هذه مقاربة لصراعات جاليليو (1564-1642)، مؤتمّةً بصراعِه الأكبر مع سلطة الكنيسة. إطلالة على سيرته العقلية والشخصية لاستكناه تفاصيل المواجهة في بؤرة الصراع: واقعة المحاكمة التي هي أشهر محاكمات التاريخ، وتحديد مسؤولية كلٍ من طرفيها: الكنيسة وجاليليو في احتدام المواجهة. تحاول مقاربتنا أن تكون رؤيةً عن كثبٍ لوقائع فاصلة في قصة العلم، أنبل قصص الحضارة البشرية وأنضرها. وقد تأتي في مجموع تفاصيلها رؤيةً بانوراميةً شاملة لدور جاليليو العظيم في إحداث الحداثة، وكفاحه المظفر ضد هياكل العصور الوسطى الأوروبية المظلمة، استقدامًا للعصر الحديث، كنواتج بعدية لدوره الأعظم في إحداثِ دفعةٍ جبارة للعلم الطبيعي.
أولاً: حلبة الصراعات:
كان الانتصار في هذا الصراع لجاليليو ولمنهج العلم وروح العلم وشرائع العلم. وتكلّل الانتصار باعتذار الكنيسة رسميًّا عن تلك المحاكمة بعد مرور 359 سنة عليها. ومقصدنا في هذه المقاربة أن نتحمل مسؤولية احترام الحقيقة كاملة، ومناقشة الزوايا المختلفة للموضوع وإفساح المجالِ للرأي والرأي الآخر. وصولاً لتصورٍ أفضل وتفهمٍ أكمل. وسوف تكشفُ المقاربة عن أبعادٍ ووقائع في ثورة العلم الحديث، تميل السلطة العلمية الاعتبارية برقابتها الضمنية على المصنفات الفنية إلى إسدال حجب الستر عليها.
الرأي الذي نطرحه يتلخص في نقطتين: الأولى، أن الصراع بين جاليليو والكنيسة أعمق جذورًا وأبعد آفاقًا وأوسع تأثيرًا من مجرد تلك المحاكمة الشهيرة والعقوبة التي أوقعتها لجنة التحقيق في محكمة التفتيش على جاليليو، والتي قال عنها العالم الرياضي الفيلسوف ألفرد نورث وايتهد A.N. Whitehead (1861- 1947) : “لم تتعدَ تحفظًا يحيطُ به التكريم، وعتابًا هادئًا قبل أن يموتَ بسلامٍ على فراشه”، بينما كانت تلك اللجان قد أغرقت أوروبا بالدماء على مدار قرن ونصف.[1] وثانيًا، في واقعة المحاكمة كان جاليليو هو الآخر مُخطئًا إلى حدٍ ما ومندفعًا؛ فسوف نرى أنه لولا وقوعه، وبعد أن طبقَ صيتُه الخافقين وأحرز الإنجازات العظمى، تحت إغراء المنصب الأعلى والراتب الأكبر والعمل الأخف، لكان له أن يتفادى هذه المحاكمة والصراع مع الكنيسة أصلاً.
حين يكون المرء حاملاً دعاوى مُعارِضة ومُقوِّضة لدعاوى سلطةٍ ما وبالتالي مُعارضة لمصالحها وحيثيات نفوذها، ثم لم يستطع أن يقاوم إغراءات العمل في نطاق سيادتها، فذهب إليها لينعم برغد العيش والمرتب الوفير، وينطلق في دعاويه المضادة لها! فهل ينفرد طرفٌ باللوم على ما يمكن أن يلقاه هنالك؟ ألا يُعدّ رد فعل السلطة المهيمنة دفاعًا عن النفس أكثر منه اعتداءً على الطرف الآخر؟ هذا بالضبط هو حال جاليليو.
الدعوى المقصودة هي رؤية كوبرنيقوس N. Copernicus (1473 ـ 1543) القائلة بمركزية الشمس بدلاً من مركزية الأرض البطلمية التي كانت سائدة. وقد مثلت الكوبرنيقية ثورة في تاريخ الفكر، أنزلت الإنسان من عرشه في مركز الكون الذي بدا أوسع كثيرًا من كل ما تصور إنسان العصر الوسيط. وكان هذا التعديل لرؤية الكون محوريًا لكي يستقيم نسق العلم الطبيعي. إنه فاتحة العلم الحديث والعصر الحديث والرؤية الحديثة للإنسان وللكون وللعلاقة بينهما.
نعود لجاليليو لنجد معاصره يوهانس كِبلر J. Kepler (1571 ــــ 1630) قد اعتنق نظرية كوبرنيقوس بحماس مشبوب. كان في شبابه يعبد الشمس فآمن بأن المكان الملائم لهذا النجم العظيم هو مركز الكون. اعتقد أن الله خلق الكواكب تبعًا لمبدأ الأعداد التامة، وكان يبحث عن التناغم الهارموني في الكون الخاضع للمبدأ الرياضي ويمكن التوصل إليه بالتدوينات الموسيقية، على نحو ما حاول أن يفعل في كتابه “تناغم العالم Harmony of World”. كانت عقليته مفعمة بشطحات صوفية، مقابل عقلية جاليليو العلمية الرصينة ذات الوضوح الرياضي الناصع. ويظل كبلر بطل إنجاز المرحلة الفلكية الهندسية في العلم الحديث. وقد أحدث ثورة مناظرة لثورة كوبرنيقوس حين استبدل المدار الإهليلجي أو البيضاوي للكواكب بالمدار الدائري السائد في العلم القديم، والذي سلم به كوبرنيقوس أيضًا. وهذا ثورة علمية/فلسفية من حيث أنه إغلاقٌ لباب من أبواب العصر القديم الذي طالما سلّم بأن الدائرة أكمل الأشكال والأجرام السماوية، مقدسة تدور في الشكل المقدس وهو الدائرة. وأخرج كبلر كتابه الفذّ “الفلك الجديد – 1609″، الذي أودع فيه تفاصيل وبراهين قوانينه الثلاثة التي تحكم حركة الكواكب حول الشمس. طالعه جاليليو وأثنى عليه وهنّأه على هذا التأييد العظيم للكوبرنيقية.
ومع هذا لم يتعرض لما تعرض له جاليليو. أجل كان كبلر ألمانيًّا بروتستانتيًّا، بينما كان جاليليو إيطاليًّا كاثوليكيًّا. لكن كبلر ذهب عام 1600 إلى براغ ليعمل مع تيخو براهه كمنجّمين يستكشفان طالع الملك رودلف الثاني الذي أغدق على رصوداتهما الفلكية، ومنحهما لقب “عالما الرياضة صاحبا الفخامة.” توفي تيخو بعد عام وبقي كبلر يعمل بالتنجيم، وأيضًا يحقق إنجازات في الفلك وفي التقاويم، حتى غادر هذه المدينة الكاثوليكية في الوقت المناسب. وكذلك ذهب للتدريس في جراتس التي لا تزال أهم مدن الجامعات النمساوية، وحين عجز عن التراضي مع النفوذ الكاثوليكي فيها، تركها وعاد إلى لينز. لقد ابتعد كبلر عن مواطن الصراع مع الكنيسة، وعن افتعاله. ربما ليتفرغ لصراعه مع اتهام أمه بممارسة السحر: أبشع جريمة آنذاك، وبعد كفاح دامَ ست سنوات حصل على البراءة وأنقذها من الموت حرقًا على الخازوق.
رفضت المسيحية بجملتها الكوبرنيقية استنادًا إلى نصوص في الإنجيل. ومارتن لوثر أبو البروتستانتية يقول عن كوبرنيقوس: “إنه مُنّجم جديد أراد إثبات أن الأرض تتحرك وتدور… وهذا هو حال العصور التي نحيا فيها؛ فمن أراد أن يبدو حذقًا لا بد أن يبتدع شيئًا ما خاصًا به. وتلقائيًا يعتقد أن ما يؤلفه هو أفضل شيء. إنها الرغبات الحمقاء لقلب الفلك بأسره رأسًا على عقب.”[2] لكن أتى أول تعضيد لكوبرنيقوس من فيتنبرج موطن لوثر، على يد الرياضياتي الشاب ريتيكوس صاحب أول عرض منشور للكوبرنيقية.
كانت محاكم التفتيش المروعة قصرًا على الكاثوليكية، ملة المحبة والغفران. بينما ظلت الكنيسة الأرثوذكسية، صحيح العقيدة المسيحية في الشرق، بمنأى عن الصراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية. نظرت إليه بلا مبالاة عميقة، وعلى أنه من الأمور الداخلية الأوروبية ولا يعنيها،[3] لأن الكنيسة الأرثوذكسية ظلّت قوة روحية، لم تجمع كما فعلت الكاثوليكية بين سلطة الدين والدنيا، لتنزلق إلى طوفان الاستبداد والوبال.
ثانيًا: صراعٌ بين نظامين:
يمكن القول إن انتقال السلطة المعرفية في الحضارة الغربية من رجال الكنيسة إلى رجال العلم ارتهن بانتقالها من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس. وهذه الأخيرة تعود أصولها إلى الحضارة الفرعونية التي آمنت بأن الشمس مركز الوجود وتعبدت لها، لذا اشتهر عن كبلر قوله: “لقد نهبت أواني المصريين الذهبية، كي أؤثث معهم معبدًا مقدسًا لإلهي، بعيدًا عن تخوم مصر.”[4] وأشارت إليها في التراث الغربي أعمال هيراقليطس والفيثاغوريين والكتاب السابع من جمهورية أفلاطون، اعتنقتها الأفلاطونية المحدثة في عصر النهضة. وتراءت أيضًا لشيشرون وبلوتارخ وإيكفانتوس… أما مركزية الأرض فقد أرسيت دعائمها في حضارة الإغريق.
في القرون الثلاثة السابقة على ميلاد المسيح، العصر السكندري، كانت إسكندرية مصر مركز العلم والحضارة. فيها تجاور وتفاعل ميراث الحضارتين الفرعونية والإغريقية، وبالتالي قدمت في القرن الثاني قبل الميلاد نظريتين متكاملتين معالجتين رياضيًا، الأولى لأرسطارخوس على أساس مركزية الشمس، والثانية لبطليموس على أساس مركزية الأرض. ولأسباب كثيرة قُدرت لمركزية الأرض السيادة، خصوصا بعدما اتسقت مع الأديان السماوية.
وحين أحيا كوبرنيقوس مركزية الشمس، فعل هذا مستندًا على حجة واحدة هي (البساطة الهندسية)، أي أن الاستدلال على حركة ومواقع الكواكب سيكون أبسط لو افترضنا أنها تدور حول الشمس. زادت هذه البساطة نصوعًا ورسوخًا بفعل قوانين كبلر الثلاثة، صلب الفلك الحديث. وتظل البساطة دائمًا من معايير البحث العلمي.
وكان جاليليو هو الذي أتى بالدليل التجريبي على صحة هذه النظرية. فقد ظهر عام 1604 نجمٌ جديد “مستسعر” أثار اهتمام جاليليو بالفلك؛ لأنه لا يتفق مع الفكرة العتيقة عن النجوم الثابتة، وزاد من اقتناعه بالكوبرنيقية. وفي عام 1609 سمع عن الاختراع الهولندي للمقراب (التلسكوب) فاصطنع لنفسه واحدًا، تبدت أهميته الحربية والبحرية. وبعد ذلك طوره بحيث ضاعف من قدرته ثلاثين مرة، وصوبه نحو السماء، فأماط اللثام عن سلسلة معجزة من الكشوف. شوهد درب التبانة يحوي عددًا لا يحصى من النجوم، وشوهدت الجبال على سطح القمر، وقُدّر ارتفاعُها بالأميال من أطوال ظلالها.
وكان اللافت حقًا أن جاليليو رأى الجسم الكروي لكوكب المشترى محاطًا بأربعة أقمار دوّارة حوله. فها هو نموذج للنظام الكوبرنيقي، أفلا يمكن إذن أن يكون النظام الشمسي كله بالتخطيط نفسه. وقد أدى هذا لتوطيد الكوبرنيقية في الخطاب العام، أكثر مما فعلته الحجج الرياضية العويضة. لم يكن وجود المشترى بأقماره برهانًا منطقيًا، بيد أنه كان أكثر إقناعًا من المنطق؛ فارتفعت مركزية الشمس الى الصدارة.
ثارت ثائرة الآباء الجوزويت [= اليسوعيين]، التي انتهت بمحاكمة جاليليو، على الرغم من أنه تعلم في مدرسة لهم على مقربة من فلورنسا وهو صبي. وكانت مدارس الجوزويت أفضل المدارس لتلقي العلم في عصر النهضة وبواكير العصر الحديث؛ لأنهم كانوا أكثر رجال الدين اضطلاعًا بالعلم القديم. واحتل الآباء الجوزيت مكانة خاصة وسطوة عظيمة في الفاتيكان؛ لأنهم أشد الطوائف محافظةً على أصوليات العقيدة الكاثوليكية.
في ذلك العصر المتقد الهائج ساد الكنيسة صراعٌ بين حزب رجعي محافظ يخشى أن تزلزلَ العلومُ والآداب والفنون الحديثة كيانَ الكنيسة وتزعزع العقيدة الدينية في النفوس، وحزبٌ تقدميٌ يطالب بانفتاح الكنيسة على العلوم والآداب الحديثة لتساير العصر ويبقى الدينُ محتفظًا بدماء الحياة. وقد تزعم الآباء الجوزويت الحزب الرجعي المحافظ. وكان من أقطابِهم آنذاك القديس روبرثو بلارمينو (1542-1621) كاردينال الكنيسة الكاثوليكية ورئيس الكنيسة الرومانية، الذي أجرى التحقيق مع جيوردانو برونو، وأدانه وأصدر الحكم بحرقه في 17 فبراير عام 1600 بميدان الأزهار بروما، لتصعد روحه شهيدًا لعشق الحضارة الفرعونية والافتتان بها. وظل بلارمينو دائمًا يثير المخاوف من نظريات الفلك الحديث، وهو الذي يقف وراء استدعاء محاكم التفتيش لجاليليو.
كان الجوزويت من أوسع رجال الدين في ذلك العصر معرفةً بالرياضيات والعلوم وانكبابًا على دراستِها، لكي يتمكنوا من الحفاظ على العلوم الأرسطية القديمة المتسقة مع التصورات اللاهوتية، حتى أن واحدًا منهم هو القديس شاينر سبق جاليليو ولاحظ البقع الشمسية، فلم يسمحوا له بنشر ملاحظته لأن أرسطو لم يذكر بقعًا شمسية. لقد تفانى الآباء الجوزويت في دراسة نظام مركزية الأرض البطلمي محور الصراع، وأول وأهم محاور الصراع العينية بين العلم والكنيسة، وذلك لكي يتمكنوا من الدفاع المستميت عنه والإبقاء عليه في حربهم الضروس والخاسرة مع العلوم الحديثة الصاعدة الواعدة. في النهاية انسحقت دعاويهم وتلاشت تحت اكتساح نجاح العقلانية العلمية. ولم يبقَ منهم إلا أسلوب مدارسهم الدؤوب في الدرس والتحصيل.
ولعل اعتناق إنجلترا للبروتستانتية وبالتالي تخلصها من كل نفوذ أو تأثير للجوزويت من العوامل التي أدت الى تفجر التقدم العلمي في إنجلترا إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر. لقد شهدت إنجلترا نجاح حركة الإصلاح الديني واكتمال البروتستانتية، وشهدت أقوى نجاح لحركة العلم الطبيعي في الثورة على سلطة رجال الكنيسة. وكان الآباء الجوزويت تجسيدًا لهياكل فلول السلطة الدينية المعرفية آنذاك.
وجاليليو بدوره في طليعة أبطال الثورة العلمية الصناديد، أتى في خواتيم عصر النهضة كذروة ثمراته وآخر إنجازاته وأعظمها، وكان هو نفسه آخر الإيطاليين العمالقة، لينتقل المسار الحضاري بعده من منشأ النهضة الأوروبية في إيطاليا إلى مراكز توهّج عصرها الحديث في غرب القارة.
على أن دراسة جاليليو لقوانين الحركة الأفقية والرأسية على سطح الأرض فتحت للبشرية آفاقا على الميكانيكا الحديثة وتقاناتها الجبارة. لقد وضع قوانين الديناميكا، وبالتالي ألقى الأسس الكينماتيكية أي الحركية لعلم الميكانيكا، مُلغيًّا التقسيم الأرسطي للعالم إلى ما فوق وما تحت فلك القمر، واقتحم مجال الهيدروستاتيكا، فضلاً عن جمعه ظواهر الحركة على الأرض بقوانين موحدة في علم فيزيائي واحد، كمقدمة للنظرية الفيزيائية البحتة فيما بعد مع إيزاك نيوتن…. كل هذا أثقل وزنًا وأبعد أثرًا في تقدم العلم من إنجازاته الفلكية، وبما لا يقاس.[5] ولكن لأن ديناميكا جاليليو لم تصطدم مع عقائد أو نصوص إنجيلية، فلم تحدث المواجهة والمحاكمة إلا بسبب إنجازاته الفلكية، التي تقوم على تعزيز تصورات كوبرنيقية مطروحة من قبل أن يأتي جاليليو.
ثالثا: صراع العلم والحرية الإنسانية:
خطورة دور جاليليو بلا حدود، فهو من أعظم آباء العلم الحديث والعصر الحديث والفكر الحديث والفلسفة الحديثة، صاحب الباع الكبير في تشكيل مفهوم الحداثة، وفي أكثر من بُعد لها، رائدها جميعًا البُعد العلمي طبعًا.
منحَ جاليليو الحداثةَ صورةً متكاملة تنظيرًا وتطبيقًا للمنهج التجريبي، آية العلم الحديث. ومن الناحية الأخرى المتكاملة مع التجريب: الناحية الرياضية، تعرّف جاليليو وهو طالب في جامعة بيزا على مُعلم الرياضة أوستيليو ريتشي، صديق الأسرة الداعي للتخلي عن الفيزياء الأرسطية. وكان أهم ما استفاده منه جاليليو أنه يعلم الرياضيات بوصفها قابلة للتطبيق العملي، كان يعلم “التعليم العملي” وليس “التعليم النظري”، وبمصطلحات عصرنا: الرياضيات التطبيقية وليس الرياضيات البحتة.
يلتقط جاليليو الخيط العملي التطبيقي، وبفضل قواه المبدعة الخلاقة في الرياضيات والتجريب معًا، يتجلى سرّ أسرار تقدم العلوم الطبيعية وهو أنها نتاج توشج قطبين هما لغة الرياضيات الدقيقة ووقائع التجريب الصلبة. التآزر المثمر بينهما، هو الأساس المكين لتعملق الفيزياء والعلم في أثرها. وبينما أكدّ أرسطو أن الرياضيات علم السكون والفيزياء/الفيزيقا علم الحركة، وبالتالي لا علاقة بينهما البتة، يقف جاليليو على رأس الثالوث الذي أهدى للبشرية جوهرة ترييض العلم الطبيعي: أرشميدس في العلم القديم، والحسن بن الهيثم في العلم الوسيط، وجاليليو في العلم الحديث.[6]
وهذه اللُحمة الرياضية التي توشجت مع سُدى التجريب لتنسجَ العلمَ الحديث قشيبًا بهيًّا متينًا، قد غزلها جاليليو في مبدئه الشهير للتفرقة بين خصائص الأجسام الثانوية وخصائصها الأولية. هذه التفرقة من أخطر مُحدثات الحداثة، علمًا وفلسفةً على السواء، وهي التي خلقت صراع العلم والحرية.
الخصائص الثانوية هي الكيفيات التي تخاطب الحواس كالألوان والملامس والأصوات والطعوم والروائح، قال عنها إنها: ” ليست من العلم في شيءٍ البتة، لأنها ذاتية وغير حقيقية .unreal”[7] أما الخصائص الأولية فهي الكميات الرياضية كالأبعاد والحجوم والأوزان والسرعات … وهذه هي الخصائص الحقيقية الموضوعية، وهي لا سواها موضوع العلم.
رسمت القسمة بين الخصائص الأولية والثانوية حدود الطريق أمام العلم الحديث، من حيث صاغت له مفهوم الطبيعة الخاص به، الذي ميّز مرحلته. فبينما آمن الإغريق أن الطبيعةَ كيانٌ عضوي والعقل محايثٌ فيها، أكد جاليليو أن الكيفيات بصفة عامة (=الخصائص الثانوية) ومعها العقل خارجة عن مفهوم الطبيعة (=الفيزيقا) وداخلة في بحوث الميتافيزيقا. الطبيعة ليس فيها عقل، وهذا يعني أنها ليست من الكائن العضوي في شيء، بل هي آلة ميكانيكية، عملياتها وتغيراتها ليست بسب علل نهائية أو غائية، بل فقط بسبب العلل الكافية، وليست موجهة لإحراز غاية لم توجد بعد. إنها مجرد حركات تنتجها أفعال الأجسام الموجودة فعلًا.[8] وكان هذا هو تصور الطبيعة الميكانيكي الحتمي الذي عمل به وتقدم على أساسه العلم الحديث، حتى تغير تمامًا في القرن العشرين بفعل ثورة النسبية والكوانتم وما تلاهما.[9]
وخطورة القسمة بين الخصاص الأولية الكمية والخصائص الثانوية الكيفية في الفلسفة ليست بأقل من خطورتها في العلم. إنها التفرقة الشهيرة بين الذات والموضوع. صحيحٌ أن جرت تنويهات إليها مع بعض الإغريق والطبائعيين الإسلاميين، لكن جاليليو هو الذي أرساها في بنية العقل الحديث لتحتل موقعًا رياديًا؛ فقد اعتمدتها منه الفلسفة الحديثة بجملتها، وفي شخص أبيها رينيه ديكارت (1596- 1650) الذي شطر العالم بأسره والكيان الإنساني ذاته إلى شطرين لا معبر بينهما، أو بينها معبر واهٍ: الغدة الصنوبرية، وهما المادة للموضوعية/العلية والعقل للذاتية/الإنسانية. إنه الرائد فاندفعت الفلسفة الحديثة بجملتها وراءه، ليندس الفاصمُ الثنائي من أولى بداياتها، وحتى نهاياتها الموصولة بالفلسفة المعاصرة.
أسفر هذا الفاصم، الذي قطع الصلة بين عالم المادة والعلية الحتمية وعالم الذات والحرية الإنسانية، عن حالة شيزوفرنيا صريحة واغتراب للإنسان عن الطبيعة، وللوعي عن العلم. فهي ليست ثنائية صورية فحسب، بل هما عالمان منفصلان كلاهما غريب عن الآخر ومغترب عنه: في العالم الأول يجد العقل إشباعه وسلطانه؛ فيَعِيه ويفهمه بواسطة العلم الميكانيكي الحتمي الصارم، ثم يجعله أكثر رغدًا ورفاهة بتطبيق منجزات هذا العلم أو تقانته. أما العالم الثاني فقد خُلق خلقًا من أجل الذات، ليكون لائقًا بإنسانية الإنسان الحيّة الخفاقة، فيجد فيه المفهوم العميق للحياة بوصفها تمثيلات للحرية/ نقيضة الحتمية الميكانيكية.
هذان العالمان: عالم الحتمية العلمية وعالم الحرية الإنسانية ترتدّ إليهما ثنائيات جمّة دارت بين رُحاها الفلسفة الحديثة: العقل والمادة (ديكارت).. النومينا والفينومينا (كانط).. الإرادة والتمثل (شوبنهاور).. الأنا واللاأنا (فشته).. العقلي والواقعي (هيجل).. النسبي والمطلق ( شلنج).. حتى تمخضت الثنائية عن تيار مقابل لتيار العقلانية العلمية، تمثل في الرومانتيكية والحدسية والصوفية والبرغسونية والوجودية والشخصانية.. اقترنت به الحرية الإنسانية التي ظلت غريبة مغتربة عن العلم وعالمه. فكانت الفلسفة الحديثة مسرحًا لدراما الصراع بين العلم والحرية[10].
رابعًا: المنهج في صراع العلم والكنيسة:
ولما كانت الخصائص الأولية الحقيقية في تلك القسمة الثنائية هي الخصائص الكمية الرياضية، فقد انطلق منها جاليليو ليعلن صيحته المدوية: كتاب الطبعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات، وبالتالي لا يستطيع قراءته إلا العلماء المجيدون لهذه اللغة.
بهذه الصيحة التي أصبحت شعار العلم، صاغ جاليليو انقلابة العصر العلمي الحديث المتمثلة في أنه جعل الطبيعة بعد طول إهمال لها إبان العصور الوسطى الأوروبية قد أصبحت في حد ذاتها موضوعًا للاهتمام وللتفكير وللبحث. لم تعد مجرد شيء فانٍ زائل خلقه الرب كهاوية للخطيئة، ومعبر للعالم الآخر. ومع مسار العلم الحديث طرأ تطور على الفكر المسيحي: “أصبح “الرب” عاليًا في السماء بعيدًا فوق الأرض، حتى أن التفكير في الأرض بمعزل عن “الرب” يمكن أن يكون ذا معنى. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تصبح الطبيعة بحدّ ذاتها منذ ذلك العصر موضوع تمثيل فني لا علاقة له بأمور الدين. فالطبيعة استقلت عن “الرب” وعن الإنسان أيضًا، وتستجيب للدراسة”[11] العقلانية المقننة بالرياضيات والتجريب.
لم يجرِ هذا التطور هينًا لينًا، بل عبر الصراع الضاري بين رجال العلم ورجال الكنيسة المتشبثين بسلطتهم المعرفية. وأخطر ما في الأمر أن جاليليو بصيحته (كتاب الطبيعة المجيد) استطاع أن يقود رجال العلم إلى النصر، وبشكلٍ ما يلخص آفاق الصراع بين جبهة العصر/ العقل/ الفكر الوسيط وجبهة العصر/ العقل/ الفكر الحديث؛ حاملًا حكمًا على الماضي ورفضًا له ولأرسطو الذي رأوه لم يفعل للبشرية شيئًا ذا بال يساعد على علاج جرح أصبع، وتجسيدًا لأبعاد انقلابة حركة العلم الحديث ولأعلى أشكال الحداثة التي أحدثها وأكثرها تجريدًا.
لقد انبثق العلم الحديث في مرحلة حضارية ومعرفية تأتت في أعقاب العصور الوسطى الدينية، التي حددت معالمها كتبٌ سماوية منزلة تنطوي على حقائق مُسلّم بصحتها ويقينها، فلنقتصر على استنباط ما يلزم عنها؛ فكان منهج البحث المهيمن على تلك العصور هو القياس الأرسطي منهج استنباط القضايا الجزئية التي تلزم عن مقدمات كلية مطروحة، والمتضمنة فيها قبلًا، لا جديد، ولا مساس بآفاق المجهول الرحيبة في الواقع الحي.
واقترن إغلاق أبواب العصور الوسطى المظلمة في أوروبا وإشراقه عصرها الحديث بالضيق البالغ منتهاه من منطق أرسطو والعزوف عن الاستنباطات العقلية التي أثبتت العصور الوسطى الخاوية عقمها حين دارت في متاهاتها المنبتة الصلة بالواقع، والبحث عن منهج جديد يلائم العصر الجديد، هو المنهج التجريبي. يقول فرنسيس بيكون (1561-1626) فيلسوف المنهج العلمي آنذاك في الفقرة (28) من كتابه (الأورجانون الجديد) – أي الأداة الجديدة البديلة لأورجانون أرسطو / الأداة القديمة -.. يقول: ” فليكف الناس عن التعجب من أن العلوم لم تعد مثمرة، فقد ضلّلهم منهج البحث الذي يهجر الخبرة التجريبية ويجعلهم يلفون ويدورون حول أنفسهم في دوائر مغلقة، بينما المنهج القويم يقودهم من خلال أحراش التجربة إلى سهول تتسع لبداهات المعرفة.”[12]
هكذا بدا للعقلية الناهضة آنذاك أن شق الطريق الحديث للعلم الحديث إنما يعتمد على نبذ القياس الأرسطىي واستنباطاته العقلية الخالصة، وسلك الطريق العكسي وهو الاستقراء أو التجريب الخالص: البدء بالملاحظة ثم تعميمها؛ فيقول برتراند رسل: “لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعًا بين الفكر الحر والتعصب، بل كان صراعًا بين الاستنباط والاستقراء.”[13]
تأججت نيران الصراع بين رجال الدين ورجال العلم، منذ أن أعلنت الكنيسة تكفير كوبرنيقوس وهو طريح فراش الموت عام 1543 بسبب كتابه دوران الكرات السماوية، حتى أن العلم الحديث حين كان يشق خطواته الغضّة في القرنين السادس عشر والسابع عشر لم يكن يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم، بفعل هذا الصراع بينه وبين السلطة المعرفية التي كانت في يد رجال الكنيسة.
ورجال الدين قد استمدوا السلطان ليس لأنهم مبدعون أو يفترضون الفروض، بل فقط لأنهم أقدر البشر على قراءة الكتاب المقدس. ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم بدا من الحمق والخسران إقحام فكرة الفرص صنيعة العقل الإنساني الخطّاء القاصر في المواجهة مع المتوسلين بالحقائق الإلهية؛ فكانت فكرة الفرض العلمي تعني الإبقاء على السلطة المعرفية واليد الأعلى لرجال الدين. ولنلاحظ أن بلارمينو أخبر جاليليو بأنه سيكون بمنجاة لو أعلن أن رؤاه الفلكية مجرد فروض. لكن العلماء أصروا على أنهم هم الآخرون أقدر البشر على قراءة كتاب آخر لا يقل عن الأناجيل عظمة ولا دلالة على قدرة الرب وبديع صنعه، إنه كتاب الطبيعة المجيد.
هكذا أصبحت عبارة جاليليو (قراءة كتاب الطبيعة المجيد) تعبيراً شائعًا في تلك المرحلة للدلالة على نشاط العلماء. إنه محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية، فلا إبداع ولا فروض. بل وفي تجسيد وتجريد الفلسفة لروح عصرها عمل بيكون على تحذير العلماء من مغبة الفروض وأسماها: استباق الطبيعة؛ مما أدى إلى صورة شائهة للمنهج العلمي الذي لا يستغني عن الفرض. ومع انتهاء الصراع وسلطة رجال الدين واستقلال حركة العالم الطبيعي، ثم تحررها التام بفضل قوتها المنطقية المتنامية، شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على استحياء، حتى احتل موقع الصدارة في نظرية المنهج العلمي المعاصر.
ونعود لجاليليو وعصره، لنلفت الانتباه إلى أن (قراءة كتاب الطبيعة المجيد) لم تكن محض لافته ظاهرية مصطنعة لمواجهة الكنيسة، بل استندت على إيمان ديني قوي. فقد اعتقد جاليليو وجهابذة الجمعية الملكية التي جمعت كبار العلماء في لندن آنذاك، أنهم يدرسون توراة الطبيعة، وأن للعلم روافد دينية جياشة تكشف قدرة الله التي تتجسم في خلائقه، وكان هذا الاعتقاد أحد مبررات حرصهم على العلم وعلى حمايته من تدخل اللاهوت. كانت الحركة العلمية آنذاك ثورة رافضة مُجدِدة ضد رجال الدين، وليس ضد الدين نفسه. هكذا نجد جون راي مثلاً، وهو من طليعة الفيزيوكيميائيين في تلك المرحلة، يخرج في نهاياتها عام 1691 كتابًا جعل عنوانه “حكمة الرب كما تتجلى في أفعال الخلق” The Wisdom of God as Manifested in the Works of Creations.[14]
ظلت العقيدة الدينية تدفع حركة العلم في القرن السابع عشر، خصوصًا وأن هذه المرحلة المبكرة من تاريخ العلم الحديث قد سادتها فكرة أن القانون مفروض على الطبيعة من الرب. ولم يبدأ العلم في المساس بالإيمان الديني للعلماء إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولم يزعزعه إلا في القرن التاسع عشر. ثم تغير الوضع في القرن العشرين، مع انهيار التصورات الأنطولوجية الميكانيكية الحتمية للفيزياء الكلاسيكية، ثم مع متغيرات مابعد الحداثة في العقود الأخيرة.
المهم الآن أن جاليليو نفسه لم يشتبك مع الدين، ولم تراوده نفسه على التطاول عليه، بل كان اشتباكه فقط مع السلطة المعرفية لرجال الكنيسة، وعلى وجه التعيين مع الآباء الكاثوليك الجوزويت. وكل مقتضيات الفكر والواقع وسيرورتها آنذاك كانت تحكم بأن النصر النهائي لجاليليو على أي حال. واعترضت مواكبه واقعة المحاكمة تلك، التي لم يكن لها داعٍ، لم تقدم أو تؤخر من مسار حركة العلم المنطلقة قدمًا. وقد صدّرنا الحديث بأن جاليليو أيضا مسؤول عن هذا الاشتباك النافل.
فكيف كانت تفاصيل ذلك الاشتباك؟ إننا الآن في حاجة لإطلالة عن قربٍ (زووم) على سيرة جاليليو.
خامسًا: وقائع صراع جاليليو مع الكنيسة:
تبدأ وقائع السيرة والصراع بمولد جاليليو في بيزا، في الخامس عشر من فبراير عام 1564، لعائلة أصلاً من فلورنسا، كانت مرموقة لكن لم تنعم بثراء. الوالد فنشنتزيو جاليلي مارس التجارة، وكان ضليعًا في الرياضيات والآداب الإغريقية والرومانية ونظريات الموسيقى. وهو موسيقي موهوب، له مؤلفات من أجل العودة للموسيقى الميلودية ورفض البوليفونية (المتعددة الأصوات) الواردة من البندقية. درس كبلر أعماله حينما كان يحاول اكتشاف الانسجام والتناغم في الحركات السماوية الفلكية. ولئن كان الوالد موسيقيًا محافظًا، فإنه كان نصيرًا مفوهًا للبحث العقلي الحر، مما ترك تأثيرًا على الابن الأكبر جاليليو، الذي أوتي عقلًا متوقدًّا وذاكرة قوية وملكة نقدية أكسبته لقب “المتجادل”. أدرك أبوه أنه أنسب للعلم منه للعمل؛ فأرسله إلى جامعة بيزا ليدرس الطب، لأنها مهنة تدر عائدًا مجزيًا. لكن لم يُبدِ جاليليو اهتمامًا بدراسة الطب، بينما تفجرت ملكاته وطاقاته الذهنية في الرياضيات والطبيعيات.
سرعان ما لفت جاليليو الأنظار بأعماله في البندول والأثقال النوعية للمواد وسواهما. تكسب عيشه عن طريق التدريس الخصوصي، حتى خلا كرسي الرياضيات في جامعة بيزا فاعتلاه عام 1589. وجامعة بيزا خاضعة تمامًا لسلطة الكنيسة وتمويلاتها، مما جعله ملزما بتدريس العلم الأرسطي، إلا أن هذا لم يحُل دون تدفق إبداعاته وإنجازاته التي كانت مُنْصبة آنذاك على دراسة القذف المدفعي والحركة الأرضية. بعد ثلاث سنوات عُيّن جاليليو في جامعة بادوا أهم مراكز العلم آنذاك، والتي شد الرحال للدرس فيها كوبرنيقوس وﭭيساليوس ووليم هارفي وسواهم من أعلام العلم في عصر النهضة، من شتى بقاع أوروبا. تقاضى جاليليو في بادوا مرتبًا محدودًا، لكن حظي باحترام وتقدير بالغ. كان يحاضر لجمهور عريض من المستمعين وعاش في منزل فسيح آوى فيه العديد من طلابه. المنزل له حديقة غناء كان يطيب لجاليليو أن يناقش فيها العلم مع تلامذته، إبان قيامه بالحرث وتقليم الأشجار أو تناول الطعام تحت ظلالها.[15]
عاش جاليليو في بادوا ثمانية عشر عامًا شهدت تدفق أعظم إنجازاته، واختراعه العديد من أدوات البحث العلمي والعمل الهندسي، واكتمال أبحاثه في الميكانيكا، والمهم أن شهدت بداية إسهاماته في الفلك. وذلك لأن بادوا تابعة لحكم البندقية ( فينسيا) وكانت البندقية تنعم بالحرية العقلية على أراضيها، لأنها قوية وثرية، وبالتالي مستقلة إلى حد ما عن سلطة البابوات في روما، قادرة على ردعها عن التدخل في شؤونها الخاصة.
وأخطر ما في الأمر أن جاليليو الآن راودته مطامع الدنيا، وأعمت عينيه عن قيمة هذه الأجواء الحُرّة، فاستغل صيته الذائع وفيض إنجازاته لكي يحرز في موطنه الأصلي وظيفة شرفية، بمعنى منصب يتقاضى عنه مرتبًا كبيرًا ولا يقوم مقابله بعملٍ كثير، فيتحرر من العبء الروتيني في محاضرات الجامعة ويتفرغ للبحث العلمي والكتابة؛ فأرسل إلى تلميذه القديم الذي تلقى على يديه التعليم الخصوصي وهو صبي يافع، وقد أصبح الآن جراندوق توسكانيا كوزيمو الثاني. استجاب كوزيمر لرغبة أستاذه، وخلق مثل هذا المنصب خلقًا من أجل جاليليو، تحت لقب عالم الرياضة الأول لجامعة بيزا، وبمرتب عالٍ جدًا.
والذي يجعل جاليليو ملومًا في واقعة المواجهة والمحاكمة، أن جميع أصدقائه تقريبًا نصحوه بألا يقبل هذا المنصب، بعد أن خاض في الفلك الكوبرنيقي، لأنه لن ينعم هناك بالحرية العقلية والاستقلال الفكري اللذين نعم بهما في بادوا تحت حماية البندقية. أما دوق توسكانيا، وإن كان عميق الإعجاب بأستاذه جاليليو، فإن منصبه يعتمد من الناحية السياسية على رضوان روما، وبالتالي يجب عليه في النهاية أن يفعل كل ما تريده روما. ويجمع مؤرخو العلم على أن جاليليو لو كان “قد ظلّ في بادوا لما اضطر الى مجابهة محاكم التفتيش ولجان التحقيق.”[16]
ولكنه ذهب، واستأنف في بيزا جهوده وإنجازاته. واصل أبحاثًا في الهيدرو ستانيكا، وجمع المزيد من الحجج ضد خصومه الجوزويت، ومضى قدمًا في تأييد الكوبرنيقية. والآن مادام في بيزا فقد أصبحت آراؤه مرمى للهجوم بوصفها معارضة للاهوت.
فذهب جاليليو عام 1616، إلى روما واثقًا من قدرته على إقناع البابا والكرادلة ومحاكم التفتيش بأن الكوبرنيقية لا تعارض اللاهوت. قوبل باحترام كبير، وتصور أنه طالما يتحدث في الطبيعيات فسوف يملك طوع بنانه في اللاهوت والسياسة حججًا مساوية لحججة الفيزيائية!! وهذا نوع من الرعونة وسوء التقدير، فما كان له أن يحرز في مثل هذا الموقف نجاحًا سياسيًا ثم أنه ليس متمكنًا من علوم اللاهوت تمكنه من علوم الطبيعة. والنتيجة أن تلقى سفير جراندوق توسكانيا في روما إخطارًا بخطورة تصرف جاليليو. ويبدو أن جاليليو لم يتبين أنهم رأوه مقوضًا لنفوذ الكنيسة الكاثوليكية التي أعلن أنه عضو مخلص فيها، فذهل باستدعاء محاكم التفتيش له لكي ينكر إيمانه بالكوبرنيقية.
عاد الى فلورنسا يكسوه الألم والخزيان، فانكب على تدوين كتاب أسماه “الحكيم” أو “المجرب” Assayer يحمل نظريات الفلكيين الجوزويت في المذنبات في مقابل بعض آرائه. أثار هذا الكتاب حنق الجوزويت. فقام جاليليو بزيارة روما مرة أخرى عام 1624 مثقلًا بالهدايا، ولكن أيضًا لم تلقَ نظرياته قبولًا. فانكبّ على عمله الشهير “محاورات حول نظامي العالم”. أُرسلت المخطوطة إلى روما للاطلاع عليها، فجاءت بعض التوصيات منها حجة البابا ضد نظرية جاليليو في المد والجزر. وضعها جاليليو، ونشر الكتاب على النحو المرجو في عام 1632. ثم اتضح أن جاليليو تعامل مع حجة البابا بأسلوب تهكمي، واضعًا إياها في محاوراته على لسان “الساذج”؛ فتأجج غضب السلطات في روما على اعتقاد أنها خُدعت وأُهينت. وعلى الفور تم إيقاف بيع الكتاب، واستدعاء جاليليو الى روما للمثول أمام محاكم التفتيش. وكما هو معروف، بعد تحقيقات طويلة أجبروه تحت التهديد بالتعذيب أن ينكر إيمانه بالكوبرنيقية وهو جاثٍ على ركبتيه.
عاش جاليليو البقية الباقية من حياته محتجزًا في بيته، وأكمل عملًا كبيرًا آخر بعنوان “علمان جديدان”، قام بتهريبه إلى هولندا ليظهر عام 1638. وحتى في سنيه الأخيرة كان يحرز كشوفًا، درس نودان القمر وأجرى تجارب على البندول للتحكم في الساعات، وبحوثًا حول خواص السوائل استفاد منها تلميذه تورتشيللي، فاخترع البارومتر بعد وفاة جاليليو بعامين. إذ كانت الكنيسة قد سمحت في أكتوبر 1641 للعالم الشاب تورتشيللي أن يلازم جاليليو في أيامه الأخيرة وبعد أن فقد بصره، فتعاون مع سلفه في هذه المهمة العالم الشاب فيفياني، وحفظا ما أملاه جاليليو في خواتيم حياة ناشطة وعقلية باذخة العطاء.
سادسًا: عن قرب أكثر.. صراعات شخصية:
هكذا يتضح أنه لولا إعراض جاليليو عن نصح الأصدقاء بالبقاء في بادوا، ووقوعه تحت إغراء المنصب الذي يشتهيه في بيزا؛ لكان قد تفادى واقعه المحاكمة. ولعل حياته الخاصة تكشف عن صعوبة أن نتوقع منه مقاومة الإغراءات المادية.
فقد توفي الأب عام 1591، فكان على الابن الأكبر جاليليو أن يعول بمرتبه المحدود أسرته المكونة من أمه وستة من الإخوة والأخوات. وحتى بعد أن ذهب إلى بيزا وارتفع مرتبه كثيرًا ظلّ في ارتباك مالي مزمن بسبب كفالته لأسرته. جَهّزَ أختيه فرجينيا وليفيا للزواج. وكان ينفق على أخيه الموسيقي الموهوب والمبذر ميكلانجلو وعلى زوجته وأولاده الكثيرين، فلم تكن الموسيقى تدر عائدًا مجزيًا.
ومن هنا تبدو علة لتدني بعض سلوكيات جاليلو الشخصية، فلعل هذه التبعات العائلية هي التي جعلته يعزف عن الزواج خوفًا من أعبائه، فعاشر امرأة من البندقية تدعى مارينا جامبا لأكثر من عشر سنوات معاشرة غير شرعية. وحين ذهب إلى بادوا انتقلت إليها مارينا، وأقامت في منزل مستقل تجنبًا للانتقادات. أنجبت منه ابنتين هما جينيا (1600) وليفيا (1601) تيمنًّا باسم شقيقتيه. ثم أنجبت في 1606 صبيًّا اسماه فنشنتزيو، تيمنًّا باسم أبيه. وقد انفصل جاليليو ومارينا على مودة، عندما انتقل الى جامعة بيزا عام 1610، تاركًا لها ابنهما لتقوم بتربيته رغم زواجها من أحد معارف جاليليو. والأدهى أنه دفع بابنتيه دفعًا الى دير سان ماثيو لتصبحا راهبتين، وكما يقول لويس عوض: “هذا لونٌ من القسوة الفظيعة التي لجأ إليها جاليليو لعلمِه بأن ابنتيه لا أمل لهما في الزواج من أحد في مثل طبقته الاجتماعية،”[17] لأنهما ابنتان غير شرعيتين.
إنها علامة استفهام كبرى، تثيرها سيَر متدنيّةٌ لشخصياتٍ عظمى ساهمت في تنوير عقول البشر ودفع مسيرتهم الى الأمام. فكيف تجتمع عظمة العقلية وتألقها مع وضاعة الشخصية وتدني سلوكها؟ وإن كان الاستفهام في حالة جاليليو مُجابًا الى حدٍ ما، فكما يقول مؤرخ العلم كراوثر: “كان جاليليو نتاجًا لعصرٍ ذاهبٍ إلى الأفول، تمامًا كما كان خالِقًا لعصرٍ جديد. وبينما تألقتْ عقليتُه، عكستْ حياتُه الشخصية ضعةَ الشرفِ والتناقضات في نظامٍ اجتماعي وشيك التحلل”.[18]
[1] A. N. Whitehead, Science and the Modern World, Fontana Books, Collies, 1975. p12.
[2] نقلاً عن: ج. ج. كراوثر، قصة العلم، ترجمة د. يمنى طريف الخولي ود. بدوي عبد الفتاح، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998. ص83.
[3] Whitehead, op. cit., p. 11.
[4] ج. كراوثر، قصة العلم، ص 122.
[5] تعرضنا بتفصيل أكثر لدور جاليليو التاريخي فى تقدم العلم الفيزيائي في أكثر من موضع، منها كتابنا: فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول.. الحصاد.. الآفاق المستقبلية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2000. ط2 الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009. ص ص 90- 96.
[6] لتفاصيل دور ابن الهيثم في التمهيد للفيزياء الرياضية الحديثة:
Yomna T. Elkholy, Ibn Al-Haytham from Place to Space: A Comparative Approach, in: Philosophy East and West, University of Hawaii Press, USA. Vol. 69, no. 3, July 2019. pp. 759-778.
Yomna T. Elkholy, Ibn Al-Haytham in Europe during Late Middle Ages and Renaissance, in: Micrologus Journal of SISMEL (International Society for the Study of Medieval Latin Culture), Florence, Italy, vol. XXVIII, January 2020. pp. 242 -258.
[7] Stuart Hampshire, The Age of Reason, Mentor Book, New York, 1956. p.32.
[8] R. G. Collingwood, The Idea of Nature, Clarendon Press, Oxford, 1945. P 102-103.
[9] وذلكم هو موضوع كتابنا الضخم “العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2019.”
[10] كرسنا لهذه القضية كتابنا “الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية، الطبعة الثالثة، نيويوك، القاهرة، 2017.” هذا الكتاب وسابقة متكاملان، فيمكن اعتبارهما الجزئين الأول والثاني من عمل واحد.
[11] فيرنر هيزنبرج، الطبيعة في الفيزياء المعاصرة، ترجمة د.أدهم السمان، دار طلاس، دمشق، 1986. ص 12.
[12] Francis Bacon, Novum Organon, in: The Philosophers of Science, ed. By S. Cummins & R. N. Linscott, The Pocket Library, New York, 1954. Pp 73: 158. P. 119.
[13] Bertrand Russell, The scientific Outlook, George Allan Unwin, London, 1934. P33
[14] فرانكلين باومر، الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة د.أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988. ص78.
[15] كراوثر، قصة العلم، ص145.
[16] برنارد كوهين، غاليليو، ص51. فى : رجال عاشوا للعلم، ترجمة د. أحمد شكرى سالم، دار القلم، القاهرة. (د. ت.).
[17] د.لويس عوض، ثورة الفكر فى عصر النهضة الأوروبية، مركز الأهرام للنشر، القاهرة، 1987. ص275.
[18] ج. كراوثر، قصة العلم، ترجمة يمنى الخولي وبدوي عبد الفتاح، ص 136.