حين نطالع ما كتبه المستشرق الهولندي المعروف دي بور De Boer (1866-1942)، عن أثر فلاسفة الإسلام في مجتمعاتهم، نجده قد انتهى في أغلب تعقيباته في كتابه: «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، إلى نتائج متشابهة بصدد فلاسفة الإسلام وعلمائه، مفادها أن الشخصية موضوع البحث لم تترك لنا مدرسة، ربما باستثناء ابن الهيثم، الذي يذكر دي بور أنه قد أسس «شِبْه مدرسة» etwas Schule، بتعبيره في الرياضيات والفلك، برغم إحراق مؤلفاته في علم الهيئة، أيّ الفلك، بعد وفاته.[1] وحين نمحص هذا الحكم بناءً على معرفتنا بتاريخ الفلسفة العربية: منذ الكندي وحتى ابن خلدون، فإننا نجده حكمًا صحيحًا إلى درجة الدقة، والدهشة، معًا. ليست الدهشة من الدقة، بل الدهشة مِن الفحوى. لو كان الحديث عن مفكر عربي معين، لكان الحكم دقيقًا، أما حين يكون الحديث عن تاريخ كامل للفلسفة والعلم في عصرٍ ذهبيّ لحضارةٍ كاملة، فهو حكم مدهش.
أما الأكثر إثارة للدهشة فهو أنّ دي بور، وهنرى كوربان، وأرنست رينان، وإجناتس جولدتسيير، وغيرهم من غطاريف الاستشراق في عصر نضجه، لم يتوقفوا مليًّا إزاء هذه الظاهرة لمحاولة تفسيرها. ربما كان السبب هو أنهم وجدوها، أو «أرادوا» أن يجدوها، على سبيل التفكير الرغبي wishful thinking كنتيجة متوقَّعة، وذلك في سياق أطروحة فقر العقل الشرقي، وأنه عقل غير فلسفي، وغير علمي بطبيعته، وأن العقل السامي عقل متديّن، لكنه غير مفكر، وأنه إنْ فكَّر، فإنه يفكر في الروح، لا الجسد؛ وفي الله، لا الطبيعة؛ وفي المسجد، أو المعبد، أو الكنيسة، لا الدولة. أما نحن العرب فإننا لا «نتمتّع» بهذا المنظور الكولونيالي، ونفهم على نحو أدقّ، وأكثر واقعية، حالة المثقف في بلادنا، وربما نعيشها في الحاضر، مما يستدعي لدينا التساؤل بصدد الماضي، أو كما قال ابن خلدون في مقدمته: إنّ التاريخ هو علم فهم الحاضر، في ضوء تجارب الماضي.
دي بور وكوبان: بين الأعمق والأشمل
سنعتمد في محاولة فهم هذه الإشكالية: انقطاعات الفلسفة العربية، على مصدرين موسوعيين لاثنين من المستشرقين، الذين أنتجوا رؤية شاملة قدر الإمكان لتاريخ تطور الفلسفة، والعلم في الإسلام. وهما دي بور، وهنري كوربان. بيدَ أن اعتمادنا على دي بور سيكون أكبر؛ فهو أكثر تفصيلاً، رغم أنه أقلّ شمولاً من كوربان؛ إذْ خصَّص دي بور صفحات لكل نظرية، ولكل فيلسوف أو عالم في العالم الإسلامي، فإن كوربان قد خصص صفحاتٍ لكل شخصية يدرسها بدرجة كبيرة من الاختصار. وبينما يسمح لنا دي بور بتحليل كل نظرية على حدة، فإن كوربان يفيدنا إلى حدٍّ أكبر وبوضوحٍ في استبصار الخارطة العامة للفلسفة العربية منذ بدء الإسلام، وحتى منتصف القرن العشرين الميلادي تقريبًا، وقد صدّر بقلمه الطبعة التي سنعتمد عليها من كتابه «تاريخ الفلسفة الإسلامية» عام 1962. لذا من أسباب ذلك التباين بينهما أن دي بور قد وضع كتابه في أواخر القرن التاسع عشر، ونُشرت طبعته الأولى الألمانية، والتي سنعتمد عليها، عام 1901، فلم تكن له القدرة على تتبّع مسار الفكر العربي الحديث، الذي نشأ قرب نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات العشرين. وقد يرى المرء أنّ العودة إلى ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة لدي بور (1938)، أكثر جدوى، وتستحق ألاّ نهملها في هذا السياق. غير أن فحص ترجمة أبي ريدة بناءً على النصّ الأصلي الألماني تكشف قدرًا كبيرًا أحيانًا من التصرف في الترجمة، قد يؤدي إلى إشكالات لا محلَّ لها في النصّ الأصلي، أو سوء فهم بالغ لآراء الفلاسفة والعلماء.
من أمثلة ذلك يذكر دي بور (بترجمة أبي ريدة) «في مذهب ابن رشد ثلاثة آراء إلحادية خطيرة». ولم يقل دي بور «آراء إلحادية»، بل قال: «هرطقات»Ketzereien.[2] والهرطقة تختلف عن الإلحاد من جهة، كما أن وصف ابن رشد بالإلحاد أمرٌ غريب في حدِّ ذاته لكل من يعرف ابن رشد، أو على الأقلّ سيرة حياته، والمناصب التي تولاها في الدولة.
كذلك هناك مواضع أخرى كثيرة، إما كانت الترجمة فيها «خطأ» حاسمًا، وإما كانت ترجمتها دقيقة، لكنها غير مناسبة للسياق المستعمَل اليوم في ترجمة المصطلحات الفلسفية الأجنبية. مثال على الأول أنّ أبا ريدة في كثير من المواضع لم يفرّق بين «الكيمياء»، و«السيمياء»، أو «الخيمياء».[3] فقد انتقد بعض فلاسفة الإسلام كالفارابي، وابن سينا، وابن خلدون الانشغالَ بالخيمياء أو السيمياء، باعتبارها علمًا زائفًا أقرب إلى السحر، وهو العلم المنشغل بتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، إلى جوار مسائل سِحرية أخرى بعيدة كل البعد عن علم الكيمياء.
وقد استعمل دي بور اللفظ الصحيح لوصف هذا العلم Alchemie، بينما مقابل الكيمياء كعلم منضبط بالألمانية هو Chemie. وحين يقرأ المرء ترجمة أبي ريدة دون تصحيح هذا الخطأ؛ سيفهم على نحوٍ خاطئ أنّ هؤلاء العلماء والفلاسفة قد رفضوا الكيمياء كعلم منضبط، وهو طبعًا غير صحيح. ومثال على الترجمة، التي لا تناسب السياق الاصطلاحي المعاصر –في مواضع كثيرة أيضًا- رغم دقتها: «غنوسطي»، التي استعملها أبو ريدة مقابل gnostische. وحاليًا نترجمها «غُنوصي»، دون الحاجة إلى ترجمة صيغة النسَب الألمانية.[4] ولهذه الأسباب فسنرجع إلى النصّ الأصلي الألماني من منطلق توخّي الدقّة قدر الإمكان، وليس من منطلق إهدار جهد أبي ريدة. وسنرجع في مواضع أخرى، ليس لترجمة أبي ريدة، بل إلى تعليقاته على نصّ دي بور، والتي تمثّل في حدّ ذاتها جهدًا تأليفيًا أصيلاً. إلى جانب ذلك فإن أبا ريدة هو الذي تحقق من النصوص العربية، التي رجع إليها دي بور، والتي لم يذكرها.
الفارابي: بين الجمهورية والخِلافة
يرى دي بور مثلاً أن الفارابي لم يكن ذا شأنٍ كبير عند أمته؛ لأنه لم يجعل مكانًا للأمور الدنيوية في فلسفته للأخلاق والسياسة. وهذا في رأيه ما جعله برغم أهميته النظرية، قليلَ التأثير في وسطه الثقافي. ولعلّه يقصد أنّ فلسفة الفارابي العملية كانت نظرية، مثالية، لا تراعي الظرف التاريخي، وأنّ رهبنته الفكرية كانت السبب الثاني في عدم شيوع فلسفته، أو تأسيسه لمدرسة فلسفية.[5] وهي كما نرى أسباب يشوبها قدر من الاختزال. في الواقع إن فلسفة الفارابي في السياسة، وخاصة مبدأ الحاكم-النبيّ لا تناسِب المجتمع السنّي، بل هي وثيقة الصلة بعقيدة الفارابي الشيعية من خلال مبدأ عصمة الإمام. وقد تحقّق هنري كوربان من شيعية الفارابي.[6] ولهذا يبدو الفارابي أقرب إلى خلافة الشيعة منه إلى جمهورية أفلاطون في الحقيقة على خلاف رأي دي بور.
هذا وإن كانت فكرة الإمام الشيعي المعصوم قد التقت مع أرستقراطية أفلاطون التقاءً تلقائيًا؛ فمن الطبيعي حين ترتبط أفكار الفيلسوف بعقيدة دينية-سياسية معينة أن تتعرّض لأنواء التحولات التاريخية، فقد تزدهر في مرحلةٍ معينة، ودولةٍ معينة، كفلسفة كارل ماركس مثلاً، ثمّ يضيع أثرها، وتبقى فقط في هيئة كتب، ورسائل محفوظة بالمكتبات، ودور الوثائق، حين تنقضي تلك المرحلة، وتنهار تلك الدولة. ومن هنا، نرى أنّ فلسفة الفارابي السياسية لم تكن منقطعة تمامًا عن الظرف التاريخي، بسبب اتصالها بأصول الدين الشيعية عن طريق هذا المبدأ المذكور أعلاه، لكن هذا الاتصال بالظرف التاريخي في الحقيقة سلاح ذي حدّين.
بالإضافة إلى ذلك لم تتصّل فلسفة الفارابي العملية بالعلوم الإسلامية بقدرٍ كافٍ يسمح لها بانتقال الأفكار عبر قناة هذه العلوم إلى الفقهاء، والمفسرين، ثم إلى الجمهور. فلو كان الفارابي مثلاً قد وضع منهجية في تأويل النصّ، لاستطاع أن يؤثّر -من حيث المبدأ- في مجال التفسير، كما فعل ابن رشد مثلاً. ولو كان وضع مؤلفات في أصول الدين، وأصول الفقه، لربما تكوّنت له مدرسة، أو امتدّ نسبه الفكري، على نحو ما فعل أبو حامد الغزالي. أمّا توجهه الإشراقي فقد نبغ فيه من هم أعلى منه كعبًا في مجال التصوّف. هذا على الرغم من كونه يحظَى لدى دي بور، وكوربان، بلقب أول فلاسفة الإسلام الكِبار.[7]
على كل حالٍ يذكر دي بور سببًا وجيهًا إضافيًا لضعف أثر الفارابي في أمته: هو أننا لو مدَدنا فلسفته في الوجود على استقامتها -وهي تقول بالفيض بوضوح- لأدى ذلك إلى القول بوحدة الوجود، وهي عقيدة منبوذة عند أغلب المسلمين.[8] نراه سببًا وجيهًا؛ لأنه كذلك سبب في ضعف أثر ابن سينا في الثقافة الإسلامية بعامة (أيّ دون استثناء المذاهب السنية)، مقارنةً بالبناء الهائل في مشروعه، وضعف أثر كل من قال بهذه العقيدة بين المسلمين نسبيًا.[9] غير أنّ هذه المسألة تتصّل بإشكالٍ أنطولوجي، هو حدوث العالم. وقد أورد أبو ريدة حاشية، يرجع فيها إلى نصوص الفارابي، ويثبت بها قوله بحدوث العالم، لا قدمه، أيّ كونه مخلوقًا من عدمٍ في لحظةٍ معينة من الزمان، خلافًا لأزليّته.
الفارابي: قِدَم العالَم وانقطاعه عن العالَم
من الشائع -كما يشير أبو ريدة في تلك الحاشية، وكما نقرأ في «تهافت الفلاسفة» للغزالي- أنّ الفارابي قال بقِدم العالم. ومع ذلك يورد أبو ريدة (في تعليقه المطوَّل على الفصل الخاص بالفارابي عند دي بور)، نصوصًا قاطعة للفارابي في هذا الشأن، تفيد أنّ الأخير قال بحدوث العالم على نحو ما ذهب إليه الكندي من قبل.[10] والحقيقة أنّ المرء يقع في هوة لا يَرى لها قرارًا من الحيرة إزاء هذا الموقف؛ فإن القول بحدوث العالم يتناقض مع عقيدة الفيض، بل ربما لا يُبقي لها أية وجاهة أو ضرورة، وهي عقيدة غير إسلامية، ومتنافية مع عقائد أغلب المسلمين، بما يجعل القول بها محفوفًا بالمخاطر، إلا إذا كانت لها ضرورة قصوى. إذا قلنا بحدوث العالم فما الداعي إلى نظرية الفيض؟ الضرورة القصوى لنظرية الفيض هي تفسير كيف نشأت الكثرة عن الواحد في السرمدية، لا في الصيرورة. ولو كان الإله يخلق من عدم، لانقطعت سلسلة الفيض منطقيًا. وفي تاسوعات أفلوطين هناك نوعان من الزمان: زمان السرمدية، الذي فيه يقع الفيض، وزمان الصيرورة، الذي نختبره بالحدس.[11] غير أنّ نصوص الفارابي في هذا الموضوع لا تترك لنا هامشًا كبيرًا من حريّة الحركة، أو التأويل المعتدِل. أما دي بور فيفيد العكس شارحًا الفارابي بقوله: «النظام البديع للعالم، الذي فاض عن الإله منذ الأزل».[12] فربما قال الفارابي مجرد قول بحدوث العالم، لكن ما يلزم عن مقدمات مذهبه يتّسق مع قِدمه. كذلك يذهب دي بور -وكذلك أبو ريدة- إلى أنّ ابن سينا، قد قال بقِدم العالم، وذلك باعتقاده أنّ المادة لا يمكن أن تصدر عن الله،[13] وأنّ عملية الصدور أزلية، وأنّ المادة إمكانية محضة reine Möglichkeit، وهي مبدأ الكثرة في الموجودات.[14] وهو -اعتقاد ابن سينا- ما يتفق وفكرة الفيض بصفةٍ عامة.
يبدو لنا ابن سينا أكثر شجاعة، أو أشد اتساقًا، ولكن بفرض هذا، أيّ بفرض أنّ الفارابي كان أقلّ شجاعة، وأقلّ اتساقًا، فهذا يؤدي إلى إعادة النظر في تعليق أبي ريدة، فلا يمكن أن تؤدي مقدمات الفارابي، وقوله بالفيض، إلا إلى قِدم العالَم الذي أدّى -بسبب تعارضه مع عقيدة الخلق عند غالبية المسلمين- إلى انقطاعه عن العالَم.
ابن سينا: ميتافيزيقا الشَّر الشريرة
لما كان الإله (المحرك الأول) عند أرسطو معزولاً عن العالَم، ولمّا كانت هذه العقيدة مفارِقة لأغلب مذاهب المسلمين، فقد حاول الفلاسفة المسلمون المتأثرون بأرسطو خلقَ نسق مختلف في الإلهيات، يُفيد العناية الإلهية من جهة، ويبرّر وجود الشَّر في العالم دون تناقض مع خيرية الإله وعنايته من جهةٍ أخرى. وهذا ليس نوعًا من استكمال مذهب أرسطو، أو حتى توفيقًا له من العقيدة السائدة، وإنما هو إضافة كبرى، أدّت إلى تباين بنيوي بين أرسطو اليوناني الأصل (وأرسطو ابن رشد فيما بعد)، وبين أرسطو المشارقة.
إذا طالعنا مذهب ابن سينا، نجد أنّ عقيدة علم الله بالكليات دون الجزئيات، ليس لها فحسب دورٌ في إضفاء صفة النسقية على ميتافيزيقاه؛ باعتبار أنّ علم الله بالجزئيات يؤدي إلى تغيير في ذاته، وما هو أزليّ لا يقبل التغيُّر أو التأثُّر، بل كذلك لها دور هام في تبرير وجود الشَّر، وهو أنّ الله لا يعلم تلك الجزئيات، التي تتمثّل في أفعال أفراد البشر، وأحوالهم، كالمرض، والظلم؛ وعليه، هو ليس سببًا مباشرًا في الشَّر، ولا يعلم بوقوعه على النحو الذي نختبره في حياتنا اليومية.
يفيد ابن سينا ما معناه أنّ ما نفسره كخير أو شرّ هو جانب من قوانين الوجود، لا يصح الوجود، ولا يقوم، من دونها جميعًا.[15] وإلى جانب توظيف هذه النظرية في العلم الإلهي، والتي لها جذورها في ميتافيزيقا أرسطو، يوظف ابن سينا فكرة اعتزالية أصيلة، هي أنّ العالَم لم يكن ليكون أبدع ممّا هو عليه بالفعل، ولو كان على غير ما عليه لكان في ذلك شرّ أعظم.[16] أما العناية الإلهية عند ابن سينا فتتجلّى في نظام العالَم البديع.[17] وهو ما يعني أنّ للعناية الإلهية دورًا، ولكنها لا تتدخل في الحوادث الجزئية. ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أنّ ابن سينا، رغم كونه لم يقدّم صورةً دقيقة عن المذهب الأرسطي، قد كان أكثر إبداعًا كفيلسوف المشرق الأهم، في مقابل فيلسوف المغرب المناظِر، أيّ ابن رشد، وأنّ الفلسفة المشرقية هي التي حاولتْ أن تقدم صورة متسقة للطبيعة الإلهية، والأخلاق، تتوافق مع العقيدة السائدة قدر الممكن، حتى لو جاء ذلك على حساب الصورة الدقيقة لمذهب أرسطو. غير أنّ هذا القدر الممكن لم يكن كبيرًا كما نرى. وغير أنّ المشارقة قد اعتمدوا جزئيًا على مصادر معرفية غير قابلة للتداول، ولا تقبل الدحض من حيث المبدأ، أيّ التجارب الفردية الصوفية، الأمر الذي أضعف من أهمية ذلك الإبداع. في مقابل هذا التأويل لابن سينا لمفهوم العناية الإلهية يرى ابن رشد أنّ الله لا يعلم الكليات، ولا الجزئيات بعلم محدَث، ممّا يؤدي منطقيًا إلى نفي العناية الإلهية.[18] وهو -نفي العناية الإلهية- أكثر قدرة من الناحية النظرية على التوفيق بين العدل الإلهي الشامل من جهة، ووجود الشَّر في العالم من جهةٍ أخرى، لكنها في حدّ ذاتها فكرة شريرة، أدّت إلى مزيدٍ من الاغتراب، الذي عانى منه أغلب فلاسفة الإسلام، وهم يحاولون -وهي المفارقة- تقليلَ اغتراب الإنسان.
بين المذهب والاستراتيجية: الأبراج العاجية والطُّرق المتعرجة
من أهمّ المسائل ذات البعد الاجتماعي، التي لم يركز عليها دي بور، أو كوربان، هي طبيعة إدراك الفلاسفة المسلمين لأدوارهم في المجتمع. من اللافت للنظر أنّ أكبر فلاسفة الإسلام لم يحاولوا الترويج لأفكارهم، أو صنع مدرسة على غرار أكاديمية أفلاطون، أو لوقيون (ليسيوم Lyceum) أرسطو، وإنما أكّدوا على ضرورة قصر المعارف البرهانية على الفلاسفة، على طبقةٍ معينة من المتلقّي، بحيث لا يفهمها إلا من كان أهلاً لها. وهذا ما أنتج لنا الظاهرة المعروفة بطول تاريخ الفلسفة الإسلامية: «المضنّون به على غير أهله». سنجد هذه الظاهرة واضحة عند الفارابي، وإخوانُ الصَّفا، وابن سينا، والغزالي، وابن باجه، وابن طفيل، وابن رشد، وغيرهم.[19] وهي ظاهرة قابلة للفهم في سياق مجتمع ثيوقراطي، أو شبه ثيوقراطي، تمثّل فيه الرابطة الدينية النسيج الضامّ لوحدات المجتمع، وتعلو فيه على روابط الدم أحيانًا، وليس فيه تصوّر واضح عن دولة قومية، أو مواطنة. وهي مرحلة تبدو بدائيةً اليوم بالنسبة لنا، لكنها كانت مرحلة طبيعية في سياق التقدّم التدريجي للبشرية، وتنامِي دور المؤسسات الوسيطة، والسُّلطات القضائية، والتشريعية المستقلة عبر القرون.
ومع ذلك يمكن للفيلسوف دائمًا، من حيث المبدأ أن يؤسس لاستراتيجية تنويرية، أو تعليمية، يمكن من خلالها الارتقاء بالأغلبية الغاشمة، التي ضنَّ عليها الفلاسفة والصوفية معًا بأعزّ مصنفاتهم، تدريجيًا. ولهذا فإن مسار الثقافة الإسلامية العام، بما فيه من فلاسفة، وعلماء، قد اتجه إلى التصوّف بدءًا من عصر التدهور في القرن السابع الهجري تقريبًا في المشرق، والمغرب. وهنا لا نقصد حصرًا التصوّف كنظريات، بل نعني المسار الاجتماعي للتصوّف: الخلاص الفردي، والحركة في دائرة ضيقةٍ من الخاصة، والنأي عن شؤون المجتمع و«العامة». ولأن الفلاسفة لم يتمتعوا باستراتيجية تثقيفية أو تنويرية أو مشروع على المدى البعيد كمشروعات الفكر العربي المعاصر مثلاً، وأنهم اكتفوا بالتنظير، وتشييد المذهب، فلم يكن مصيرهم يختلف كثيرًا عن مصائر الصوفية.
هكذا هو قدَر المفكر في بلاد الإسلام: إما أن يتحلّى باستراتيجية، وحينئذٍ يصير صاحب مشروع، لا مذهب، ولا نظرية، وإما أن ينشغل بالمذهب والنظرية عن الاستراتيجية، فيصير مغتربًا في ثقافته. وهو ما يعيد طرح السؤال، الذي طرحه المفكرون العرب المعاصرون بدءًا من أوائل السبعينات: هل ثقافتنا ثقافة مذاهب أم ثقافة مشروعات؟ ألسنا بحاجة للمشروعات كي نثقف المجتمع، ونزيل أوهامه، كي يقبل بعد هذا أن يقرأ نظرياتنا، وأن يعتدّ بمذاهبنا؟
ويُضاف إلى هذا عامل آخَر مهم، هو أنّ أغلب فلاسفة الإسلام الكِبار كانوا في وقت ازدهارهم من حاشية السُّلطان، وكان جمهورهم فعلاً من خاصة الناس، وكانوا لذلك يحيَون في القصور أو في رعاية القصور، في أبراجٍ عاجية حقيقية، كالكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد.
وبهذا ظلَّت الفلسفة عند المسلمين، وظلَّ الإبداع والنقد الفلسفيان القريبان إلى روح المنهج العلمي الذي يقوم على الشكّ، «ثقافةَ الإنتلجنسيا» بتعبيرنا المعاصر. صحيح أن التصوّف في أساسه تجربة فردية، وأنه انتشر حتى سيطر على الثقافة الإسلامية في أغلبها بدءًا من القرن السابع حتى اليوم، لكن ما انتشرَ منه على النطاق الأوسع مجرد أخلاقيات التصوف العملي، وطقوسه، لا نظريات التصوف، ومفاهيمه الثرية المعقدة. كما أن التصوّف بما هو تجربة فردية لا ينشد تنوير المجتمع، أو تحريره، بل تنوير الإنسان الفرد، وتحريره من الانشغال الزائد بأمور الدنيا، ويفتقر إلى البعد الاجتماعي، فهو يخاطب «الإنسان»، لا «المُواطِن». وهكذا اختار الفيلسوف المسلم أن يحبس نفسه في أبراج الخاصّة العاجية على أن تتمزّق قدماه في طرق العامة المتعرِّجة.
البرهان.. لِمَن؟ وعلى ماذا؟ صُعود الغزاليّ
إنّ الفلسفة، وبما هي قائمة على منطق النسق، أيّ وضع العقائد في صورة نسقية لا تناقض فيها، وبما اشتملت عليه من بحوث منهجية تتعلق بعضها بالمنهج العلمي التجريبي، وبما اشتملت عليه من منهجية لقراءة النصّ، ومبادئ عامة للأخلاق، والسياسة، ورفْع العقل فوق كل قوى النفس الأخرى،[20] لا يمكن أن يصير هدفها كشف الحقيقة للخاصة من الناس، وإلا لما كانت هناك فائدة للبرهان.
المفترض في المنهج البرهاني عند الفلاسفة، على كل بحوثهم المنطقية، أن تكون الأطروحة قادرة على إقناع الخصوم، لا تجنب المواجهة في نوعٍ من التقية الفلسفية. ولو لم تكن للبرهان هذه الفائدة لما افترق عمليًا عن منهج الذوق الصوفي. وهذا ما يفسر النزوع الإشراقي في فلسفة المشرق، وعند فلاسفة المغرب كذلك فيما عدا ابن رشد. الفكرة هنا أنّ الفلاسفة، لمّا استشعروا الخطر من الرقابة، والخوف من السيف، قرّروا حجب معتقداتهم عن العامّة، ولهذا لم يعد البرهان ذا فائدة جوهرية لديهم على المستوى العملي، فلم يكن لديهم مانع عملي من مزجه بمنهج الذوق الصوفي، بل ربما كانت هناك ضرورة عملية لهذا المزج لتحقيق قدر أكبر من التقية. هناك عامل آخَر معاكس: هو أنّ بعض الفلاسفة قد تعمّدوا التفرقة بين «عامة»، و«خاصة»؛ من أجل التبرير النظري لتأويلهم الرمزي للنصوص الدينية، كما نجد عند ابن طفيل مثلاً في صيغته لقصة حيّ بن يقظان.
يقول ابن طفيل في هذه القصة إنّ النبي لم يكاشف الناس بنور الحقيقة، وضرَب لهم الأمثلةَ الحسية؛ لأنه عرف أنّ العامة لا قدرة لها على إدراك الحقيقة المجردة.[21] وهو ما نراه مشكلة خطيرة في التأويل الرمزي للنصوص؛ فعلى عكس ما يظن أغلب الناس: ليس التأويل الرمزي مجالاً لعقلنة المعتقد الديني، وتحرير الثقافة، بل هو حائل بين المثقف والمجتمع، ولا يؤدي على المدى البعيد إلا إلى تكوين طائفة معينة من «الخاصة» مغتربة ثقافيًا عن مجتمعها، تفخر بهذا الاغتراب باعتبارها السالكة إلى «الحقيقة». ولا نعلم ماهية تلك «الحقيقة»، أو ما نفعها في مجتمع يعاني الرقابة من جهة، والفقر من جهةٍ أخرى. وهي ظاهرة أشرنا إليها من قبل في عددٍ من الأبحاث بخصوص التفسير الرمزي.[22]
وإلى جانب ذلك نضيف أيضًا، أنّ فلاسفة الإسلام في محاولتهم لنَظْم المفاهيم، والنظريات، في نسقٍ واحد مُستوٍ قدَّموا بعض التقنيات التوفيقية، أو التلفيقية لإدماج فيلسوف كأرسطو، أو أفلوطين، في سياق المعتقدات الإسلامية، كما رأينا سابقًا في محاولة ابن سينا تبرير وجود الشّر في عالم يحظى بالعناية الإلهية. غير أن كثيرًا من تلك التأويلات، والتبريرات، قد أحدثت إشكالات أعقد. فمثلاً رأينا كيف برر ابن سينا وجود الشر اعتمادًا على عقيدة علم الله بالكليات دون الجزئيات، التي أدت إلى تكفيره على يد الغزالي. ورأينا أن محاولة صياغة تصور متسق للعلاقة بين ذات إلهية كاملة لا يجوز لها الانقسام، أو التعدد، أو التغيُّر، وبين عالمنا بما فيه من كثرة، وحركة، قد أدت إلى الاعتقاد في قدم العالم، أو وحدة الوجود، ممّا أدى كذلك إلى التكفير. ليس التكفير في حدّ ذاته هو القضية، بل المسألة هي أن تلك المحاولات الفلسفية في صنع مذهب يتوافق مع عقائد أغلب المسلمين ومسلّماتهم الأساسية على الأقل، لم تؤدِّ إلى حلول نظرية قابلة للنشر على نطاق الجمهور.
ومن جانبٍ آخَر فقد أدّى إدراك هذا الوضع النظري المتأزِّم إلى ميل المفكرين في النهاية التقديرية لمنحنَى الفلسفة المشرقية الصاعد، عند الغزالي تحديدًا، إلى إنكار التنظير في هذه المسائل، التي لا يمكن للعقل الحسم فيها بناءً على مقدمات واضحة، حتى وإن توافرت له آلية استنباط صلبة، أيّ المنطق. وكان طبيعيًا أن ينتهي الغزالي إلى التصوّف، ومنهج الذوق، بناءً على إدراكه لهذه المشكلة؛ فإذا كان الإيمان صحيحًا، وإذا كان العقل لا يمكن أن يحسم الأمر فيه، فالمردّ إذن إلى شكلٍ من أشكال الوحي، أو بقايا الوحي، هو الذوق الصوفي. وقد أقام الغزالي برهانه على وجود هذه المشكلة المتعلقة بمحدودية دور البرهان في بحث الإلهيات (الميتافيزيقا): فإذا كانت المسلّمات العقدية مبرهَنَة، أو قابلة للبَرْهنة؛ فقد اختلف الناس فيها كثيرًا، وتفرّق حتى الدين الواحد إلى شِيَعٍ متنازِعة، فهي إذن ليست قابلة للبرهنة، وليس لها يقين القضية المنطقية أو الرياضية، التي لا يختلف فيها اثنان. لهذا فإن المصدر الوحيد المعتَمَد لهذه المسلّمات الإيمانية هو التجربة الروحية الوجدانية، والإلهام الإلهي عند الصوفية.[23] أساس هذا الاستنباط أنّ المسلّمات الدينية عند المؤمن صادقة، ولكنها كذلك غير معقولة ولا محسوسة، لذلك هي ليست حقائق لا عقلانية، بل فوق-عقلية übervernünftige بتعبير دي بور في حديثه عن الغزالي.[24]
وقد أفاد الغزالي في «تهافت الفلاسفة» أنّ أغلب كلام الفلاسفة في الإلهيات مبنيّ على محاولة الحسم في أمور لا يمكن للعقل أن يحسمها بالإثبات أو النفي، وقد أدى ذلك إلى منعهم لما هو جائز (أن يخلق الله العالمَ من عدم مثلاً في الوقت نفسه الذي هو فيه وحدة كاملة لا تتغير، أو أن يجوز له التغيُّر في وحدة كاملة على نحو لا نَفهمه).
وكل هذا يفسّر تلك المكانة، التي حظي بها الغزالي كـ«حُجّة الإسلام»؛ فهو قد فنّدَ التصور النسقي البرهاني للإلهيات عند الفلاسفة من جهة، وحدد بنية التجاوُر بين العقل والنقل بوضوح ناصع من جهة أخرى، وهو الذي جمع الأشعرية والتصوف في قبضة واحدة. كما أن الغزالي لم يكن، أو لم يبدُ، متعصبًا إزاء الفلسفة بما هي وافد أجنبي في «التهافت»، و«المنقذ»، بل استثنى منها الرياضيات، والمنطق، والفلك، وما لا يؤدي إلى النظرة المادية الدهرية للطبيعة (إنكار البعث) في الطبيعيات، باعتبارها علومًا برهانية، أو علومًا نافعة لا سبيل إلى استبعادها.[25] ونحن حين نقرأ هذا النقد للغزالي نجده اليوم معقولاً إلى حد كبير، وإذا اختلفنا معه فقد نختلف عنه في المذهب، أو في عنفه التكفيري تجاه فلاسفة المشرق، ولكننا لا نختلف معه في ضوء منهجية العلم المعاصرة في أنّ العقل لا يستطيع البتّ في أمور الإلهيات، وأنّ الرياضيات، والمنطق مبنية على مسلّمات بدهية مشتركة لكل العقول، وأن البحث في الطبيعيات لا يؤدي بالضرورة إلى التصور الدهري المادّي.
هذا الاتزان النقدي هو ما جعل للغزالي في نظرنا هذه المكانة حتى اليوم بين المسلمين. لقد دافع الغزالي عن التصور الإسلامي السنّي، ولكن كثيرًا من المتكلمين قد قاموا بهذه المهمة لقرون من قبله، ومن بعده، بيد أنه تميز عنهم بوضوح الحجة، والجرأة في نقد الأسماء اليونانية «الهائلة» على حدّ تعبيره، وتحديد مساحة عمل العقل الإنساني الممكنة بدقة، وبما يقترب من نظرية المعرفة النقدية عند ابن خلدون فيما بعد. وإذا كان الغزالي قد حوّل النقد أحيانًا إلى تكفير صريح يجيز القتل عمليًا، فإن الفلاسفة في المقابل قد عجزوا عن البرهنة على العقائد الإسلامية الشائعة في أوطانهم، بما منع الجائز على كل وجوهه من أمور الميتافيزيقا نظريًا.
وسنجد بأنّ الغزالي في «التهافت»، قد تخيّر ثلاث مسائل أساسية في اعتراضاته على الفلاسفة، هي: قدم العالم، وعلم الله بالكليات دون الجزئيات، وإنكار بعث الأجساد. وكلها مسائل لا يمكن للعقل أن يعمل في مستواها أصلاً، ويجوز فيها الشيء وضده، على قدم المساواة منطقيًا. وهو ما يذكرنا مجرد تذكير على الأقل بنقائض العقل الخالص عند كانط من حيث الفكرة الأساسية. وربما لولا نزوع الغزالي إلى التصوف، ولو أنه قد أسس نظريةً في المعرفة، تقوم على هذا التحديد لقدرات العقل، ونقد البحث في الميتافيزيقا، بوضوح العبارة والحجة، لقدِّرَ للحضارة الإسلامية شأنٌ مختلف. بل كان هذا التأسيس ليكون موفرًا لجهد الغزالي نفسه، الذي استغرق في بحث كل مسألة فلسفية على حدة استغراقًا مطولاً، ووقع هو نفسه في استنباطات ميتافيزيقية.[26] صحيح أن الغزالي قد أنكر بوضوح في «التهافت» السببية الحتمية، أيّ تلازم الأسباب والمسببات الضروري،[27] إلا أن عدم وجود دليل يقيني إلى اليوم على السببية الحتمية لم يقف حائلاً دون تقدم الفيزياء الحديثة. والغريب أن هذا النقد للغزالي لحدود عمل العقل قد يوصل المرءَ إلى التصوف، كما قد يوصله إلى الدهرية؛ وذلك بناءً على أن كل الميتافيزيقا، بالأخص الإلهيات، لا معنى للتفكير فيها ومحاولة تعقّلها، ولا يصير لدينا إلا التجربة الحسية المشتركة القابلة لإعادة الإنتاج كقوة معرفية أُولَى، هي وحدها ما يمكن لها أن تمنحنا قضايا إخبارية (أيّ ليست تحصيل حاصل) عن العالَم (هذا ما انتهى إليه ابن خلدون ضمنيًا في مقدمته، وقبله البيروني في «تحقيق ما للهند»). على أية حال ينتهي دي بور بعد استعراضه لانتقادات الغزالي إلى أنّ مذهب ابن سينا خيالي phantastisch، لا يصمد في مواجهة مثل هذا النقد الجذري من جهة الغزالي.[28]
على أنّ الغزالي ينسى نتيجة أنّ فلاسفة المشرق أنفسهم قد ضحَّوا بالاتساق البرهاني الكامل، واعتقدوا في درجة، ونوعٍ، من الإشراق. لذلك كان الاختلاف الجوهري بينه، وبينهم، هو أنهم لم يدركوا حدود البرهان: مقدماته، مهما كانت الصورة المنطقية صحيحة، وهذه المقدمات في الإلهيات لا يؤدي إليها الحسّ، أو العقل، ولا ينفيها كذلك، وأنهم حاولوا استنباط الوجود من المعرفة، دون أن يقتصروا على استنباط المعرفة من الوجود كأصحاب الطبائع، والدهريين، ودون أن يضعوا مقدمات يقينية كذلك مشتقة من النصوص دون تأويل رمزي، أو بالتأويلات الشائعة على الأقلّ في مذاهبهم الدينية.
زلزلة الأبراج العاجية: نهاية فلسفة المشرق
هذا النقد الجذريّ لنظرية المعرفة السائدة عند فلاسفة الإشراق في المشرق، قد يكون الغزالي فعلاً، كما دعاه دي بور «نهاية للفلسفة في الشرق» Der Ausgang der Philosophie im Osten.[29] ولا نعلم من هذا العنوان إذا كان يقصد كونها نهاية تاريخية، باعتبار الغزالي آخِر فلاسفة المشرق الكبار، أم نهاية نظرية، باعتباره قد فنّد نظرية المعرفة في المشرق تفنيدًا نهائيًا فلم تقم لها قائمة مِن بعده.[30] بيد أن تحقيق هذا القول الأخير، أي النهاية النظرية، صعب على كل حال؛ بسبب أن الحضارة الإسلامية في الشرق في عصر الغزالي، عصر بداية الحملات الصليبية، قد شرعت في الدخول إلى عصر بيات شتوي طويل، وأدى بها الخوف على ضياع الهوية، وضياع الدين، إلى اجترار المتقدم، وتبديع المتأخر. ولكن إذا استبعدنا هذا السبب الأخير بشكل أو بآخَر، يمكن القول في نظرنا إن هذا التفنيد المنهجي للغزالي، رغم ما يعتريه من حشوٍ بلا طائل، واستغراق أدّى إلى الغرق، قد زلزل الأرضَ بدرجة ما على الأقل تحت أقدام فلاسفة المشرق المتقدمين عليه.
وكل ما سبق قد رفع كعب الغزالي على كل فلاسفة الإسلام من جهة التأثير المحلِّي في الثقافة الإسلامية، لم يزل أثره واضحًا حتى اليوم، ويجعل التعرض لأفكار الغزالي الأساسية أحيانًا أمرًا محفوفًا بالمخاطر الرقابية إلى اليوم. ليس فقط لأن الغزالي اتصل بالجمهور، والعامّة، في كتبه الفلسفية، فقد فعل ذلك الصوفية، والأصوليون بدرجة أكبر، وأعمق، بل لأنه -إلى حد ما- أماد الأرض، التي تنتصب عليها أبراج فلاسفة المشرق العاجية. يعني أنه لم يتصل بالعامة في مؤلفاته الفلسفية بقدر ما كشف حجاب الخاصة. وهذا الكشف في حد ذاته، حتى لو لم يفهمه العامة، يعني أن فلسفة المشرق في الإلهيات لا تقدم لهم الكثير، أو المفيد على الإطلاق، وأن الإيمان هو معيار الحقيقة بناء على تجربة شاملة بالدين، لا بناء على العقل وحده، أو التجربة الحسية (المعجزات النبوية) وحدها. وهذا كله توافق تلقائيًا مع ثقافة العامة، التي لن تطالع هذه المؤلفات المعقدة للفلاسفة، ولن تفهمها، فجاء الغزالي ليؤكد لهم أن خيرًا قد فعلوا!
وحين نطالع إنجازات ابن رشد الهامّة في نظرية التأويل، ونظرية السببية، ورده على الغزالي، وشرحه لأرسطو للمرة الأولى خالصًا من شوائب الأفلاطونية، والأفلوطينية، ثم نجده يقسم الناس إلى «خاصة ستفهم»، و«عامة لن تفهم»، نجد العكس: نجد انقطاعًا عمديًا عن ضرورة التثقيف. هذا رغم إقرار ابن رشد بدور النساء في المجتمع، ونقده لنظرة الرجل السائدة إلى المرأة، وتقديمه لنظرية في الأخلاق أقرب إلى أخلاق المنفعة العامة، في مقابل نظرية الآمر المطلق السائدة عند الأشاعرة (عكس مبدأ التحسين والتقبيح العقليين الاعتزالي)، وإقراره بأنّ الحياة في ظلّ مجتمع خيرٌ من حياة التوحُّد.[31]
وكان الأجدر بابن رشد، أو فيلسوف عقلاني كابن رشد، وخاصة مع تلك الآراء الأخيرة، أن يقترح استراتيجية تثقيفية، تمحّص الخرافات، والأغلاط المنهجية، والمنطقية، عند الجمهور، ويقترح سياسة تعليمية مناسبة لإعداد العامة لفهم مثل هذه الأمور. ولكن قد يكون اليأس من تغيير عقلية العامة عظيمًا إلى درجة الإعراض عن مجرد هذا الاقتراح، وذلك في سياق مجتمع رقابي دائمًا، وعنيف أحيانًا. من الواضح لنا أن هناك علاقةً جدلية بين السياسة والثقافة، ولكن الخطوة في الثانية لا يمكن أن تتقدّم على الخطوة في الأولى. ويشير دي بور إلى أن فلاسفة الإسلام بشكلٍ عام كانوا عرضة للاضطهاد في كثير من البلاد؛ لأنهم اعتُبروا خطرًا على الدين والدولة كليهما في سياق الاضمحلال التدريجي للحضارة الإسلامية في ذلك الوقت.[32]
في ختام هذا الطرح نرى أنّ انقطاعات الفلسفة العربية قد تسببَ فيها نوعان من العوامل: عوامل نظرية، أدت إلى مخالفة المعتقدات السائدة بلا مبرر موضوعي مُقنِع، وعوامل اجتماعية، أدت إلى التزام أغلب فلاسفة الإسلام بتُقية فلسفية، بجانب عزوفهم عن تأسيس مدارس ممتدة في التاريخ. وهذه الإشكالية كان المفكرون العرب المعاصرون على وعيٍ بها، فحاولوا من خلال مشروعات الفكر العربي الحديث بدءًا من سبعينات القرن العشرين التغلب عليها باستراتيجيات تنويرية مختلفة. ولهذا ينتهي طرحنا بمحاولة استبصار النَّور بعد هذه السوداوية الفلسفية، التي غَشِيَتْ العقل العربي لقرونٍ طويلة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] De Boer, T. J., Geschichte der Philosophie im Islam, Frommann, Stuttgart, 1901, S. 136.
[2] دي بور، ت. ج: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، تحقيق مصطفى لبيب عبد الغني، لمركز القومي للترجمة، القاهرة، ط2، 2018، ص 387. قارن:
De Boer, T. J., Geschichte der Philosophie im Islam, ebd., S. 173.
[3] دي بور، ت. ج: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، سبق ذكره، ص 202 (مرتان)، ص 224، 263، 399.
[4] السابق، ص 47، 67، 112، 172، 345.
[5] De Boer, T. J., Geschichte der Philosophie im Islam, ebd., S. 114-116.
[6] For more details see: Corbin, Henry, History of Islamic Philosophy, translated by Liadain Sherrard, with the assistance of Philip Sherrard, Kegan Paul International, London and New York, 2001, p. 158.
[7] Idem.
[8] انظر: الفارابي، أبو نصر: كتاب السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، تحقيق: فوزي ميتري نجار، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ط1، 1964، ص 31-48.
[9] يرى دي بور أن ابن سينا كان أوفر حظًا من الفارابي من جهة امتداد مذهبه بسبب انشغاله بشئون الحياة العامة. انظر:
De Boer, T. J., Geschichte der Philosophie im Islam, ebd., S. 120.
[10] دي بور، ت. ج: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، سبق ذكره، ص 241-242.
[11] لمزيد من التفصيل انظر ورقة الباحث: الصياد، كريم: “الزمان الموسيقيّ- دراسة مقارنة بين الزمان الموسيقي والزمان الطبيعي”، المجلة السعودية للدراسات الفلسفية، عدد 2، سبتمبر 2021، ص 65-76.
[12] De Boer, T. J., Geschichte der Philosophie im Islam, ebd., S. 113. “die schöne Ordnung der Welt, von Ewigkeit her aus Gott emaniert“.
[13] Ebd., S. 122.
[14] Ebd., S. 123.
[15] Ebd., S. 124.
[16] Ebd.
[17] Ebd.
[18] Ebd., S. 171.
[19] Ebd., S. 130, 148, 163, 159, 175.
[20] Ebd., S. 127.
[21] Ebd., S. 163.
[22] مثلاً: كريم الصياد: «أصول الفقه بما هي أصول التفسير- في العلاقة بين علمي أصول الفقه والتفسير»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، المجلد رقم 32، العدد الثاني والثلاثين.
[23] De Boer, T. J., Geschichte der Philosophie im Islam, ebd., S. 139.
[24] Ebd.
[25] Ebd., S. 141.
[26] Ebd., S. 146.
[27] Ebd., S. 143.
[28] Ebd., S. 144.
[29] Ebd., S. 138.
[30] يقول دي بور فيما بعد إن القول بأن الغزالي كان نهاية للفلسفة في المشرق قول خاطئ، ثم يستدرك أن الفلسفة في المشرق بعد الغزالي لم يعد لها التقدير الذي تمتعت به من قبله. انظر:
De Boer, T. J., Geschichte der Philosophie im Islam, ebd., S. 150.
[31] Ebd., S. 174-175.
[32] Ebd., S. 151.