في اليد

لا يكتفي الفيلسوف الألماني مارتين هايدغر بأن يقول، مع أرسطو، «إن يد الإنسان هي أكثر آلاته organon نفعًا، وإنها آلة الآلات، أي ما يقوم مقام أيّ آلة، وما يصنع الآلات ويستعملها»، بل يذهب أبعد من ذلك فيرى أن اليد ليست مجرد آلة، وإنّما هي عضو organe، عضو متجسد في الكائن البشري، عضو يمكّنه من «تناول» الأشياء[1]. لا يعني ذلك أنها مجرد جزء عضوي من الجسد من شأنه «أن يتناول ويأخذ ويخدش». فاليد لا تكتفي بأن تصنع الأدوات و«تحملـ»ها وتستعملها man-œuvrer. اليد تقدّم العون، كما أنها تهدّد وتصون وتحفظ. اليد تخط علامات، إنها تدلّ وتشير. اليد تتكلم. اليد تنطق. عن طريقها، كما قال هايدغر في درسه عن بارمنيدس، «تُقام الصلاة، وترتكب الجريمة، وبها تعطى التحية، ويعبّر عن الامتنان، بها يتمّ القسم، والهدي إلى الطريق». فهي تتميز عن باقي الأعضاء الأخرى لكونها عضو الإنسان الناطق، المتكلم المفكّر، إذ «وحده الكائن الناطق، يمكنه أن يتوفّر على يد، وينجز “عمل اليد” عن طريق لمساتها»[2]. ليس معنى هذا أن اليد قادرة على الإدراك العقلي، فكما يؤكد دريدا: «إذا كان هناك فكر لليد، أو يد للفكر، كما يوحي بذلك هايدغر، فليس بمعنى الإدراك العقلي». ومع ذلك، فإن عنصر الفكر، أي النّطق، حاضر في كل حركة تقوم بها اليد. عن طريق اليد، التي لا تقتصر على كونها مجرد أحد أطراف العضوية organisme، فإن الكائن الناطق يبين أنه يفكّر. يقول هايدغر في دروس سنتي 42/1943: «إنّ الإنسان يتصرف بيده، لأن اليد، بجانب الكلام، تميّز كينونة الإنسان»[3]. اليد تدلّ وتعني. هذا ما يجعل الفيلسوف الألماني ينفي أن تكون للحيوان أيد: «القرد، على سبيل المثال، يملك أعضاء “يتناول” بها الأشياء، لكنه لا يملك يدًا». الحيوان يملك قوائم، والقوائم لا تشير ولا تدل ولا تتكلم … إنها لا تفكر، «لأن التفكير عمل اليد». كتب دريدا: «فحرمان الحيوان من اليد، يعني حرمانه من الفكر واللغة، ومن القدرة على الهبة والعطاء». «وحده الكائن الذي يتكلم، وحده الكائن الناطق يمكنه أن تكون له يد، فينجز الأعمال عن طريق حركات اليد Maniement». «يفكر هايدغر في اليد انطلاقًا من الفكر، ويفكر في الفكر انطلاقًا من النّطق أو اللغة». هذا هو الترتيب الذي يردّ به الفيلسوف الألماني على الميتافيزيقا: «الإنسان لا يفكر إلا لأنّه يتكلم، وليس العكس».
قلنا إن لليد مهارتين: القدرة على الهدي والإشارة، والقدرة على الهبة والعطاء، هبة الشيء وهبة نفسها. فاليد لا تكتفي بأن تتناول وتأخذ، كما أنها لا تكتفي بالتصافح والدفع. بل هي تُهدي وتتلقى، وهي تُهدي حتى نفسها[4]. إنها تحفظ وتصون، لكنها تحمل وتنقل. نقرأ في اللسان: «وإنما سميت يدًا لأنها إنّما تكون بالإعطاء، والإعطاء إنالة باليد». وهي لا تكون أداة الإنالة فحسب، وإنما تكون موضوعها، فلا تقتصر على إعطاء الأشياء، وإنما تعطي نفسها. كتب هايدغر: «اليد تُهدي وتتلقى، ليس الأشياء وحدها، لأنها تهدي حتى نفسها وتتلقى نفسها عند آخر»[5]. وهذا ما تعنيه العبارة: «مددت له يدي». إلا أن ذلك الذي مددت له يدي قد «لا يتقبّلها». هذا فضلًا على أنّ اليد التي تقدم وتعطي قادرة على السرقة والإخفاء. يقول صاحب الفتوحات المكية: «اليد لها العطاء ولها القبض». وهو ينعت اليد الواهبة بـ «اليد العليا»، كما ينعت اليد السائلة بـ «اليد السفلى»: إن «اليد العليا هي خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة». ثم إن اليد قد تكون مبسوطة، لكنها قد تكون مغلولة. وهذا هو المعنى الذي تشير إليه الآية الكريمة: {ولا تجعلْ يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعدَ ملوما محسورا}. وبسط اليد قد يدل على إسراف وتبذير (تَنعت العامية المغربية المسرف بأن «يده مثقوبة»)، لكنه يدل أيضًا على الحاجة والطلب. كما أن قبضها يعنى التقتير والبخل، إلا أنه قد يدل على حركة العطاء والإنالة.
يشير ابن عربي إلى معنى أساس آخر لليد يمثُل في القوة والتحكّم: «فمثلما أن السمع روح الأذن، والبصر روح العين»، فإن «القدرة روح اليد». غير أن هذه القدرة قد تتحول مذلة بحسب الحركة التي تتخذها اليدان: فـ «التكتيف صفة الأذلاء، وصفته وضع اليد على الأخرى بالقبض على ظهر الكف والرسغ والساعد، فيشبه أخذ العهد في الجمع بين اليدين يد المعاهد والمعاهد، أي أخذت علينا العهد في أن ندعوك وأخذنا عليك العهد بكرمك في أن تجيبنا». بل إن صاحب الفتوحات يذهب حتى تفسير حركة اليدين أثناء التكبير بالتعبير عن الحاجة والافتقار: «ولا شك أن رفع اليدين يؤذن بالافتقار في كل حال من أحوال التكبير، يقول ما بأيدينا شيء، هذه قد رفعناها إليك في كل حال ليس فيها شيء ولا تملك شيئًا».
إلى جانب كل هذه المعاني لليد وحركاتها، تظل اليد أساسًا أداة خلق وإبداع: فهي أداة الصّانع التقليدي، وأداة النحّات والطباخ والرسام والخطاط والعازف. لذا، فإن العمل «من صنع اليد» يحظى، في مجتمع التقنية، بقيمة مادية ومعنوية تفوق أضعافًا «مثيله» من صنع الآلة. فالتمكّن من الاطلاع على عمل الكاتب «بخط يده» أمر لا يضاهى. إنه يجعلنا في التحام شديد مع النصّ، بل مع صاحبه. لا عجب أن يتشبّث بعض كبار الكتّاب بتحرير نصوصهم بيدهم، شأن هايدغر الذي لم يكن يكتب قطّ إلاّ «بيده» إيمانًا منه، على حدّ تعبيره، بأنه «في الكتابة بواسطة الآلة، الناس جميعهم يتشابهون». ذلك أنّ الآلة تحُول دون ظهور الخطّ اليدوي، دون ظهور «الحرف»، أو ما تطلق عليه اللغة الفرنسيةle caractère ، هذا اللفظ الذي يدل على الحرف، كما يدل على ما يميّز الشخص، أي على المزاج والطبع. في الكتابة الآلية يغدو اللفظ مجرد «أداة» وتختفي الطباع، بل يختفي الجسد.
عندما يقول هايدغر إنّ الناس جميعهم يتشابهون في الكتابة الآلية، فإنه يشير إلى خاصية أساسية تميّز اليد البشرية، بل لعلها هي التي تجعل اليد حصرًا على البشر، وفصلاً نوعيًا يميّزهم عن باقي الأنواع التي يدخلون معها تحت جنس واحد، وهي خاصية خلق الفروق والاختلافات. فكل عمل يدوي هو عمل فريد يتميز عن غيره ولا يشابهه إطلاقًا. فليس العمل اليدوي «وحدة إنتاجية»، ولا رقمًا في سلسلة، ولا نسخة من آلاف النسخ. إنه بالتعريف «عمل» متفرّد لا شبيه له. اليد صانعة «النّسخ الفريدة»، صانعة الاختلافات والتفرّدات، فهي تعمل على إحداث الفروق بين كل الأشياء التي تلمسها وتصوغها صوغًا متمايزًا ومتميّزًا.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] Heidegger, M, Les Concepts fondamentaux de la métaphysique. Monde – finitude – solitude, GA 29/30, 321)
[2] Heidegger, M, Qu’est-ce qui appelle à penser ?, GA 8, 19
[3]Heidegger, M, Parménide, GA 54, 118
[4] Heidegger, M, GA 8, 18-19
[5] Heidegger, M, Parménide, GA 54, 118