أولاً: عرض نقدي
ربما كان العلم الإسلامي النسقي، الذي استُفيد في دراسته حقًا من فلسفة هيدجر هو الفكر الروحي الإسلامي. وربما كان أحد أهم الأسباب لذلك هو تلك العلاقة، التي أسس لها هذا الفكر، بين نظريتي الوجود والمعرفة.[1] ولهذا لا يكاد المرء يجد لهيدجر أثرًا في الدراسات الإسلامية خارج هذا المجال. ويمكن التأريخ لذلك الاهتمام بهيدجر في محيط الفلسفة العربية المعاصرة بدءًا من أربعينات القرن العشرين في مصر، وذلك عند عبد الرحمن بدوي (1917-2002)، وخصوصًا رسالته للدكتوراة “الزمان الوجودي”.[2] هذا وإن كان أهم عملين لبدوي في مجال الاستفادة بهيدجر في محيط الفكر الروحي الإسلامي قد تليا تلك الرسالة: “الوجودية والإنسانية في الفكر العربي”،[3] و”شهيدة العشق الإلهي- رابعة العدوية”.[4] ما لفت انتباه بدوي هو الخبرة الوجودية في حيوات المتصوفة، ومراحل التحول التي اشتهروا بها، وكيف يمكن مقارنتها بصحوة الضمير Gewissen الوجودية حسبما وصفها هيدجر والوجوديون.[5] لكن السمة الأخرى الهامة في الفكر الروحي الإسلامي هي موقعه كتوجه هامشي؛ فالمسيحية مثلاً دين روحاني بطبيعته، بمعنى العلاقة في كل الأديان بين المتناهي واللا متناهي.
إن الإسلام في تياراته الرئيسة الغالبة لم يعقد تلك العلاقة على النحو الموصوف، وبالتالي صلح وصف الفكر الروحي الإسلامي بالـ “الثورة الروحية في الإسلام” على حد تعبير أبي العلا عفيفي.[6] وربما اعتقد بدوي في “ثورة روحية” مقابلة للوجودية، وخاصة هيدجر، كانت من أهم عوامل نهضة ألمانيا من كبوتها بعد الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك ظل اهتمام بدوي بالفلسفة الوجودية منحصرًا تقريبًا في النتائج أكثر مما في المناهج؛ في المفاهيم الأساسية، والنظريات، والعلاقات النظرية بين المفاهيم وبعضها في حيز النظرية، ولم يتضمن تطبيقًا للهرمنيوطيقا الهيدجرية على مجال دراسة نصوص الفكر الروحي الإسلامي أو التفاسير. وبحث أسباب ذلك يطول، ويخرج عن الموضوع المباشر لهذا المقال.[7]
وبعد بدوي تمدد أثر هيدجر في الفكر العربي الإسلامي من المحيط إلى الخليج. يمكننا مثلاً أن نجد أثر هرمنيوطيقا هيدجر الظاهراتية في عمل أحمد الصادقي في المغرب “إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي”، والتي فيها يعتمد المؤلف على تفسيرية هيدجر، وهو يعلن أنه يستهدف دراسة أفكار ابن عربي، كما فهمها ابن عربي نفسه.[8] وهو ما طبقه هنري كوربان فيما سبق، كما سنتعرض لذلك لاحقًا. بالرغم من ذلك فقد تركز الاهتمام بهيدجر عمومًا في شمال إفريقيا على الترجمة، والشرح، أكثر من الاستفادة الخلاقة. ومن أشهر أمثلة ذلك ترجمة فتحي المسكيني لـ “الكينونة والزمان”،[9] وشروحات محمد محجوب وترجماته،[10] في تونس. وللأستاذين محمد محجوب والمسكيني أعمال إبداعية أصيلة، لكنها كذلك تخرج عن دائرة تركيز هذا المقال.
ويمكن القول إنه في المشرق الإسلامي كان الاهتمام أكبر بمفاهيم هيدجر ونظرياته مقارنةً بالمغرب العربي من جهة الاستفادة بها في مجال العلوم الإسلامية؛ وذلك لأسباب سترد في مواضعها. وهنا تبرز عدة أسماء مهمة: مثل سيد أحمد فرديد، وميرزاد بروجردي، ورضا دواري اردكاني، وعبد الكريم سوروش، وداريوش شايجان، وعلي مرسباسي، وغيرهم. والملاحَظ أن المدخل السياسي، أو على الأقل الحضاري، كان الباب الأساسي، الذي منه دخلت أفكار هيدجر إلى المشرق الإسلامي، وذلك بسبب انتظام هيدجر في سلك نقاد الحضارة الغربية المعاصرة، مع نيتشه، وشبنجلر، وخاصة نقده للتقانة الحديثة. وهذا هو ما يراه على سبيل المثال علي مرسباسي؛ فإن ما جعل لأفكار هيدجر أهمية خاصة في المشرق الإسلامي هو السؤال: كيف يمكن صياغة رؤية كونية للعالم المعاصر خارج سياق الحداثة الغربية العلمانية؟ وهو بالطبع السؤال، الذي أثارته تحولات ما بعد الاستعمار في المشرق.[11] ولكننا سنرى كذلك أن أحد أسباب ذلك الاهتمام هو الانقسام القطبي العالمي إبان الحرب الباردة، وما أثبتته أفكار هيدجر السابقة من قدرة على دعم المعسكر المناوئ للغرب عمومًا، إسلاميًا كان، أو يساريًا، أو قوميًا.
ويرى بعض الباحثين أن سيد أحمد فرديد (1912-1994) قد لعب في المشرق دور عبد الرحمن بدوي في مصر بما هو مدخل عام للفكر الهيدجري، وبالذات في خمسينات القرن العشرين.[12] نقل فرديد تعاليمه شفهيًا، والذي لم يترك كتابات نسقية، لكنه أحدث ردة فعل معقولة، نشطت الاهتمام بفلسفة هيدجر ببلده، بالذات في تأويلها عند هنري كوربان.[13] وبشكل عام فقد لاحظ فرديد أربع مراحل للنظرة الكونية عبر التاريخ: النظرة الطبائعية والروحية في الشرق، والنظرة العقلية الإنسانية الإغريقية، والنظرة اللاهوتية في عالم العصر الوسيط، وأخيرًا النظرة الفردانية في العصر الحديث.[14] لقد قدّم الغرب نفسه –في رأي فرديد- من القرن الثامن عشر باعتباره الحضارة بالألف واللام، من ثمَّ جاء هيدجر في سياق ما يُعرَف لديه بنسيان الكينونة Seinsvergessenheit ليوضح للعالم أن الحضارة الغربية قد أقامت بنيانها الحديث العلمي-التقني على حساب مضمونها الروحي.[15]
وفي السياق نفسه قام رضا دواري اردكاني بنقد الفلسفة الأوروبية المعاصرة؛ لأنها في نظره، وباستثناء نماذج قليلة، أهملت النظرة الدينية للعالم، ومشكلات الميتافيزيقا الجوهرية.[16] لقد اعتقد دواري أن نهاية الحضارة الغربية قد أزفتْ؛ لأن التقانة الحديثة ليست فقط وسيلة، بل نظرة كونية، أبدلتْ ماهية الإنسان من ذات إلى موضوع.[17] وواضح هنا أثر نقد هيدجر للتقانة. والملاحظ هنا كذلك أن المدخل إلى هيدجر في مصر قد اختلفَ كثيرًا عنه في إيران؛ ففي الأربعينات لم يكن هيدجر قد طور هذا النقد للتقانة بعد، والذي سيحين أوانه في مطلع الخمسينات. مما يعني أن مدخل هيدجر في مصر –مرحلة بدوي- كان فلسفيًا مقارنةً بمدخله في إيران، الذي ارتبط بالأيديولوجيا الإسلامية المناقضة للعلمانية الغربية، وتركز بالذات على فلسفة التقانة الهيدجرية، وما تسمح به من توظيفها الأيديولوجي اللا-علماني.
ويمكننا كشف ملامح (تيار) ما في المشرق كذلك، الأمر الذي لا نكاد نعثر عليه في مصر؛ فبينما انقطع خط هيدجر تقريبًا بعد بدوي في مصر، واهتم تلاميذه بشكل أكبر بالمثالية الألمانية ككتابات إمام عبد الفتاح إمام الغزيرة عن هيجل، أو بالتغريب العلمي-العلماني كطريق للتحديث، كمختلف كتابات فؤاد زكريا، فإن عبد الكريم سوروش قد وجه نقده لعمل كل من فرديد ودواري بناءً على أن فلسفة هيدجر لا تدعم أيًّا من النظرتين الكونيتين: العلمانية أو الدينية.[18] ثم مارسَ سوروش نقده على هيدجر نفسه؛ حيث وجدَ أن فلسفة هيدجر، من حيث مقدماتها ومن حيث نتائجها، أسطورية، تعارض روح العلم، الذي يحتاج إليه الشرق ما بعد الكولونيالي في الأساس.[19] وهو النقد نفسه –بشكل عام- الذي وجهه علي مرسباسي لفلسفة هيدجر، وخاصة “الكينونة والزمان”؛ حيث رأى فيه محاولة لإعادة إنتاج الأساطير القومية الغربية قبل-المسيحية في شكل معاصر نسقي.[20] ومن هنا نشأ ما يعرف عند بعض الباحثين بالجدل الهيدجري-البوبري (نسبةً لكارل ريموند بوبر) في المشرق؛ أي الجدل بين أطروحتين إحداهما –على الترتيب- أسطورية، والأخرى عقلانية نقدية.[21]
وفي سياق الجدل ثنائي القطب المذكور أعلاه حاول داريوش شايجان إيجاد طريق ثالث بين الحداثة الغربية والحضارة الإسلامية في صورة التأويل الهيدجري للفكر الروحي الإسلامي،[22] وذلك لمواجهة تيار جلال آل أحمد (ت 1969)، الذي قدم رؤية معادية للغرب، واشتهر بتعبير “التغريب” (غربزادگی)، الذي أحيانًا ما يُترجَم بشكل غير حَرْفي بـ Weststruckness (ضربة الغرب) أو التسمم بالغرب Westoxification، وشبّه التأثر بالغرب بعدوى الكوليرا، وبجلطة المخ، وبقضمة الصقيع، ورأى أن لهذا “المرض” رأسين: أحدهما في الغرب (الطفيل) وهو المؤثر الخارجي، والآخَر في الشرق (العائل) وهي حالة الافتقار إلى جذور ثقافية أصيلة تقاوم التبعية العمياء.[23] وقد اهتم آل أحمد بفلسفة هيدجر في التقانة كذلك بصورة أداتية؛ لخدمة أغراض نقد الغرب كحضارة، ناقلاً الوسيلة والغاية عن أحمد فرديد.[24] ومن المعروف أن آل أحمد لم يوجه هذا النقد من قطب إسلامي، بل يساري، وهو الذي أسس -فيمن أسس- حزبَ “القوة الثالثة” (نيروي سوم) ذا التوجه العالم-ثالثي، وقد كان عضوًا بحزب (توده) على أية حال.[25]
كان هذا عرضًا مختصرًا يستهدف الوقوف على الملامح الأساسية للمعالجات المتأثرة بهيدجر في مجال العلوم الإسلامية، وليس بحال بحثًا مستفيضًا في أثر هيدجر على الفكر الإسلامي والعربي المعاصرين، حيث يمكن للقارئ الرجوع إلى المراجع المذكورة في الهوامش، وما تتضمنه الأخيرة من مصادر، بالإضافة إلى كتابات المستشرقين الألمان وغير الألمان في الموضوع، وكتابات الباحثين العرب كذلك. وأهم تلك الملامح التي يكشف عنها ذلك الاستعراض هو قوة العامل الأيديولوجي بعد الاستعمار، وأهمية نقد هيدجر للتقانة الحديثة، الذي سمح باستعماله كأداة في الصراع الأيديولوجي بما هو نقد للحضارة الغربية الحديثة عمومًا في أحد أهم أوجه اعتزازها وفخرها، بل أحد أهم مصادر قوتها. لقد اندمجت أطروحة هيدجر الخاصة بنقد التقانة في سياق الأطروحة الكلاسيكية القائلة بوجود تناقض جوهري حضاري بين الشرق الروحاني، والغرب المادي. وما منحها موقعها المتميز –في سياق استعمالها الأداتي سابق الذكر- هو كونها صادرة من فيلسوف غربي معترَف به عالميًا. هذا “الاستعمال” لأطروحة هيدجر قد أغفل بالطبع جذورها، وأهدافها على السواء؛ فلم يكن مقصود هيدجر دعم روحانية الشرق، المعروف في الغرب بالاستبداد، وهو الذي أكّد على معيار الأصالة، ذلك المعيار الذي يتناقض على نحو حاد مع البنية الشمولية لبعض نُظم ما بعد الاستعمار. وأيًا ما كانت مواقف هيدجر العملية من الشمولية النازية، فهي لا تتعلق بمضمون مفاهيمه ونظرياته بالضرورة مجرد تعلق. ولم يكن فردوس هيدجر المفقود نوعًا من الروحانية الدينية، بل كان –كما هو واضح في “سؤاله عن التقانة”- الشاعرية الوثنية قبل-المسيحية، الفردوس ذاته الذي افتقده نيتشه من قبل. وحتى هذا السؤال حول التقانة لم يتم تناوله نقديًا في إطار المعالجات السابقة، ولم يتم التساؤل حول ما إذا كانت التقانة الحديثة بطبيعتها منتجة تلقائيًا لهذا التبدل في ماهية الإنسان، أم أن ذلك التبدل يرجع لأسباب اجتماعية، أو عما إذا كان قد حدث تبدل أصلاً، وما نوعه.
وتظل لهنري كوربان (1903-1978) –تلميذ هيدجر- مكانة خاصة في تطبيق منهجية هيدجر في مجال العلوم الإسلامية، وخاصة الفكر الروحي الإسلامي بطبيعة الحال؛ فقد تأثر به فرديد، وأثر فرديد في غيره. لقد حاول كوربان العثور على منهج مختلف عن المنهج التاريخي لدراسة الخبرات المباشرة، وهو ما وجده في الهرمنيوطيقا الظاهراتية، والتي تعني لديه بشكل عام دراسة الأفكار كما يفهمها المعتقدين فيها، ووفقًا لأغراضهم.[26] وهو ما يعني أن هذه المنهجية لديه منهجية لا-تاريخية، تقوم بتحييد (تقويس) تاريخ نشأة الأفكار، وتطورها. صحيح أن التاريخ –لدى كوربان- بُعد أساسي من أبعاد وجود الإنسان، لكنه ليس فحسب تاريخ الحضارة، بل كذلك تاريخ الكينونة الإنسانية، بمعنى توقّتها الهيدجري.[27] والتاريخ لدى كوربان بالمعنى الأخير يعني كذلك «اتجاهًا» للكينونة في العالم.[28] يفرق كوربان –في سياق دراسة المنهجية الرمزية للتأويل في الفكر الروحي الإسلامي- بين المجاز والرمز؛ فيرى أن المجاز حركة بين معنيين للفظ، بينما يمثل الرمز حركة من اللفظ إلى شخص أو شيء.[29] أما الوسيط، الذي به تحدث تلك الحركة الأخيرة فهو الخيال، الذي به يفهَم النص الديني، وتأثيره في الطبيعة.[30] وهو لا يخلو من عدم الدقة؛ فالمجاز، كي يظل مجازًا، يجب أن يوافق المواضعة اللغوية، بينما يتحرر الرمز منها.
ومن أشهر المحاولات المتأثرة بالهرمنيوطيقا الظاهراتية كذلك في مجال دراسة الفكر الروحي الإسلامي أعمال آن-ماري شيمل (1922-2003). وهي بالرغم من كونها محاولات نسقية، فقد انشغلت بتطبيق هذه الهرمنيوطيقا على التفسير الرمزي في الإسلام، مما يجعلها محاولات تطبيقية بالدرجة الأولى. وعلى سبيل المثال بحثت آن-ماري شيمل العلاقة بين المنطوق وبين المفهوم في القرآن، لتستنتج قوانين معينة وجّهت القراءات والتأويلات.[31] ودرستْ التفاسير الرمزية المتنوعة، معتمدةً على نتائج التفسير، وهو ما يذكرنا نوعًا بنموذج جولدتسيهر في دراسة التفسير.[32]
ثانيًا: علاقة أنطولوجيا هيدجر بالإسلام كمنظور مقترَح
يمكن للمشروع الأنطولوجي لهيدجر أن يتعلق بمجال التفسير في الإسلام من ثلاث زوايا أساسية: الأولى: هي العلاقة بين الوجود والمعرفة، والثانية: هي المعرفة بما هي تأويل، والثالثة: هي العلاقة الأنطولوجية بين القيم وبين نمط الكينونة. إن العلاقة الأولى “العلاقة بين الوجود والمعرفة” جوهرية في موضوعنا بحد ذاتها؛ فلا يمكن فهم التفسير كنمط كينونة، أو بما هو دالٌّ على نمط لها، إلا بناء على هذه العلاقة. فالتفسير فهم، والفهم معرفة. ولكن أي فهمٍ لا بد من أن يتوجه أولاً بناء على فرضية مسبقة؛ هي تصور المفسر عن الإنسان، والطبيعة، والله، في خطوط عريضة. وبرغم كونها خطوطًا عريضة، فهي كذلك محمَّلَة بالتفاصيل الضرورية كحد أدنى لصياغة فرضية مكتملة. إن مفهوم الإنسان ليس بسيطًا؛ فهو يرتبط بالتاريخ الإنساني. وتصور المفسر عن التاريخ يحكم علاقته بالنص بشكل غير مباشر، فلو فرضنا أن المعرفة التاريخية صادقة، في جزء منها على الأقل، وأن بإمكاننا لذلك أن نبني عليها معرفة، فإن التفسير سيعتمد على الرواية. أما لو قطعنا صلتنا بالتاريخ، بناءً على عدم مصداقية المصدر التاريخي، فإننا سنلجأ إلى اللغة. وإذا فرضنا أن في النص مستويات، لا يمكن للسانيات أن تشق حِجابَها، فإننا سنلجأ إلى التفسير الرمزي. ولو فرضنا أن التاريخ ليس فقط ما هو ماضٍ، بل ما هو مستقبَل أيضًا، فإننا سنلجأ للتفسير الموضوعاتي، أي التفسير البراجماتي، الذي يتغيّا إنجاز خطوة في الإصلاح الاجتماعي. وهنا نجد أن الذات فاعلة في عملية الفهم بناء على تصورات مسبقة ضرورية؛ فهي تتصور نفسها في علاقة معينة مع التاريخ، وفي التاريخ، وتتصور لنفسها دورًا تاريخيًا؛ إما مستجيبًا سلبيًا في التفسير الروائي، وإما مستقلاً عن التاريخ في التفسير اللساني، وإما متجاوزًا للتاريخ، متعاليًا عليه لاكتشاف قوانين فوق التاريخ، تُحرك التاريخَ، في التفسير الرمزي، وإما دورًا إيجابيًا، يقوم بتحريك التاريخ طبقًا لقوانين التاريخ المادية في التفسير الموضوعاتي البراجماتي.
أما الزاوية الثانية: العلاقة بين المعرفة والتأويل، فهي هامة لفهم آليات الفهم؛ وذلك باعتبار المعرفة عمومًا “فَهمًا” في جانب لا بد منه، لا رصدًا موضوعيًا لظاهرة مادية بسيطة. وحتى هذا الرصد لا معنى له إلا في سياق سردية مسبقة لدينا. أعني تلك العلاقة التي نظّر لها هيدجر بين المعرفة والتأويل باعتبار كل معرفة تأويلاً. وهي مسألة بدهية لو تأملناها؛ فالمعرفة ليست “استقبالاً” محضًا، وإلا ما وقع لنا الاختلاف النظري في شيء. والرصد البحت للظواهر لا يؤسس معرفة، بل معلومات، و”بيانات ضخمة”، لا تترابط في ذاتها، ولا تنفعنا في ذاتها. إننا نحن من يربط هذه المعلومات في نسق، حتى بالنسبة لأبسط الأشياء، ثم نستخرج منها المعاني، والقوانين، ومن ثم يمكن لنا عن طريقها التحكم في الظواهر، أو إعادة إنتاجها. وهذا النسق الأوّلي المضاف على المعلومات هو مضاف منّا نحن، هو نوع من الهيكلة المسبقة. وعن طريق نوع من الهندسة العكسية reverse engineering نستطيع استخلاص ذلك الهيكل من ذاك الجسد. بعبارة أخرى غير مجازية: نستطيع استنتاج منهجية التأويل من المعرفة، نستطيع استنتاج المنهج من الممارسة المعرفية. مصطلح الهندسة العكسية هنا في غاية الأهمية؛ فما نقترحه هنا هو عكس ما قام به هيدجر في الاتجاه، وما يوافقه في المبادئ. بعبارة أوضح: لقد نظّر هيدجر للمعرفة من خلال الوجود، بينما نقترح هنا تنظير الوجود من خلال المعرفة.
وربما كانت الزاوية الثالثة “العلاقة الأنطولوجية بين القيم وبين نمط الكينونة” أكثرهن إثارة للجدل؛ فمعروف أمر اهتمام هيدجر بالأنطولوجيا على حساب نظرية القيم؛ وذلك في سعيه كمشروع أساسي لأن يعيد تأسيس الأنطولوجيا الغربية على أساس مختلف هو “الأنطولوجيا الأساسية”. لكننا سنفهم فيما بعد كيف أن نظرية القيمة متضمنة في أنطولوجياه بشكل ما، وكيف نفيد منها، وسنرجئها إلى ختام هذه المقالة. ولكن، وبشكل عام، فإن سلوكنا في العالم نحو النص، والطبيعة، والله، والإنسان، إنما يتحدد وفقًا لقيَم معينة أصيلة لدى الفرد الواحد. صحيح أنها تتأثر بالثقافة، ولكنها لا تتأثر بها بشكل سلبي، بل من المنطقي أن هناك عمليات معقدة تحدث تحت هذا السطح. إن قبول قيم المجتمع هو في حد ذاته تفاعل إيجابي، وقرار، حتى إذا تم على نحوٍ غير واعٍ. ومن الواضح كيف تتمفصل هذه العلاقة، مع كل من العلاقتين الأولى، والثانية أعلاه؛ فالقيم الخُلقية والجمالية من المحركات الأساسية للتأويل، والتأويل هو الذي يؤسس المعرفةَ، كما أن هذه القيم جانب من اختياراتنا الوجودية المسبقة، التي توجه تفسيرنا للنص، والتي نبني بها معرفتنا.
وفقًا لهيدجر فإن كينونة الدازين تتشكل إلى حد كبير من خلال معرفته، بل إن ما يمنح وجودنا كبشر تميزه هو أن سؤالنا عن وجودنا هو الذي يحدد نمط هذا الوجود.[33] وهذا السؤال بصدد وجودنا يعتبره هيدجر في حد ذاته وضعية كينونة Seinsmodus.[34] إن الإنسان (بقدر من التصرّف: الدازَيِن) هو الكائن، الذي “يسلُك” نحو وجوده، والذي يفهم نفسه من خلال وجوده.[35] وقد اعتقد هيدجر أن مثل هذا الكائن لا يُفهَم إلا في سياق الزمان كسياق تأويلي؛ فوجوده لا يفهم إلا بالنظر إلى الزمان.[36] وهذا البعد –بعد الزمان- من الأبعاد الأساسية التي سنتعامل بها مع التفسير؛ فالبعد التاريخي جوهري عند المدرسة التاريخية، على عكس المدرسة اللسانية مثلاً. ومن خلال بحثنا للعلاقة بين التاريخ، والنص الديني، يمكن لنا التوصل إلى كيفية عمل التاريخ في النص، والنص في التاريخ. أما العلاقة بين الوجود والمعرفة فهي قائمة في كل من عمل هيدجر وهذا الاقتراح، ولكن بشكل معكوس: فإذا كان الإنسان –بحسب هيدجر- يفهم نفسه من خلال وجوده، بمعنى أننا نستطيع نظريًا فهم وعي إنسانٍ ما بالنظر في نمط وجوده، فإننا يمكننا القيام بالعكس: أي فهم نمط الوجود من خلال كيفية فهم الإنسان للعالم، وليس أفضل من تفسير النص الديني، بما هو سردية شاملة للعالم وما ورائه، كمرآة لهذا الفهم.
مع هيدجر لم يعد اللوجوس علمًا أو معرفة أو كيانًا ميتافيزيقيًا، بل صار فهمًا، لا يعتمد على أي من نظرية التطابق Theorie der Übereinstimmung، أو نظرية الاتساق Kohärenztheorie.[37] لقد صار اللوجوس تأويلاً، أو كشفًا، يقوم به الدازين لفهم الظاهرة. وهو ما يعتمد على قدرة الدازين على التأويل. وهو بالنسبة للدازين في حد ذاته ما-في-متناول-اليد Vorhandenes، وأداة Zeug.[38] ولكن المعنَى غير كامن في الشيء نفسه، بل في العلاقة معه، فالدازين هو واهب المعنَى، ولكن بشرط دخوله في علاقة معرفية مع غيره.[39] إن فعل المعرفة في حد ذاته هو وضعية كينونة للوجود-في-العالم.[40] لهذا ارتبط وجودنا عند هيدجر بالحقيقة ارتباطًا جوهريًا يجعلها –بالمفهوم الهيدجري- من خصائصنا الأساسية، أو كما يقول: “توجدُ الكينونة –لا الكائن- طالما وُجدتْ الحقيقة، وهي [الحقيقة] موجودة فقط طالما وُجد الدازين”.[41] وبهذا يصير العارف مكوِّنًا مع المعروف في عملية المعرفة. وهذه الدائرة –دائرة الفهم- هي بحسب هيدجر: “تعبيرٌ عن البنية المسبقة Vor-Struktur الوجودية للدازين نفسه”.[42]
ومن الأسئلة الهامة في هيدجر هو إذا ما كانت فلسفته تتضمن نظرية في القيمة على الإطلاق. فإذا كان عبد الرحمن بدوي يرى أن الوجودية ككل لا تتضمن أي عنصر خُلُقي سوى “الأصالة”، وأن الأمر الخلقي الوحيد فيها هو “افعل ما شئتَ ما دام جديدًا”،[43] فإن عددًا من الباحثين –وأنا منهم- يختلفون معه بهذا الصدد؛ فمن الصعب الاعتقاد أن “الأصالة”، و”اللا أصالة”، و”السقوط”، وغيرها من تعبيرات هيدجر، ومفاهيمه، لا تحمل بعدًا معياريًا ما بدءًا يحتفظ بقيمة الحرية كقيمة أولَى أساسية.[44] وكما ذكرنا، وكما سنرى، فإن ما ينظم مفاهيم هيدجر في “الكينونة والزمان” في سردية واحدة كبرى هو الهيكل اللاهوتي بعد تفريغه من مفاهيمه اللاهوتية وإحلال مفاهيم إنسانية محلها. ومن هنا تعبير “السقوط” Verfallenمثلاً، وتعبير “الآخرون” das Man أو الجوييم بالعبرية –في الكتاب المقدس- بالمعنى نفسه، وسواهما من تعبيرات ومفاهيم. ولكن “العلاقة” بين المفاهيم في النسقين اللاهوتي والهيدجري هي ما تبقى على حالها تقريبًا؛ فالسقوط خيانة للإنسانية في كل منهما، والأصالة هي هذه الأمانة، التي على الإنسان أن يحفظها، هي “العهد” الأجدّ، الأحدث، الذي يمكن أن يتطور ليصيره الكتابُ المقدس في عصر إنساني بحت. وهذا النداء فينا كي نستعيد أصالتنا هو الضمير Gewissen، وهو مفهوم خُلقي صريح. بهذا يمكن القول –كما أمكن لباحثين كثُر- بأن في فلسفة هيدجر موضعًا لنظرية القيمة، ولكن ما جعلها –في نظري- حاضرة حضورًا غير مباشر هو الطبيعة الوصفية للـ “كينونة والزمان”، وخلوه من التعابير الإنشائية.
ووفقًا لما سبق يمكن في رأينا إعادة النظر في ما يسمَّى بالوجودية العربية، أو الإسلامية، وإعادة الاستفادة منها، بالتوازي مع دراستنا لوجودية هيدجر، من أجل تركيب منظور خلّاق لدراسة التفسير، ودراسات النص من جهة، وهو هرمنيوطيقا النص، ومن جهة أخرى تفسيرنا للوجود الإنساني المؤسِّس لفهم النص، وهي جهة هرمنيوطيقا الإنسان.
[1] Cf. Green, Nile, Between Heidegger and the Hidden Imam: Reflections on Henry Corbin’s Approaches to Mystical Islam, in M.-R. Djalili, A. Monsutti & A. Neubauer, Le monde turco-iranien en question, coll. Développements, Paris, Karthala; Genève, Institut de hautes études internationales et du développement, 2008, S. 252.
[2] – بدوي، عبد الرحمن: الزمان الوجودي، دار الثقافة، بيروت، ط3، 1973.
[3] – بدوي، عبد الرحمن: الوجودية والإنسانية في الفكر العربي، دار القلم، لبنان، ط1، 1991.
[4] – بدوي، عبد الرحمن: شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1990.
[5] – قارن: بدوي، عبد الرحمن: الوجودية والإنسانية في الفكر العربي، ص 71-108.
[6] – عفيفي، أبو العلا: التصوف- الثورة الروحية في الإسلام، دار الشعب للطباعة والنشر، بيروت، دون بيانات أخرى، ص 96.
[7] – لمزيد من التفاصيل للكاتب حول مشروع بدوي: “بدوي من النقد إلى الدفاع” في: مرايا الأنا ونافذة الآخَر- دراسات في الفكر العربي المعاصر، ص 87-99.
[8] – الصادقي، أحمد: إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي، دار المدار الإسلامي، ط1، 2010، ص 8-9.
[9] – هيجر، مارتن: الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2012.
[10] مثلاً: هيدجر، مارتن: “أصل العمل الفني” في: كتابات أساسية (من جزأين)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003. وكذلك: السؤال عن الشيء، مركز دراسات الوحدة العربية، 2012.
[11] Mirsepassī, ʿAlī, Transnationalism in Iranian Political Thought, Cambridge University Press, United Kingdom, 2017, S. 141.
[12] Boroujerdi, Mehrzad, Iranian Intellectuals and the West, Syracuse University Press, New York, 1995, p. 63. See also: Mirsepassī, ʿAlī, Political Islam, Iran and Enlightenment, Cambridge University Press, United Kingdom, 2011, p. 117.
[13] Boroujerdi, Mehrzad, Iranian Intellectuals and the West, op. cit., S. 63. See: Kügelgen, Anke Von (Hg.), Wissenschaft, Philosophie und Religion, Religionskritische Positionen um 1900, Klaus Schwarz Verlag, 1. Auflage, 2017, S. 9.
[14] Boroujerdi, Mehrzad, Iranian Intellectuals and the West, op. cit., p. 63-64.
[15] Loc. cit. Also: Mirsepassī, ʿAlī, Political Islam, Iran and Enlightenment, op. cit., p. 118. See: Rajaee, Farhang, Islamism and Modernism- The Changing Discourse in Iran, university of Texas press, 2007, p. 181-185.
[16] Boroujerdi, Mehrzad, “The Encounter of Post-Revolutionary Thought in Iran with Hegel, Heidegger and Popper”, Cultural Transitions in the Middle East, Herausgegeben von Šerif Mardin, E. J. Brill, Leiden, New York, Köln, 1994, p. 241.
[17] Loc. Cit.
[18] Ibid., p. 242.
[19] Loc. Cit.
[20] Mirsepassī, ʿAlī, Political Islam, Iran and Enlightenment, op. cit., p. 116.
[21] Loc. Cit.
[22] Ibid., p. 154. See: Boroujerdi, Iranian Intellectuals and the West, op. cit., p. 63.
[23] Al-e Ahmad, Jalal, Gharbzadegi (Weststruckness), translated from the Persian by John Green and Ahmad Alizadeh, Costa Mesa, Calif.: Mazda Publishers, 1982, p. 11.
[24] Boroujerdi, Iranian Intellectuals and the West, op. cit., p. 68.
[25] Ibid., p. 66.
[26] Corbin, H., Alone with the Alone, Creative Imagination in the Sūfism of Ibn ʿArabī, trans. By Ralph Manheim, Princeton University Press, 1997, S. 82. See: Mujiburrahman, “The Phenomenological Approach in Islamic Studies: An Overview of a Western Attempt to Understand Islam”, The Muslim World, vol. 92 (3‐4), 2001, pp. 425-450.
[27] Corbin, H., Alone with the Alone, Creative Imagination in the Sūfism of Ibn ʿArabī, op. cit. p. 81.
[28] Corbin, H., The Man of Light in Iranian Sufism, trans. by Nancy Pearson, Omega Publications, 1971, S. 1-3.
[29] Ibid., p. 88.
[30] Ibid., pp. 80-81.
[31] Schimmel, Annemarie, Deciphering the Signs of God, State University of New York Press, 1994, S. 114.
[32] Ibid., pp. 162-164.
[33] Heidegger, Martin, Sein und Zeit, Max Niemeyer Verlag Tübingen, 19. Auflage, 2006, S. 5, 7, 12.
[34] Ebd., S. 7.
[35] Ebd., S. 12.
[36] Ebd., S. 18-19.
[37] Ebd., S. 32-34.
[38] Ebd., S. 37, 159.
-ويترجم فتحي المسكيني Vorhandenheit بالقيمومة، بيد أنها تختلف بوضوح عن الاشتقاق الألماني، ولم أجد سببًا مقنعًا لهذه الترجمة.
[39] Ebd., S. 159.
[40] Ebd., S. 61.
[41] Ebd., S. 230. See also S. 219-229.
[42] Ebd., S. 153.
[43] بدوي، عبد الرحمن: هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟ دار النهضة المصرية، 1953، دون بيانات أخرى.
[44] Vgl. Luckner, Andreas, Wie es ist, selbst zu sein. Zum Begriff der Eigentlichkeit, in: Rentsch Thomas, (Hrsg.), Martin Heidegger, Sein und Zeit, S. 151.