يناقش جيرالد جونز Gerald Jones كيف نحكم على الماضي، وكيف سَيُحكَم علينا مستقبلًا في يوم ما، وما يمكننا فعله حيال ذلك.
لا نعرف كيف سيحكم علينا المستقبل، ولكنه سيفعل ذلك حتمًا. مثلما ننظر إلى الماضي ونجده ناقصًا، سيجدنا أحفادنا ناقصين. فهناك عيوب في ممارساتنا الاجتماعية والأخلاقية لا يمكننا رؤيتها تقريبًا؛ ولكن بمعرفتنا لهذا، يمكننا البحث عن هذه النقاط الأخلاقية العمياء Moral Blind Spots وإلقاء الضوء عليها.
لكن شيئًا ما يختلف اختلافًا جوهريًا في حالتنا. في رواية فرانكنشتاين Frankenstein، صنع إنسان نسخة منه، ولكنه بذلك صنع وحشًا لا يمكن السيطرة عليه والذي جلب على صانعه حكمًا فظيعًا. فلأول مرة في تاريخنا نمتلك التكنولوجيا والإرادة للقيام بما فعله الدكتور فيكتور فرانكنشتاين. نحن قريبون من امتلاك القدرة على تحويل أنفسنا، وصنع عقول على صورتنا. لم تعد ما بعد الإنسانية Transhumanism خيالًا علميًا، ويبدو أن الذكاء الاصطناعي يلوح في الأفق. وسواء أكان المصنوع عقلًا اصطناعيًا أو تحسينًا بيولوجيًا، فقد يحكم علينا ذات يوم بنفس النتيجة الفظيعة كما هو الحال في رواية فرانكنشتاين. وبهذا المعنى، فإن رواية الكاتبة ماري شيلي المُتَبَصّرة تلقي بظلالها علينا حاليًا أوسع من أي وقت مضى، ومن الأفضل لنا أن نصغي بانتباه لرسالتها.
لكن دعونا أولاً نلقي نظرة على سبب احتمالية عدم قدرتنا على ذلك.
حالات تاريخية سهلة
غالبًا ما يفتخر فلاسفة الأخلاق بأنهم يتعاملون مع “الحالات الصعبة”؛ تلك المعضلات الأخلاقية العسيرة التي تختبر النظريات الأخلاقية، وتلقي ضوءًا قويًا على أخطائها، ثم تدفع مناقشة الأخلاق إلى الأمام. لكن دعونا هنا نفكر بدلاً من ذلك في “الحالات السهلة” للأخلاق، وعلى وجه الخصوص، الحالات السهلة تاريخيًا؛ أي ممارسات الحضارات السابقة التي نحكم عليها وندينها بشكل مباشر. إن فحصنا للحالات السهلة تاريخيًا سيستدعي مفهومًا جديدًا – للنقاط الأخلاقية العمياء – من شأنه أن يلقي بظلال الشك على حقائقنا الأخلاقية.
انظر في الحالة السهلة تاريخيًا لـ “ليندو مان Lindow Man”. في لحظة ما في القرن الأول الميلادي، في مستنقع نائي في مقاطعة شيشاير Cheshire، شمال غرب إنجلترا، قُتل شاب من النبلاء بطريقة طقسية، أو بالأحرى، بشكل مبالغ في القتل: قُطِعَ عنقه، وضُرِبَ بالفأس في رأسه، وتم خنقه، قبل القاء جسده العاري في المستنقع.
كانت الأحكام الرومانية المعاصرة على الأضحيات الطقسية قاسية: ترك المؤرخون الرومانيون العديد من الأوصاف للممارسات الخرافية الرهيبة للأضحيات البشرية الكلتية Celtic، بما في ذلك شائعات عن تماثيل رجل الخوص Wicker Men الضخمة التي كان يجّمع بداخلها الناس ليتم حرقهم أحياء.
نحن نشارك يوليوس قيصر[1] والآخرين نفس الإشْمِئْزاز من الأضحيات البشرية. ولكن هناك شيء آخر يصدمنا: كيف كان الرومان يدينون الكلت بكل تلك القسوة، ومع ذلك يمارسون بأنفسهم مجازر بشرية طقسية على نطاق لم يُرَ في أوروبا الكلتية؟ تقدر ماري بيرد Mary Beard معدل الوفاة بـ 8000 مصارع سنويًا – مما يعني أنه على مر القرون، مات مئات الآلاف من الشباب في الحلبات عبر امتداد الإمبراطورية الرومانية.
لقد أصبح التنديد الأخلاقي بقتال المصارعين اعتياديًا الآن، لأنه يجمع بين المسافة التاريخية (التي تسهل دائمًا من الحكم؛ فرغم كل شيء، لا يوجد رومان قدامى حول من يندد بتصرفاتهم ليفسروا مواقفهم بأنفسهم، أو قد يشعرون بالإساءة) وبين إدانة العبودية (فمعظم المصارعين كانوا عبيدًا)، والقتل للترفيه (كان يمكن إدخال 50000 متفرجًا يؤيدون ما يحدث في الكولوسيوم Colosseum)، والموت على نطاق صناعي (قاتل ما يقرب من 10000 مصارع في الألعاب للاحتفال بفوز الإمبراطور تراجان Trajan على داقية وحلفائها Dacians). لماذا لم يستطع الرومان رؤية ما يمكننا رؤيته بسهولة الآن – كحال قتل الأضحيات الكلتية، أن قتلهم للبشر من أجل الترفيه لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً؟
يحتوي الماضي على العديد من الأمثلة على الحالات الأخلاقية السهلة، حيث كانت تصرفات أسلافنا بغيضة جدًا لدرجة تدفعنا لأن نتساءل عن علة عدم تمكنهم من رؤية ذلك بأنفسهم. تتضمن أمثلة الحالات السهلة تاريخيًا والتي يُستشهَد بها كثيرًا: العبودية التي ترعاها الدولة؛ معاداة المرأة المنتشرة في الكنيسة؛ قطع رؤوس الأعداء في فترات الحرب؛ تعذيب السجناء في فترات السلام؛ ذبح الحيوانات على نطاق واسع .. لحظة، هذا ما زال يقع حتى الآن …
لقد عاش روادنا الأخلاقيون في مثل هذه المجتمعات. كانوا مفكرين من طراز نادر، فكان لديهم رؤية واضحة لكيفية حياكة النسيج الأخلاقي لعالمهم بشكل مختلف، ومن ثم شقوا مسارًا إلى طريقة جديدة في التفكير والعيش. ورغم ذلك … رغم ذلك، فحتى أيضًا هؤلاء التقدميون، الذين اتخذوا موقفًا متفوقًا أخلاقيًا، والذين كان يلزم عليهم أن يكونوا أفضل من ذلك، كانوا متسامحين أو مشجعين أو مشاركين في تلك الممارسات الإجتماعية التي نحكم عليها الآن بأنها مشجوبة. ومن بين هؤلاء المفكرين أرسطو Aristotle، الذي رأى، هو والفلاسفة القدماء، أن النساء بطبيعتهن أدنى من الرجال؛ ترتليان Tertullian، الذي كان، هو والمسيحيون الرومان ، من دعاة العبودية. بينثام Bentham، على الرغم من قوله عن الحيوانات “ليس السؤال هو (أيعقلون؟)، وإنما (أيعانون؟)، ظل يأكل اللحم يوميًا؛ هايدجر Heidegger، الذي كان، هو والعديد من مثقفي مدينة فايمار Weimarالألمانية الآخرين، نازيًا معاديًا للسامية … والقائمة تطول. هل تجاهلوا كلمات واعظ من القرن الأول ميلادي، نصحنا باخراج الخشبة أولًا من أعيننا قبل أن نحاول إخراج القشة من أعين إخوتنا[2]؟ أم أن الأخشاب في كل مكان، بحيث تمتنع الرؤية على الجميع من الأساس؟
النقاط الأخلاقية العمياء
يشير انتشار الحالات السهلة تاريخيًا إلى أن حضارات أسلافنا وروادنا الأخلاقيين سقطوا فريسة لنقطة عمياء مجازية.
لدينا جميعًا نقاط عمياء حرفية: قرص في الجزء الخلفي من كل عين حيث يتصل العصب البصري بالشبكية ولا توجد قضبان أو مخاريط لاستقبال ومعالجة الضوء الذي يضرب هناك. ومن ثم لا تتوفر معلومات بصرية من هذا القرص البصري. وعادة ما يملأ دماغنا أو عيننا الأخرى هذه الفراغات البصرية.
يمكنك إيجاد النقطة العمياء الخاصة بك على النحو التالي:
- اقلب الصفحة على جانبها واغلق عينك اليمنى.
- امسك الصفحة على بعد طول ذراع وركز بصرك على الدائرة الحمراء. حينها سترى علامة X من زاوية عينك.
- قم بتحريك المجلة ناحيتك ببطء شديد، مع الحفاظ على تركيز بصرك على الدائرة الحمراء.
- في لحظة ما ستختفي علامة X، حيث سيسقط الضوء المرتد منها على النقطة العمياء لعينك المفتوحة.
مع عين واحدة فقط مفتوحة، لم نتمكن من رؤية العلامة X، مهما حاولنا. وبالمثل، يبدو الأمر كما لو أن أسلافنا كانت لديهم عين واحدة فقط مفتوحة فيما يتعلق بالأمور الأخلاقية، ولم يتمكنوا من رؤية التناقضات في تطبيقهم لقيمهم. ومن ثم تشير “النقطة الأخلاقية العمياء” إلى ما لدينا، كأفراد ومجتمعات، من تحيزات وقيود نفسية، تمنعنا من رؤية العيوب والتناقضات في أحكامنا الأخلاقية وأفعالنا وممارساتنا الاجتماعية. ولكن عندما ننظر إلى ما مضى من ممارسات أسلافنا الثقافية، فإننا نفعل ذلك بكلتا العينين مفتوحتين: يمكننا رؤية أنه إذا أدان المؤرخ الروماني سترابو Strabo الكلت لممارسة الأضحيات البشرية، فيجب عليه أيضًا أن يدين قتال المصارعين؛ يمكننا رؤية أنه إذا حاجج بينثام بأنه لا يجب أن نتسبب في معاناة غير ضرورية للحيوانات، فكان يجب عليه ألا يأكل الكثير من اللحوم.
كل مجتمع يأخذ موقفًا ويحكم على أسلافه، حتى المجتمعات التي نظرت إلى الحضارات السابقة كما لو كانت عصرًا ذهبيًا مجيدًا. اعترف مفكرو عصر النهضة مثل فرا زانوبي أكيولي Fra Acciaiuoli ببَرْبَرِيّة وجمال روما القديمة، وحث معاصريه على إدانة همجيتها حتى أثناء محاكاتهم لجمالها. بعد خمسمائة عام نرى الجمال في إيطاليا فرا أكيولي ونثني عليه، ولكن في الوقت نفسه نشعر بالفزع من المعاداة النظامية للمرأة في كلٍ من ثقافة عصر النهضة وكنيسة عصر الإصلاح، والتي شجعت على قتل ما يصل إلى عشرات الآلاف من النساء باعتبارهم ساحرات.
هذا الحكم على الماضي واسع الانتشار. فهل من المحتمل أنه بينما نرى نقاط أخلاقية عمياء في كل مجتمع سابق، فإننا لا نملك نقاط أخلاقية عمياء؟ مهما كان اعتقادنا بشأن مدى استنارتنا الأخلاقية، فإننا لن نكون محصنين ضد ذم أحفادنا. في أحد الأيام، سَيُنظر إلى بعض ممارساتنا الاجتماعية والثقافية المقبولة قاعِدِيًّا باعتبارها حالات أخرى سهلة تاريخيًا.
النقاط العمياء من الجهل والنقاط العمياء من الضعف
هناك تفسيرات مختلفة قدمها الفلاسفة وعلماء النفس حول علة عدم قدرة الرومان على رؤية قسوة ألعاب المصارعة، أو عدم قدرة فلاسفة عصر التنوير على إيجاد سبب قوي لتوسيع نطاق الحقوق بحيث تشمل العبيد. لذا فإن مفهوم النقطة الأخلاقية العمياء يتضمن مجموعة من التفسيرات المختلفة:
النوع 1: العمى الأخلاقي – ألا نكون قادرين على رؤية ما قد يكون خطأ، ربما لافتقارنا إلى الحقائق الضرورية التي تمكننا من إصدار حكم. ويليام تالبوت William Talbot يناقش العمى الأخلاقي في كتابه “أي الحقوق يلزم أن تكون كونية؟ Which Rights Should Be Universal?” (2005).
النوع 2: قصر النظر الأخلاقي – أن نفشل في رؤية قضية ما باعتبارها قضية أخلاقية، ربما نتيجة تشوه منظورنا الأخلاقي. صاغ كل من مينيت درامرايت Minette Drumwright وباتريك ميرفي Patrick Murphy هذه العبارة في تحليلهما لأخلاقيات العمل في “كيف يرى صانعي الإعلانات الأخلاق How Advertising Practitioners View Ethics” (2004).
النوع 3: الرضا الأخلاقي المتغطرس – ألا نبذل جهدًا كافيًا لرؤية ما قد يكون خطأ، ربما لتأكدنا المفرط من صلاحنا. يحذرنا كانط Immanuel Kant من مثل هذا اليقين في معرض تحليله للنوايا الحسنة في “أساس ميتافيزيقيا الأخلاق Groundwork of the Metaphysics of Morals” (1785).
النوع 4: التنافر المعرفي الأخلاقي – أن نكون قادرين على رؤية التناقضات والتضاربات في قيمنا وأفعالنا، لكننا طورنا استراتيجيات لعزل هذه المعرفة عن عملية صنع قرارتنا. في ورقته “الادعاء بالكفاية الأخلاقية لأعلى مرحلة من الحكم الأخلاقي The Claim to Moral Adequacy of a Highest Stage of Moral Judgement” (1973)، يحاجج لورنس كولبرج Lawrence Kohlberg بأن الحد من التنافر المعرفي يمكن أن يساعدنا على تطوير فهم أخلاقي أكثر تعقيدًا، لكنه يشير إلى أن هذا النمو الأخلاقي ليس تلقائيًا، وسوف يكون أصعب في حالة بعض الأفراد وبعض المجتمعات مقارنة بالآخرين.
النوع 5: التعامي الأخلاقي – أن نكون قادرين على رؤية أننا نطبق مبادئنا الأخلاقية بشكل غير متسق، لكننا نتجاهل هذا كما لو أنه لا يحدث. يحدد المحلل النفسي جون شتاينر John Steiner عملية “التعامي الأخلاقي Turning A Blind Eye” (1985) كآلية مشتركة للتعامل مع (أي تجاهل) الحقائق التي نعرفها ولكنها بالنسبة لنا غير مريحة.
النوع 6: الضعف الأخلاقي – أن نكون قادرين على رؤية ما قد يكون خطأ، لكننا لا نفعل شيئًا حيال ذلك بسبب ضعف الإرادة. هذه الملاحظة لها تاريخ طويل: في كتاب الأخلاق Ethics، يحاجج أرسطو بأن ضعف الإرادة (باليونانية أكراسيا akrasia) يفسر سبب فشلنا في سلوك المسار الصحيح للأفعال حتى عندما نتمكن من رؤيته.
النوع 7: التشوه الأخلاقي – أن نكون قادرين على رؤية ما قد يكون خطأ، لكننا لا نتحدث عنه (ربما بسبب الخوف أو القمع أو التقاليد أو التحريم)، ومن ثم لا يتغير أي شيء. ظهر هذا المفهوم، مثل قصر النظر الأخلاقي، من أخلاقيات العمل المعاصرة – بالتحديد في مقال فريدريك بيرد Frederick Bird وجيمس وترز James Waters “الخرس الأخلاقي للمديرين The Moral Muteness of Managers” (1989).
يمكن جمع هذه الأنواع السبعة في فئتين (شيء سيوافق عليه أرسطو لأنه أحب تصنيف الأشياء):
- النقاط الأخلاقية العمياء من الجهل (الأنواع 1-3): عدم معرفة وعدم القدرة على رؤية أن إحدى الممارسات الاجتماعية خاطئة.
- النقاط الأخلاقية العمياء من الضعف (الأنواع 4-7): رؤية شيء بوصفه خطأ، ولكن لا توجد إرادة لتغييره.
إن فهم هذه الأسباب يجب أن يجعل أحكامنا حول النقاط الأخلاقية العمياء أكثر دقة: متى كان أسلافنا لا يعرفون جهلهم بما يتعلق بالوقائع المضطربة، والممارسات والتناقضات؛ ومتى تعمدوا تجاهل هذه المشكلات أو التظاهر بعدم وجودها؟
أهمية المفهوم
إن الوعي بإمكانية وجود نقاط أخلاقية عمياء سيغير طريقة رؤيتنا لثقافتنا. سوف يطعن تزكيتنا لنفوسنا؛ ويشكك في حقائقنا الأخلاقية؛ ويجبرنا على التدقيق في سلوكنا الخاص، وفحص تنافرنا المعرفي؛ ما هي الحقائق التي نتجاهلها الآن والتي تتعلق بأفعالنا الأخلاقية؟ وسيشجعنا ذلك على تقديم الدعم لمتبنِّي الأخلاق الأوائل – أي من بين معاصرينا سيُعرف يومًا ما بأنه ماري ولستونكرافت Mary Wollstonecraft [المناصرة الشهيرة لحقوق المرأة] أو مارتن لوثر كينغ Martin Luther King أوائل القرن الحادي والعشرين؟ إن البحث عن نقاطنا الأخلاقية العمياء سيحفزنا على توقع كيف سيحكم علينا أحفادنا يومًا ما، وربما يكون “دليل مستقبلي” على ممارساتنا الأخلاقية.
يجب أن يجبرنا المفهوم أيضًا على التخلي عن موقف التفوق الأخلاقي فيما يتعلق بكل من أسلافنا ومعاصرينا. كلنا، حتى الإصلاحيين الأخلاقيين، لدينا نقاط أخلاقية عمياء، ويلزم أن ينعكس هذا في حكم أكثر دقة للماضي. لننظر في هذا المثال:
- كزافييه فيلسوف من القرن الثامن عشر يحارب العبودية، لكنه لا يعير انتباها إلى سوء معاملة النساء وقمعهن. إنه يعلم أن عدم المساواة هذا موجود، ولكن بسبب التشوه الأخلاقي، لا يفعل شيئًا لنشر الوعي أو لمنع مثل هذا الضرر.
- ياسمين فيلسوفة من القرن العشرين تدين كزافييه. ياسمين تحارب وتشن حملات ضد إخضاع النساء، لكنها لا تفكر في سوء معاملة وقمع المثليين والمثليات والمتحولين جنسيًا. إنها تعرف أن عدم المساواة هذا موجود، ولكن من خلال التعامي الأخلاقي، لا تفعل شيئًا لنشر الوعي أو لمنع مثل هذا الضرر.
- زاك فيلسوف من القرن الحادي والعشرين يدين ياسمين. زاك منتبه لتقاطع أشكال التمييز intersectionality ويقاتل بلا كلل من أجل مساواة مجتمع الميم LGBTQ+، لكنه لا يتورع عن الانتقال بالسيارة في المسافات القصيرة، والتسامح مع البلاستيك الزائد في تغليف المواد الغذائية، والطيران حول العالم، وتناول اللحوم. يدرك زاك الضرر الذي يسببه ذلك للبيئة وللحيوانات، ولكن بسبب ضعف الإرادة، لا يفعل شيئًا لنشر الوعي أو لمنع مثل هذا الضرر.
يبدو أن التقليد الحالي متسامح مع الإدانة العلنية لزاك وياسمين وكزافييه بسبب إخفاقاتهم الأخلاقية في مجال أخلاقي واحد، على الرغم من عملهم كمصلحين أخلاقيين في مجال آخر. لكن فهم النقاط الأخلاقية العمياء من شأنه أن يؤدي إلى تقييم أكثر دقة لهؤلاء المفكرين. قد يجعل زاك يقول، “أعترف أنه كان لدى ياسمين وكزافييه نقاط أخلاقية عمياء. هذا ليس جيدًا، وأتمنى لو لم يكن الأمر كذلك، لكنني أفهم السبب وسأخذ عملهم التقدمي وأبني عليه. كما أتمنى أن يتم في يوم من الأيام فهم نقاطي الأخلاقية العمياء، وأن يُبنَى على عملي التقدمي على الرغم من ذلك”.
النقاط الأخلاقية العمياء والواقعية الأخلاقية
عند هذه النقطة، من المهم أن نعمد إلى المشكلة الكبيرة المسكوت عنها – تحديدًا مسألة الواقعية الأخلاقية moral realism. فنحن الآن نتجنب ما نعتقد أنه عدة أخطاء أخلاقية لدى أسلافنا، لأننا نستطيع رؤية ما لم يروه هم: نظريًا على الأقل، ألغينا العبودية، وقبضنا على المسيئين للأطفال، ووسعنا من نطاق الحقوق بحيث تشمل الجميع، وأوقفنا الأضحيات البشرية، إلخ. تشير هذه التغييرات الإيجابية إلى حدوث تقدم أخلاقي. ويبدو أن فكرة التقدم الأخلاقي بدورها تعني أنه يلزم أن يكون هناك معيار أخلاقي موضوعي يمكن من خلاله قياس أحكامنا الأخلاقية – وهو موقف الواقعية الأخلاقية. لذا فإن مفهوم النقاط الأخلاقية العمياء متوافق بشكل مريح مع الواقعية الأخلاقية.
ولكن ماذا لو كانت الواقعية الأخلاقية غير صحيحة؟ ماذا لو كانت الأخلاق ليست موضوعية، ولكنها بدلاً من ذلك نسبية وفقًا لكل مجتمع، فيخلق مبادئه وقواعده الأخلاقية الخاصة؟ هل تجعل النسبية الأخلاقية مفهوم التقدم الأخلاقي، والنقاط الأخلاقية العمياء، غير متماسكة أو غير ذات صلة؟
للوهلة الأولى قد يبدو الأمر كذلك. فرغم كل شيء، إذا كانت الأخلاق نسبية، لن يكون هناك معيار خارجي يمكن استخدامه لقول “لم يعد مجتمعنا يرتكب أخطاء أخلاقية” أو “كان أسلافنا مخطئين” (لأن أخلاقهم كانت مناسبة لثقافتهم).
ومع ذلك، فإن الأسباب السبعة للنقاط الأخلاقية العمياء التي أشرت إليها أعلاه لا تزال ذات صلة حتى إذا لم تكن هناك أخلاق موضوعية. ذلك لأن كل نوع منها يثير قضايا عملية من شأنها، إذا تم معالجتها، أن تحسن أحكامنا، فتجعلها أكثر عقلانية واتساقًا. في المقابل، قد يكون رد النسبويّ الأخلاقي على كل نوع:
- العمى الأخلاقي. يمكننا بذل الجهد في السعي لتقصي الحقائق؛
- قصر النظر الأخلاقي. يمكننا أن نكون واضحين عندما تكون القضية قضية أخلاقية؛
- الرضا الأخلاقي المتغطرس. كمجتمع يمكننا تشجيع النقد الذاتي والإعتراض.
- التنافر المعرفي الأخلاقي. يمكننا محاولة تحديد وإزالة أي تناقضات في نظامنا القيمي؛
- التعامي الأخلاقي. يمكننا الاعتراف بالنفاق أو عدم الاتساق؛ والاجتهاد في أن نكون متسقين في كيفية تطبيق قيمنا؛
- الضعف الأخلاقي. يمكننا تحديد استراتيجيات التغلب على ضعف الإرادة الفردية؛
- التشوه الأخلاقي. يمكننا الحديث عن القضايا الأخلاقية؛ وخلق الهياكل والقوانين التي تشجع الحوار المفتوح.
لا يعتمد أي من هذه الأفعال على الواقعية الأخلاقية، ولكن جميعها أفعال، إذا نجحت، ستؤدي إلى تقدم حتى من منظور النسبية الأخلاقية، وتجعلنا في وضع أفضل للتغلب على نقاطنا الأخلاقية العمياء. لذلك سواء أكانت الأخلاق موضوعية أم نسبية، فإن مفهوم النقاط الأخلاقية العمياء يظل مفيدًا لنا في تحصين إطارنا الأخلاقي ضد التهديدات المستقبلية.
إذن ما هي نقاطنا الأخلاقية العمياء؟
الآن نصل إلى جوهر المسألة. كيف سيحكم علينا أحفادنا؟ ما هي النقاط الأخلاقية العمياء التي نحن عرضة لها والتي لا يمكننا رؤيتها في الوقت الحاضر؟
في كتابه “الإنسان الإله Homo Deus” (2015)، يتحدث يوفال هراري Yuval Harari مرعوبًا عن كيفية الحكم علينا في المستقبل بسبب معاملتنا للحيوانات. أثناء ذلك، يتحدث باراك أوباما Barack Obama عن كون بوتين Putin “في الجانب الخطأ من التاريخ”. وتتذكر مولي رينجوالد Molly Ringwald الأفلام التي أنتجتها مع جون هيوز John Hughes في الثمانينيات، فيصدمها النقطة الأخلاقية العمياء لدى المخرج في استخدامه للقوالب النمطية العنصرية. وفي عدد سابق من هذه المجلة المحترمة، يتساءل بيتر آدمسون Peter Adamson عما يمكنك القيام به “عندما يكون الفيلسوف المفضل لديك متعصبًا” (الفلسفة الآن Philosophy Now العدد 123).
ناقش ستيفن بينكر Steven Pinker مع مات ريدلي Matt Ridley أي من عاداتنا الروتينية سيُنظَر إليها بأكبر قدر من الرعب في غضون أجيال قليلة في كتاب “هل ستأتي أفضل أيام البشرية مستقبلًا؟Do Humankind’s Best Days Lie Ahead?. قال بينكر إن الإجابة سهلة: فهي عادة أكل اللحوم التي تدعمها التربية الصناعية للحيوانات بغرض الذبح. فنحن نقتل كل عام ستين مليار دجاجة، ومليار خروف، وثلاثمائة مليون بقرة، على مستوى العالم في ظروف وحشية في أغلب الأحيان. ومع ذلك، مثل بينثام، فإن نقاطنا الأخلاقية العمياء تعني أنه لا يمكننا تقليل استهلاكنا اللحوم.
في كتاب “الدائرة المُتَوسِّعة The Expanding Circle” (1981)، يحاجج بيتر سينجر Peter Singer بأن ممارساتنا الثقافية والأخلاقية تتطور عندما تواجه المجتمعات جماعات أخرى. من هذه التصادمات، يظهر فهم أوسع لمن هو “داخل القبيلة”، وبالتالي من يعتبر جديرًا بالقيمة الأخلاقية. وقد أدت هذه الدائرة المُتَوسِّعة إلى إلغاء العبودية، وتحرر المرأة، وحق الانتخاب العام، وحماية الأطفال، وتوسيع نطاق الحقوق لتشمل الحيوانات. ومن خلال فهم هذا المسار الأخلاقي، يمكننا تخيل استمرار أحفادنا في توسيع هذه الدائرة بحيث يأتي اليوم الذي يشملون فيه البيئة (ومن ثم يدينون نقاطنا الأخلاقية العمياء بخصوصها)، والذكاء الاصطناعي أيضًا.
يطرح الفيلسوف كوامي أنتوني أبياه Kwame Anthony Appiah السؤال “ما الذي ستديننا الأجيال القادمة بخصوصه؟” في الواشنطن بوست Washington Post (26 سبتمبر 2010). فيسلط الضوء على أربعة من نقاطنا العمياء: نظام السجون، ومأسسة عزل كبار السن؛ و(مرة أخرى) تدميرنا للبيئة؛ و(مرة أخرى) إنتاج اللحوم بشكل صناعي. وقد نضيف أيضًا إلى قائمة أبياه: التسامح الواسع والمستمر مع التحيز الجنسي ومعاداة المرأة، على سبيل المثال في أماكن العمل، وفي المواد الإباحية، وفي الحياة اليومية؛ والانقراضات الجماعية التي يخلقها الإنسان (طوال فترة ما يسمى بحقبة “الأنثروبوسين[3] Anthropocene”)؛ والنزعة الاستهلاكية غير المقيدة التي ترجع خطوط إمدادها إلى عمالة الأطفال أو العمالة الاستغلالية؛ والتسامح المستمر مع وجود نظام اقتصادي يسمح بأقلية ضئيلة من الأغنياء إلى جانب مليارات الفقراء؛ والفشل في معالجة القادرية Ableism، أي الاستبعاد المستمر للأشخاص ذوي الإعاقة من المشاركة في العمل وفي المجتمع (وهذا يشمل الاستخدام اليومي لمصطلحات مثل “النقطة العمياء” أو “قصر النظر” باعتبارها توصيفات سلبية).
هذه هي النقاط الأخلاقية العمياء التي بدأنا نلاحظها. ربما يظل من الممكن أن ندان لفشلنا في التصرف بسرعة كافية بخصوصها؛ فهي نقاط عمياء من الضعف. ولكن ستكون هناك نقاط أخلاقية عمياء أخرى لا يمكننا حتى رؤيتها الآن؛ نقاط عمياء من الجهل.
النقاط الأخلاقية العمياء، وما بعد الإنسانية، والذكاء الاصطناعي
لا يمكننا افتراض أن أحفادنا سيكونون مثلنا؛ بحيث يكاد يكون من المستحيل علينا تحديد “نقاطنا العمياء من الجهل” التي سيرونها، بما أنه سيكون لدى أحفادنا أدوات عقلية مختلفة ثقافيًا، تمكنهم من رؤية ما نعجز عن رؤيته. ولكن هناك قلق متزايد، عبر عنه نيك بوستروم Nick Bostrom، فيلسوف الأخلاق في جامعة أكسفورد، وآخرون، أن أحفادنا سيكون لديهم –حرفيًا- أدوات عقلية مختلفة؛ إذ لن يكونوا بشرًا، ولكن ما بعد بشر.
“ما بعد الإنسانية” مصطلح فضفاض يصف حركة تنتشر عبر مجموعة متنوعة من التخصصات التي تهدف إلى تحسين البشر باستخدام التكنولوجيا و / أو علم الوراثة. قد تشمل التحسينات صحة أفضل، وحياة أطول، وذكاء أكبر، وإدراك حسي أعمق. تتضمن ما بعد الإنسانية مجموعة من الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق تعديل البشر بواسطة تطبيق التكنولوجيا على أجسامنا، بما في ذلك التحسين الجيني (الفحص الجيني / التنميط الجيني / العلاج الجيني)، وتقنيات النانو، و السبرجة cyborgization (بشر بأجزاء عضوية وميكانيكية – مثل تلك التي يجري تطويرها حاليًا لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من مُتَلاَزِمَةُ المُنْحَبِس[4] Locked-In على التواصل والتحرك).
هناك أيضًا الأمل في تطوير الذكاء الفائق. يعرّفه بوستروم بأنه “أي عقل يفوق إلى حد كبير الأداء الإدراكي للإنسان في جميع المجالات المهمة تقريبًا”. فهو يشير في المقام الأول إلى إمكانيات التضخم الأُسّيّ للذكاء الاصطناعي بمجرد نسخ الذكاء البشري في الآلات، ولكنه يمكن أن يشير أيضًا إلى القدرات الإدراكية البشرية المحسنة للغاية.
لكن هناك أيضًا مشاكل محتملة مع هذه التطورات التي تظهر نقطة أخلاقية عمياء في مجتمعنا، والتي من الممكن أن يكون لها أهمية ساحقة.
توضح رواية فرانكنشتاين بشكل جيد النقاط الأخلاقية العمياء الهامة التي غالبًا ما تظهر لدى البشر عند السعي نحو التقدم العلمي والتكنولوجي، مثل قدرتنا على تجاهل عجزنا عن التنبؤ بالنتائج الكارثية المحتملة لإبداعنا وتجاربنا، ورضانا المتغطرس الذي يمنعنا من أخذ الاحتياطات المناسبة (أو ذات أي فعالية حقيقية) لتقليل المخاطر الخطيرة التي تنطوي عليها. لذا فبما أن حالنا كحال الطبيب في رواية ماري شيلي، أي في المراحل الأولى من صناعة شيء ما، سواء أكانت طبيعته تنتمي إلى ما بعد الإنسانية أو الذكاء الاصطناعي، فإن سبب القلق هو ألا نتمكن من السيطرة عليه، وأنه سيحكم علينا ذات يوم. يصف بوستروم هذا باعتباره تهديدًا وجوديًا للبشرية، ويحث الفلاسفة، والعلماء، وصانعي السياسات، على وضع آليات للتحكم والسيطرة قبل الاستمرار في إجراء المزيد من الأبحاث في أي من المجالين، لمنع مصنوعاتنا من الحكم علينا، ومن القضاء علينا، لأسباب أخلاقية لا يراها أحد سواها.
[1] ذكر يوليوس قيصر تلك الممارسات في سجله الشخصي المعروف باسم “تعليقات على الحرب الغالية Commentarii de Bello Gallico”. (المترجم).
[2] قول يسوع المسيح في ﻣﺘﻰ 7: 5. (المترجم).
[4] مصطلح مقترح للإشارة إلى فترة التأثير البشري على النظم الإيكولوجية، والجيولوجية، والمناخية. (المترجم).
[4] الشلل تام لكن مع الاحتفاظ بالوعي. (المترجم).
المصدر: العدد 128: أكتوبر / نوفمبر 2018 من مجلة “الفلسفة الآن Philosophy Now”.