
نستكمل سلسلتنا المخصصة للفيلسوف فريدريك نيتشه التي بدأناها في الجزء الأول عن الإنسان الأعلى، وفي الجزء الثاني عن الفضيلة الواهبة.
كعادته، يبدأ نيتشه الجزء الثّالث من كتاب «هكذا تحدث زاردشت» بمشهد من تسلّقه الجبل متذكّرًا سفراته السّابقة، ومُعجبًا بشخصيّته التي تحبّ الأعالي والصّعاب، أكثر من حياة المنبسطات المملّة، يقول زرادشت: «إنّني أقف الآن أمام قمّتي الأخيرة وأمام ما ظلّ مخبّأ لي لأطول فترة من الزّمن. أواه، عليّ الآن أن أمضي على أشدّ دروبي قسوة، أواه، إنّني أبدأ الآن سفري الأكثر وحدة»(3)، إنّها الصّعاب التي طالما تتخلّل فلسفة نيتشه نحو الرّقيّ، وهي شرط من شروط اكتساب المعرفة أو السّعي نحوها؛ فالنّفس تحسّ بالرّاحة من جني ما عمِلت خصوصًا إذا كانت الخطورة محيطة به، إذ هي ضروريّة هذه القسوة لكلّ متسلّق جبال.
من تلك الأعالي ينظر زرادشت للبحر العميق تحته، وصل إلى القمّة التي تحيط بكلّ شيء، ومن الأعلى تنبثق الجذور، وكأنّه ارتباط شديد بين الصّعاب في الجبل وبين البحر العميق، أليست الجبال مراسيَ ذات جذور عميقة في البحر؟
ركب السّفينة مع البحّارة صامتًا على غير عادته، ترمقه الأعيُن وتنتظر كلماته الآذان، إلى أن تحدّث في اليوم الثّاني قائلًا: «أنتم أيّها الباحثون والمستكشفون الجرّيؤون، وكلّ من أبحر بأشرعة ماكرة في محيطات الأهوال»(4)، السّفينة رمز المخاطر والمغامرة، وهي انتقال من حال آمن إلى حال مُرعب؛ وهي نفسها فلسفة نيتشه في التّعلّم من دروس الحياة؛ وبالشّجاعة يتصدّى المرء للصّعاب كلّها. إذ يصرّ نيتشه على فكرة العود الأبدي بتكرار الحياة الأخرى بعد هذه، وهكذا إلى الأبد «نعود ونمضي على ذلك الدّرب الآخر، قدمًا على هذا الدّرب الطّويل المفزع، علينا أن نظلّ نعود بصفة أبديّة»(5).
ومن الآن فصاعدًا في الرّواية، سيبدأ نيتشه الكلام عن أبنائه وليس أصدقاءه، ارتباطًا بثيمة الفصل الثّالث، مؤكّدًا على أنّ الغرس يبدأ من الأبناء، ومن بينهم تبدأ السّعادة؛ «لكنّني في يوم ما سأقتلعهم وأغرسهم كلًّا في مكان، كي يتعلّم كلّ واحد منهم الوحدة والعناد والحذر»(6)، فنيتشه من دُعاة الصّبر والمعاناة من أجل تحقيق السّعادة، لا أن تأتي بدون جلَد ومكابدة.
وتُعتبر الأنثى لديه جزءًا من مكوّنات السّعادة، التي يفرّ منها لتلاحقه، وكأنّ نيتشه هنا يضع من قيمة المرأة التي تلاحقه كالسّعادة: «إنّ السّعادة تلاحقني. والسّبب في ذلك هو أنّني لا أركض وراء النّساء، لكن السّعادة أنثى»(7)، وهنا يمكن طرح أسئلة من قبيل: لماذا هذا الخنق ضدّ المرأة؟ ألم يكن يحكي تجربة شخصيّة لا يمكن أن تُعمّم؟ ألا يمكن القول إنّ رأيه حول المرأة نابع من أفكار فلسفيّة أرسطيّة تبخّس من حق المرأة؟ وكيف نبرّر –إذا اعتبرنا موقفه سلبيًّا- عيشه مع أمّه وأخته التي رعته حياته كلَّها؟
في السّياق نفسه، ينجذب نيتشه للمرأة الجميلة الذّكيّة الحكيمة، حيث يقول: «لا نتكلّم إلى بعضنا، لأنّنا نعرف الكثير الكثير، نتبادل الصّمت، وما نعرفه نتبادله ابتسامات»(8)، فلا غرابة من امتزاج السّلبيّ والإيجابيّ في فكر نيتشه عن المرأة، فيمجّدها تارة وينتقدها أخرى، كونه كما قلنا عاش تجربة مُرّة مع المرض الذي وجد أخته ملاذًا وعونًا في مواجهته.
فنيتشه تَقَدّم لخطبة امرأة ذكيّة مثقّفة رفضته كما يُحكى، وكان لهذا الحدث أثرًا بليغًا في نفسيّته، وعليه نجده يصبّ جامّ عضبه، وأحيانًا يرقّ قلبه تمامًا فيسأل: «ألستِ النّور الذي يشعّ داخل ناري؟ ألا تحملين في داخلك الشّقيقة الرّوحيّة لرؤيتي؟ (…) إِلَام كانت تتوق روحي في لياليها وأيّامها وعلى دروب التّيه؟ وعندما كنت أتسلّق جبالًا، عمّن كنت أبحث فوق الجبال إذن، إن لم تكوني أنت؟ (…) إلى الطّيران فقط كانت تطمح روحي، أن أطير إلى داخلك؟ وأيّ شيء بغضت أكثر من السّحب المتنقّلة وكلّ ما يشوّه سحنتك؟»(9)، نلاحظ هنا أنّ نيتشه قَرَنَ عزلته الطّويلة -وسط الجبال عندما كان يبحث عن الحقيقة والفضيلة- ببحثه عن المرأة التي يشتاق لها ويحنّ لابتسامتها، وهل بعد هذا التّشبيه العظيم نقول: إنّ نيتشه يحطّ من كرامة المرأة؟ بل يلوم نفسه بصريح العِبارة على رأيه النّاقص ضدّ المرأة قائلًا: «وبُغضي قد بغضتُه هو الآخر، لأنه قد شوّه سحنتكِ»(10)، ويلوم كذلك «أولئك المتوسّطون ومعدّوا الخلطات هم الذين أمقتهم، تلك السّحب المتنقّلة: أولئك الذين يقسّمون أنفسهم نصفًا من هذا ونصفًا من ذلك، الذين لم يتعلّموا أن يباركوا ولا أن يلعنوا كليًّا»(11).

إنها مجازفة، على حدّ تعبيره، وحمق يضعهما محلّ الإرادة والعقل؛ فالحكمة منبعها اللّاحكمة، والعقل منبعه الجنون، وخَلْطُ هذا بذاك يعني حسب نيتشه اليقين السّعيد، فيقول شارحًا: «إنّما على أقدام الصّدفة تُفضّل الأشياء أن ترقص»(12)، وما الرّقص في فلسفته سوى الاستمتاع باللّحظة إلى أبعد مدى –كالرّاقص يتمايل فرحًا من جهة لأخرى- فلا نعرف ما يخبِّئه المستقبل.
يمضي نيتشه في أفكاره المتقلِّبة عن المرأة، ويحدّد الشّرور الثّلاثة التي تُلعَن أكثر من غيرها، وهي الشّهوانيّة، وحبّ السّيادة، وإيثار الذّات؛ وهي في حقيقة الأمر دفاعًا عن المرأة كذلك؛ فـ«الشّهوة: مثال سعادة ورمز لسعادة أرقى ولأسمى الآمال. وللكثيرين وعد بعرس هناك حقًّا، وبأكثر من العرس، للكثيرين، من الغرباء، بعضهم عن بعض أكثر مما يكون الرّجل غريبًا عن المرأة، ومن ذا الذي يدرك جيّدًا كم غريبان عن بعضهما هما الرّجل والمرأة»(13)، إذ تكون الشّهوة –بحسبه- كلمة حرّة وبريئة لدى القلوب البريئة، جنّة من جنان السّعادة الأرضيّة، ووفرة شُكْر المستقبل للحاضر. وأما السّيادة فهي الزلزال الذي يكسّر ويفتّت الأوهام المجوّفة، والشّوق للسّيادة يصعد بصاحبه الجبال الشّامخة، كنسمة حبّ تحدد معالِم الطريق نحو فرحة واسعة، كصفحة من صفحات السّماء المشرقة. وأما الأنانيّة الصّحّيّة الجيّدة كما يصفها مادحًا: «التي تنبع من أعماق الأنفس القويّة»(14)، فهي تنتمي لجسد سامي جميل، «إلى الجسد المرن ذي البيان السّاحر، الرّاقص الذي يكون رمزه وخلاصته في النّفس التي تجد مُتعتها في نفسها، تلك المتعة الأنانيّة الجسديّة والرّوحيّة هي التي تسمّي نفسها: فضيلة»(15)، هي أنانية تحمي نفسها بالسّعادة لتبتعِد عمّا هو حقير كلّه؛ كالجُبن والسّوء والهمّ والتّذمّر والشّكّ… وغيرها. أنانيّة حسنة تنبذ الإفراط في الخنوع، وتحمّل تأثير الأشياء كلّها، وقبول أي شيء، «إذ ذلك حقًّا هو طبع العبوديّة»(16).
فإذا كان الإنسان أكثر الحيوانات اكتسابًا للفضائل، وهو ما يجعله أكثر معاناة، فإنّه لم يصل مرتبة الطّيور التي تحلّق بحرّيّة باسطة أجنحتها للهواء يحملها دون أدنى تعب وجهد، ولو كان فعل، و«تعلّم الإنسان الطّيران أيضًا، فالويل، إلى أيّة أعال ستحلّقُ رغبتُه المُفترسة»(17)، وعلى هذا التّشبيه يريد نيتشه للرّجل والمرأة أن يكونا: «الأوّل كفء للحرب، والثّاني للولادة، لكنّهما كفئان كلاهما للرّقص بالقدمين وبالرّأس»(18)؛ هذا التّعبير أسال المداد عن نيتشه في نعتِه أنّه كان مُعاديًا للمرأة معتبِرًا إيّاها تصلح للولادة فقط، أي أن تقوم بدورها الطّبيعي البيولوجيّ بعيدة عن أي دور فكريّ إنسانيّ في هذا الوجود، ولكن إذا تأمّلنا آخر الجملة سنجده يعتبرهما كُفأين للرّقص، وحالة الرّقص من أعمدة فلسفة نيتشه كما نرى؛ الرّقص بالقدمين لتجنّب العبوديّة وعدم الجثي أمام الأصنام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتطرّق نيتشه لعقد القران، وينصحهما على ألّا يكون عقدًا سيّئًا، فالزّواج السّريع تكون نتيجته «انفراط الرّابطة الزّوجيّة (…) وإنّ كسرَ رابطة زواج لأفضل على أيّة حال من زواج معوجّ وزواج كاذب، وهكذا كلّمتني امرأة ذات مرة: صحيح أنّني كسرتُ الرّابطة الزّوجيّة، لكن قبْلها كانت الرّابطة الزّوجيّة هي التي كسرتني»(19)، فما أبلغ النّصائح هاته، ولن يكون هذا الكلام، على ما أظنّ، سيّئًا في حقّ المرأة انتصارًا للرَّجل. ويزيد نيتشه من كلامه عن كون المُتزاوجين بشكل سيّء، أكثر عرضة برغبة في الانتقام من الأشياء كلّها، لأنّهما أصبحا مسلوبا الحرّيّة، وعلى النّقيض –بحسبه- يقول المستقيمون في زواجهم: «إنّنا نحبّ بعضنا، فلنعمل إذن على أن نظلّ ودوديْن اتّجاه بعضنا»(20).
ليختم نيتشه على لسان زرادشت المحور الثّالث بلازمة كرّرها في كلامه، أكثر من مرّة، على غرار أنشودة، شارحًا من خلالها ضرورة حبّه لأمّ أبنائه، قائلًا ما يلي: «إنّني لم أعثر بعد على المرأة التي يمكنني أن أبتغيها أمًّا لأبنائي، إن لم تكن هذه الأنثى التي أحبّ»(21)، وعليه تكون فلسفة نيتشه عن المرأة مفعمة بالطّرح الإيجابيّ كما تحوي الطّرح السّلبيّ، واللّذان وصفهما خيرًا وشرًّا في الآن نفسه، وهو موضوع من ركائز فلسفته أصلًا: بحيث يبقى الشّرّ والخير نسْبِيان، إذ هما وجهان لعملة واحدة، فما يكون شرًّا عندي، قد يكون خيرًا عند الآخر، والعكس صحيح.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الإحالات والهوامش
(1) هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، فريدريك نيتشه، ترجمه عن الألمانية: علي مصباح، منشورات الجمل، كولونيا، بغداد، ط1/2007م، ص:5.
(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(3) المصدر نفسه، ص:292.
(4) المصدر نفسه، ص:297.
(5) المصدر نفسه، ص:302.
(6) المصدر نفسه، ص:307.
(7) المصدر نفسه، ص:312.
(8) المصدر نفسه، ص:314.
(9) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(10) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(11) المصدر نفسه، ص:315.
(12) المصدر نفسه، ص:318.
(13) المصدر نفسه، ص:359.
(14) المصدر نفسه، ص:361.
(15) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(16) المصدر نفسه، ص:363.
(17) المصدر نفسه، ص:396.
(18) المصدر نفسه، ص:397.
(19) المصدر نفسه، ص:397-398.
(20) المصدر نفسه، ص:398.
(21) المصدر نفسه، ص:430.