مقدمة:
في مقالة لكانط “ما التنوير”، افتتح بمقولة لاتينية، تُعد شِعارًا للتنوير[1] “Sapere aude” وهو الجُرأة على استخدام العقل كأصل لتجاوز الحالة التي كان يعاني منها الفكر الأوروبي وهو الجمود، فاتخذ من هذه المقولة طريقةً ومبدأً ينتقل بها من الجمود والتقليد إلى السيولة والتفكير الحُر، عن طريق الشجاعة في استخدام العقل، وقد تُرجِمَت هذه المقولة لعدة ترجمات بالعربية مثل: “تجرأ على استخدام عقلك” وترجمة أخرى: “تجرأ أن تُفكر”[2]. رغم أن المقولة قد تكون صالحة لهم، بما أنهم كانوا يعانون على امتداد العصور الوسيطة، بالتبعية والجمود، وإغلاق العقل، فقد تكون الطريقة السابقة صالحة ونافعة لهم؛ ولكن الذي نحتاج إليه ليس مجرد استخدامه أو الجُرأة على استخدامه؛ لأن في العالم العربي في العصور الوسيطة كانوا بالفعل يستخدمون العقل؛ بل هو شرط أساسي للمُكلف، فأصول الفقه يُعد نموذجًا للعقل في ذاك الزمان. قد نُسلم ونتفق بأن العقل اليوم قل استخدامه أو الانتصار والدفاع عنه، ولكن لم يُغلَق أو يُزَل بالمطلق؛ فالقول للعقل العربي: “تجرأ على استخدام عقلك”، هو تحصيل حاصل؛ أو القول: “تجرأ أن تستخدم عقلك بشكل أكبر” رغم أن المقولة الثانية أكثر مقبوليةً؛ ولكنها تندرج تحت المقولة الأصلية، وكلاهما تحصيل حاصل. فالذي نحتاج إليه مع العقل هو شيء آخر، شيء صالح لنا، استنادًا إلى طبيعتنا الاجتماعية والثقافية الفكرية. فلا يصح أن نقول تجرأ على استخدام عقلك، ثم نُقلد طريقة أصحاب المقولة، فهذا لا يخرجنا عن التبعية والتقليد لتجارب الفكر التنويري، وحتى وإن كان تنويرًا لهم فلا يلزم أن يكون تنويرًا لنا -بمعنى أنه صالحٌ لنا- فهذه الطريقة من استنساخ ما يمرون به من تجارب، هي طريقة خاطئة، وقد تضر بالفكر، لأنها سوف تكون مشوهة. والصحيح هو النظر لما نحتاج إليه استنادًا إلى أحوالنا وحاجتنا الثقافية والاجتماعية الخاصة.
ولكن ما النهضة؟
تُعرف النهضة في معاجم اللغة بـ”الوثبة” وقد نقول إنها القفزة أو التقدم الحاصل للمجتمع. استخدامي للفظة “النهضة” هنا هو استخدام لغوي، وأريد به النهضة الفكرية على وجه الخصوص، لا التقليد والتبعية سواءً للنهضة الأوروبية أو اليابانية؛ إذًا فالمشترك معنوي، فكل مُجتمع له نهضته الخاصة والصالحة له. قد يُطرح سؤال مهم وهو: ما أفضل صورة ممكنة للنهضة الفكرية في المجتمع العربي؟ أرى الجواب عن طريق المنافسة الفكرية، وسوف أدلل بأمثلة وسياقات تاريخية، كالمُعلقات ونهضة الشِعر في الجاهلية، وكذلك تطور العلم والمنافسة الحاصلة بين العلماء، وإرادة الهوس في رواية “لاعب الشطرنج” ومناقشتها، ثم مناقشة مقالة نيتشه “المبارزة عند هوميروس”، وأخيرًا شواهد وتطبيقات لمفهوم المنافسة على أرض الواقع.
ما المنافسة؟
تأتي المنافسة بمعنى السِباق والتحدي مع الآخر. أيّ التغلب على الآخرين، في مُنافسة عادِلة وصحية؛ فعندما يتسابق أطراف على فكرة معينة، مثل: تطوير لقاح لمرض خطير، أو اختراع شيء نافع للبشرية؛ فهذه المنافسة تُسهم في بلوغ المرام، وكلما زاد عدد المتنافسين، زادت احتمالية تحقيق الهدف. سواءً كانت نظرية أو مشكلة فكرية أو أمرًا ما يحصل فيه التنافس. يُسهم التحدي في إبراز هذا الهوس والشغف في بلوغ الغاية؛ عندما ينصب تركيزنا كله على هدف محدد فسوف نبلُغه؛ أما طول المدة في تحقيق المطلوب فيعتمد على صعوبة الهدف أو سهولته، فلو كان صعبًا فسوف يأخذ منا مدة أطول لتحقيقه؛ كحدسية جولدباخ في الرياضيات، وهي مشكلة أخذت مدة طويلة لحلها 200 سنة تقريبًا. وُضِعت جائزة لمن يحلها، فهذا يوضح أن الاعتماد على المنافسة عن طريق المسابقة والجائزة أسهم في حل الحدسية.
عندما نتأمل في إحدى الفترات المهمة في تاريخ الفلسفة حقبة سقراط والسفسطائيين؛ نشعر بحضور نوع شديد من التنافس، بين سقراط الذي يعرف بأنه لا يعرف شيئًا وبين السفسطائية معاصريه أو حتى فلاسفة اليونان ما قبل زمن سقراط، على اختلاف مذاهبهم كطاليس الذي يرجع أصل الأشياء إلى الماء، أو هيراقليطس الذي ينسب إليه أصل الأشياء هو النار، أو ديموقريطوس الذي يرى بأن كل شيء مكون من جواهر، وغيرهم؛ أما سقراط الذي اتخذ من مقولة معبد أبولو في دلفي “اِعرف نفسك بنفسك” كأساس لطريقة تفكيره، والذي نافس غيره من خصومه من الفلاسفة السابقين عليه، بمعرفته بأنه لا يعرف شيئًا، بعكس خصومه الذين يدعون المعرفة، وهذا ما ترتب عليه لاحقًا ظهور المنافسة مع أفلاطون وتلميذه أرسطو، والتي أصبحت مدرسته مستمرة لعدة قرون، فعندما قال عن أستاذه أفلاطون إنه صديق ولكن الحق أصدق[3].
وقد نحتج أيضًا بالمُعلقات، وهي أفضل الأشعار التي قيلت في الجاهلية، وقيل إنها كُتبت بماءٍ من ذهب، وهذا يُثبت لنا أفضليتها في ذاك الزمان؛ بل يمكننا القول إنها أجود الأشعار على الإطلاق، وها نحن نعيد ذِكر أشعار لبيد بن ربيعة أو امرئ القيس وغيرهما، بل في اليوم العالمي للغة العربية لعام 2020، أُصدِر كتاب بعنوان “المعلقات لجيل الألفية”[4]؛ لكن علينا أن نفهم كيف تشكلت هذه الظاهرة؟ والتي استمر تداولها إلى اليوم. عندما نتأمل سياقها التاريخي نجد أنها ظهرت عن طريق المنافسة بين الشُعراء في الأسواق -كسوق عكاظ-. وكذلك الحال في السباق بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لصعود الفضاء؛ أو مشروع مانهاتن الذي تم فيه مع نخبة من العلماء كآينشتاين وأوبنهايمر وغيرهم، المنافسة في تصنيع القنبلة الذرية سريعًا في فترة الحرب العالمية الثانية. وقد نستشهد أيضًا بإحدى أهم الملاحم في التاريخ، وهي الإلياذة لهوميروس، وتحديدًا شخصية المحارب آخيليس، وطموحه لتحقيق المجد، ومنافسته لأقرانه في حرب طروادة لكي يُخلد اسمه في التاريخ كأحد أبطالِها. نلاحظ من هذه الأمثلة المتنوعة على اختلاف سياقاتها التاريخية-الأدبية، بأنها تمتاز بشيء واحد مشترك وهو المنافسة، ولا تظهر أفضل إبداعات البشر إلا عند حضور المنافسة بين أطياف المجتمع.
إرادة الهوس والشغف:
في رواية “لاعب الشطرنج” لستيفان زفايغ، تحكي إحدى الشخصيات عن نفسها عندما كانت في السجن، ولم يكن لديها إلا كتابًا عن نظرية الشطرنج: “ولكن بِمَ سينفعني الآن هذا الكتاب عن نظرية الشطرنج؟ وليس في وسعنا لعب الشطرنج دون شريك، بل ودون رقعة شطرنج وأحجار”[5]. ولكن ما الذي سوف يفيده هذا الكتاب في السجن؟ نستطيع أن نستنبط من هذه القصة، أن الإرادة وحدها كفيلة بأن تجعل الإنسان يصل إلى أعلى قمم الإبداع، حتى لو كان مسجونًا. فاتخذ من الكتاب وسيلة للعب الشطرنج في مخيلته، وتدرب على ذلك حتى أتقنها كل الإتقان، رغم أننا نلمح عبثية الأمر، وأن اللعبة لا تُلعب إلا مع شخص ثانٍ، وبوجود رقعة الشطرنج: “ولكنّي كنتُ مكرهًا على لعب مباريات ضد نفسي، وبعبارة أخرى إذا أردتَ ضدّ “أنا” متخيّلة، كان عليّ أن أتمثّلني ذهنيًّا وأحفظ المواضع المتواترة للأحجار والفرص القادمة لكل منافس، وأعي جيّدًا كم يبدو هذا الأمر غامضًا، فقد كان عليّ أن أتخيّل دائمًا لكل قطعة من القطع البيضاء والسوداء التي أمثّلها وضعيتين أو ثلاثًا، لا بل ستًّا، بل ثماني وضعيّات، وأحيانًا اثنتي عشرة وضعية مختلفة. وكان ذهني ينقسم باللعب في هذا الفضاء العبثي والخيالي في الآن نفسه -واعذرني إذا أنا أقحمتك في هذياني- إلى ذهن أبيض وآخر أسود كي أستطيع التخطيط مسبقًا لأربع حركات أو خمس، تفرضها الخطة في الجانبين. ولم يكن هذا الانفصام الذهني داخل ذاتي أخطرَ ما في هذه التجربة العويصة، بل إنّ الخطير حقًّا هو أن كل شيء كان يجري في الخيال. وهكذا أوشكت على فقدان توازني والانزلاق إلى هاوية العبث من جديد”[6]. يمكننا أن نستنبط جذور إرادة الهوس من النص السابق، وأن المرء عندما يُركز كل التركيز في أمرٍ واحد، لدرجة تتلاشى الأشياء من حوله، هنا نستطيع القول إنه بلغ هذه الإرادة، مع العلم أن الهوس سلاح ذو حدين: “في البداية كنت قادرًا على اللعب بكل هدوء وتفكّر، وكنتُ أستريح بين جولة وأخرى. ولكن شيئًا فشيئًا، زادت عصبيتي وصار الانتظار غير محتمل. إذ ما أكاد ألعب بالأحجار البيضاء حتى تنتصب الأحجار السوداء أمامي مرتعشة. وما تكاد تنتهي جولة حتى يبدأ جزء مني في تحدي الآخر لأنني كنت أحمل في داخلي على الدوام لاعبًا مهزومًا يتوعّد بالانتقام”[7]. ولكن هل يمكننا أن نُبدع من غير أن نغرق في هذا الهوس الضار؟ والجواب: يظهر بأن الأمر ممكن؛ ولكن عندما تحصل في نفس الإنسان هذه الإرادة أيّ الهوس، في أن يحاول أن يحقق مراده، كأن يكون الأفضل في لعب الشطرنج، قد يخسر جزءًا من عقله أو نفسه؛ وينطبق الشيء نفسه على الهوس في حل معادلة لم تُحل لقرون أو كتابة أفضل نص شعري أو روائي؛ وغيرها من الأمور التي يحصل فيها المنافسة؛ لذلك اشترطت في تعريف المنافسة، أن تكون صحية، وقد يتعذر هذا في حالات معينة، عندما تشتد المنافسة والتحدي، ويحاول المتنافس أن يبلغ الأفضلية على خصمه، وقد يخسر بذلك صحته، والتخلص من هذا لا يكون إلا بالاستسلام أو في حالات نادرة كالموت، وهذا يُذكرنا بنهاية سقراط، كان يستطيع أن يهرب من الحُكم عليه بالإعدام، بمساعدة تلاميذه، ولكنه اختار أن يتسق مع قناعاته إلى آخر حياته، بذلك لقي حتفه بإرادته واختياره. لنفحص مفهوم الهوس في الرواية عن قرب: “وفي النهاية تسبب هذا الهوس بتسرّب السم من عقلي إلى جسدي كله. فضعف جسمي وأصبح نومي مضطربًا ومتقلّبًا وعندما أستيقظ في الصباح أجد أجفاني ثقيلة ولا أتمكّن من فتح عينيّ إلا بجهد جهيد. أحيانًا أشعر بضعف شديد إلى درجة أنّ يديّ ترتعشان عندما أمسك بكأسٍ ولا أستطيع حملهما إلى فمي إلا بمشقّة بالغة”[8]. لعلها تكون ضريبة الشغف، التي تجعل صاحبها يضر بنفسه: “لا أرغب في أن يعاودني هذا الشغف المحموم باللعب، الشغف الذي يرعبني مجرّد تذكّره”[9]. عندما نتأمل الرواية نجد في خاتمتها منافسة في لعب الشطرنج، ما بين الرجل صاحب إرادة الهوس والشغف، والذي يُعد هاويًا لا محترفًا في لعب الشطرنج، بعكس خصمه الذي يمتلك المَلَكة والمهارة التي جعلته أفضل لاعب شطرنج، وعندما بدأوا اللعب ضد بعضهما لأول مرة، فاز الهاوي ضد خصمه المحترف: “لقد حصل فعلًا ما لم يكن في الحسبان: بطل العالم الفائز في جميع المسابقات العالمية يعترف بعجزه أمام غريب، شخص لم يلمس رقعة شطرنج منذ عشرين بل خمس وعشرين سنة. لقد هزم صديقنا الرجل المغمور أقوى لاعب في العالم كلّه في مباراة عامة”[10]. ولكن كما قلنا إن الهوس سلاح ذو حدين، فعندما أعادوا المباراة، بدأ سم الهوس من التمكن منه، حتى اضطر أن ينسحب من المباراة ويعلن هزيمته لكيلا يقضي عليه هذا الهوس: “ثم مررت بإصبعي على الجرح الذي كان يحمله في يده. وهو يتبع حركتي دون وعي وعيناه شاخصتان، تحدّقان إلى احمرار الجرح. وفجأة أخذ يرتعش، وهزت الرعدة كامل جسده. “ولكن حبًّا بالله” همس لي وقد ابيّضت شفتاه، “هل قلت شيئًا غريبًا؟ هل قمت بأمر مريب؟… هل عدتُ إلى…؟”. كلا، قلت له برفق. ولكن توقّف عن اللعب فورًا. لقد حان الوقت لذلك. تذكّر ما قاله الطبيب”[11].
رغم أن القصة خيالية، ولكن لها جذور واقعية، وهي النفس البشرية، والتأثيرات الناتجة عن هوسنا بالشيء، فنستطيع أن نستنبط من الرواية، مفهوم إرادة الهوس والشغف، وقد نحتج بشخصية واقعية، كماري كوري وإرادة الهوس، التي جعلتها تقوم بتجاربها المعملية أمام مواد مُشعة، رغم عدم عِلمها بأضرارها، ولا نعلم إن كانت بالفعل سوف تتوقف عن تجاربها أم لا؛ بسبب أضرار هذه المواد، مع الأخذ بالاعتبار اشتهارها بالعناد فيما يتعلق بالعلم والعمل؛ بل ما ذُكر عنها بأن تركيزها كله يكون منصبًا في العلم والعمل فلا تأكل إلا القليل؛ ومع المنافسة الشديدة مع أقرانها، فقد حازت جائزتي نوبل: الجائزة الأولى مع زوجها، والأخرى بمفردها:
“إلا أن آل كوري لم يكونوا على دراية بأن التعرض لهذه المواد يؤثر في صحتهم. وبعد قرن كامل كانت المتعلقات الشخصية لآل كوري مثل الملابس والأوراق، ما زالت مشعة. أصبح بيير يعاني من الروماتيزم، الذي كان ينسبه للرطوبة والثقوب في المخزن. وأخذت ماري تفقد وزنها بسرعة. وكتب صديقهما العالم جورج ساجناك Georges Sagnac لبيير.
إنكما تكادان لا تأكلان شيئًا بالمرة. ولقد رأيت مدام كوري أكثر من مرة تقضم مجرد شريحتين من النقانق وتتناول قدحًا من الشاي معهما… إن عدم اهتمامها أو عنادها ليسا عذرًا لك… إن سلوكها الحالي مثل سلوك طفلة… ومن الضروري ألا تخلطا سيطرة العلوم المستمرة على كل لحظة من حياتكما كما تفعلان الآن… لا يجب أن تقرآ أو تتحدثا في الفيزياء أثناء تناول الطعام.
لكنهما أهملا هذا التحذير”[12].
ما بين المنافسة والمبارزة:
في مقالة لنيتشه بعنوان “المبارزة عند هوميروس”، يرى نيتشه أن المبارزة هي التي تُظهر العبقرية في المجتمع، وسبب ظهورها جعلت الإغريق يتقبلون غرائزهم، كالكراهية والقسوة في القتال ومتعة الانتصار في المعارك، بما أن المبارزة هي التي جعلتهم يتحكمون بهذه الغرائز لكيلا تتجاوز حدها وتصبح مُدمرة، كما كانت عند الإغريق ما قبل هوميروس؛ لذلك يرى نيتشه أن المبارزة هي التي جعلت الإغريق ذات حضارة: “وهكذا نجد لدى الإغريق، الأكثر إنسانيةً من بين شعوب العصور القديمة، طبعًا قاسيًا وأثر رغبة همجية في التدمير”[13]. ويُفصل قائلًا: “ما الذي يجعل النحاتين الإغريق يصورون لنا دائمًا مشاهد الحرب والقتال بشكل لا ينتهي، أجسادًا متوترة تجعل الكراهيةُ أو الانتصارُ المفرط عضلاتِها تنقبض، وجرحى يتلوون من شدة الألم ومحتضرين يلفظون أنفاسهم الأخيرة؟ لماذا كان الإغريق كلهم يبتهجون لرؤية مشاهد القتال المذكورة في الإلياذة؟ أخشى ألا نفهم كل ذلك “على طريقة الإغريق”، وأخشى أن تقشر أبداننا حين نتمكن من فهمه على طريقتهم”[14]. حصول هذه الغريزة والرغبة في القتال، ليس هو الشيء الذي جعل الإغريق على ما هم عليه أيّ أصحاب حضارة، بل هي المنافسة العادلة والشريفة، فالقتال والحرب، يُسبب دمارًا للأطراف المتنازعة كلها، وصحيح أن المنتصر سوف يخرج بأقل الخسائر، ولكن لن تكون لديهم حضارة قوية بالقتال فقط؛ بل بالتماسك وتطور المجتمع من جهة معرفية ثقافية واقتصادية، فمن لديهم حضارة ضعيفة فسوف تنهار بدون حرب. عندما تتملك هذه الغرائز الإنسان، سوف تدمره كما أنها سوف تدمر حضارته من الداخل، وهذا لا يمنع من أن الإنسان يتقبل هذه الغرائز، وحتى وإن كانت سلبية، مثل القسوة، والحسد، والغضب، والكراهية، ولكن عليه أن يتحكم بها قدر المستطاع؛ لأنه عندما تخرج عن حيز إرادته فسوف تدمره أولًا قبل ما أن تدمر غيره. من ثم يواصل نيتشه شرحه عن هذه الغرائز عند الإغريق: “بل العصر الإغريقي الذي يختلف عنا في تصوره للحسد والغيرة، ويشاطر هزيود فكرته. لقد حكم على إيريس الأولى بأنها خبيثة، أي التي تدفع الناس إلى قتل بعضهم بدافع الحقد، ولكنه سرعان ما تباهى بكون إيريس الأخرى طيبة، تلك التي تدفع الناس للتصرف بدافع الطمع، والحسد والغيرة؛ إنها لا تجرهم إلى المعركة وإنما إلى المبارزة. الإغريقي غيور، ولكنه لا يعد هاته الصفة عيبًا بل تأثير إلهة طيبة: يا للفرق الشاسع بين حكمه وحكمنا”[15]. عندما ندقق في تفسير نيتشه لتصور الإغريق، نجد القتل مبررًا عنده لو كان بدافع غير الحقد، كالغيرة أو الحسد، فيصبح القتل يعود إلى إيريس الطيبة؛ لكن هذا التصور إشكالي؛ لأن بهذا التبرير سوف يجرهم إلى المعركة والقتال لا إلى المبارزة، وكل ذلك بدافع الغيرة والحسد؛ ولكن الذي خفي على نيتشه أن المبارزة وحصول المنافسة لا تعتدان كثيرًا على دافع الغيرة والحسد بل على الإرادة التي تجعله يتنافس مع المتنافسين، فالهوس والشغف للفوز والانتصار هو ما يجعله يمتلك هذه الإرادة، مع أن الهوس قد يضر بصاحبه، فما بالك بالحسد والغيرة التي قد تتجاوزه وتصل إلى غيره من الناس وتضرهم أيضًا، فيغيب المعنى من المبارزة والتنافس. من ثم يرى نيتشه أن دعوى الأفضلية، تُبطل المبارزة: “إذا أردنا أن نفهم هذا الشعور في شكله البسيط، عاريًا من كل قناع، الشعور بضرورة المبارزة، ما إن كان سيظل هو خلاص الدولة، فلنفكر في المعنى الأصلي للإبعاد (OSTRACISME)، مثلما جسده الأفيسيون مثلًا بنفيهم هزيود: “لا يجب أن يكون بيننا شخص واحد هو الأفضل، وإذا أصبح شخص ما هو الأفضل فليرحل ليكون أفضل بين ظهراني غيرنا.” لماذا إذن لا يحق لأي أحد أن يكون هو الأفضل؟ لأن ذلك سيؤدي إلى اندثار المبارزة”[16]. عندما ندقق في طبيعة الأفضلية، سوف نجد أن من دونها لن يكون هناك مبارزة بالمعنى النيتشوي؛ لأنه عندما ينتصر المبارز على المتبارزين سوف يكون الأفضل، وعند نفي وجود الأفضل فلن يكون هناك مبارزة أصلًا؛ وكذلك لو نأخذ المنافسة بالمعنى المستخدم لدي، فسوف نحتاج إلى وجود فاضل ومفضول؛ لكي يقع التنافس فيما بينهما، ولكي يبلغ الغاية أو الهدف، كإنتاج أفضل شِعر، يجب أن يكون أفضل من غيره. لكن قد يقال: إن نيتشه قال ما قاله، بسبب أن في وجود الأفضل لن تقع مبارزة مرة ثانية. والجواب: إن هذا التصور غير صحيح، لأن لدينا مثالًا المُعلقات والتنافس الحاصل بينهم، وهم يعدون أفضل الشعراء في العصر الجاهلي، وأشعارهم تُثبت ذلك، ولا يمنع أن شخص اليوم يُنافسهم ويحاول أن ينتج شِعرًا أفضل منهم، فلو حصل سوف يكون من مقامهم في الشِعر؛ وكذلك يصدق هذا الأمر في العلم، وتحديدًا الفيزياء، بأن نيوتن في وقته وما بعده لفترة طويلة الأفضل في الفيزياء إلى أن أتى آينشتاين بالنسبية، فوجود الفاضل والمفضول لا يمنع المبارزة بالمعنى النيتشوي ولا حتى المنافسة بالمعنى المستخدم عندي. كما أنه يمكن منافسة هذا الفاضل وتجاوزه مصداقًا للأمثلة السابقة -مثال المُعلقات أو الفيزياء-. يذكر نيتشه أمثلة عن المبارزة: “مثلما تعمل المبارزة على تربية المراهقين والذين هم في سن التعلم، كذلك توفر لمربيهم مجالًا للتنافس فيما بينهم. كان المغنيان الكبيران، پيندار وسيمونيد، يغنيان في الوقت نفسه وأحدهما يحْذر الآخر ويحسده. ولم يكن السفسطائيون، وهم أعظم أساتذة الإغريق، يواجهون بعضهم إلا في المضمار؛ حتى أدب المسرح، وهو الطريقة العمومية لتربية الناس، لم يكن يقدم للشعب إلا على شكل صراع كبير بين الفنانين، والموسيقيين والمسرحيين. يا للروعة! “الفنان كذلك يحسد الفنان!” أشد ما يخشاه الإنسان المعاصر، عند الفنان، هو مسارعته للدخول في معركة يجازف فيها بشخصيته؛ أما الإغريقي فلم يكن يعرف الفنان إلا من خلال تلك المعركة التي يجازف فيها بشخصيته”[17]. قد أتفق مع نيتشه في المُجمل وأختلف معه في بعض التفاصيل، كالحسد، وسبق ووضحت أن الحسد المُفرِط مُدمر للحضارة، فلن يقتله فقط، بل سوف يقتل غيره أيضًا، أما إن كانت إرادة الهوس في بلوغ الغاية، أي في إنتاج أفضل شيء ممكن، كأفضل أبيات من الشِعر أو صنع لِقاح للوقاية من مرضٍ خطير، فهذا الذي يدفع بروح المنافسة لأعلى حد، كما أن الشغف هو الذي يجعل الإنسان يواجه خصومه وينافسهم، فيُظهر أفضل ما لديه. لكن هل دعوى تجنب الحسد والغيرة في المبارزة هي مجرد مثالية زائدة؟ الجواب هو أن الحسد والغيرة مشاعر سلبية، وإن زادت عن حدها تضر بصاحبها، ولكن كما قلنا، إن كان الحسد أو الغيرة دافع لإرادة الهوس والشغف، فيمكن تقبل هذا الجانب، كأمر مُساعد ودافع للإرادة، عدا ذلك، فهو مضر، وقد يدمر صاحبه أو المجتمع نفسه. في نهاية مقالته، ينتهي نيتشه إلى القول: “وهو ما يبين أنه بدون الغيرة، والحسد والطموح إلى المبارزة يكون مصير المدينة الإغريقية والإنسان الإغريقي هو الانحطاط. يصبح الإنسان الإغريقي شريرًا وفظًّا، انتقاميًّا وكافرًا، باختصار، يصبح مثل إنسان “ما قبل هوميروس””[18].
والأصوب أن نقول من دون إرادة الهوس والشغف اللذين يدفعان الإنسان للمنافسة، وبلوغ الهدف، فلن تكون هنالك نهضة.
كيف نطبق المنافسة اليوم؟
لكي نُحفز المنافسة في المجتمع ثقافيًّا، نحتاج إلى وضع مُسابقات تُحفز روح المنافسة بين الجميع، تقوم بها مؤسسات ثقافية أو منتديات ثقافية وكذلك دور النشر، فتعد مسؤولية ثقافية، لتحريك الحالة الفكرية والثقافية في المجتمع، بدورها تكون سببًا في حصول نهضة فكرية. نأخذ مثالًا، تقوم دور نشر ما، بوضع مسابقة تنافسية في كتابة رواية، من ثم تقوم اللجنة باختيار الأفضل منها، ثم تنشرها كجائزة الفوز، وتكون هذه المسابقة سنوية، فتُساعد كتّاب الأدب والرواية في المنافسة بكتابة أفضل قصة سواءً كانت من النوع الطويل أم القصير؛ مع مُراعاة أن الأفضلية تعود للرواية من الجهة الإبداعية، لا أن تختارها اللجنة وتجعلها الفائزة بسبب تسويقي أو شُهرة المؤلف؛ لأن هذا سوف يَقتُل روح المنافسة في مكانها، ولن تكون للمسابقة أي قيمة، بما أنها لا تُراعي الأفضل من جهة الإبداع الأدبي أو الروائي. هذا مثال مُعين، ويمكن أن نطبقها على المجالات الثقافية والفكرية الأخرى كافةً.
توجد مُسابقات حفزت روح المنافسة، ولكنها قليلة بل نستطيع القول إنها نادرة، ولم تستمر كبداياتها، أي قوة المنافسة وشدتها، والحماس الناتجة عنها. من الإسهامات مسابقة “شاعر المليون” التي تعتني بالجانب الشِعري، وقد أظهرت بالفعل شعراء مبدعين، كناصر الفراعنة رغم عدم فوزه في المسابقة.
ويحضرني كذلك، مسابقة حديثة في الفلسفة، قامت بها “منصة معنى” لتحفيز روح المنافسة في المجتمع، وهي أول مسابقة، تقوم بها. “مسابقة أفضل مقالة: الفلسفة والحياة الطيبة”:
وكذلك أسهمت “منصة معنى”، في تحفيز المشاركة في الكتابة الفلسفية التخصصية، وهي ليست مسابقة، ولكنها تفتح الباب في المنافسة بين المشاركين، بشروط مُحددة لقبول البحث، ولجنة من المُحكمين يراجعون هذه الأبحاث. “المجلة السعودية للدراسات الفلسفية (SJPS)”:
وفي الختام، أقول رغم أن ما ذكرناه من مسابقات هي عينات قليلة، والتي قد تُسهم بالفعل في إنتاج نهضة في مجالها، مع ذلك نحتاج إلى المزيد، من نشر روح التنافس عن طريق المسابقات، وألَّا تكون قليلة ومحصورة في نطاق ضيق، بمعنى يجب وضع مسابقات في كل مجال ثقافي، وأن تقوم دور النشر الكبيرة، بالإسهام أيضًا، بوضع مسابقاتها الخاصة بها، بشرط مراعاة النص الإبداعي لا التسويقي فقط، لكي تحصل المنافسة العادلة؛ وكذلك الجمعيات الثقافية سواءً كانت أدبية، أم فلسفية أم غيرهما؛ في الإسهام في إظهار الروح التنافسية عن طريق المُسابقات الثقافية، ومن خلالها نستطيع أن نصنع نهضة.
[1] What Is Enlightenment?, Immanuel Kant, Translation. Mary C. Smith Source: columbia.edu/acis/ets/CCREAD/etscc/kant.html
[2] إيمانويل كانط: تجرأ أن تفكر، ستيفن غامبارديلا، ترجمة: علي رضا
[3] هذه الصياغة هي التي اُشتهِرت وتم تداولها، ولكن النص الأصلي هو: “ومع ذلك فإني لا أخفي أن بحثًا من هذا القبيل يمكن أن يكون بالنسبة لنا من الحرج بموضع ما دام أن مذهب “المُثُل” قد وضعه أشخاص أعزاء علينا. ولكن لا شك في أنه سيُعلم وسيرى كواجب حقيقي من جانبنا أننا لصالح الحق ننتقد حتى آراءنا الخاصة، خصوصًا ما دمت أدعي أني فيلسوف. وعلى هذا فبين الصداقة وبين الحق، اللذين هما كلاهما عزيز على أنفسنا، نرى فرضًا علينا أن نُؤْثر الحق”. علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، أرسطوطاليس، تعليق: بارتلمي سانتهيلر. ترجمة: أحمد لطفي السيد. الجزء الأول، (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1924م) ص181.
[4] – https://www.ithra.com/ar/news/muallaqat1
[5] لاعب الشطرنج، ستيفان زفايغ، ترجمة: سحر ستّالة. مراجعة وتدقيق: شوقي العنيزي. (تونس: مسكيلياني للنشر والتوزيع، ط2، 2018م) ص59.
[6] المصدر السابق، ص65-66.
[7] المصدر السابق، ص68.
[8] المصدر السابق، ص70.
[9] المصدر السابق، ص78
[10] المصدر السابق، ص83.
[11] المصدر السابق، ص88-89.
[12] هوس العبقرية، باربارا جولد سميث، ترجمة ومراجعة: فتح الله الشيخ وأحمد عبد الله السماحي. (أبو ظبي: دار العين للنشر، 2009م) ص107.
[13] الفلسفة في العصر التراجيدي عند الإغريق ويليه مستقبل مؤسساتنا التعليمية، فريدريك نيتشه، ترجمة: محمد الناجي. (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2009م) ص 226.
[14] المصدر السابق، ص227.
[15] المصدر السابق، ص229.
[16] المصدر السابق، ص230-231.
[17] المصدر السابق، ص232.
[18] المصدر السابق، ص234.