منذ أن أمسينا أسرى بيوتنا كل ليلة بسبب فيروس “كوفيد-19″، وبعد يوم شاق من العمل من المنزل، فإنني أكافئ نفسي بمشاهدة بعض العروض التلفازية؛ بغية الحصول على قدر من الاسترخاء، ونسيان العمل مؤقتًا. ومن أمثلة هذه العروض الممتعة البارعة، متقنة التنفيذ، أذكر “الأمريكيون” (The Americans)، و”الحاشية” Entourage))، و”الخلافة” (Succession)- والأخير مسلسل رائع حقًا.
تنتزعني تلك العروض من الكد اليومي، الناجم عن التعرض للأخبار، وإدارة العمل عن بعد، والقلق بشأن المستقبل. لقد كنت أطالع أيضًا بعضًا من الأدب الخيالي. فلقد انتهيت من قراءة كتاب “ألف ليلة وليلة” (باللغة العربية. نعم، النسخة الكاملة التي لم تمتد إليها يد الرقابة) والآن أقرأ “البيت الموحش” (Bleak House) لتشارلز ديكنز، وهي رواية بارعة، وجذابة، ولا تخلو من بساطة. وعندما أفكر في بعض الأفلام والروايات والعروض التلفازية -مثل “عائلة سمبسون”!- ناهيكم عن الباليه والأوبرا والموسيقى التي حضرتها على مر السنين؛ فإنني أدرك مدى أهمية الفن في حياة الإنسان.
ربما سيكون رد فعل القارئ: “هل أنت أحمق! الكل يعرف هذا عن الفن!”. والقارئ على حق، لا مراء في هذا. لكني أريد نزع ما قد يبدو حمقًا ظاهرًا في مثل هذا الفهم الذي أتبناه؛ وذلك بوضعه في سياقين: الأول – سياق المناقشة الفلسفية لقيمة الفن، أما الثاني – فهو النظر إلى العالم من خلال عدسة متشائمة. سأقدم هنا وجهة نظري حول قيمة الفن، التي أسميها القيمة “الملطفة” Palliative))، والتي يمكن وصفها بأنها ذات سمة شوبنهاورية (Schopenhauerian)- بغض الطرف عن نظريات شوبنهاور الميتافيزيقية والجمالية.
دعوني أبدأ بالكشف عن وجهتي التشاؤمية: إن الوجود مٌرعب. هذا الحكم لا يعكس حياتي الشخصية؛ إذ إنني أعدّ نفسي أحد المحظوظين؛ أحد أولئك الذين لم تكن الحياة عسيرة عليهم. بيد أن هذا الحكم إنما يأتي صدًى لما أجده أينما وليت وجهي صوب العالم، بعين وعقل صافيين. إن ما أجده يتفق تمام الاتفاق، مع ما ذهب إليه بعض الفلاسفة الآخرين، لا سيما شوبنهاور وديفيد بيناتار ((David Benatar، حيث قالوا إن الشطر الأكبر من الحياة مهدور في المعاناة الجسدية والعقلية والألم، وهو ما يزداد سوءًا مع تقدم المرء في العمر، وتضعضع جسمه، وإصابته بالأمراض، حتى يأتي الموت ليضع حدًا لها. ومن الناحية العقلية، يعاني الناس من المشاعر السلبية في معظم الأحيان (حتى العاشقين منهم، الذي يعانون من تباريحهم بقلب منفطر).
القلق والاكتئاب والحسد والغضب والإحباط، وغيرها من المشاعر، تعبر عن المسار الطبيعي للحياة تعبيرًا صادقًا. وفي بعض الأحوال الاستثنائية، يُصاب الناس بحوادث مأساوية، تُفضي إلى انهيار نُظُم حياتهم. لا أريد أن أكرر مثل هذه الأفكار في هذا المقام؛ فقد سبقني إليها آخرون، وتعرضوا لها على نحو مستفيض.[1] إن الحياة -إذا لم تخذلني الذاكرة عن مقولة شوبنهاور- إنما هي مشروع تجاري لا يُغطي نفقاته.[2]
دعوني أنتقل الآن إلى قيمة الفن.
يفهم الفلاسفة القيمة بطرق شتى، لكني أريد التركيز في هذا الصدد على التمييز بين القيمة المتأصلة ((inherent والقيمة الذرائعية (instrumental). القيمة المتأصلة هي قيمة الشيء، أو النشاط في ذاته. أما القيمة الذرائعية، فهي قيمة ما يؤدي إليه هذا الشيء. على سبيل المثال، الذهاب إلى طبيب الأسنان ينطوي على قيمة ذرائعية فقط، تتمثل في الحفاظ على كفاءة أسناننا، في حين تنطوي الصحة على قيمة متأصلة، وقيمة ذرائعية في الوقت ذاته. في الحقيقة معظم الأشياء والأنشطة التي تنطوي على قيمة متأصلة في ذاتها، تميل إلى أن يكون لها قيمة ذرائعية أيضًا: اكتساب المعرفة، والضحك، والخروج في نزهة لطيفة، وهلم جرًا.
ورغم ذلك، هناك بعض الأشياء التي تكون، في هذا العالم -وليس في الاحتمالات المنطقية الأخرى- ذات قيمة ذرائعية فقط، وفي الوقت ذاته لا يُمكن الاستغناء عنها؛ مما يضعها في وضع غريب: إن لها قيمة ذرائعية، ولكن لم يُستغن عنها حتى الآن، وربما لن يحدث ذلك. تأمل هذين المثالين: لدى المظلات قيمة ذرائعية، ونحن نستخدمها منذ أمد بعيد، ومن المحتمل أننا سنستخدمها لفترة طويلة أيضًا. ولكن ما أسهل أن نتخيل تقنية جديدة تمكننا من الاستغناء عنها (على سبيل المثال، بذلة شبيهة بزي رواد الفضاء، بها خوذة تغطي رؤوسنا، حالمَا يتساقط المطر). هل ظهور هذه التقنية محتمل في وقت قريب؟ ربما ليس قريبًا، ولكنه قد يحدث مستقبلًا.
للطب قيمة ذرائعية أيضًا. ورغم ذلك من المؤكد أننا لن نستغني عنه أبدًا؛ لأننا ما دمنا بشرًا، فنحن كائنات بيولوجية، ما يعني أننا سنكون دومًا بحاجة للتداوي والعلاج -بقدر ما نستطيع- من تدهور أجسادنا، حتى تحين لحظة النهاية. لذا فإن قيمة الطب رغم أنها ذرائعية فقط، إلا أنها ضرورية.
ماذا عن الفن؟ من الواضح أن قيمة الفن ذرائعية؛ فمن خلال قراءة شعر أبي نواس، على سبيل المثال، لدينا فكرة لا بأس بها عن طبيعة بغداد إبان حياته فيها. وبتأمل لوحات رامبرانت (Rembrandt)، يمكننا استنباط معلومات حول نمط الثياب في ذلك العصر؛ لذا فإن قيمة الفن ذرائعية، من حيث إنها توفر لنا معرفة مهمة عن المجتمع والتاريخ. بمعنى آخر، يمكننا استخدام الفن كأداة تاريخية، وأنثروبولوجية، واجتماعية؛ للحصول على معلومات تخص هذه المجالات.
كما قد يكون الفن ذا قيمة ذرائعية؛ بما يزودنا به من حكمة ودروس أخلاقية، لا سيما عندما تكون من أهداف العمل الفني. على سبيل المثال، تعلمنا رواية “سيلاس مارنر حائك ريفلو” (Silas Marner: The Weaver of Raveloe) لجورج إليوت (George Eliot) أن قيمة الحب أنفس من قيمة المال. ويلقننا فيلم “تيتانك” Titanic)) أن قدرة الحب تكمن في الصمود. ومثل هذه القيمة الذرائعية للفن: نقل الحقائق والأحكام الأخلاقية، تُسمى بالنزعة “المعرفية” cognitivism)) التي تشير إلى فكرة، مؤداها أن الأعمال الفنية، قد تكون وسائط لنقل مثل هذه الحقائق.
ثمة قيمة ذرائعية أخرى للفن، تتمثل في قدرته على تهذيب نفوسنا. معرفة أن المال ليس أغلى شيء في العالم -كما في “سيلاس مارنر”- قد يجعل بعض الناس أقل جشعًا. وإدراك بشاعة العنصرية -كما قدمها فيلم “يافا” (Jaffa)- قد يفضي إلى زيادة تعاطف المرء مع وضع عرب إسرائيل.
ولا تخلو وجهات النظر أعلاه من بعض المشكلات بطبيعة الحال. على سبيل المثال، ليس شرطًا أن يكون العمل الفني جيدًا، حتى يقدم هذه الحقائق. فقد يكون العمل تافهًا، ورديئًا، ومبتذلًا (clichéd)، وهلم جرًا من الصفات التي قد تتسم بها بعض الروايات والأفلام والمقطوعات الموسيقية ذات الرؤى الجيدة، أو المُثُل التي قد نتعلم منها، رغم مستواها الفني الرديء. كما قد يكون ثمة بعض الأعمال الفنية الجيدة، لكنها تنقل رسالة خطأ.
علاوة على ما سبق، تبدو الأعمال الفنية عرضية بالنسبة لتلك الدروس؛ التي لا ينبغي أن تستغرقك داخل العمل الفني، أو يستحوذ عليك العمل الفني بسببها، أو تجده منصبًا على تبليغ الدرس. في حقيقة الأمر، إن الكثير من الفن المفاهيمي (conceptual art) يشبه هذا النوع: في معظم الحالات، يأتي تكوينه المادي مخالفًا تمامًا للفكرة الكامنة وراءه.
ليس من الضروري أن نكون فقراء مدقعين، لكي نعرف أن أي شيء يصلح لأن يكون عملًا فنيًا؛ فكيس قمامة ممتلىء بالنفايات، أو كومة من الخردة المعدنية بمقدورهما تقديم المعنى ذاته. وفضلًا عن هذا، إن تهذيب النفس بالفن موكول بالشخص نفسه: فلا بد من أن يتسم بشخصية معينة، وميول تسمح للدرس بأن يؤثر في شخصيته تأثيرًا إيجابيًا. قد يستمتع شخص ما تمام الاستمتاع بمسرحية “أوديب ملكًا” Oedipus Tyrannus)) من غير أن يدرك حتى، أن الأشخاص الصالحين قد تصيبهم مأساة، أو تنزل بهم قارعة.
ولكن ربما كان أكثر الاعتراضات إثارة للاهتمام، ما طرحه الفيلسوف جيروم ستولنيتز (Jerome Stolnitz)[3] الذي ذهب إلى أن الحقائق التي يقدمها الفن، إما تافهة أو مبتذلة أو خطأ، متى أُخرجت من سياق العمل الفني. لسنا بحاجة إلى “سيلاس مارنر” لنعلم أن الحب أهم من المال (تافهة)، ولا نحتاج إلى “تيتانك” لندرك أن الحب الحقيقي هو ما يبقى (مبتذلة). وبعضها، مثل حقيقة “تايتانيك”، عندما يخضع للتدقيق (الحد الأدنى)، يتحول إلى خطأ، حال محاولة تطبيقه خارج عالم الفيلم: هناك العديد من حالات الحب الحقيقي التي لا تبقى، على سبيل المثال.
لذلك إذا لم نكن بحاجة إلى فيلم “عيد الحب الكئيب” Blue Valentine)) لنعلم أن شعور الحب قد يتبدد، فإن قيمة الفيلم بوصفه عملًا فنيًا، لا تكمن في تقديم مثل هذه الحقائق على ما يبدو. فأين تكمن القيمة؟ إذا تذكرنا أننا نستمتع بشدة بالفيلم، وسرده لكيفية تحول الحب الرومانسي إلى قبح، فربما تكمن قيمة الفن في تجربته. وكلما كان الفن أفضل، كانت التجربة التي يقدمها أفضل.[4] لا تكمن قيمة فيلم، مثل “عيد الحب الكئيب“، في معرفة جانب من الحقيقة التي نعرفها حق المعرفة، بل في استغراقنا في تلك التجربة. في الواقع، ربما كنا نستمتع بعمق بالعمل الفني؛ لأننا نعرف بالفعل أي حقيقة تكمن وراءه.
عبقرية مقولة إن قيمة الفن تكمن في تجربته، تتمثل في كون هذه القيمة متأصلة لا ذرائعية. فحتى تكون لديك خبرة بباليه “بحيرة البجع” (Swan Lake)، تحتاج إلى خبرة في فن الباليه، لذلك لا يمكنك “الاستفادة” من قيمة الباليه دون الحصول على هذه الخبرة. هنا يصبح الفن لا مناص عنه: لولا الفن لما كانت الخبرة الفنية، ولولا الخبرة الفنية لم تكن القيمة. لذا فإن قيمة الفن تكمن في خبرته، وكلما كان العمل الفني أفضل- كان أكثر إثارة للاهتمام، وأكثر دقة من حيث التنفيذ، وأكثر استيعابًا، ولديه ما يعالجه من موضوعات عميقة، أكثر جمالية أو جمالًا- تضاعفت قيمة الخبرة التي يكونها.
وهذه القدرة المذهلة للفن، لإدماجنا في الخبرات القيمة، هي القيمة “الذرائعية” الأهم للفن: قدرته على إخراجنا من الكدح والبؤس اليومي في الحياة، فيجعلنا ننسى مؤقتًا ويلات هذا العالم وآلامه، سواء كنا نعانيها أو يعانيها الآخرون، ومن ثم يسمح لنا بتحمل وجودنا، بطريقة أقل قسوة. هذه هي القيمة المُلطفة للفن: إنها تمكننا من خوض الحياة، بأكبر قدر ممكن من السهولة والمتعة، إلى أن يأتي الموت في النهاية. إنها تقوم بمواساتنا في خضم حياة تحتوي، بالنسبة لمعظم الناس، على فائض من الألم النفسي والجسدي، لا ينتهي إلا مع موتنا.
وهذه القيمة، بذرائعيتها، ذات أهمية قصوى. تخيل أن شخصين يموتان في ألم وعذاب. أحدهما مقدم على الموت دون أي قدر من الراحة أو الإلهاء أو تخفيف الألم، بينما الآخر قادر على التقاط أنفاسه بين الحين والآخر، للحصول على قسط من الراحة. من الواضح أن نهاية الشخص الثاني يمكن تحملها أكثر من الأول. وهنا مناط القيمة الحاسمة للفن.
لتوضيح بعض المسائل: إنني لا أقول إن الناس يتفاعلون مع الفن، بقصد نسيان بؤس الحياة -على الرغم من أن البعض يفعل ذلك بالتأكيد. بل إنني أقول بدلًا من ذلك، إن للفن قيمة ملطفة في أي تفاعل مقصود يتفاعل الناس معه. لذلك لا يذهب الناس إلى الفن ولسان حالهم “نريد أن نخرج من بؤس الحياة لبضع ساعات” -على الرغم من أن ذلك قد يحدث كدافع لا شعوري للفعل نفسه. بل إنهم ينشدون الفن فقط، وبهذا الفعل يحصلون على قدر من الإنعاش.
أنا لا أقول أيضًا إن الفن، حتى يتسم بقيمة ملطفة، يجب ألا تتعلق موضوعاته بالحياة المعيشة. قد يظن المرء هذا الظن، وهو أن الفن إذا أراد أن يلهينا عن الحياة، يجب أن يعالج موضوعات لا علاقة لها بالحياة. لكن ذلك مستحيل؛ فالموضوعات الوحيدة التي قد يعتمد عليها الفن، هي التي تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بمخاوفنا. علاوة على ذلك، حتى يكون الفن فاتنًا وجذابًا، يجب أن يعالج موضوعات نعتبرها مهمة: الحب والموت والإنجاب والصداقة والجنس والفضائل والرذائل البشرية، وهلم جرًا. كلما ابتعد عنهم، كان أقل تشويقًا، وكلما كان أقل تشويقًا، كان أقل جاذبية؛ وكلما كان أقل جاذبية، كان أقل تلطيفًا.
ولكن كيف يمكن للفن أن يلهينا عن بؤس الوجود، وفي الوقت ذاته يبقينا مستغرقين في موضوعات وجودنا؟ الإجابة عن هذا السؤال، في رأيي، تتعارض مع ما قاله بعض الناس عن الفن، وهو أن الفن يستغرقنا لأننا غالبًا ما نرى أنفسنا معكوسين فيه؛ لأنه يتعلق بالقارئ أو المشاهد. هذه الإجابة، الشائعة على نحو واسع، يجب معالجتها بعناية: الفن يتعلق بالجمهور فقط بالمعنى السطحي، من حيث ارتباطه بالموضوعات التي تهم البشر، وجماهير الفن هم -بطبيعة الحال- بشر. لكن الفن لا يتعلق بالجمهور بمعنى “أن الجمهور يرى نفسه في شخصيات الفن”. هذا ببساطة غير صحيح. أولاً – فالجمهور متباين، ويأتي من خلفيات ومجموعات مختلفة. ثانيًا – قد يكون موضوع الفن شيئًا مختلفًا تمامًا عن جمهوره: كيف يمكنني، أنا الذكر العربي الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين، أن أرى نفسي معكوسًا في شخصية سيتا (Sita)داخل ملحمة “رامايانا” Ramayana))، التي أشعر رغم ذلك بالتعاطف الشديد معها والشفقة عليها؟!
الجواب، بدلاً من ذلك، هو مزيج من أمور ثلاثة: (أ) إن الفن لا يكون، على وجه التحديد، متعلقًا بالجمهور بأي طريقة مباشرة، (ب) ولكنه رغم ذلك يتعلق بموضوعات مهمة بالنسبة لجمهوره، (ج) هذه الموضوعات تُطرح بطريقة جذابة وممتعة وجمالية.[5] يدور مسلسل “المحقق الفذ” (True Detective)، من إنتاج شبكة HBO، حول الجانب المظلم من الإنسانية وبشاعة ما قد تقترفه من أفعال. لكن هذا لا يمنعنا قط من الاستمتاع بالمسلسل؛ إذا كان أي شيء يعمّق استمتاعنا، بتوضيح كم يكون الوجود الإنساني قبيحًا، من الناحية الأخلاقية، وإن كان ذلك مضمنًا في التمثيل والحوار والتصوير السينمائي الممتاز. لأن الفن لا يتعلق بجمهوره بأي طريقة شخصية، بل يضع مسافة نفسية بينه وبين الجمهور.[6]
لاحظ كيف يقوم الفن بذلك بطرق مختلفة، في حين يتجاوب مع أنواع مختلفة من الجماهير: أولئك الذين يستمتعون بالاستفزاز الفكري، الذي يقدمه عمل فني مفاهيمي، داخل معرض ما، مقابل أولئك الذين يستمتعون بالاستغراق الجمالي في اللوحات التقليدية؛ وأولئك الذين يستمتعون بالأوبرا، مقابل أولئك الذين يستمتعون بالموسيقى الشعبية؛ وأولئك الذين يستمتعون بالمسلسلات، مقابل أولئك الذين يستمتعون بالعروض التلفازية “المعمقة”؛ وأولئك الذين يستمتعون بالروايات الرومانسية “المبتذلة”، مقابل أولئك الذين يستمتعون بالروايات الرفيعة. يخرجنا الفن من كدح الحياة، سواء كان فنًا رفيعًا أو رديئًا، وسواء كان عملًا باهظ الإنتاج، أو قطعة بإحدى صالات العرض الفني gallery-installed)).
لاحظ أيضًا أنه رغم أن القيمة الملطفة للفن، تكون أفضل عندما تشرك حواسنا مع فكرنا- في حال كانت الخبرة الجمالية التي يقدمها مجزية للغاية- فإن الفن يساعد أيضًا في تخفيف أعباء الحياة، بعدد هائل من الطرق الصغيرة، خاصة من خلال ما يتمتع به من قدرات زخرفية، من أدوات تجميلية وتزيينية للبيئة من حولنا بشكل عام. تجميل العالم الذي هو من صنيعة الإنسان، أحد أشيع الوظائف الفنية، وهنا تكمن القيمة التلطيفية.
على الرغم ما للفن من قيم أخرى عمومًا، إلا أن القيمة الملطفة للفن، تعد الأهم من بينها جميعًا، سواء الذرائعية أو المتأصلة. وعلى الرغم من أن العديد من الأعمال الفنية الفردية، قد تكون ذات قيمة لأسباب غير ملطفة، إلا أن تلك الأعمال التي تكون ذات قيمة ملطفة تؤدي وظيفة غاية في الأهمية لنا. إن الفن بالنسبة للحياة بمنزلة حصول شخص يغرق على جرعة هواء. الفن لا يجعل الحياة تستحق العيش، لكنه يجعلها محتملة.
لذا نحن ممتنون لجميع الفنانين الذين ساعدونا في البقاء، ونحن على قيد الحياة. أما أولئك الفنانون الذين يريدون محو الحدود بين الفن والحياة، فأقول لهم: “لا. إذا فعلتم ذلك، فسوف تسلبون الإنسانية إحدى أثمن أدواتها في مجابهة الحياة.”. أما الفنانون الذين لا يشغلهم في فنهم، سوى العدالة الاجتماعية، أو الإدلاء بتصريح سياسي، أو ببيان حول الفن نفسه، فأقول لهم: “سوف يفقد فنكم شغف الناس به. ستُلبون رغبات عدد محدود من الفنانين الآخرين داخل صالة العرض. إذا كنتم تريدون أن يكون فنكم سياسيًا، وأن يعالج القضايا الأخلاقية، فهلمّوا إلى إبداع هذا الفن. لكن اجعلوه جذابًا وممتعًا بطريقة تمس بعمق عواطفنا وحواسنا، لا ملكاتنا الذهنية فحسب. لا تحوّلوا فنكم إلى مقال رأي ساقط في إحدى الصحف”. في حقيقة الأمر، إن مثل هؤلاء الفنانين، بامتناعهم عن تقديم فن محمل بقيمة ملطفة، إنما يتنازلون عن مسؤوليتهم الأخلاقية في مد يد العون للإنسانية.
لكن إذا كانت الحياة بالغة السوء، ألا يقدم الفن لنا خدمة معيبة بجعلها مقبولة؟ ألا يخدعنا أو يضللنا من أجل مواصلة العيش؟ ألا ينبغي علينا إنهاء حياتنا بدلًا من ذلك؟[7] لن أجيب مباشرة عن هذا السؤال الوجيه، لأنه لا يقع في صميم موضوعنا. فالناس -اللهم إلا قليل منهم- لا تُقدم على الانتحار؛ لأنه إجراء بالغ الصعوبة. نحن مسكونون بيولوجيًا بالرغبة في العيش، ومن المستحيل أن نتحدى هذه الغريزة البيولوجية.
ومن ثم، على الرغم من قسوة الحياة، فإننا جميعًا نرغب في العيش، بل ويتشبث معظمنا بالحياة. هذا يعني أن وجودنا حقيقة، يجب أن نناضل معها. وبوضع هذه الحقيقة في الحسبان، سيكون لدينا جميعًا التزامات أخلاقية، تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين؛ لجعل الحياة طيبة قدر ما نستطيع. لكن هذا يعني أننا رغم استطاعتنا أن نجعل حياتنا أطيب، بالهروب للفن قدر الإمكان، بيد أن مثل هذا التملص ينبغي أن يكون بقدر؛ حتى لا ينجم عنه قلة الاكتراث بالآخرين، ما قد يفضي إلى التصرف على نحو غير أخلاقي.
للأسف، تلك هي المعضلة التي نواجهها: حتى عندما نتمكن من الهروب من الحياة، يجب ألا نكثر من فعل ذلك؛ لأننا نتغافل من ثمّ عمّا ندين به للآخرين.
[1] David Benatar, The Human Predicament: A Candid Guide to Life’s Biggest Questions (Oxford University Press, 2017).
[2] حياة الحيوانات أشد بؤسًا، في أغلبها، بسبب ما نقترفه من أفعال حيالها. وحسْبك أن تفكر في ملايين الحيوانات التي نربيها، والتي تعيش حياة قصيرة بائسة، فقط لكي تُذبح ونستمتع بطعم لحومها المطبوخة.
[3] “On the Cognitive Triviality of Art”, British Journal of Aesthetics vol. 32, no. 3, 1992, pp. 191-200.
[4] هذه وجهة نظر مالكولم بود. انظر كتابه: Values of Art (Penguin 1995).
[5] حول أهمية الخبرة الجمالية للفن، انظر:
Richard Shusterman, “The End of Aesthetic Experience,” Journal of Aesthetics and Art Criticism, vol. 55, no. 1, 1997, pp. 29-41.
[6] تأتي فكرة المسافة النفسية من مقالة إدوارد بولوغ الشهيرة (“المسافة النفسية” بوصفها عاملًا في الفن ومبدأً جماليًا”). وفيها قال بولوغ إن الجمهور يتحتم عليه إدخال هذه المسافة، في حين أعتقد أن الفن يفعل ذلك تلقائيًا، إذا جاز التعبير.
[7] تذكر السؤال الافتتاحي لكامو في “أسطورة سيزيف”: “ثمة مشكلة فلسفية جد خطيرة، ألا وهي الانتحار”.