النبضات الكلاسيكية 3/3 برامز وشوستاكوفيتش.. نبضات المستشار الحديدي وستالين – كريم الصيّاد

هذا هو الجزء الثالث والأخير من سلسلة “النبضات الكلاسيكية”. وكما أشرنا في الجزأين السابقين؛ “النبضة” Pulse مصطلح في نظرية الموسيقى، هي الوحدة الإيقاعية التي يتلقاها السامع، ويتحرك جسده معها حركة واحدة، أو هي بالأدق وحدة إيقاعية ما متكررة على مسافات زمنية –فترات- شبه منتظمة في العمل.[1] وقلنا إن النبضة الموسيقية لا تتكرر كدقات الساعة عادة في الأعمال السيمفونية، بل تحدث على مسافات زمنية شبه متساوية، ولذلك فهي أقرب إلى دقات القلب من دقات الساعة. وقد تعرضنا في الجزء الأول لنبضات باخ وموتسارت، ورأينا ما بينهما من تفاوت كبير، سنعود إليه في ختام هذا المقال، وتعرضنا في الجزء الثاني لنبض بيتهوفن وشوبرت. وفي هذا المقال الختامي نأتي على آخر نموذجين في هذه القائمة: برامز وشوستاكوفيتش. وكان كل من هذين المؤلفين من أساتذة التركيب، وتشتمل أعمالهما غالبًا على قدر كبير من التعقيد الذهني الرياضي، ولكن بينما كان الأول يقدر اللحن، وأحيانًا يرفعه على التركيب، فقد جاء الثاني ليقدم موسيقى غير لحنية، يظهر فيها التركيب بأوضح صورة. وهذا من الأسباب التي أدت إلى إعادة توظيف النبضة عند شوستاكوفيتش، لتصير حرة، وقائمة بذاتها، بينما هي عند برامز وحدة أولية لبناء اللحن، وذلك كما سنرى.
– قلب الموسيقار/المستشار الحديدي: يوهانيز برامز

إذا كانت النبضة الأوركسترالية قوية بما يكفي، فإنها تترك صدى صوتها يضمحل في الهواء تدريجيًا، لكن برامز يقلب الظاهرة، فيبدأ الصدى قبل الصوت، يبدأ ويتجمع، ثم يتركز في بؤرة نبضة، تليها نبضة أخرى بالصورة نفسها، وهكذا، في عنقود من النبضات، بها تبدأ الحركة الرابعة من أهم سيمفونياته: السيمفونية الرابعة مقام مي الصغير. للدِّقة تبدأ الحركة بالجملة الأساسية، التي تُبنَى عليها الحركة ككل، في بناء قوي، كالصلب، متداخل، وشاهق، لكنه مكون من هذه الجملة، وتلك النبضات، في براعة تذكرنا بالتأكيد ببيتهوفن، وهذا كان هدف برامز في الحياة، ومن الحياة، ومن الموسيقى؛ أن يصير بيتهوفنَ جديدًا (راجع مقالنا الأكثر إسهابًا عن برامز: موسيقى الموسيقى)[2].
برامز هو مستشار الموسيقى من جهة، كما أنه مستشارها الحديدي من جهة أخرى. هو مستشارها بمعنى خاص، صحيح أنه لم يكن مؤرخًا للموسيقى، أو مبدعًا للنظريات، لكنه كان حاملاً للدكتوراة في الموسيقى، بعد تأليفه لافتتاحية الاحتفال الأكاديمي (الافتتاحية الأكاديمية مصنف رقم 80) كأطروحة دكتوراة. وفي الواقع هي كذلك دكتوراة في الفلسفة بمعنى من المعاني؛ نظرًا للتعقيد الذهني البحت في أعماله الناضجة، والمتأخرة، كالسيمفونية الرابعة. والمعروف أن أكثر من جامعة أوروبية، كجوتنجن، وكمبردج، وبريسلاو، قد عرضت عليه الدكتوراة الفخرية، أو الدكتوراة في الموسيقى، لكنه رفض أغلب العروض، وسخر منها، وقد حضر فعلاً فصلاً دراسيًا للفلسفة في جامعة جوتنجن الألمانية في سن العشرين، لكنه لم يكمله. كانت الأكاديمية الأوروبية، القارية، والإنجليزية، تتلهف على عقله، لكنه كان يستمع إلى نبض قلبه.
وهو “حديدي” أيضًا بمعنى خاص: فقد تعرض برامز لهجوم، وسخرية، من جانب المدرسة الرومانسية المتأخرة في كل أوروبا، وروسيا؛ فقد كان رومانسيًا مبكرًا؛ أي يؤلف حسب قواعد المرحلة الرومانسية الأولى البيتهوفنية، مرحلة إيرويكا بالذات، رغم أنه لم يكن إيرويكيًا على الإطلاق. لكنه كان متمسكًا بقواعد اللعبة الفنية: رقعة كرقعة الشطرنج، علينا أن نحافظ على حدودها، وتقسيم ألوانها، وإلا أصبحت اللعبة سهلة على أي لاعب، يستوي فيها المحترف، والمبتدئ، العبقري، والمجنون. كان برامز يغامر بمستقبله على الحقيقة من أجل العبقرية. على العبقرية أن تبقى، ولو كره المجانين! على البيتهوفنية أن تستمر ولو حاربها الروس، والفرنسيون، والإنجليز، والطليان. في الواقع: على ألمانيا أن تبقى، بل أن تتكون مرة أخرى، وأن تصمد في مراحل التكوين، في مواجهة العدمية الرومانسية. إنه خلق تحاربه قيامة، “سفر تكوين”، يقاتله “سفر رؤيا”.
كانت الموسيقى الإيطالية تغزو عقل غريمه الأساسي: تشايكوفسكي، الذي قال بصراحة يحسد عليها أنه يقدم موسيقى إيطالية، لا روسية صميمة، ولا ألمانية. كان اللحن في زمن برامز يعلو فوق التركيب، والتلحين يغمر شواطئ التأليف، روسيا تتمدد عن طريق الخمسة العظام، وتشايكوفسكي، من جهة، والطليان المحدثون يغرقون السوق بالأوبرات، والافتتاحيات، ساحرة الألحان. اللحن يذهب بالعقول، والموسيقى الألمانية العريقة تذوب، كفكرة خطرت في عقل التاريخ، ثم بدأ ينساها في حالة سُكر بهذا الجمال الروسي والطلياني والفرنسي. تلقى برامز كل هذه الضربات بصدر عارٍ، مثلما تلقى بسمارك الرصاصات في محاولة اغتياله واقفًا في صمود غير عادي، ومن هنا أُطلق عليه “المستشار الحديدي” Eiserner Kanzler.[3] وكبسمارك لم يسقط برامز، أو حتى يهلع، بل تلقى الرصاص، كأن قلبه مضاد للرصاص! وحافظ على وحدة المدرسة الألمانية، حتى في وجه الانفصاليين الألمان من بني جلدته، كفاجنر، الذي حول الموسيقى من بناء يتطور من الأبسط إلى الأعقد ككل، إلى قطع منفصلة، كل منها يتطور تطوره الخاص. كان فاجنر انفصاليًا في أسلوب التأليف، يمزق الأبنية الشاهقة، التي عمل عليها الألمان بالذات، بصبر، وإيمان، وعشق، ليسهل عليه تركيب أجزاء عديدة منفصلة؛ فقد كان لا يملك النظرة الكلية، التي تحدى بها موتسارت وبيتهوفن وبرامز وشومان ومندلسون، وشوبرت، العالَمَ: العِشق الذي يخلق التَعاشُق.
إن نبضات رابعة برامز هي الأوضح في سلسلة النبضات؛ فهي في بداية الحركة تقريبًا –الحركة الرابعة- ويسهل تحديدها في الفيديو التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=ckuUq7im8H4&t=2051s
الدقيقة: 33:45. ثماني نبضات، أربع منها قوية، ثم أربع ضعيفة. هل هي مصادفة أني تأتي نبضات بيتهوفن، كما تعرضنا لها فيما سبق، مضاعفًا لرقم 3 في سيمفونيته الثالثة (ست نبضات قوية ثم ست ضعيفة)، وأن تأتي نبضات برامز مضاعفًا لرقم 4 في سيمفونيته الرابعة (ثماني نبضات)؟! نلاحظ في ذلك الأداء –بقيادة المايسترو برنشتاين- حركة الاحتشاد القصير في كل نبضة، ثم الضربة بالطبول، ونبر الوتريات معًا. وهو ما يحدث أثرًا مزدوجًا لدى السامع: الطبل يقرع الأذن، أما الوتريات فتمتد بضربتها إلى القلب ذاته، كالرصاصة القانصة، التي لا تخطئ هدفها، ولا تمكن رشوتها، أو إثناؤها عن أمرها. بعد هذه النبضات يأتي اللحن الثاني مباشرة، وهو الذي يتم إنماؤه بعزف طويل نوعًا للفلوت، من أطول ما وُضِع للفلوت المنفرد في السيمفونيات كلها. بعد اكتمال اللحن الثاني تبدأ بقية الهوائيات الخشبية بالتدخل الحذِر، ثم يخطر الكورنو على بال الأوركسترا، مبشرًا بعودة الجملة، التي تبدأ بها الحركة، ثم يتم إنماؤها هي نفسها، في بنية جديدة مختلفة؛ فالمفترَض أن يتم إنماء الجُمَل بالترتيب الزمني لورودها، لكننا قلنا في البداية أن هذه الجملة هي ما تُنسَج منها الحركة كلها، وهذا صحيح بمعنى ما، بمعنى أن اللحن الثاني مشتق أصلاً من هذه الجملة، وهو ما يعني أن الحركة مبنية على لحن واحد، في بناء بيتهوفني حقيقي. بعد أن يتم إنما جملة الوحش، تعود النبضات بشكل أكثر حيوية، ملونة بالكمان وبقية الوتريات بوضوح، لكنها تعزَف مرتين، مما يجعلها –كما قلنا- النبضات الأكثر وضوحًا في هذه السلسلة.
تنتهي الحركة، والسيمفونية ككل بالتالي، كما بدأت: نهاية تراجيدية، لكن الأهم أنها تنتهي بنبضة طويلة من نبضات تلك الحركة، إنه الكمال البنائي بعينه. صحيح أن السيمفونية تفتقر إلى ألحان برامز الجميلة، التي يحبها الهواة في رقصاته المجرية، أو حتى الخبراء في كونشرتو الكمان، أو سيمفونيته الأولى، ولكنها تضحي باللحن في سبيل قوة البنيان. كما قلنا: المستشار الحديدي، السد المنيع ضد الغزو الموسيقي الروسي-الطلياني، وموحِّد ألمانيا، وواحدها، وربما أَوْحَدها في زمنه.
لكن هذا الموسيقار الحديدي لم يكن ليتخيل أننا على موعد مع مؤلف حديدي آخَر، بالأحرى هو صُلْب لا يَصدَأ، قضى على اللحن تمامًا في سلسلة من الأعمال، لا مثيل لغزارتها، وتنوع أشكالها، وامتداد مشروعها في القرن العشرين، ورفع التركيب فوق كل شيء، حتى ليتفوق على نواة الموسيقى الألمانية الصلبة الباقية المتمثلة في برامز، وتراثه العميق، إنه بلا جدال: شوستاكوفيتش.
– قلب ستالين: ديمتري شوستاكوفيتش

إذا كان اقتران برامز ببسمارك من قبيل المشابهة analogy البحتة، فإن ارتباط شوستاكوفيتش بستالين ليس كذلك، بل له جذور تاريخية حقيقية؛ فقد كان شوستاكوفيتش مقاتلاً فنيًّا في الحرب البطولية ضد النازيين، بعد أن تحول (رايخ برامز/ بسمارك) الثاني إلى (رايخ كارل أورف/ هتلر) الثالث، وتحولت القومية في الموسيقى من “التعايش في التنوع” إلى “حرب الأنواع”. في هذه الحرب الموصوفة، وكما أوضحنا في مقالنا عن سيبيليوس (انقطاعات سيبيليوس)،[4] كان لا بد أن تحيا موسيقى على حساب موسيقى، في حرب بقاء. عاش شوستاكوفيتش فترة في ليننجراد المحاصرة أثناء الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، وقرر أن يصير مناضلاً فنيًا من طراز خاص. ويمكن الاستماع حتى الآن إلى خطاب شوستاكوفيتش بصوته (سبتمبر 1941)، وهو يهتف إلى الروس داعيًا إياهم إلى الصمود في وجه النازية.[5] وقد وضع شوستاكوفيتش أشهر سيمفونياته رقم 7 باسم (ليننجراد)، وسيمفونيته رقم 8 بعنوان (ستالينجراد). هما أشهر سيمفونياته؛ لارتباطهما بهذا الحدث التاريخي المحوري، لكنهما ليستا الأهم في سياق النبض.
ومن المعروف، وكما أوضحنا في مقالنا عن شوستاكوفيتش (ما وراء الموسيقى)،[6] أن بعض أعماله قد مُنعت من العرض، وأهمها السيمفونية الرابعة، في ظل طغيان ستالين السياسي-الموسيقي، بعد أن رفضتها اللجنة الموسيقية، وهاجمتها (البرافدا).[7] ثم عرض شوستاكوفيتش “حَشَرَته” الموسيقية الأهمّ بعد وفاة ستالين 1953. ربما هي أهم ظواهر الجروتسكية في الموسيقى، وأبشعها على الإطلاق، وأكملها مع ذلك: إنها السيمفونية العاشرة، وقاد العزف سنة 1953 المايسترو الأهم في إطار تأدية شوستاكوفيتش –بحسب رأي هذا الأخير نفسه- يفجيني مْرافِنْسْكِي.
لقد تعمد شوستاكوفيتش في هذه السيمفونية ككل –العاشرة- أن يصور ستالين، والحياة تحت نير ستالين، كما ينقل لنا سولومون فولكوف بلسان شوستاكوفيتش في كتابه عن الأخير: “الشهادة”Testimony ،[8] وهي شهادة مجروحة بسبب ميول فولكوف تجاه المعسكر الأبيض. لكننا نجد فعلاً ملامح قوية دالة على قوله في الحركة الثانية بالذات، سكرتسو في طابع المارش، شر مستطير، عنيف، سريع كالبرق، وصاعق بكل تأكيد. لكن لا يخفى على المستمع المدقق استعمال شوستاكوفيتش لمجموعة الكلارينيت، آلته الشيطانية المفضَّلة، لصنع ذلك الصوت الآلي شبه المعدني، الذي تؤكده النحاسيات فيما بعد، بما هي معادِن. موسيقى شوستاكوفيتش الكلاسيكية عمومًا، وكما أوضحنا من قبل في المقال سابق الذكر، موسيقى آلية، تبرز الطابع الميكانيكي clockwork بشكل متعمد، وهي مناسبة جدًا لذلك لوصف شخص ستالين الصلب الرهيب. إنها موسيقى تبشّر بالمعدن الآلي المحايد القاسي البارد، الذي لا يعتد بالإنسانية، ولا يعترف بها. إنه معدِن ستالين، الذي يعني اسمه “الصُّلْب” Steel.
تبدأ الحركة الثانية بنبضات مفجعة، كمفاجأة سيئة، وعنيفة، دهشة كابوسية، كالتي تعرض للمرء وهو يلتقي كارثة مباغِتة عظيمة، كما يمكن لنا مطالعتها في الفيديو التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=2ZbJOE9zNjw
يمكن أن نعتبرها خطوات للمارش، فالحركة كما قلنا لها هذا الطابع، ولكن يمكن تأويلها أيضًا بلا مبالغة كضربات قلب تأتيه القيامة نفسها بغتة. تتجمع، وتستمر، ثم تتحرك في الخلفية، حيث يسير الكلارينيت مارْشه المعدني، ثم تعزفها الأوركسترا في إصرار يصيب العقل بالتعب والمرَض، ثم تتحول إلى ضحكات النحاسيات الشريرة الشهيرة. هنا تتحول النبضة المرتعِبَة الإنسانية إلى ضحكة مفزِعة شيطانية. وهي المثال الوحيد في هذه السلسلة من المقالات عن النبضات الكلاسيكية لنبضة تستمر بطول الحركة، بالإضافة إلى نبضات موتسارت سابقة الذكر. إن نبضات بيتهوفن كذلك تلعب أدوارًا بالغة الأهمية في ربط حركة إيرويكا الأولى، حتى إنها الوحدة الميكرووية للبناء ككل، ولكنها بطبيعة الحال تتوارى خلف الألحان، أما شوستاكوفيتش فيعرّيها تقريبًا من اللحن، واللحم، ليبدو هيكلها وحده حيًا ومتحركًا بلا رداء ولا أحشاء. لكنّ هناك تشابهًا آخَر بين نبضات شوستاكوفيتش/ستالين، ونبضات بيتهوفن/بونابرت: إن لهما الطابع نفسه. قلنا أن نبضات بيتهوفن في إيرويكا حركة قلب يشهد فناء مروعًا، وصمتًا تامًا، فلا يسمع سوى نبضه، وكذلك نبضات شوستاكوفيتش تحمل الشعور ذاته، ولكن الفارق أنها تأتي في بداية الحركة بوضوح، وتستمر بوضوح، بينما لم يكن هدف بيتهوفن إبرازها إلى ذلك الحد، وإنما هي بشكل أساسي حلقة في التفاعل.
تحتاج هذه الحركة، كي تسمعها بوضوح، إلى وضع القلب في حالة التأهب القصوى؛ فليس لقاء ستالين مجرد كابوس، إنه كابوس حيّ، كابوس يجسده واحد من أعظم موسيقيي العالم لتصوير أحد أسوأ الطغاة في التاريخ، وأكثرهم هَوْلاً. إنه لقاء شوستاكوفيتش وستالين فعلاً، بهذه البساطة.. فيا له من لقاء!
– خاتمة
اكتفينا لضيق المقام بهذه النماذج الستة من النبض الكلاسيكي: باخ، وموتسارت، وبيتهوفن، وشوبرت، وبرامز، وشوستاكوفيتش، كلهم من المدرسة الألمانية عدا الأخير، لكن هذا الأخير كان متطرفًا في (ألمانيته الموسيقية) إن صح التعبير، وهو لا يصح بدقة، لكن المراد هو إيغاله في التركيب، الذي تميزت به المدرسة الألمانية إلى الحد الأبعد وسط مدارس الموسيقى الأوروبية. وهو ما يعني أن التركيب هو الوسط الخصب، الذي تنمو فيه القلوب، عكس الظن الشائع بأن اللحن هو الذي يحرك الأفئدة. نبضة القلب شعور مركَّز، مُتزامِن synchronic، بلا زمان، هو نظير الهارموني، باعتبار الهارموني شعورًا في غير زمان. وبرغم أن الشعور حركة، فإن النبض شعور ساكن، قبْض، وبسط، إشراقة واحدة كلية، أو ليل مفاجئ سريع كالظلّ.
وفي ختام هذه السلسلة من المقالات يمكن عقد المقارنة بين بين النماذج الستة في السياقين الأسلوبي والموضوعي. كانت نبضة باخ هارمونية، لا تتكرر سوى في بضعة مواضع معدودة في العمل (التوكاتا والفوجه مصنف 565). وهي تآلف بحت، فيها استعمال التآلف كحلية صوتية، كزخرفة. وبرغم وقعها الدرامي، وبرغم الطابع الدرامي العام في العمل، فهي شديدة التلوين، تكاد تستهدف مادة الصوت لذاتها. وهي لذلك عينة مناسبة لفهم وظيفة الهارموني في التأليف الباروكي، والتي تشتمل على أكثر من مجرد المساهمة في الزخرفة بطبيعة الحال. أما عند موتسارت فقد جاءت النبضة أقرب إلى الإيقاع من الهارموني، ممتدة بطول الحركة، ومرتكزة على الإيقاع كأنها الساعة. وهي مقتصدة في التلوين، وأقرب إلى هيكل داخلي بسيط للعمل. سنجد أن نبضات موتسارت غير درامية بالدرجة الأولى، برغم الدراما الخفية في الحركة، وكانت –لذلك- مناسبة لطابع الإيحاء، الذي أشرنا له بصدد أسلوب موتسارت من جهة، كما أنها تعين السامع على تبين بناء التناظر الرياضي من جهة أخرى، حجر الزاوية في التأليف في المدرسة الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
أما نبضات بيتهوفن في سيمفونيته الثالثة فكانت درامية بوضوح، أقل تلوينًا من باخ، وأقوى من نبضات موتسارت، فصارت مركب الأطروحة بين هذين الأستاذين. لكنها لا تتوقف عند حدود التأليف بين الأسلوبين المتناقضين لباخ وموتسارت، بل تتعدى ذلك إلى التعبير الدرامي عن موضوع العمل، ألا وهو كفاح البطل، وآلامه، والمخاطر التي يجتازها. وقلنا أن نبضات بيتهوفن في إيرويكا هي وحدة بناء الحركة الأولى، تبدأ بها، وبها تنتهي. وكذلك كانت نبضات برامز في سيمفونيته الرابعة. لا يمكن أن نعد سيمفونية برامز الرابعة من قبيل الموسيقى البطولية إلا بتأويل متعسف؛ فهي بالأحرى معبرة عن شعور كارثي حزين، ولا يظهر فيها عنصر الصراع، والتحدي، ولا الانتصار. لهذا تمتلك نبضات برامز ذلك الطابع المنذِر بهبوب عاصفة، بينما تحدث نبضات بيتهوفن في قلب تلك العاصفة. وقد أوضح المقال الحالي بعض الفروق بالفعل بين نبضات برامز ونظيرتها لدى شوستاكوفيتش؛ فالأخير يقدم صيغة في طابع المارش، ولذلك يمكن أن تعد نبضاته ممثلة لحركة الأقدام. ولذلك أيضًا فيها طابع الحركة، والتقدم نحو هدف مكاني ما، بينما اقتصرت نبضات برامز على طابع الإنذار، وعلى وظيفة كونها وحدات اللحن الصغرى.
راقِبوا قلوبَكم أيها السادة، وأنتم تستمعون بعناية إلى تلك النبضات السابقة؛ فهي كفيلة بالإخلال بنظام القلب، وإيقاف الدم في العروق. إنها لمحات، لحظات، من توقف الكون عن الدوران، سجّلها الموسيقيون عبر التاريخ لتاريخٍ لا يمكن عبوره. لا يمكن سلوكه؛ لأنه يتوقف عن السريان، ويتجمد في شرايين الأرض والسماء. إنها الموسيقى، تلك التي تستطيع أن تقبض بقبضة واحدة على الوجود، وتمنعه من الحركة، كما يمكنها أن تبسطه، فينفجر، إن أراد الموسيقار. وهي كذلك بما هي فن الحركة البحتة؛ الحركة الخالصة غير ذات الموضوع، هي الصورة المتحركة، التي لا تصوّر سوى حركة الصورة.
[1] Winold, Allen (1975). “Rhythm in Twentieth-Century Music”, Aspects of Twentieth-Century Music. Wittlich, Gary (ed.). Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice-Hall, 208-269.
[2] الصياد، كريم، موسيقى الموسيقى.. كيف أعاد برامز بناءَ بيتهوفن؟ مؤسسة معازف، لندن، 2016.
[3] Stearns, Frank Preston, The Life of Prince Otto Von Bismarck, J. B. Lippincott Company, Philadelphia and London, 1899, 124-125.
[4] الصياد، كريم، انقطاعات سيبيليوس، مؤسسة معازف، لندن، 2015.
[5] https://www.youtube.com/watch?v=y8OY0w7ur3w
[6] الصياد، كريم، ما وراء الموسيقى.. المشروع التأليفي لشوستاكوفيتش، مؤسسة معازف، لندن، 2016.
[7] صحيفة ناطقة باسم الحزب الشيوعي السوفييتي، أسسها تروتسكي عام 1912.
[8] S. Volkov, Testimony : the memoirs of Dmitri Shostakovich, New York : Harper & Row, 1979, p. 141.