعل إينيوس مع هوميروس، وآفرينيوس مع ميياندر» ( Des termes extrêmes, 1, 7). عندما استعمل شيشرون الفعل نفسه للدلالة على الترجمة وعلى إنشاء الاستعارات، فقد أقام بذلك علاقة بين الترجمة والكتابة. الترجمة عنده إبداع، مثلها مثل الاستعارة.
خلال القرون الوسطى كان لفظ النقل translatio يستعمل بمعان متعددة، تؤول كلها إلى معنى الانتقال والزحزحة: الانتقال من معنى إلى آخر بالنسبة للفظ عينه، أو انتقال اسم شيء إلى شيء آخر داخل اللغة الواحدة، وانتقال لفظ لغة إلى لفظ مكافئ في لغة أخرى.
كثيرًا ما نسمع أن اللغة الألمانية الحديثة قد تشكلت نتيجة ترجمة، وهي تلك التي قام بها لوثر للكتاب المقدس. يطلق لوثر على عملية الترجمة هذه، التي كانت وراء نشأة اللغة والثقافة، الفعل: dolmetschen وهو يشرحه بردّه إلى الفعل verdeutschen: «أضفى طابعًا ألمانيا». هذا الردّ للفعل الأول إلى الثاني يحدد الهدف من الترجمة التي قام بها المصلح الديني: وهو تمكين الرجل العادي من فهم الكتاب المقدس، والعمل على إحداث تفاعل بين الثقافات.
حينئذ سينظر إلى الترجمة كـ«استنبات». الترجمة هي استنبات على أرض غريبة لما أنتجته لغة في مجال العلوم والفنون الخطابية بهدف توسيع مجال عمل إنتاجات الفكر هذه. سيستمر معنى «الاستنبات» هذا حتى فالتر بنيامين الذي سيتحدث عن «نضج الكلمات بفعل الترجمة»، مرورًا بشليجل الذي كتب سنة 1798: «كل ترجمة هي نقل واستنبات أو تحويل».
الترجمة إذًا استنبات لفكر في عالم فكري آخر. سيلاحظ شلايرماخر خلال القرن التاسع عشر أن «هناك طريقتين للترجمة: فإما أن نستبدل قيمتين لغويتين متكافئتين بأن ننقلهما من لغة إلى أخرى وفق أسلوب تأويلي “يدع القارئ على راحته”، أو أن “نترك الكاتب على راحته” ونزحزح القارئ ولغته الأم، بأن نجعلها كما لو كانت غريبة عن نفسها، وتلك أحسن طريقة لجعلها حاضرة بالنسبة لذاتها».
هذا هو المعنى الذي سيعتمده هايدغر في دروبه: الترجمة نقل الفكر إلى ضفة أخرى ليستنبت في سياق آخر سيكشف حقيقته. وسيقول غادامر: «إنها وثبة تقفز عبر هوة». لن تظل الترجمة مجرد نقل وانتقال، وإنما ستغدو استنباتًا ضمن علاقة أخرى بالعالم، ضمن تأويل آخر للعالم. وبذلك ستغدو تأويلًا وكشفًا وانكشافًا. كتب غادامر: «لكي نستطيع أن ندرك ما يعنيه نص ما في مضمونه الفعلي، لا بدّ من ترجمته إلى لغتنا، سيكون علينا أن نربطه بمجموع التصورات التي نتحرك داخلها عندما نتكلم».
سيربط المفكرون الألمان لفظ التركة والتراث tradition بلفظ الترجمة traduction، وسيرون أن إحياء التراث لا ينفصل عن فعل الترجمة. ففضلًا عن أن التراث يُنقل إلينا عن طريق الترجمات، فهو ذاته ترجمة كما كتب غادامر. وقد كان هايدغر قبله قد كتب بأن الحوار مع التراث «يقتضي أن يُحرَّر الفكر الذي نقل إلينا فيتمكن من العودة إلى ما اختزن فيه وادّخر، إلى هذا الذي لم ينفك عن الوجود، هذا الذي يهيمن على التراث منذ بداياته، وكان دومًا أسبق منه متقدمًا عليه، دون أن يفكر فيه مع ذلك بوضوح ودون أن ينظر إليه كأصل». التراث، مثله مثل الترجمة، نقل تركة تكشف الكنوز المدخرة لما لم يفتأ يوجد، ولم يكفَّ عن الوجود. يَنقل التراث-الترجمة تأويلات عن العالم هي التي تشكل الإطار الذي ينكشف لنا فيه العالم، والذي يرتسم فيه البعد الوجودي للفهم. الفهم إذاً هو تلقي ما انحدر إلينا ونقله وتَرْجَمَتُه.
هذا الفهم لا يمكن أن ينفصل عن التأويل؛ «إذ التأويل، كما يقول غادامير، ليس أداة تتيح إمكانية الفهم، وإنما هو مجسد سلفًا في صلب ما يفهم». لا بد للترجمة، والحالة هذه، أن تعكس تجربة اصطدامنا بمحدوديتنا، وسعينا للخروج من بوتقة الانسداد بهدف تمرير ما فهمناه من لغة لأخرى.
هذا التمرير يجعل من الترجمة tra-duction، أي انتقالًا وقفزًا فيما وراء ما يدعوه غادامر «التحام الآفاق وذوبانها فيما بينها». لذا «فبمجرد أن نفهم، فإننا نفهم بشكل مخالف»، (الحقيقة والمنهج، الطبعة الفرنسية، ص 318) ونؤوّل تأويلًا مغايرًا. وعليه فإن الترجمة، في خيانتها التي لا محيد عنها، هي طريق إلى كشف ماهية اللغة كبعد لتحقيق الإنسان لذاته. فهي ليست مجرد مسألة لغوية، وإنما هي المرادف الأكثر جدارة للتفكير.